ما ينقص تونس اليوم هو توفر القرار السيادي لتوجه نحو سيادة غذائية وطنية
الدولة التونسية إلى غاية الآن ليس لها سياسة غذائية إنما لها اقتصاد زراعي
تونس من الدول القادرة على أن تكون لها سيادتها الغذائية بمعزل عن الأسواق الخارجية
المنظومة التي نعيش فيها منظومة ليبرالية، تنتج الفقر وتفتك الملكيات العامة لصالح رأسالمال
يمكن لرئيس الجمهورية الانطلاق بتغيير التسمية من وزارة فلاحة إلى وزارة غذاء
تونس -الصباح
أن تكون تونس دولة ذات سيادة غذائية أمر ممكن حسب الحبيب العايب المختص في الجغرافيا الاجتماعية والباحث في الموارد الطبيعية الزراعية والريفية، والفقر والتهميش، والتغيرات والحركات الاجتماعية، والبيئة، والتنمية، وتغير المناخ، والسيادة الغذائية. لكن ينقصها توفر الشجاعة لدى أصحاب الامر فيها، من اجل اعلان انقلاب زراعي يغير المنظومة الفلاحية القائمة، ويقر خلاله الماسكون بزمام الأمور في الدولة مبدأ حق التونسيين في الغذاء نوعا وكما.
وحبيب العايب رئيس المرصد التونسي للسيادة الغذائية والبيئية، يعرف نفسه انه بمرجعية ماركسية ايكولوجية. ويعتبر ان المنظومة التي نعيش فيها منظومة ليبرالية، تنج الفقر وتفتك الملكيات العامة لصالح رأسالمال. والسيادة الغذائية هي عنصر من الصراع الطبقي، وهي توجه يخدم صالح الطبقات المهمشة وليس الغنية، وهو مع الطبقات المهمشة. ويقول انه دون سيادة غذائية لا وجود لعدالة اجتماعية ولا وجود لسيادة وطنية ودون عدالة لا وجود لحقوق النساء ولا حقوق مضمونة للأجيال القادمة.
ويعتبر العايب أن له مسؤولية سياسية ومسؤولية اجتماعية تحتم علينا تقاسم المعرفة التي امتلكتها على امتداد السنوات السابقة.. وما تطرق له خلال لقائه مع جريدة "الصباح" فيما يتصل بالسيادة الغذائية وسبل تحقيقها في تونس أوعبر ما مرره في أفلامه الوثائقية، هو مادة صالحة أن تكون حلا لتحقيق سيادة غذائية للتونسيين ولغيرهم من الشعوب.. ويقر في نفس السياق أن خطابه أقليي ومن الصعب أن يقع تبنيه من قبل الحكومات لكن ان يقتنع به ولو 100 شخص يعتبر مهما للغاية. وتدريجيا سيتم تعميم هذه الأفكار لأكبر عدد ممكن لتكون حلا للشعوب المفقرة وسبيل ضمان حقوق الأجيال القادمة.
حوار: ريم سوودي
تتداخل المفاهيم لدى غالبية المتحدثين فيما يتعلق بمفهوم السيادة الغذائية والامن الغذائي وحتى الاكتفاء الذاتي فما الفرق بينها وأين مواقع لقائها أو تقاطعها؟
-السيادة الغذائية مفهوم مركب، فأولا هي مبنية على حرية اختيار مصدر الغذاء الخاص بالدولة أو القبيلة او المجموعة... مع شرط عدم الأضرار بالكائنات الحية الأخرى من بشر وحيوان وتنوع بيولوجي واحترام لحق الأجيال القادمة والإرث الإنساني..
ثم ثانيا يحددها عدم الاعتماد على الآخر في الغذاء الذي يشتمل على الموارد الأساسية للحياة، من أكل نظيف ومتوازن وكاف، وخضر وغلال وحبوب، ومشتقات الحيوان، وتوفر للماء باعتباره الجزء الأساسي من السيادة الغذائية فلا سيادة غذائية دون ماء.
وثالثا ترتبط السيادة الغذائية بالأرض كمورد أساسي لا يوظف لأي إنتاج آخر غير الغذاء، فضمان السيادة الغذائية تساوي أولية إنتاج الغذاء بطريقة لا يمكن معها أن توظف للاستثمار الربحي حتى وإن كانت من قبل الدولة..
إذن فالسيادة الغذائية تقوم على مبدأ الحق في الاراض والحق في الغذاء والحق في الماء والحق في بيئة سليمة وتنوع حيوي وسليم. كما انه وبطريقة غير مباشرة هو منع لاستعمال المواد الكيمياوية في الإنتاج الزراعي أو استنزاف الموارد الطبيعية.. علما وأن السيادة الغذائية ليست الاكتفاء الذاتي الذي يعني انتاج كل ما تحتاجينه للغذاء وهو امر مستحيل على مستوى الشخص والجهات ومستوى الدولة..
أما بالنسبة لمفهوم الأمن الغذائي فيمكن أن يختصر في أن تكون لك كمية غذاء كافية متوفرة عند الفرد او عند الدولة مهما كانت طرق توفرها أوإنتاجها، عبر إعانات أو شراءات أو عقود اتفاق، المهم توفير غذاء دون الاهتمام لنوعه او مصدره او طريقة انتاجه ولا شروط للإنتاج والتوزيع المهم الحصول على ذلك الغذاء. وفي الغالب تكون هناك تبعية بين المستفيد ومصدر الغذاء بمجرد ان يقوم بقطع الإمداد لا يتواجد الغذاء. والأمن الغذائي يمكن أن يمثل نوعا من أنواع التبعية..
وطبقا لما سبق يكون المفهومان الامن الغذائي والسيادة الغذائية، مفهومان متناقضان، فالأول يكون مفروضا على الأفراد أو الدول ولا تتوفر فيه حرية الاختيار في حين ينضبط مفهوم السيادة الى حرية الاختيار.
أين تتموقع الدولة التونسية اليوم وسط هذه المفاهيم حسب رأيك، وهل هي دولة قادرة على أنتكون لها سيادتها الغذائية؟
-الدولة التونسية هي دولة تابعة نسبيا، نصف غذائنا تقريبا يتم توريده من الخارج في شكل مساعدات او شراءات، وبالتالي نحن مرتبطون بقرارات سياسية خارجية يمكن خلالها فرض املاءات خارجية.
وشخصيا اعتبر ان تونس من الدول القادرة على أن تكون لها سيادتها الغذائية بمعزل عن الأسواق الخارجية، وتحقيق كفاية غذائية كاملة وبالتالي سيادة غذائية. فنحن قادرون على انتاج كفايتنا واكثر من الحبوب مثلا، لنا معرفة ودراية عالية المستوى لدى الفلاحين التونسيين ولنا الحبوب الاصلية التي مازالت متوفرة لدى الفلاح ولم تندثر بعد ولدينا الماء والامطار ولدينا الأرض الخصبة.. كما نتوفر على كميات لابأس بها من زيت الزيتون لكن وامام ارتباط أسعاره بالسوق الدولية (لا نتحكم وطنيا في منتوجنا من زيت الزيتون). نقوم بتصديره في المقابل نجد الشعب التونسي ليس بصدد أكل الزيت التونسي الصحي ويستهلك زيوتا مسرطنة موردة بنسبة 100% تقريبا.
وتونس تمتلك إنتاجا كافيا من الخضر والغلال، منتوجات تغطي حاجتنا من الحليب ومشتقاته ومن التمور والطماطم والباطاطا.. كما لدينا ما يكفي من الموارد الحيوانية بشرط العودة لطريقة الإنتاج القديمة المبنية على المرعى بعيدا عن الاعلاف المركبة وطرق التربية المسرطنة.
اذن ما ينقص تونس اليوم هو توفر القرار السيادي لتتوجه نحو سيادة غذائية وطنية لا تنضبط لأي املاءات أو اختيارات خارجية، وفي حالة واجهنا ازمة او عند الحاجة يمكن عندها التوريد في اطار حرية اختيار المصدر ونوعية المنتوج وشروط البيع والشراء..
لماذا لم تتوجه تونس الى غاية الآن إلى تحقيق سيادتها الغذائية، فهل الأرض أصبحت غير قادرة على توفير اكتفائنا؟
-الدولة التونسية إلى غاية الآن ليس لها سياسة غذائية إنما لها اقتصاد زراعي وبالتالي سياسة زراعية. أي أن المنظومة الفلاحية الوطنية ليست موجهة لتوفير أكل للتونسيين بل حلم الدولة وخبرائها هو إنتاج أقصى كمية للتصدير وليس لتغطية حاجة المواطنين.
وهي منظومة فلاحية موروثة عن وقت الاستعمار. تعمد المستعمر آنذاك أن تكون موجهة للتصدير وقامت الحكومات المتعاقبة على الحفاظ على نفس التوجه، فمثلا زراعة عنب النبيذ هي منظومة فلاحية معدة للتصدير أساسا،لم تأت على خلفية ثقافة استهلاكية محلية للخمور، تم خلالها استغلال فضاءات شاسعة للغاية من الأراضي الفلاحية واستهلاك كميات ضخمة من المياه..
وللعلم كان لنا اكتفاء ذاتي في أكثر من منظومة إنتاج.. وكنا الى غاية أوائل القرن العشرين دولة مصدرة للحبوب. كما ان لولاية سيدي بوزيد مثلا والى غاية منتصف الثمانينات نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي الغذائي المرعي وإنتاج زيت الزيتون.
تم تغيير المنظومة الفلاحية لمنطقة سيدي بوزيد باتجاه الفلاحة السقوية التصديرية وتحولت من منطقة بشبه اكتفاء ذاتي، إلى أول منطقة منتجة لمواد فلاحية موجهة للتصدير وليس للاستهلاك المحلي أو لتوفير أكل متساكني الجهة.
وما يقال او يتم تداوله في بعض الأحيان عن عجز تونس على توفير اكتفائها الذاتي الغذائي، يتنزل حسب رأيي في إطار الجهل، وهو أمر خطير للغاية أن لا يكون هناك معرفة بقيمة الأرض.
وتونس قادرة على توفير اكتفائها الذاتي من الحبوب بمدن الشمال الغربي، فهو قادر على انتاج ما يكفي من حاجة التونسيين. اما بالنسبة للواحات بشكلها القديم وليس الجديد، فهي تعتبر منظومة متكاملة قادرة على انتاج الخضر والغلال وتصنف كمنظومة بيئية مستدامة.. تقدم إنتاجا لمستويات ثلاثة، النخيل والأشجار المثمرة والزراعات الفصلية.. هذا الى جانب المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية التي تعد منتجا للحوم والحليب والألبان.. وما يميز تونس ان مختلف مناطقها من شمالها الى جنوبها هي مناطق منتجة لزيت الزيتون والتي تعد بيئة صالحة لإنتاج العسل. وهنا نكون أمام منظومات فلاحية متكاملة دون نقائص..
إن توفرت الإرادة السياسية لتغيير منظوماتنا الفلاحية والتوجه نحو تحقيق سيادة غذائية ما الزمن الكافي لتحقيق ذلك؟
-ليس لنا سياسيون قادرون على اتخاذ مثل هذه القرارات، يجب أن تتوفر الشجاعة، نحن محتاجين لانقلابات ومنها الانقلاب على المنظومة الفلاحية، وأول قرار يجب أن يتم اتخاذه من قبل الماسكين بمقاليد الدولة، هو إقرار مبدأ الأرض لإنتاج الغذاء وحق التونسي في الغذاء نوعا وكما.
ولتحقيق سيادتنا الغذائية نحن في حاجة إلى تحول رديكالي وانقلاب زراعي حقيقي يتغير معه كل الموجود نؤسس به لسياسة فلاحية. تكون خلالها الأرض للفلاحين، يأكل منها وما فاق عن حاجته يقوم بترويجه في السوق المحلية. ولا يمتلك من لا يمتهن الفلاحة الأرضي الفلاحية (طبيب أو محام أو مهندس ليس له الحق في امتلاك أراض فلاحية). بإمكانك تغيير مهنتك من طبيب الى فلاح يمتهن الفلاحة وتصبح فلاحاأو فلاحة ولكن ليس مستثمرا عبر امتلاك الأراضي للاستثمار وتكديس الثروة على حساب أكل التونسيين..
هل هذا الانقلاب الزراعي الذي تتحدث عنه هو شبيه بتجربة التعاضد لبن صالح؟
-التعاضد كان اكبر عملية سرقة وتحيل على الفلاح الصغير عبر تاريخ تونس، تم سلب أراضيهم منهم ليتحولوا الى عمال واجراء، وتسبب ذلك في تفقيرهم وتجويعهم. وكان الهدف منها تجميع الأراضي من اجل تكثيف الإنتاج للترفيع في التصدير وليس لتحقيق سيادة غذائية. وليس لها علاقة لا بحق الفلاح ولا بحق التونسيين في الغذاء. وانا اعتبر ان الاستعمار الفرنسي لم يمر بالسرقة التي قامت بها تجربة التعاضد. ففي عصر رئيس تونسي ووزير تونسي تم إقرار طرد الفلاحين من أراضيهم.
ما مدى ارتباط سيادتنا الغذائية بالسيادة الوطنية؟
-هو أمر حتمي، السيادة الغذائية في ارتباط وثيق بالسيادة السياسة والسيادة الوطنية. ومن منطق من يوفر لك الاكل يتحكم فيك نصبح في تبعية للجهات التي نستورد منها في الاكل.. ونحن اليوم في تبعية للخارج، فبغض النظر على موقفنا من جويلية وما اقره قيس سعيد. الجزء الكبير من الضغوطات الممارسة على قيس سعيد، البرلمان والعودة للديمقراطية.. ما كان يمكن ان يوجهوها لنا لو كانت لنا سيادتنا الغذائية، كان يمكن لرئيس الجمهورية ان يكون اكثر جرأة، فعلى اقصى تقدير لن تورد مثلا سيارات جديدة وسيخسر المصنعون سوقنا الصغيرة نسبيا او لن نورد مادة "الموز" او "الكيوي".. كوبا مثلا عند فرض الحصار في الخمسينات قررت تغيير سياستها الغذائية واليوم هم يأكلون 100% إنتاج محلي..
كيف تقيم اتجاه تونس نحو الانخراط في مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" مع الاتحاد الأوربي؟
-مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا"، هو من العناصر الأساسية في السياسة الزراعية الخاصة بنا. وكل هذه الاتفاقات تمثل جزءا من المنظومة القانونية للمنظومة الفلاحية في تونس منذ التسعينات.
وهذه الاتفاقات تجعل تونس غير قادرة عل تحديد زراعاتها من القمح مثلا، كما لا يمكنها ان تقرر توجيه منتوجاتها من زيت الزيتون الى التونسيين. هي مجبرة على الالتزام بما تمليه عليها هذه الاتفاقات بشروطها.
ألا يمكن لهذه الاتفاقات أن تكون إطارا نفعيا لتونس في حال تحقق الانقلاب الزراعي واتجهنا نحو تركيز سيادة غذائية؟
-انقلابنا الزراعي يشمل العلاقات الخارجية، وفي جزء منه هو قطع مع مختلف الاتفاقات المفروضة علينا على امتداد السنوات الأخيرة، نحن لم نختر هذه الاتفاقات، ولم نكن طرفا فاعلا فيها كنا بمثابة المتسولين داخلها.. وأهم قرار يجب اتخاذه اليوم هو أن نكون أحرارا في اختيار غذائنا وان يكون لنا استقلالنا السياسي.. ومن بيده القرار اليوم هو في حاجة الى اكثر تحكم في القرار الغذائي. السيادة الغذائية والانقلاب الذي اتحدث عنه لن يكون بين ليلة وضحاها. لكن يمكن ان ينطلق بخطاب على غرار الخطابات الحماسية التي نسمعها من رئيس الجمهورية، خطاب يعلن خلاله انه خلال سنوات يتم تحديدها سيتم تغيير منظومتنا الزراعية وسيقع توسيع مساحات زراعة الحبوب وسيتم توجيه زيت الزيتون الى السوق المحلية ولن يتم التفويت الا في الفائض وسيقع وضع سياسة فلاحية يتم فيها الاخذ بعين الاعتبار لخصوصية كل جهة ومن يريد توجيه منتوجاته للتصدير يفرض عليه جباية..
ويمكن لرئيس الجمهورية حتى الانطلاق بتغيير التسمية من وزارة فلاحة الى وزارة غذاء، او السيادة الغذائية او حتى الامن الغذائي فكلها دلالات سياسية وهي كافية لبعث مؤشرات إيجابية في مسار التوجه نحو تحقيق السيادة الغذائية.
يقول خبراء ومهندسو فلاحة أن تونس قد فقدت جزءا هاما من بذورها الأصلية وهي اليوم بصدد توريد أخرى هجينة ذات نوعية سيئة؟
-دون بذور لا يمكن أن تنتج، ونحن اليوم بصدد التفريط في جزء كبير من بذورنا، فقدنا البذور المحلية مقابل التوجه نحو توريد بذور أجنبية. ففي فترة ما راهن الخبراء والمرشدون الفلاحيون على إنتاج اكبر كمية وكان ذلك عبر تغيير المحلية ببذور مستوردة تنتج اكثر. وتم بيع فكرة ان البذور المستوردة تنتج أكثر وتوفر ربحا اكبر للفلاح.. وفعليا بذورنا المحلية كانت الأفضل تتماشى مع مناخنا، الحميرة مثلا احد البذور التي يمكن انتاجها في مناح حار فقدت في تونس وهي موجودة في بنك جينات امريكي.
وهذا التوجه فقدنا معه نسبة كبيرة من بذورنا المحلية التي تتماشى مع خصوصية المناخ والتربة ومعرفة الفلاحين... وبقي الا قلة قليلة من الفلاحين الصغار بصدد استعمال هذه البذور. يصعب معها جدا إيجادهم (مناطق نائية)..
أنا اعتبر أن وزارة الفلاحة هي اكبر المجرمين وهي السبب واكبر مسؤول عن مصيبة اختفاء البذور المحلية، جهلا او فسادا او تبعية فكرية.
هل نحن قادرون على تدارك مصيبة اختفاء البذور المحلية كما أسميتها؟
-نعم قادرون على التدارك إن توفر القرار السياسي المشجع على استعمال الحبوب الاصلية. نحن نعلم أننا في تبعية للسوق العالمية وقطع الصلة معها مباشرة يتسبب في فوضى كبيرة، ولكن كفىأن نقول مثلا للفلاحين أن من يزرع الحبوب المحلية سيتمتع بدعم قدرة 50%.
ما الدور الذي يمكن أن يكون لبنك الجينات في هذا السياق؟
-يجب أن ندرك بداية أن بنك الجينات في تونس هو هيكل يعود بالنظر الى وزارة البيئة وليس الى وزارة الفلاحة، فنحن نتعامل معه على انه متحف.
لدينا بنك جينات بكفاءات عالية وذات خبرات، لكنهم غير قادرين على التدخل في المجال الفلاحي. يحاولون الحفاظ على بذورنا عبر انتاجها لدى بعض الفلاحين، وهذا مشكل مطروح ليس فقط فيما يتعلق بالبذور بل يسحب أيضا على قطاع الإنتاج الحيواني. تم اغراق السوق المحلية بأبقار الهلشتاين مثلا التي لم تتأقلم مع مناخنا وتراجع إنتاجها مقابل التخلي عن أبقارنا الأصلية. ونفس الأمر بالنسبة للماعز والخرفان.. ويمكن تدارك كل هذه الفوضى في حال تم التوجه الى وضع سياسة دولة جديدة قائمة على انقلاب زراعي، ونحن قادرون على انتاج حاجتنا من البذور المحلية والعودة الى انتاجها من جديد.
الفلاح في مواجهة كلفة عالية جدا لموسمه الزراعي من مبيدات وأدوية؟
-الفلاح اليوم بصدد الإنتاج للسوق وليس للاستهلاك الشخصي او لتحقيق الاكتفاء الغذائي، ولهذا السبب ومن اجل انتاج اكبر كميات ممكنة يتجه نحو استعمال الأدوية والأسمدة.
وعلى الفلاح الصغير خاصة توظيف معرفته في انتاج غذاء له وللآخرين، فمن العيب ان يعمل الفلاح طيلة السنة من اجل ان يقتني استهلاكه الشخصي من السميد او الكسكسي من المحلات التجارية أو يستهلك زيتا نباتيا في حين هو منتج لزيت الزيتون.
للفلاح معرفة عالية جدا لا يمتلكها امهر المهندسين وخريجي الجامعات، من دور الدولة ان تشجعه وتقدم له الدعم المادي من اجل استغلال هذه المعرفة، وإعطائه الثقة من اجل ان يكون مصدر غذاء لكل التونسيين..
لدينا نحو الـ 500 ألف فلاح صغير بمعرفة وكفاءة عالية يكفي ان يتم تشجيعهم وتوجيههم في إطار رؤية عامة لمنظومة زراعية وطنية.
كيف يمكن أن نحقق سيادتنا الغذائية في ظل مشكل الماء المسجل اليوم في تونس والاتهامات بان الفلاحة بصدد استنزاف المائدة المائية؟
-ما تتحدثين عنه من استنزاف هو بسبب الفلاحة الاستثمارية. الفلاحون الصغار لا يستهلكون أكثر مما تستحق مساحتهم المزروعة. وهنا على الدولة ان تحسن توزيع دعمها وتشجيعها ولا توجهها للمستثمرين والباحثين على الأرباح.. تشجع الفلاحين المحافظين على التوازن البيئي المحلي. ومن ينتج غذاءه وغذاء غيره من التونسيين.
والماء مثل الأرض، دون ماء لا يمكن ان يكون لدينا غذاء هو مادة أساسية بيولوجية وحق أساسي من حقوق الإنسان، المستثمر عندما يأتي يكون بصدد اخذ جزء من كميات الماء التي هي من حقي. فالماء من المفروض ان يتم توزيعه بتساوي بين مختلف الكائنات بآلية ضمن تصرف سليم.
والانقلاب في السياسيات الزراعية الذي أشرت له في البداية يجب ان يرافقه انقلاب في سياسات التصرف في الماء أيضا. فالماء معد لإنتاج الغذاء أولا والحفاظ على الكائنات مع الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، وهذا يعني ان المستثمرين ممنوعين من استهلاك الماء واستنزاف المائدة المائية، سواء في الفلاحة او السياحة او غيرها. وخلاصة الحديث الماء ليس مادة قابلة للاستثمار.
تبني الانقلاب الزراعي والانقلاب في المنظومة المائية ومعها الانقلاب في الرؤية الاقتصادية هل يمكن أن يكون مصدرا لفرص تشغيل؟
-طبعا الانقلاب الزراعي يمكن ان يكون مصدرا هام لفرص تشغيل، عبر إعادة توزيع الأراضي الفلاحية. تحديد حجم الأرض الفلاحية فلا يمكن أن نجد فلاحا بمساحة تتجاوز مثلا الـ 100 هكتار أو اقل من 5 هكتارات. فيكفي ان نقسم الأراضي الدولية على هذا الأساس حتى نوفر من الغد فرص عمل لـ 70 ألف عاطل عن العمل. والدولة لها أن تعتمد الآلية التي تراها صالحة لإعادة توزيع الأراضي.
وفي هذا سيكون للمرأة الفلاحة الدور البارز، فحديث بسيط مع الفلاح تكتشف منه أن النساء الفلاحات يمتلكن ثقافة ومعرفة عميقة ودقيقة بالبذور مقارنة بالرجل الفلاح.
الطرح الذي قدمته لتحقيق السيادة الغذائية يتناقض في جزء كبير منه مع الاطروحات التعليمية التي يتم تقديمها في الجامعات؟
-أنا تلقيت تعليما في الفلاحة وما يتم تقديمه في الجامعات مبني على مرجعية اعتماد المواد الكيميائية، تجميع الأراضي والمساحات وتكثيف الإنتاج والتصدير والربح.. هذا ما يتم تعليمه في الجامعات جميعها عناصر تبعية تفتقر للمعرفة. بعيدة عن أي معرفة للجغرافيا الاجتماعية ووضعية الفلاح والفلاحين الاجتماعية، كونت مفهوما جديدا للفلاح، هو ذلك الذي يعمل بيده في ارضه وليس لديه ارض من اجل تحقيق اقصى الأرباح.
ما ينقص تونس اليوم هو توفر القرار السيادي لتوجه نحو سيادة غذائية وطنية
الدولة التونسية إلى غاية الآن ليس لها سياسة غذائية إنما لها اقتصاد زراعي
تونس من الدول القادرة على أن تكون لها سيادتها الغذائية بمعزل عن الأسواق الخارجية
المنظومة التي نعيش فيها منظومة ليبرالية، تنتج الفقر وتفتك الملكيات العامة لصالح رأسالمال
يمكن لرئيس الجمهورية الانطلاق بتغيير التسمية من وزارة فلاحة إلى وزارة غذاء
تونس -الصباح
أن تكون تونس دولة ذات سيادة غذائية أمر ممكن حسب الحبيب العايب المختص في الجغرافيا الاجتماعية والباحث في الموارد الطبيعية الزراعية والريفية، والفقر والتهميش، والتغيرات والحركات الاجتماعية، والبيئة، والتنمية، وتغير المناخ، والسيادة الغذائية. لكن ينقصها توفر الشجاعة لدى أصحاب الامر فيها، من اجل اعلان انقلاب زراعي يغير المنظومة الفلاحية القائمة، ويقر خلاله الماسكون بزمام الأمور في الدولة مبدأ حق التونسيين في الغذاء نوعا وكما.
وحبيب العايب رئيس المرصد التونسي للسيادة الغذائية والبيئية، يعرف نفسه انه بمرجعية ماركسية ايكولوجية. ويعتبر ان المنظومة التي نعيش فيها منظومة ليبرالية، تنج الفقر وتفتك الملكيات العامة لصالح رأسالمال. والسيادة الغذائية هي عنصر من الصراع الطبقي، وهي توجه يخدم صالح الطبقات المهمشة وليس الغنية، وهو مع الطبقات المهمشة. ويقول انه دون سيادة غذائية لا وجود لعدالة اجتماعية ولا وجود لسيادة وطنية ودون عدالة لا وجود لحقوق النساء ولا حقوق مضمونة للأجيال القادمة.
ويعتبر العايب أن له مسؤولية سياسية ومسؤولية اجتماعية تحتم علينا تقاسم المعرفة التي امتلكتها على امتداد السنوات السابقة.. وما تطرق له خلال لقائه مع جريدة "الصباح" فيما يتصل بالسيادة الغذائية وسبل تحقيقها في تونس أوعبر ما مرره في أفلامه الوثائقية، هو مادة صالحة أن تكون حلا لتحقيق سيادة غذائية للتونسيين ولغيرهم من الشعوب.. ويقر في نفس السياق أن خطابه أقليي ومن الصعب أن يقع تبنيه من قبل الحكومات لكن ان يقتنع به ولو 100 شخص يعتبر مهما للغاية. وتدريجيا سيتم تعميم هذه الأفكار لأكبر عدد ممكن لتكون حلا للشعوب المفقرة وسبيل ضمان حقوق الأجيال القادمة.
حوار: ريم سوودي
تتداخل المفاهيم لدى غالبية المتحدثين فيما يتعلق بمفهوم السيادة الغذائية والامن الغذائي وحتى الاكتفاء الذاتي فما الفرق بينها وأين مواقع لقائها أو تقاطعها؟
-السيادة الغذائية مفهوم مركب، فأولا هي مبنية على حرية اختيار مصدر الغذاء الخاص بالدولة أو القبيلة او المجموعة... مع شرط عدم الأضرار بالكائنات الحية الأخرى من بشر وحيوان وتنوع بيولوجي واحترام لحق الأجيال القادمة والإرث الإنساني..
ثم ثانيا يحددها عدم الاعتماد على الآخر في الغذاء الذي يشتمل على الموارد الأساسية للحياة، من أكل نظيف ومتوازن وكاف، وخضر وغلال وحبوب، ومشتقات الحيوان، وتوفر للماء باعتباره الجزء الأساسي من السيادة الغذائية فلا سيادة غذائية دون ماء.
وثالثا ترتبط السيادة الغذائية بالأرض كمورد أساسي لا يوظف لأي إنتاج آخر غير الغذاء، فضمان السيادة الغذائية تساوي أولية إنتاج الغذاء بطريقة لا يمكن معها أن توظف للاستثمار الربحي حتى وإن كانت من قبل الدولة..
إذن فالسيادة الغذائية تقوم على مبدأ الحق في الاراض والحق في الغذاء والحق في الماء والحق في بيئة سليمة وتنوع حيوي وسليم. كما انه وبطريقة غير مباشرة هو منع لاستعمال المواد الكيمياوية في الإنتاج الزراعي أو استنزاف الموارد الطبيعية.. علما وأن السيادة الغذائية ليست الاكتفاء الذاتي الذي يعني انتاج كل ما تحتاجينه للغذاء وهو امر مستحيل على مستوى الشخص والجهات ومستوى الدولة..
أما بالنسبة لمفهوم الأمن الغذائي فيمكن أن يختصر في أن تكون لك كمية غذاء كافية متوفرة عند الفرد او عند الدولة مهما كانت طرق توفرها أوإنتاجها، عبر إعانات أو شراءات أو عقود اتفاق، المهم توفير غذاء دون الاهتمام لنوعه او مصدره او طريقة انتاجه ولا شروط للإنتاج والتوزيع المهم الحصول على ذلك الغذاء. وفي الغالب تكون هناك تبعية بين المستفيد ومصدر الغذاء بمجرد ان يقوم بقطع الإمداد لا يتواجد الغذاء. والأمن الغذائي يمكن أن يمثل نوعا من أنواع التبعية..
وطبقا لما سبق يكون المفهومان الامن الغذائي والسيادة الغذائية، مفهومان متناقضان، فالأول يكون مفروضا على الأفراد أو الدول ولا تتوفر فيه حرية الاختيار في حين ينضبط مفهوم السيادة الى حرية الاختيار.
أين تتموقع الدولة التونسية اليوم وسط هذه المفاهيم حسب رأيك، وهل هي دولة قادرة على أنتكون لها سيادتها الغذائية؟
-الدولة التونسية هي دولة تابعة نسبيا، نصف غذائنا تقريبا يتم توريده من الخارج في شكل مساعدات او شراءات، وبالتالي نحن مرتبطون بقرارات سياسية خارجية يمكن خلالها فرض املاءات خارجية.
وشخصيا اعتبر ان تونس من الدول القادرة على أن تكون لها سيادتها الغذائية بمعزل عن الأسواق الخارجية، وتحقيق كفاية غذائية كاملة وبالتالي سيادة غذائية. فنحن قادرون على انتاج كفايتنا واكثر من الحبوب مثلا، لنا معرفة ودراية عالية المستوى لدى الفلاحين التونسيين ولنا الحبوب الاصلية التي مازالت متوفرة لدى الفلاح ولم تندثر بعد ولدينا الماء والامطار ولدينا الأرض الخصبة.. كما نتوفر على كميات لابأس بها من زيت الزيتون لكن وامام ارتباط أسعاره بالسوق الدولية (لا نتحكم وطنيا في منتوجنا من زيت الزيتون). نقوم بتصديره في المقابل نجد الشعب التونسي ليس بصدد أكل الزيت التونسي الصحي ويستهلك زيوتا مسرطنة موردة بنسبة 100% تقريبا.
وتونس تمتلك إنتاجا كافيا من الخضر والغلال، منتوجات تغطي حاجتنا من الحليب ومشتقاته ومن التمور والطماطم والباطاطا.. كما لدينا ما يكفي من الموارد الحيوانية بشرط العودة لطريقة الإنتاج القديمة المبنية على المرعى بعيدا عن الاعلاف المركبة وطرق التربية المسرطنة.
اذن ما ينقص تونس اليوم هو توفر القرار السيادي لتتوجه نحو سيادة غذائية وطنية لا تنضبط لأي املاءات أو اختيارات خارجية، وفي حالة واجهنا ازمة او عند الحاجة يمكن عندها التوريد في اطار حرية اختيار المصدر ونوعية المنتوج وشروط البيع والشراء..
لماذا لم تتوجه تونس الى غاية الآن إلى تحقيق سيادتها الغذائية، فهل الأرض أصبحت غير قادرة على توفير اكتفائنا؟
-الدولة التونسية إلى غاية الآن ليس لها سياسة غذائية إنما لها اقتصاد زراعي وبالتالي سياسة زراعية. أي أن المنظومة الفلاحية الوطنية ليست موجهة لتوفير أكل للتونسيين بل حلم الدولة وخبرائها هو إنتاج أقصى كمية للتصدير وليس لتغطية حاجة المواطنين.
وهي منظومة فلاحية موروثة عن وقت الاستعمار. تعمد المستعمر آنذاك أن تكون موجهة للتصدير وقامت الحكومات المتعاقبة على الحفاظ على نفس التوجه، فمثلا زراعة عنب النبيذ هي منظومة فلاحية معدة للتصدير أساسا،لم تأت على خلفية ثقافة استهلاكية محلية للخمور، تم خلالها استغلال فضاءات شاسعة للغاية من الأراضي الفلاحية واستهلاك كميات ضخمة من المياه..
وللعلم كان لنا اكتفاء ذاتي في أكثر من منظومة إنتاج.. وكنا الى غاية أوائل القرن العشرين دولة مصدرة للحبوب. كما ان لولاية سيدي بوزيد مثلا والى غاية منتصف الثمانينات نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي الغذائي المرعي وإنتاج زيت الزيتون.
تم تغيير المنظومة الفلاحية لمنطقة سيدي بوزيد باتجاه الفلاحة السقوية التصديرية وتحولت من منطقة بشبه اكتفاء ذاتي، إلى أول منطقة منتجة لمواد فلاحية موجهة للتصدير وليس للاستهلاك المحلي أو لتوفير أكل متساكني الجهة.
وما يقال او يتم تداوله في بعض الأحيان عن عجز تونس على توفير اكتفائها الذاتي الغذائي، يتنزل حسب رأيي في إطار الجهل، وهو أمر خطير للغاية أن لا يكون هناك معرفة بقيمة الأرض.
وتونس قادرة على توفير اكتفائها الذاتي من الحبوب بمدن الشمال الغربي، فهو قادر على انتاج ما يكفي من حاجة التونسيين. اما بالنسبة للواحات بشكلها القديم وليس الجديد، فهي تعتبر منظومة متكاملة قادرة على انتاج الخضر والغلال وتصنف كمنظومة بيئية مستدامة.. تقدم إنتاجا لمستويات ثلاثة، النخيل والأشجار المثمرة والزراعات الفصلية.. هذا الى جانب المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية التي تعد منتجا للحوم والحليب والألبان.. وما يميز تونس ان مختلف مناطقها من شمالها الى جنوبها هي مناطق منتجة لزيت الزيتون والتي تعد بيئة صالحة لإنتاج العسل. وهنا نكون أمام منظومات فلاحية متكاملة دون نقائص..
إن توفرت الإرادة السياسية لتغيير منظوماتنا الفلاحية والتوجه نحو تحقيق سيادة غذائية ما الزمن الكافي لتحقيق ذلك؟
-ليس لنا سياسيون قادرون على اتخاذ مثل هذه القرارات، يجب أن تتوفر الشجاعة، نحن محتاجين لانقلابات ومنها الانقلاب على المنظومة الفلاحية، وأول قرار يجب أن يتم اتخاذه من قبل الماسكين بمقاليد الدولة، هو إقرار مبدأ الأرض لإنتاج الغذاء وحق التونسي في الغذاء نوعا وكما.
ولتحقيق سيادتنا الغذائية نحن في حاجة إلى تحول رديكالي وانقلاب زراعي حقيقي يتغير معه كل الموجود نؤسس به لسياسة فلاحية. تكون خلالها الأرض للفلاحين، يأكل منها وما فاق عن حاجته يقوم بترويجه في السوق المحلية. ولا يمتلك من لا يمتهن الفلاحة الأرضي الفلاحية (طبيب أو محام أو مهندس ليس له الحق في امتلاك أراض فلاحية). بإمكانك تغيير مهنتك من طبيب الى فلاح يمتهن الفلاحة وتصبح فلاحاأو فلاحة ولكن ليس مستثمرا عبر امتلاك الأراضي للاستثمار وتكديس الثروة على حساب أكل التونسيين..
هل هذا الانقلاب الزراعي الذي تتحدث عنه هو شبيه بتجربة التعاضد لبن صالح؟
-التعاضد كان اكبر عملية سرقة وتحيل على الفلاح الصغير عبر تاريخ تونس، تم سلب أراضيهم منهم ليتحولوا الى عمال واجراء، وتسبب ذلك في تفقيرهم وتجويعهم. وكان الهدف منها تجميع الأراضي من اجل تكثيف الإنتاج للترفيع في التصدير وليس لتحقيق سيادة غذائية. وليس لها علاقة لا بحق الفلاح ولا بحق التونسيين في الغذاء. وانا اعتبر ان الاستعمار الفرنسي لم يمر بالسرقة التي قامت بها تجربة التعاضد. ففي عصر رئيس تونسي ووزير تونسي تم إقرار طرد الفلاحين من أراضيهم.
ما مدى ارتباط سيادتنا الغذائية بالسيادة الوطنية؟
-هو أمر حتمي، السيادة الغذائية في ارتباط وثيق بالسيادة السياسة والسيادة الوطنية. ومن منطق من يوفر لك الاكل يتحكم فيك نصبح في تبعية للجهات التي نستورد منها في الاكل.. ونحن اليوم في تبعية للخارج، فبغض النظر على موقفنا من جويلية وما اقره قيس سعيد. الجزء الكبير من الضغوطات الممارسة على قيس سعيد، البرلمان والعودة للديمقراطية.. ما كان يمكن ان يوجهوها لنا لو كانت لنا سيادتنا الغذائية، كان يمكن لرئيس الجمهورية ان يكون اكثر جرأة، فعلى اقصى تقدير لن تورد مثلا سيارات جديدة وسيخسر المصنعون سوقنا الصغيرة نسبيا او لن نورد مادة "الموز" او "الكيوي".. كوبا مثلا عند فرض الحصار في الخمسينات قررت تغيير سياستها الغذائية واليوم هم يأكلون 100% إنتاج محلي..
كيف تقيم اتجاه تونس نحو الانخراط في مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا" مع الاتحاد الأوربي؟
-مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق "الأليكا"، هو من العناصر الأساسية في السياسة الزراعية الخاصة بنا. وكل هذه الاتفاقات تمثل جزءا من المنظومة القانونية للمنظومة الفلاحية في تونس منذ التسعينات.
وهذه الاتفاقات تجعل تونس غير قادرة عل تحديد زراعاتها من القمح مثلا، كما لا يمكنها ان تقرر توجيه منتوجاتها من زيت الزيتون الى التونسيين. هي مجبرة على الالتزام بما تمليه عليها هذه الاتفاقات بشروطها.
ألا يمكن لهذه الاتفاقات أن تكون إطارا نفعيا لتونس في حال تحقق الانقلاب الزراعي واتجهنا نحو تركيز سيادة غذائية؟
-انقلابنا الزراعي يشمل العلاقات الخارجية، وفي جزء منه هو قطع مع مختلف الاتفاقات المفروضة علينا على امتداد السنوات الأخيرة، نحن لم نختر هذه الاتفاقات، ولم نكن طرفا فاعلا فيها كنا بمثابة المتسولين داخلها.. وأهم قرار يجب اتخاذه اليوم هو أن نكون أحرارا في اختيار غذائنا وان يكون لنا استقلالنا السياسي.. ومن بيده القرار اليوم هو في حاجة الى اكثر تحكم في القرار الغذائي. السيادة الغذائية والانقلاب الذي اتحدث عنه لن يكون بين ليلة وضحاها. لكن يمكن ان ينطلق بخطاب على غرار الخطابات الحماسية التي نسمعها من رئيس الجمهورية، خطاب يعلن خلاله انه خلال سنوات يتم تحديدها سيتم تغيير منظومتنا الزراعية وسيقع توسيع مساحات زراعة الحبوب وسيتم توجيه زيت الزيتون الى السوق المحلية ولن يتم التفويت الا في الفائض وسيقع وضع سياسة فلاحية يتم فيها الاخذ بعين الاعتبار لخصوصية كل جهة ومن يريد توجيه منتوجاته للتصدير يفرض عليه جباية..
ويمكن لرئيس الجمهورية حتى الانطلاق بتغيير التسمية من وزارة فلاحة الى وزارة غذاء، او السيادة الغذائية او حتى الامن الغذائي فكلها دلالات سياسية وهي كافية لبعث مؤشرات إيجابية في مسار التوجه نحو تحقيق السيادة الغذائية.
يقول خبراء ومهندسو فلاحة أن تونس قد فقدت جزءا هاما من بذورها الأصلية وهي اليوم بصدد توريد أخرى هجينة ذات نوعية سيئة؟
-دون بذور لا يمكن أن تنتج، ونحن اليوم بصدد التفريط في جزء كبير من بذورنا، فقدنا البذور المحلية مقابل التوجه نحو توريد بذور أجنبية. ففي فترة ما راهن الخبراء والمرشدون الفلاحيون على إنتاج اكبر كمية وكان ذلك عبر تغيير المحلية ببذور مستوردة تنتج اكثر. وتم بيع فكرة ان البذور المستوردة تنتج أكثر وتوفر ربحا اكبر للفلاح.. وفعليا بذورنا المحلية كانت الأفضل تتماشى مع مناخنا، الحميرة مثلا احد البذور التي يمكن انتاجها في مناح حار فقدت في تونس وهي موجودة في بنك جينات امريكي.
وهذا التوجه فقدنا معه نسبة كبيرة من بذورنا المحلية التي تتماشى مع خصوصية المناخ والتربة ومعرفة الفلاحين... وبقي الا قلة قليلة من الفلاحين الصغار بصدد استعمال هذه البذور. يصعب معها جدا إيجادهم (مناطق نائية)..
أنا اعتبر أن وزارة الفلاحة هي اكبر المجرمين وهي السبب واكبر مسؤول عن مصيبة اختفاء البذور المحلية، جهلا او فسادا او تبعية فكرية.
هل نحن قادرون على تدارك مصيبة اختفاء البذور المحلية كما أسميتها؟
-نعم قادرون على التدارك إن توفر القرار السياسي المشجع على استعمال الحبوب الاصلية. نحن نعلم أننا في تبعية للسوق العالمية وقطع الصلة معها مباشرة يتسبب في فوضى كبيرة، ولكن كفىأن نقول مثلا للفلاحين أن من يزرع الحبوب المحلية سيتمتع بدعم قدرة 50%.
ما الدور الذي يمكن أن يكون لبنك الجينات في هذا السياق؟
-يجب أن ندرك بداية أن بنك الجينات في تونس هو هيكل يعود بالنظر الى وزارة البيئة وليس الى وزارة الفلاحة، فنحن نتعامل معه على انه متحف.
لدينا بنك جينات بكفاءات عالية وذات خبرات، لكنهم غير قادرين على التدخل في المجال الفلاحي. يحاولون الحفاظ على بذورنا عبر انتاجها لدى بعض الفلاحين، وهذا مشكل مطروح ليس فقط فيما يتعلق بالبذور بل يسحب أيضا على قطاع الإنتاج الحيواني. تم اغراق السوق المحلية بأبقار الهلشتاين مثلا التي لم تتأقلم مع مناخنا وتراجع إنتاجها مقابل التخلي عن أبقارنا الأصلية. ونفس الأمر بالنسبة للماعز والخرفان.. ويمكن تدارك كل هذه الفوضى في حال تم التوجه الى وضع سياسة دولة جديدة قائمة على انقلاب زراعي، ونحن قادرون على انتاج حاجتنا من البذور المحلية والعودة الى انتاجها من جديد.
الفلاح في مواجهة كلفة عالية جدا لموسمه الزراعي من مبيدات وأدوية؟
-الفلاح اليوم بصدد الإنتاج للسوق وليس للاستهلاك الشخصي او لتحقيق الاكتفاء الغذائي، ولهذا السبب ومن اجل انتاج اكبر كميات ممكنة يتجه نحو استعمال الأدوية والأسمدة.
وعلى الفلاح الصغير خاصة توظيف معرفته في انتاج غذاء له وللآخرين، فمن العيب ان يعمل الفلاح طيلة السنة من اجل ان يقتني استهلاكه الشخصي من السميد او الكسكسي من المحلات التجارية أو يستهلك زيتا نباتيا في حين هو منتج لزيت الزيتون.
للفلاح معرفة عالية جدا لا يمتلكها امهر المهندسين وخريجي الجامعات، من دور الدولة ان تشجعه وتقدم له الدعم المادي من اجل استغلال هذه المعرفة، وإعطائه الثقة من اجل ان يكون مصدر غذاء لكل التونسيين..
لدينا نحو الـ 500 ألف فلاح صغير بمعرفة وكفاءة عالية يكفي ان يتم تشجيعهم وتوجيههم في إطار رؤية عامة لمنظومة زراعية وطنية.
كيف يمكن أن نحقق سيادتنا الغذائية في ظل مشكل الماء المسجل اليوم في تونس والاتهامات بان الفلاحة بصدد استنزاف المائدة المائية؟
-ما تتحدثين عنه من استنزاف هو بسبب الفلاحة الاستثمارية. الفلاحون الصغار لا يستهلكون أكثر مما تستحق مساحتهم المزروعة. وهنا على الدولة ان تحسن توزيع دعمها وتشجيعها ولا توجهها للمستثمرين والباحثين على الأرباح.. تشجع الفلاحين المحافظين على التوازن البيئي المحلي. ومن ينتج غذاءه وغذاء غيره من التونسيين.
والماء مثل الأرض، دون ماء لا يمكن ان يكون لدينا غذاء هو مادة أساسية بيولوجية وحق أساسي من حقوق الإنسان، المستثمر عندما يأتي يكون بصدد اخذ جزء من كميات الماء التي هي من حقي. فالماء من المفروض ان يتم توزيعه بتساوي بين مختلف الكائنات بآلية ضمن تصرف سليم.
والانقلاب في السياسيات الزراعية الذي أشرت له في البداية يجب ان يرافقه انقلاب في سياسات التصرف في الماء أيضا. فالماء معد لإنتاج الغذاء أولا والحفاظ على الكائنات مع الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة، وهذا يعني ان المستثمرين ممنوعين من استهلاك الماء واستنزاف المائدة المائية، سواء في الفلاحة او السياحة او غيرها. وخلاصة الحديث الماء ليس مادة قابلة للاستثمار.
تبني الانقلاب الزراعي والانقلاب في المنظومة المائية ومعها الانقلاب في الرؤية الاقتصادية هل يمكن أن يكون مصدرا لفرص تشغيل؟
-طبعا الانقلاب الزراعي يمكن ان يكون مصدرا هام لفرص تشغيل، عبر إعادة توزيع الأراضي الفلاحية. تحديد حجم الأرض الفلاحية فلا يمكن أن نجد فلاحا بمساحة تتجاوز مثلا الـ 100 هكتار أو اقل من 5 هكتارات. فيكفي ان نقسم الأراضي الدولية على هذا الأساس حتى نوفر من الغد فرص عمل لـ 70 ألف عاطل عن العمل. والدولة لها أن تعتمد الآلية التي تراها صالحة لإعادة توزيع الأراضي.
وفي هذا سيكون للمرأة الفلاحة الدور البارز، فحديث بسيط مع الفلاح تكتشف منه أن النساء الفلاحات يمتلكن ثقافة ومعرفة عميقة ودقيقة بالبذور مقارنة بالرجل الفلاح.
الطرح الذي قدمته لتحقيق السيادة الغذائية يتناقض في جزء كبير منه مع الاطروحات التعليمية التي يتم تقديمها في الجامعات؟
-أنا تلقيت تعليما في الفلاحة وما يتم تقديمه في الجامعات مبني على مرجعية اعتماد المواد الكيميائية، تجميع الأراضي والمساحات وتكثيف الإنتاج والتصدير والربح.. هذا ما يتم تعليمه في الجامعات جميعها عناصر تبعية تفتقر للمعرفة. بعيدة عن أي معرفة للجغرافيا الاجتماعية ووضعية الفلاح والفلاحين الاجتماعية، كونت مفهوما جديدا للفلاح، هو ذلك الذي يعمل بيده في ارضه وليس لديه ارض من اجل تحقيق اقصى الأرباح.