تونس – الصباح
استفهامات عديدة وقراءات مختلفة طرحها مقال راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان المجمدة اختصاصاته، الذي نشره مؤخرا بإحدى الصحف الأسبوعية، وقدمه كـ"شهادة للتاريخ" بدت حمّالة أوجه ورسائل عديدة وتضمنت عدة نقاط تعنى في تفاصيلها وإحالاتها وأبعادها بما هو شخصي وحزبي وسياسي وطني وإقليمي دولي. يأتي ذلك بعد أيام قليلة من نشر نتائج عملية سبر للآراء لأحدى المؤسسات الرائدة في المجال، وضعته في صدارة الشخصيات السياسية التي تحظى بعدم ثقة التونسيين بنسبة 82%. إضافة إلى توجه سلطة الإشراف إلى فتح بعض الملفات التي لطالما هدد بها رئيس الجمهورية قيس سعيد لعل أبرزها ملف اغتيال الشهيد لطفي نقض وغيرها من الملفات الأخرى التي توجه فيها الجهات اتهامات صريحة لحركة النهضة وتحديدا قياداتها وهو في مقدمتهم على غرار "اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي" واغتيال عسكريين وأمنيين وتسفير الشباب إلى بؤر الإرهاب و"اللوبيينغ" الأجنبي والتجاوزات المسجلة في الانتخابات الأخيرة وغيرها.
وبدا الغنوشي في هذه "الشهادة" كأنه أراد من خلالها أيضا أن ينخرط في موجة السياسيين الذين قدموا شهادات حول مرحلة تاريخية هامة ومفصلية في تاريخ تونس السياسي المعاصر وليضع نفسه في نفس الصف لمن تقلدوا مهام ومسؤوليات قيادية في الدولة وكان آخرها كتاب رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد "الحبيب الصيد في حديث الذاكرة" وسبقه بعام تقريبا محمد الناصر رئيس مجلس النواب في الدورة البرلمانية الماضية ورئيس الجمهورية بالنيابة في كتاب باللغة الفرنسية عنوانه "جمهوريتان وتونس واحدة"، خاصة أن الغنوشي كان فاعلا في المشهد السياسي خلال السنوات العشر الأخيرة من خلال تموقع حزبه المتقدم في منظومة الحكم وتحكمه في مفاصل الدولة والقرار في تونس ما بعد ثورة 2011 عبر تحكم النهضة في الحكومات التي تعاقبت على الحكم إلى غاية 25 جويلية.
إذ بدت شهادة الغنوشي هذه مستعجلة وموجهة في تركيزها على جهة سياسية معينة على نحو كانت أقرب للرد والتبرير منها إلى شهادة عن تاريخ تونس القريب الذي كان حاضرا وفاعلا فيه بقوة، خاصة أنها تتناول مرحلة لا تزال تفاصيلها ومستجداتها وأحداثها محفورة في ذاكرة أغلب التونسيين فضلا عما قدمه عدد من السياسيين والمؤرخين والناشطين في المجتمع المدني والمنظمات والهياكل والهيئات الوطنية والدولية من حقائق ومعطيات وأرقام وشهادات حية في مختلف وسائل الإعلام أو في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات أو عبر المنصات التي تؤرخ للمرحلة التاريخية والسياسية القريبة.
كلمات مفاتيح
ما شد في هذه الشهادة التي كانت في شكل "خطاب" اعتمد فيه تكرار بعض العبارات والمعاني، وبقطع النظر عما تضمنته من معطيات وحقائق لم يكن بعضها خافيا عن العموم، أنها كانت عبارة عن كلمات مفاتيح تحدد عناوين العشرية السياسية الأخيرة من قبيل "صفقة" و"الطيف السياسي" و"مغنم" و"الاستقطاب" والتوافق" و"حزام سياسي" و"ترويكا" و"المصالح"... وهي كلمات مفصلية تختزل سياسة حركة النهضة والمنظومة التي حكمت البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة تحت عناوين حكومية مختلفة.
ورغم محاولته تناول كل المراحل المفصلية في تاريخ تونس المعاصر الذي كان شاهدا حيا عليه إلا أن هذه الشهادة كانت منقوصة من بعض الأحداث والحقائق والخلفيات والأسباب التي تحوم حولها لعل أبرزها ما تعلق بالاغتيالات السياسية أساسا للشهيدين الراحلين شكري بالعيد والبراهمي إضافة إلى ما تعلق بالعمليات الارهابية التي حمل فيها المسؤولية لجهات أجنبية وذلك بالزج برأي النهضة في تغيير نظام الحكم في مصر سنة 2013 أو الحرب في ليبيا وتنازع شقي حفتر والسراج على اعتبار أن هذه العوامل لها تداعياتها على الوضع الداخلي في تونس وعلى تعاطي منظومة الحكم مع مسارات التسيير لدواليب الدولة خاصة في ظل تدخل قوى وأنظمة خليجية وغيرها في ذلك.
النزعة "الأناوية".. بعيدا عن المرآة
كانت نزعة الأنا حاضرة بقوة في هذه الشهادة بشكل مباشر أو غير مباشر. سواء من خلال التنصيص في ما كتبه على "زعيم النهضة" أو "رئيس الحركة" أو من خلال تعداد مزايا وأدوار هذا الأخير في تحقيق المعادلة السياسية والأمنية في نفس المرحلة والأدوار التي لعبها في سياق تكريس الحرية والمناخ الديمقراطي.
فلم يقدم ما يؤكد نزعته لمراجعة الذات والتوجهات والاختيارات بل حمل حلفاء النهضة من أحزاب وتيارات وأشخاص، باختلاف مشاربهم وتلويناتهم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع من تردي الأوضاع وتوسع دائرة الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية من خلال وصفه تحالف النهضة مع الشاهد بأنه كان "غير موفق" وهو نفس التوصيف لاختيار الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة فضلا عن تأكيده على مشيشي كان "رئيس حكومة ضعيفا محاطا بشرنقة من أصحاب المصالح لا تهمهم غير مصالحهم، فغابت إرادة القرار واليقظة وغابت المسؤولية وغاب الانجاز". إضافة إلى وصف حلفائه في البرلمان المجمد بأنهم شكلوا "حزاما سياسيا رخوا لم يستطع لا حمل الحليف على الانجاز ولا حتى تهديده جديا بسحب الثقة، مما أغراه بمواصلة سياسة الإهمال وعدم الجدية إلى حدّ العبث، حتى آل أمر البلاد إلى حال من الشلل شبه الكامل، وليس ذلك غريبا على الأحلاف الحكومية فهي عادة ضعيفة ورخوة".
تناقض وتضارب
ولم تخلو شهادة رئيس حركة النهضة من تناقضات وتضارب في المواقف خاصة في علاقة بموقف الحركة من قرارات 25 جويلية التي يضعها في مرتبة "جرعة الأوكسجين التي أنقذت التونسيين مشبها لاسيما بعد استفحال جائحة كورونا وعجز حكومة مشيشي على مجابهتها وتوفير مستلزمات إنقاذ الأرواح"، ليصف تهليل التونسيين بتلك القرارات على اعتبار أنها "معبرة عن إرادة شعبية صادقة متعطّشة إلى التغيير، ضائقة ذرعا بالحكومة وحزامها". وهي توصيفات رأى فيها البعض "انحناءة" من الغنوشي لقيس سعيد خاصة في هذه المرحلة وبعد أن أثبت حراك 14 نوفمبر الأخير أنه لا جدوى من المراهنة على الشارع التونسي لقلب موازين الحكم في تونس اليوم وأن رئيس الجمهورية ماض قُدًما في تنفيذ كل ما وعد به من فتح ملفات وتغيير الخارطة السياسية والمنظومة السياسية.
لكنه في جانب آخر يذهب إلى مواصلة المراهنة على الدعم الخارجي في إفشال مشروع سعيد القائد على التفرد بكل السلطات ويضعه في مقارنة مع الراحل زين العابدين بن علي الذي يعد عنونا للدكتاتورية لكنه حظي بالدعم الخارجي بسبب توافق المصالح لكن العكس بالنسبة لسعيد.
فكانت اعترافاته بضعف حكوماته وتواطأ حزبه وقبوله الدخول في تحالفات وتكتلات ومخاتلات ومناورات خارجة عن إرادة وقرار "النهضة" أو شخصه وإنما كانت وليدة إملاءات وازع الضمير وما يفرضه الواقع من أجل المحافظة على المناخ الديمقراطي والحريات والأمن والاستقرار من ناحية وبقاء الحركة في سدنة الحكم والقرار. فقدم النهضة ومن خلالها "شخصه" في دور حامي معبد الحريات والديمقراطية والمدافع عن هذه المكاسب التي نأت ببلادنا عن السقوط في مهب ارتداد ثروات الربيع العربي. في حين أن الجميع يعلم الدور الكبير الذي لعبه المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية وخاصة المرأة في السنوات الأولى للثورة في الدفاع الشرس على هذه المكاسب وحالت دون نجاح النهضة في تكريس وتطبيق مشروعها المناهض للدول المدنية والحقوق والحريات. ولا تزال ساحة باردو وساحات وشوارع العاصمة والمدن الكبرى في تونس شاهدة على الوقفات المستميتة ضد كل محاولات "أخونة" المجتمع وفرض ثقافات وظاهر دخيلة على المجتمع التونسي. لتحولها "النهضة" بعد ذلك إلى عنوان كبير لأدوارها في إرساء مقومات الجمهورية الثانية.
وهو ما اعتبره بعض المتابعين للشأن السياسي من قبيل المغالطات التي قدمها رئيس حركة النهضة الذي حمل جانب من مسؤولية فشل الحكومات المتعاقبة إلى انتهازية وفشل حلفائه ووضع في مقدمتهم الراحل الباجي قائد السبسي.
لكن هذه الشهادة لم تخلو من توجيه للرأي العام من خلال "الوعيد" والتهديد الذي قطعه رئيس البرلمان المجمدة اختصاصه للتونسيين الذين يهللون يما أقدم عليه قيس سعيد الذي يصف توجهه والموالين له والمعارضة للنهضة بـ"الشعبوية" وهي نفس الصفة التي تجع قيس سعيد بعبير موسي رئيسة حزب الدستوري الحر.
لذلك ذهب في قراءته لحدث 25 جويلية وما أفرزه قرارات ونظام استثنائي، أنها ستكون نفسها آليات سقوطها.
نزيهة الغضباني