مازال المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة الذي تم تركيزه منذ اكثر من سنة ونصف، يشكو من مشاكل الولادة العسيرة.. فأمام تعمد وزارة المرأة على امتداد الأشهر السابقة تعطيل اشغاله وطمس كل محاولته للعمل.. يجد نفسه في مواجهة وزارة اشراف تتعامل معه على انه هيكل منافس وليس مكملا لها..
وما يشهده الفضاء العام والفضاء التربوي والفضاء الاسري من ارتفاع واضح في منسوب العنف وتطور غير مسبوق في أشكاله، لم يدفع حسب الحوار الذي أجرته "الصباح" مع منية قاري مديرة المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة لا الوزارة ولا بقية الهياكل المعنية الى تفعيل دور المرصد او كسر حائط الجليد الذي وضع حوله..
لقاء، كان فرصة شخصت خلاله قاري واقع العنف في تونس وابرز دوافعه، كما كشفت لـ"الصباح" ضعف الإرادة السياسية في مناهضة العنف المسلط على النساء وعن أصل الإشكاليات التي يواجهها المرصد وما الحلول القادرة عن وقف نزيف العنف المستشري..
حوار: ريم سوودي
كيف تقرأ أو تشخص مديرة المرصد التطور المسجل في نسق واشكال العنف المسجل خلال الأشهر الأخيرة؟
-لاحظنا جميعا في الفترة الأخيرة ومع الظرف الاقتصادي والاجتماعي وخاصة السياسي الصعب، ارتفاعا في نسب العنف. وعموما هذه النسبة ترتفع في المجتمعات التي تمر بأزمات وعندما تكون الدولة ضعيفة، وعاجزة عن مجابهة هذه الظاهرة. وظاهرة العنف ضد النساء لا يمكن قراءتها بمعزل عن ظاهرة العنف ككل والتي انتشرت حسب رأيي بصفة كبيرة.
وهذا التطور في ظاهرة العنف جاء نتيجة ارتفاع معدلات الفقر، وانتشار المواد المخدرة وغياب المراقبة وارتفاع نسبة الإفلات من العقاب وغياب الإرادة السياسية لمقاومة العنف ضد النساء إذ لا تصنف كأولوية لدى الدولة، ولا يوجد ميزانيات خاصة لمقاومة هذه الظاهرة ونقص مراكز الايواء وعدم قدرة الفرق المختصة على التعهد بالنساء ضحايا العنف فالعديد منهم لا يوجد لديهم ولو مكان صغير للاستماع لضحايا العنف بطريقة تحفظ لهن السرية والخصوصية وهو ما يجعل الفرق المختصة رغم ما لديها من إرادة واستعداد للتعامل مع قضايا العنف المسلط على النساء الا ان محدودية الإمكانيات تجعل من أدوارهم منقوصة.
كما يسجل بطء كبير في التعاطي مع الشكايات، وهناك الكثير من القضايا تحفظ، على خلفية اعتماد نظام مبدأ ملاءمة التتبع. فالي غاية اليوم تقوم عديد النساء بالتراجع وسحب الشكاية في قضايا العنف التي تتقدمن بها ويقوم القاضي بأخذها بعين الاعتبار ويتخذ بذلك قرارا بالحفظ أو اعتماد حكم التخفيف، نفس الأمر تقدم عليه النيابة العمومية في الكثير من الحالات اين تتجه الى حفظ القضية على خلفية الاسقاط، وهو أمر يجب التنبيه له لان العنف ضد النساء ليس مسالة شخصية بين شخصين او اكثر، بل هي مسالة من الخطورة ما يجعلها تمس من النظام العام ككل ومن السلم الاجتماعية.
وبالتالي من العادي ان يرتفع منسوب العنف المسلط على النساء، رغم عدم وجود احصائيات رسمية تؤكد ذلك. وأنا شخصيا أرى أننا اليوم أمام تناول أوسع لظواهر ومظاهر العنف المسجلة ( وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي) وتؤكد منظمات المجتمع المدني والمكالمات والاشعارات التي تصل المرصد عبر الخط الأخضر ارتفاعا في منسوب العنف. هذا الى جانب تسجيل تنوع في اشكال جرائم العنف المسجل ففي كل مرة نعاين أشكالا جديدة للعنف يتم استنباطها من قبل القائمين بالعنف.
وما يمكن أيضا ملاحظته هو ارتفاع نسب قتل ومحاولات قتل النساء، والتي تتم أساسا في المحيط العائلي، وهو ما يعني ان الاسرة في حد ذاتها تحولت الى فضاء خطير، يهدد المرأة في جميع حقوقها الأساسية وسلامتها الجسدية والمعنوية، وحياتها وكرامتها. فالأسرة التونسية إلى اليوم يسيطر عليها الفكر والعقلية الذكورية القائمة على رب الأسرة وعلى النظرة الدونية للمرأة وعلى دورها الاجتماعي التقليدي ومهما كان مستواها الثقافي والاجتماعي والتعليمي تبقى النظرة لها منحصرة في تربية الأطفال والاعتناء بالبيت.
فثقافة الحقوق الفردية غير متواجدة في المجتمع ولا في الأسرة، وما اعتبره خطيرا هو تغليب مصلحة الاسرة على حساب حقوق النساء الأساسية، فنحن اليوم نعيش في ثقافة مجتمعية لا توجد فيها حقوق للمرأة كفرد وإنسان نراها فقط في أدوار، كام او كزوجة فقط.
هل الوضع السياسي الجديد والتغيرات التي تعيش على وقعها البلاد يمكن أن يمثل فرصة أو منطلقا لتكوين وعي جديد وثقافة مجتمعية تراعي حقوق النساء؟
-شخصيا لا اعتقد أننا امام فرصة لتغيير او بناء ثقافة مجتمعية جديدة، لماذا؟، لان أولويات الحكومة حسب ما يمكن ملاحظته هي المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، واليقظة المطلوبة فيما يهم ظاهرة العنف لا يمكن أن تأتي إلا من قبل المجتمع المدني. وهو الدور الذي يقوم به منذ سنوات.
ما الدور الذي سيكون للمرصد في هذه الحالة خاصة ان من مهامه تجميع المعطيات والمعلومات المبعثرة بين الهياكل وإعداد الدراسات وتشخيص الوضع طبقا لمقاربات إحصائية؟
-صحيح هناك غياب تنسيق بين الهياكل، في الوقت الذي ينص القانون 58 بوجوب التنسيق والمكلف بذلك هو وزارة المرأة. وما يمكنني قوله ان هناك عدم وعي من قبل الهياكل بأهمية المرصد. فبقدر ما يجد المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة دعما وتواصلا ووعيا بدوره من قبل منظمات المجتمع المحلية وشركائه الدوليين بقدر ما وزارة المرأة غير واعية بأهمية المرصد، وكأن المرصد يمثل هيكلا منافسا لوزارة المرأة وليس مكملا لها او مؤسسة تحت اشرافها وهي العقلية التي تسببت في تعطيل عمل المرصد.
تحدثت عن أهمية توفر الإرادة السياسية لتقدم عمل المرصد، هل ان رئاسة الجمهورية تمثل الطرف القادر على توفير هذه الإرادة؟
-رئيس الجمهورية شخصية محافظة، لم يتبن بعض القضايا الكبرى كمسالة المساواة في الميراث وحقوق بعض الفئات الهشة. لكن في نفس الوقت قدم رئيس الجمهورية مؤشرات جد إيجابية فيما يتصل بحقوق النساء ودورهن في المجتمع، حيث عين رئيسة حكومة وتبنى تركيبة حكومية بنسبة مشاركة محترمة للنساء.. وانا شخصيا لا اعتقد ان رئيس الجمهورية سيقوم بالتراجع عن حقوق ومكتسبات المرأة التونسية ولكن في نفس الوقت لا أتوقع أن نعرف تطورا إيجابيا فيما يتصل بهذه الحقوق وخاصة منها الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للنساء..
ما الحلول التي تعتبر مديرة المرصد الوطني لمناهضة العنف، ان على الحكومة اتخاذها من اجل إيقاف نزيف العنف وما يعرفه من تطور في انواعه واشكاله داخل الاسرة مع يما مثله من خطر على الطفل والمجتمع بصفة عامة؟
-الوقاية هي الآلية الأساسية التي يجب اعتمادها لوقف نزيف العنف المسجل، ويكون ذلك في جميع المؤسسات. وهي حل نص عليه القانون عدد 58، فيكفي ان نطبق بابه الأول الوارد تحت عنوان الوقاية من العنف. فلو طبقت مختلف الهياكل والوزارات هذا الفصل من القانون لكنا بصدد التأسيس لمجتمع سليم ومتوازن وعلى الأقل قمنا بتحصين أطفالنا ومستقبلهم من أثار العنف بأشكاله المختلفة. فلو مثلا أدرجت وزارة التربية برامج التأسيس لثقافة المساواة وعدم التمييز وقبول الآخر والاختلاف وترسيخ مبدأ التسامح وتكثيف برامج حقوق الانسان، فهذه المواضيع لو تم ادراجها مع العمل على تطبيق ذلك داخل مؤسساتنا التربوية فلا يتم توزيع التلاميذ على أسس النوع الاجتماعي ولا يقع التمييز بين الأطفال على أساس اللون او المستوى الاجتماعي أو لون الميداعة.. يجب ان نقوم بتربية الأطفال على هذه المبادئ.
في نفس الوقت على الهياكل الرسمية والدولة التدخل على مستوى الاسر، وذلك عبر وضع مقومات جديدة لتربية الأطفال بعيدا عن العنف وعقلية العقاب والمنع والتقييد وعقدة الجسد والتمييز على أساس امرأة ورجل.. فالأسرة تضطلع بالدور الأبرز فيما يتصل بالتنشئة وخلق التوازن لدى الفرد. ولذلك يجب التأسيس للحوار داخل الأسرة وتبادل الآراء والأدوار المبنية على مبدإ احترام الآخر بعيدا عن العنف، فالأطفال الذين يعيشون في مناخ من العنف وداخل اسرة لا يتوفر فيه الحوار وتعاني فيه المرأة في داخلها من التقزيم والدونية ولا يمكنهم إلا أن يتبنوا ذلك العنف ويعيدون إنتاجه.
تمر اليوم نحو السنة ونصف على تركيز المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة، ولم يصدر عنه إلى غاية الآن تقريره الأول، لماذا هذا التأخير؟
-صحيح أن الأمر الحكومي الذي ينظم المرصد قد صدر منذ فيفري 2020، وقدم مهام المرصد وهياكله، وتم فعليا مع الوزيرة السابقة أسماء السحيري تكوين المجلس العلمي وانطلق في العمل حضوريا وعن بعد. لكن تم التباطؤ في تكوين المجلس الإداري من قبل وزارة المرأة السابقة والحالية وغياب الإرادة السياسية عن مختلف مكوناته من إدارات ووزارات.. الأمر الذي جعل من إدارة المرصد غير مؤهلة وغير قادرة على تقديم النتائج المنتظرة منه.
والمرصد منذ تركيزه بصدد مواجهة عديد الإشكاليات في علاقة بالوزارة المشرفة وهي وزارة المرأة التي تتعامل معه على انه هيكل منافس لها وليس مكملا. فمنذ البداية والى غاية اليوم هناك عدد من الملحقين لم يقع تسوية وضعياتهم المهنية بعد ولم يقع بعد الامضاء على قرار الالحاق الخاص بهم.. ومن بينهم المعنية بخطة الكتابة العامة التي مازالت تعمل تحت اشراف رئيس ديوان وزيرة المرأة، وهذا الأخير كون إدارة موازية للمرصد ورغم الشكايات التي تم تقديمها لوزيرة المرأة ورئيس الديوان في الغرض الا ان الوضع بقي على حاله ولم يتم الى غاية الان اتخاذ أي اجراء يذكر.
ووجد المرصد نفسه طيلة السنة ونصف الماضية امام نقص فادح في الموارد البشرية ( ليس للمرصد لا سكرتيرة ولا حارس ولا سائق ولا عاملة نظافة..) وفي الدعم اللوجستي وحتى مع محاولاته تجاوز ذلك تعترضه إجراءات إدارية غير منتهية وفي الكثير من الأحيان إجراءات طويلة ومعقدة حالت دون استكمال هيكلته. كما انني اعتبر ان عدم احترام استقلالية المرصد من قبل وزارة المرأة كان من بين المشاكل التي حالت دون تأديته لمهامه بكل استقلالية وبكل نجاعة. ولكن مع كل هذه الإشكاليات كان للمرصد أنشطة واعمال منجزة ودراسات..
كيف تقيمين مستوى التفاعل بين هياكل الدولة والمرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة بعد سنة ونصف من عمله وفي ظل المهام الموكولة للمرصد؟
-يتكفل المرصد برصد وتشخيص مظاهر العنف بصفة عامة ووضع قاعدة بيانات للعنف المعلن عليه، ذلك المسجل عبر الخط الأخضر (سماع توجيه النساء ضحايا العنف) والذي ارتفع بصفة كبيرة خلال فترة الحجر الصحي. مع تجميع مختلف المعطيات والابلاغات المتعلقة بظاهرة العنف المسلط على النساء من قبل مختلف الهياكل المعنية عل غرار وزارة الصحة (المستشفيات) والفرق المختصة التابعة لوزارة الداخلية والقضايا المرفوعة ومآلها فضلا عن المعطيات الصادرة في العنف الاقتصادي عن وزارة الشؤون الاجتماعية... وجميعها يفترض أن تقدم للمرصد معطيات كل 6 اشهر لكن باستثناء الامن الوطني الذي قدم تقريرا عن آخر 6 أشهر لم نحصل على أي تقري رسمي من الهياكل المذكورة.
وعموما يغيب كل تواصل مع هذه الهياكل، فالي غاية اليوم وباستثناء جلسة يتيمة جمعت ممثلين عن الوزارات المعنية بمسالة العنف ضد المرأة.. لم تعرف السنة ونصف الماضية أي تجاوب او رغبة في العمل المشترك مع المرصد.
وغياب التفاعل كان من الأسباب التي أخرت التقرير، فعمليا لا يمكن العمل على تقرير والمرصد غير قادر على تجميع المعطيات الصادرة عن مختلف الهياكل المختصة والوحدات المختصة في الأمن العمومي والحرس ومآل الدعاوى وتقارير مراكز الإحاطة.
وطبقا لهذا الفتور اتجه المرصد الى تكثيف عمله مع منظمات المجتمع المدني التي تشتغل على موضوع العنف واليوم يعمل المرصد على توحيد آليات العمل حول مؤشرات العنف التي سيتم اعتمادها من قبل الجمعيات وتقديمها في مرحلة لاحقة للمرصد، ويكون ذلك عبر مرافقة الجمعيات وتطبيق نفس آليات الرصد وتكوين مجموعة عمل يتم داخلها تبادل الخبرات مع المراصد الدولية.
ما الإنجازات التي قام بها المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة إلى غاية الآن؟
-من الناحية العلمية قام المرصد بعدد من الدراسات مع الشركاء، حيث انطلق منذ اكثر من شهرين في اعداد دراسة حول العنف الزوجي بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، والنتائج الأولية شبه جاهزة وكان من ابرز ما جاء فيها ان العلاقة بين الزوج والزوجة في تونس غير مبنية على التواصل أو الحوار، وان دور المرأة غير أساسي في العائلة والرجل هو المحدد للقرار داخل الاسرة. كما بينت ان الشرب واستعمال المخدرات من الأسباب الكامنة وراء ارتفاع نسب العنف داخل الاسرة.. وذكرت أيضا النتائج الأولية للدراسة التي انطلقت بعينة صغيرة تتكون من 15 امرأة و15 رجلا تم اختيارهم بطريقة عشوائية، أن هناك نسبا عالية من العنف النفسي والجسدي والاقتصادي المسلط على النساء داخل العائلة.. وكشفت أيضا أن المرأة التونسية غير واعية وأنها بصدد التعرض لاغتصاب جنسي من قبل زوجها.
وقام المرصد أيضا في اطار عمله العلمي بدراسة العنف الزوجي من خلال دراسة 64 حكما قضائيا، اين تبين أن هناك تساهلا من قبل القضاة فيما يتعلق بالعنف الزوجي، ويتم في غالبية الاحكام الحكم بعقاب تخفيف لا يتناسب مع الأفعال الصادرة عن المُعنف. والدراسة تأخذ أيضا بكل المعطيات المتعلقة بالقضية عمر الضحية والقائم بالجرم، والوضع الصحي لهما، وتركيبة المحكمة ( قاضيات او قضاة) والأفعال التي تشتكي على خلفيتها النساء. ومدى تكييف القضاة لأفعال المشتكى به على خلفية القانون 58 والاحكام الصادرة فيها، ومدى تطبيق القانون والعقوبات.. ومن ابرز ما توصلت اليه الدراسة ان القضاة لا يعتمدون ظروف التشديد بل بالعكس يوفرون على الاغلب ظروف تخفيف.
وانطلق المرصد في نفس الوقت في العمل على دراسة حول العنف الجنسي ضد الأطفال وركز خلالها على ظاهرة زنى المحارم بالأساس.. كما بدأ منذ اقل من شهر على العمل على العنف المسلط على المهاجرات شكله ومصدره وخصوصيته. وهو اليوم بصدد الاعداد أيضا لدراسة تهم قتل النساء ودراسة منهجية وطنية لمقاومة العنف الاقتصادي المسلط على النساء بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة. مع الاعداد لتقرير يهم مستوى ولوج النساء للعدالة انطلاقا من مقارنة بين نتائج المقدمة من قبل وحدات الامن وتقارير العدالة ومنطوق المحاكم.
تونس الصباح
مازال المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة الذي تم تركيزه منذ اكثر من سنة ونصف، يشكو من مشاكل الولادة العسيرة.. فأمام تعمد وزارة المرأة على امتداد الأشهر السابقة تعطيل اشغاله وطمس كل محاولته للعمل.. يجد نفسه في مواجهة وزارة اشراف تتعامل معه على انه هيكل منافس وليس مكملا لها..
وما يشهده الفضاء العام والفضاء التربوي والفضاء الاسري من ارتفاع واضح في منسوب العنف وتطور غير مسبوق في أشكاله، لم يدفع حسب الحوار الذي أجرته "الصباح" مع منية قاري مديرة المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة لا الوزارة ولا بقية الهياكل المعنية الى تفعيل دور المرصد او كسر حائط الجليد الذي وضع حوله..
لقاء، كان فرصة شخصت خلاله قاري واقع العنف في تونس وابرز دوافعه، كما كشفت لـ"الصباح" ضعف الإرادة السياسية في مناهضة العنف المسلط على النساء وعن أصل الإشكاليات التي يواجهها المرصد وما الحلول القادرة عن وقف نزيف العنف المستشري..
حوار: ريم سوودي
كيف تقرأ أو تشخص مديرة المرصد التطور المسجل في نسق واشكال العنف المسجل خلال الأشهر الأخيرة؟
-لاحظنا جميعا في الفترة الأخيرة ومع الظرف الاقتصادي والاجتماعي وخاصة السياسي الصعب، ارتفاعا في نسب العنف. وعموما هذه النسبة ترتفع في المجتمعات التي تمر بأزمات وعندما تكون الدولة ضعيفة، وعاجزة عن مجابهة هذه الظاهرة. وظاهرة العنف ضد النساء لا يمكن قراءتها بمعزل عن ظاهرة العنف ككل والتي انتشرت حسب رأيي بصفة كبيرة.
وهذا التطور في ظاهرة العنف جاء نتيجة ارتفاع معدلات الفقر، وانتشار المواد المخدرة وغياب المراقبة وارتفاع نسبة الإفلات من العقاب وغياب الإرادة السياسية لمقاومة العنف ضد النساء إذ لا تصنف كأولوية لدى الدولة، ولا يوجد ميزانيات خاصة لمقاومة هذه الظاهرة ونقص مراكز الايواء وعدم قدرة الفرق المختصة على التعهد بالنساء ضحايا العنف فالعديد منهم لا يوجد لديهم ولو مكان صغير للاستماع لضحايا العنف بطريقة تحفظ لهن السرية والخصوصية وهو ما يجعل الفرق المختصة رغم ما لديها من إرادة واستعداد للتعامل مع قضايا العنف المسلط على النساء الا ان محدودية الإمكانيات تجعل من أدوارهم منقوصة.
كما يسجل بطء كبير في التعاطي مع الشكايات، وهناك الكثير من القضايا تحفظ، على خلفية اعتماد نظام مبدأ ملاءمة التتبع. فالي غاية اليوم تقوم عديد النساء بالتراجع وسحب الشكاية في قضايا العنف التي تتقدمن بها ويقوم القاضي بأخذها بعين الاعتبار ويتخذ بذلك قرارا بالحفظ أو اعتماد حكم التخفيف، نفس الأمر تقدم عليه النيابة العمومية في الكثير من الحالات اين تتجه الى حفظ القضية على خلفية الاسقاط، وهو أمر يجب التنبيه له لان العنف ضد النساء ليس مسالة شخصية بين شخصين او اكثر، بل هي مسالة من الخطورة ما يجعلها تمس من النظام العام ككل ومن السلم الاجتماعية.
وبالتالي من العادي ان يرتفع منسوب العنف المسلط على النساء، رغم عدم وجود احصائيات رسمية تؤكد ذلك. وأنا شخصيا أرى أننا اليوم أمام تناول أوسع لظواهر ومظاهر العنف المسجلة ( وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي) وتؤكد منظمات المجتمع المدني والمكالمات والاشعارات التي تصل المرصد عبر الخط الأخضر ارتفاعا في منسوب العنف. هذا الى جانب تسجيل تنوع في اشكال جرائم العنف المسجل ففي كل مرة نعاين أشكالا جديدة للعنف يتم استنباطها من قبل القائمين بالعنف.
وما يمكن أيضا ملاحظته هو ارتفاع نسب قتل ومحاولات قتل النساء، والتي تتم أساسا في المحيط العائلي، وهو ما يعني ان الاسرة في حد ذاتها تحولت الى فضاء خطير، يهدد المرأة في جميع حقوقها الأساسية وسلامتها الجسدية والمعنوية، وحياتها وكرامتها. فالأسرة التونسية إلى اليوم يسيطر عليها الفكر والعقلية الذكورية القائمة على رب الأسرة وعلى النظرة الدونية للمرأة وعلى دورها الاجتماعي التقليدي ومهما كان مستواها الثقافي والاجتماعي والتعليمي تبقى النظرة لها منحصرة في تربية الأطفال والاعتناء بالبيت.
فثقافة الحقوق الفردية غير متواجدة في المجتمع ولا في الأسرة، وما اعتبره خطيرا هو تغليب مصلحة الاسرة على حساب حقوق النساء الأساسية، فنحن اليوم نعيش في ثقافة مجتمعية لا توجد فيها حقوق للمرأة كفرد وإنسان نراها فقط في أدوار، كام او كزوجة فقط.
هل الوضع السياسي الجديد والتغيرات التي تعيش على وقعها البلاد يمكن أن يمثل فرصة أو منطلقا لتكوين وعي جديد وثقافة مجتمعية تراعي حقوق النساء؟
-شخصيا لا اعتقد أننا امام فرصة لتغيير او بناء ثقافة مجتمعية جديدة، لماذا؟، لان أولويات الحكومة حسب ما يمكن ملاحظته هي المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، واليقظة المطلوبة فيما يهم ظاهرة العنف لا يمكن أن تأتي إلا من قبل المجتمع المدني. وهو الدور الذي يقوم به منذ سنوات.
ما الدور الذي سيكون للمرصد في هذه الحالة خاصة ان من مهامه تجميع المعطيات والمعلومات المبعثرة بين الهياكل وإعداد الدراسات وتشخيص الوضع طبقا لمقاربات إحصائية؟
-صحيح هناك غياب تنسيق بين الهياكل، في الوقت الذي ينص القانون 58 بوجوب التنسيق والمكلف بذلك هو وزارة المرأة. وما يمكنني قوله ان هناك عدم وعي من قبل الهياكل بأهمية المرصد. فبقدر ما يجد المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة دعما وتواصلا ووعيا بدوره من قبل منظمات المجتمع المحلية وشركائه الدوليين بقدر ما وزارة المرأة غير واعية بأهمية المرصد، وكأن المرصد يمثل هيكلا منافسا لوزارة المرأة وليس مكملا لها او مؤسسة تحت اشرافها وهي العقلية التي تسببت في تعطيل عمل المرصد.
تحدثت عن أهمية توفر الإرادة السياسية لتقدم عمل المرصد، هل ان رئاسة الجمهورية تمثل الطرف القادر على توفير هذه الإرادة؟
-رئيس الجمهورية شخصية محافظة، لم يتبن بعض القضايا الكبرى كمسالة المساواة في الميراث وحقوق بعض الفئات الهشة. لكن في نفس الوقت قدم رئيس الجمهورية مؤشرات جد إيجابية فيما يتصل بحقوق النساء ودورهن في المجتمع، حيث عين رئيسة حكومة وتبنى تركيبة حكومية بنسبة مشاركة محترمة للنساء.. وانا شخصيا لا اعتقد ان رئيس الجمهورية سيقوم بالتراجع عن حقوق ومكتسبات المرأة التونسية ولكن في نفس الوقت لا أتوقع أن نعرف تطورا إيجابيا فيما يتصل بهذه الحقوق وخاصة منها الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للنساء..
ما الحلول التي تعتبر مديرة المرصد الوطني لمناهضة العنف، ان على الحكومة اتخاذها من اجل إيقاف نزيف العنف وما يعرفه من تطور في انواعه واشكاله داخل الاسرة مع يما مثله من خطر على الطفل والمجتمع بصفة عامة؟
-الوقاية هي الآلية الأساسية التي يجب اعتمادها لوقف نزيف العنف المسجل، ويكون ذلك في جميع المؤسسات. وهي حل نص عليه القانون عدد 58، فيكفي ان نطبق بابه الأول الوارد تحت عنوان الوقاية من العنف. فلو طبقت مختلف الهياكل والوزارات هذا الفصل من القانون لكنا بصدد التأسيس لمجتمع سليم ومتوازن وعلى الأقل قمنا بتحصين أطفالنا ومستقبلهم من أثار العنف بأشكاله المختلفة. فلو مثلا أدرجت وزارة التربية برامج التأسيس لثقافة المساواة وعدم التمييز وقبول الآخر والاختلاف وترسيخ مبدأ التسامح وتكثيف برامج حقوق الانسان، فهذه المواضيع لو تم ادراجها مع العمل على تطبيق ذلك داخل مؤسساتنا التربوية فلا يتم توزيع التلاميذ على أسس النوع الاجتماعي ولا يقع التمييز بين الأطفال على أساس اللون او المستوى الاجتماعي أو لون الميداعة.. يجب ان نقوم بتربية الأطفال على هذه المبادئ.
في نفس الوقت على الهياكل الرسمية والدولة التدخل على مستوى الاسر، وذلك عبر وضع مقومات جديدة لتربية الأطفال بعيدا عن العنف وعقلية العقاب والمنع والتقييد وعقدة الجسد والتمييز على أساس امرأة ورجل.. فالأسرة تضطلع بالدور الأبرز فيما يتصل بالتنشئة وخلق التوازن لدى الفرد. ولذلك يجب التأسيس للحوار داخل الأسرة وتبادل الآراء والأدوار المبنية على مبدإ احترام الآخر بعيدا عن العنف، فالأطفال الذين يعيشون في مناخ من العنف وداخل اسرة لا يتوفر فيه الحوار وتعاني فيه المرأة في داخلها من التقزيم والدونية ولا يمكنهم إلا أن يتبنوا ذلك العنف ويعيدون إنتاجه.
تمر اليوم نحو السنة ونصف على تركيز المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة، ولم يصدر عنه إلى غاية الآن تقريره الأول، لماذا هذا التأخير؟
-صحيح أن الأمر الحكومي الذي ينظم المرصد قد صدر منذ فيفري 2020، وقدم مهام المرصد وهياكله، وتم فعليا مع الوزيرة السابقة أسماء السحيري تكوين المجلس العلمي وانطلق في العمل حضوريا وعن بعد. لكن تم التباطؤ في تكوين المجلس الإداري من قبل وزارة المرأة السابقة والحالية وغياب الإرادة السياسية عن مختلف مكوناته من إدارات ووزارات.. الأمر الذي جعل من إدارة المرصد غير مؤهلة وغير قادرة على تقديم النتائج المنتظرة منه.
والمرصد منذ تركيزه بصدد مواجهة عديد الإشكاليات في علاقة بالوزارة المشرفة وهي وزارة المرأة التي تتعامل معه على انه هيكل منافس لها وليس مكملا. فمنذ البداية والى غاية اليوم هناك عدد من الملحقين لم يقع تسوية وضعياتهم المهنية بعد ولم يقع بعد الامضاء على قرار الالحاق الخاص بهم.. ومن بينهم المعنية بخطة الكتابة العامة التي مازالت تعمل تحت اشراف رئيس ديوان وزيرة المرأة، وهذا الأخير كون إدارة موازية للمرصد ورغم الشكايات التي تم تقديمها لوزيرة المرأة ورئيس الديوان في الغرض الا ان الوضع بقي على حاله ولم يتم الى غاية الان اتخاذ أي اجراء يذكر.
ووجد المرصد نفسه طيلة السنة ونصف الماضية امام نقص فادح في الموارد البشرية ( ليس للمرصد لا سكرتيرة ولا حارس ولا سائق ولا عاملة نظافة..) وفي الدعم اللوجستي وحتى مع محاولاته تجاوز ذلك تعترضه إجراءات إدارية غير منتهية وفي الكثير من الأحيان إجراءات طويلة ومعقدة حالت دون استكمال هيكلته. كما انني اعتبر ان عدم احترام استقلالية المرصد من قبل وزارة المرأة كان من بين المشاكل التي حالت دون تأديته لمهامه بكل استقلالية وبكل نجاعة. ولكن مع كل هذه الإشكاليات كان للمرصد أنشطة واعمال منجزة ودراسات..
كيف تقيمين مستوى التفاعل بين هياكل الدولة والمرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة بعد سنة ونصف من عمله وفي ظل المهام الموكولة للمرصد؟
-يتكفل المرصد برصد وتشخيص مظاهر العنف بصفة عامة ووضع قاعدة بيانات للعنف المعلن عليه، ذلك المسجل عبر الخط الأخضر (سماع توجيه النساء ضحايا العنف) والذي ارتفع بصفة كبيرة خلال فترة الحجر الصحي. مع تجميع مختلف المعطيات والابلاغات المتعلقة بظاهرة العنف المسلط على النساء من قبل مختلف الهياكل المعنية عل غرار وزارة الصحة (المستشفيات) والفرق المختصة التابعة لوزارة الداخلية والقضايا المرفوعة ومآلها فضلا عن المعطيات الصادرة في العنف الاقتصادي عن وزارة الشؤون الاجتماعية... وجميعها يفترض أن تقدم للمرصد معطيات كل 6 اشهر لكن باستثناء الامن الوطني الذي قدم تقريرا عن آخر 6 أشهر لم نحصل على أي تقري رسمي من الهياكل المذكورة.
وعموما يغيب كل تواصل مع هذه الهياكل، فالي غاية اليوم وباستثناء جلسة يتيمة جمعت ممثلين عن الوزارات المعنية بمسالة العنف ضد المرأة.. لم تعرف السنة ونصف الماضية أي تجاوب او رغبة في العمل المشترك مع المرصد.
وغياب التفاعل كان من الأسباب التي أخرت التقرير، فعمليا لا يمكن العمل على تقرير والمرصد غير قادر على تجميع المعطيات الصادرة عن مختلف الهياكل المختصة والوحدات المختصة في الأمن العمومي والحرس ومآل الدعاوى وتقارير مراكز الإحاطة.
وطبقا لهذا الفتور اتجه المرصد الى تكثيف عمله مع منظمات المجتمع المدني التي تشتغل على موضوع العنف واليوم يعمل المرصد على توحيد آليات العمل حول مؤشرات العنف التي سيتم اعتمادها من قبل الجمعيات وتقديمها في مرحلة لاحقة للمرصد، ويكون ذلك عبر مرافقة الجمعيات وتطبيق نفس آليات الرصد وتكوين مجموعة عمل يتم داخلها تبادل الخبرات مع المراصد الدولية.
ما الإنجازات التي قام بها المرصد الوطني لمناهضة العنف ضد المرأة إلى غاية الآن؟
-من الناحية العلمية قام المرصد بعدد من الدراسات مع الشركاء، حيث انطلق منذ اكثر من شهرين في اعداد دراسة حول العنف الزوجي بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان، والنتائج الأولية شبه جاهزة وكان من ابرز ما جاء فيها ان العلاقة بين الزوج والزوجة في تونس غير مبنية على التواصل أو الحوار، وان دور المرأة غير أساسي في العائلة والرجل هو المحدد للقرار داخل الاسرة. كما بينت ان الشرب واستعمال المخدرات من الأسباب الكامنة وراء ارتفاع نسب العنف داخل الاسرة.. وذكرت أيضا النتائج الأولية للدراسة التي انطلقت بعينة صغيرة تتكون من 15 امرأة و15 رجلا تم اختيارهم بطريقة عشوائية، أن هناك نسبا عالية من العنف النفسي والجسدي والاقتصادي المسلط على النساء داخل العائلة.. وكشفت أيضا أن المرأة التونسية غير واعية وأنها بصدد التعرض لاغتصاب جنسي من قبل زوجها.
وقام المرصد أيضا في اطار عمله العلمي بدراسة العنف الزوجي من خلال دراسة 64 حكما قضائيا، اين تبين أن هناك تساهلا من قبل القضاة فيما يتعلق بالعنف الزوجي، ويتم في غالبية الاحكام الحكم بعقاب تخفيف لا يتناسب مع الأفعال الصادرة عن المُعنف. والدراسة تأخذ أيضا بكل المعطيات المتعلقة بالقضية عمر الضحية والقائم بالجرم، والوضع الصحي لهما، وتركيبة المحكمة ( قاضيات او قضاة) والأفعال التي تشتكي على خلفيتها النساء. ومدى تكييف القضاة لأفعال المشتكى به على خلفية القانون 58 والاحكام الصادرة فيها، ومدى تطبيق القانون والعقوبات.. ومن ابرز ما توصلت اليه الدراسة ان القضاة لا يعتمدون ظروف التشديد بل بالعكس يوفرون على الاغلب ظروف تخفيف.
وانطلق المرصد في نفس الوقت في العمل على دراسة حول العنف الجنسي ضد الأطفال وركز خلالها على ظاهرة زنى المحارم بالأساس.. كما بدأ منذ اقل من شهر على العمل على العنف المسلط على المهاجرات شكله ومصدره وخصوصيته. وهو اليوم بصدد الاعداد أيضا لدراسة تهم قتل النساء ودراسة منهجية وطنية لمقاومة العنف الاقتصادي المسلط على النساء بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة. مع الاعداد لتقرير يهم مستوى ولوج النساء للعدالة انطلاقا من مقارنة بين نتائج المقدمة من قبل وحدات الامن وتقارير العدالة ومنطوق المحاكم.