لماذا يكتب السياسيون مذكراتهم؟ الأكيدأن كل من مارس السياسة يرغب في تدوين تجربته وتخليد اسمه ليظل حاضرا في الأذهانوتكون شهادته أوجزء منها شهادة على العصر، والأكيد أيضا أن لكل تجربته عندما يتعلق الأمر بعالم السياسة بما ظهر منه أو خفي وربما كان احد هذه الأسبابأو جلها وراء إقدام الحبيب الصيد رئيس الحكومة السابق والذي تقلد أكثر من منصب سياسي في مسيرته المهنيةمذكراته تحت عنوان "الحبيب الصيد في حديث الذاكرة" في طبعة أنيقة صادرة عن دار "ليدرز" للنشر وهوالذي يعترف في مقدمة كتابه بأنه "افرغ فيه قلبه"وأراده تسجيلا لمسيرة حياته من زاوية شخصية وانه كتابة للتاريخ وقد تكون فيه عبرة للأجيال القادمة من السياسيين والنخبة القادمةوقناعتنا أنه كتاب يشرح أسبابودوافع واقع تونس اليوم لمن شاء تحديد الأخطاء الفادحة التي رافقت خيارات السنوات الماضية وما رافقها من انهيار..وهوفي الحقيقة محمل بالعبر لمن شاء أن يقرأ ويفهم الكثير من الأحداث التي مرت بها بلادنابعد الاستقلال ولكن وبشكل خاص بعد الثورة حينما كانت للرجل عين على ما يحدث داخل المؤسسة الحاكمة انطلاقا من حكومة محمد الغنوشي الذي أعادهإلى المشهد عندما كانت البلاد تغلي وقد كان عاد لتوه من إسبانيا ويتجه لبعث مشروعه الفلاحي الذي حلم به كثيرا..وربما لم تكن الصدفة وراء اختياراللون الأخضر وغصن الزيتون على صورة الغلاف التي تحمل صورة صاحب الكتاب فعلاقة الرجل بعالم الفلاحة ومعرفته بكل شبر من أرض تونس بدأت مبكرا وهوالطفل الذي نشأ في منطقة وادي الخروب بمدينة سوسة لأب عامل في معمل الآجروأم فلاحة يقول إنها"أرضعته حليب الغرام والتعلق بكل ما له صلة بالأرضوفلاحتها".. للوهلة الأولى فان كتاب الحبيب الصيد الذي وضعه بالتعاون مع الصحفي علي الجليطي يعيد إلى الذاكرة كتاب الرئيس السابق محمد الناصر وهو من نوع الكتب التي تغري القارئ لاسيما من يسعى إلى فهم أو الحصول على بعض التفاصيل التي تسيّر العلاقات السياسية في بيئة كانت محكومة بالتكتم والتعتيم..ومن هنا فان كتاب الحبيب الصيد الذي ورد في نحو490 صفحة موثقة بالصورمن الكتب التي تتميز بسلاسة الطرح ووضوح الرؤية وكأن الحبيب الصيد كان يدون أفكاره لتظل طازجة في الذاكرة وينتظر هذه اللحظة التي يقدم فيها مذكراته.
والكتاب من جزأين،وهوموثق بعدد من الصور الرسمية وأخرى العائلية في محطات مختلفة من مسيرته،وهويؤثث الأولبمسيرة الرجل منذ الطفولة من وادي الخروب إلى معهد "قرولأو سكولة سلتان" إلى كلية العلوم الاقتصادية بالعاصمة وهوالذي كان قبل ذلك يحلم بالالتحاقبكلية الطب أو الكلية العسكرية لكن القدر دفعه إلى العلوم الاقتصادية ثم التخطيط بكل ما تخللها لاحقا من دورات علمية وتدريبية من أمريكاإلى بلجيكا لينخرط في الإدارة العامة للهندسة الريفية ويبدأ مهمة استصلاح سهول الشمال واستصلاح الواحات وإحداثأخرى ...
الأهم قبل المهم
على انه وجب الإشارة رغم أهمية المحطات الذاتية في مسيرة الرجل والتي تعكس مسيرة مشتركة للكثير من النخب التونسية التي تنحدر من وسط اجتماعي متواضع ولكنها وبفضل المصعد الاجتماعي والمثابرة والانضباط والإصرار على النجاح تبوأت ارفع المناصب وفي ذلك ربما ما يفيد الأجيال اليوم في قراءة بعض هذه المحطات..على أن الحقيقة الكتاب يكشف الكثير من كواليس السياسة والمحطات التي مرت بها بلادنا في السنوات القليلة الماضية وإذا كان البعض سيجد في حديث الرجل عن علاقته بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وتجربته في رئاسة الحكومة قبل أن يدفع دفعا إلى المغادرة ما يستوجب التوقف عنده، فان الحقيقة فيما كشفه الحبيب الصيد عن انعدام التجربة والخبرة لدى من تحملوا السلطة بعد 2011 ما يستوجب وضع تلك الأحداث تحت المجهر لأنها لا تزال تعيش معنا وتؤثر فينا بتداعياتها الخطيرة التي لم نكنلندركها في تلك الفترة..إذوبعد عودته إلى تونس في 28 جانفي 2011 وبعد أن قرر خلع ربطة العنق والعودة إلىالأرض سيجد الحبيب الصيد نفسه على موعد جديدومغامرة غير متوقعة عندا اتصل به يوم الأحد 6 فيفري 2011 السيد محمد الغنوشي ليدعوه إلى لقائه في مكتبه بقرطاج حيث كان مقر الحكومة آنذاك بسبب الاعتصام الذي أصاب القصبة بالشلل.وبعيدا عن استعادة الكثير من التفاصيل فان من أوكد وأخطر الملفات التي ستكون أمام الحبيب الصيد كمستشار وليس كعضوفي حكومة الغنوشي والتي طُلب منه إبداءالرأي فيها،في ما يتعلق بتنفيذ قانون العفوالتشريعي العام الذي صادق عليه مجلس الوزراء في قراءة أولى في 20 جانفي تمهيدا لعرضه على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وقد اعتبر الحبيب الصيد أن ملف العفوالتشريعي اتسم بنوع من الارتجالية وأن القائمة تضمنت مختلف أصناف مساجين الرأي من السياسيين والحقوقيين والنقابيين ونشطاء المجتمع المدني بمن فيهمالإرهابيون الذين بلغ عددهم في الملف حوالي 1200 سجين بموجب أحكام قانون الإرهابومنهم من هومحكوم بالإعدام(ص 145).ويكشف الحبيب الصيد أن ما جلب انتباهه هوإدماج العديد من المساجين في الحق بالتمتع بالعفوبالرغم من التهم الخطيرة التي أدينوا بسببها ولاسيما جرائم القتل..ويعتبر الصيدأن الوزير الأول وعده بإعادة النظر في الأمرولكن يبدوفيما بعد انه اضطر لمسايرة ما عرض عليه من اقتراحات وقد كان في تلك الفترةيستقبل العديد من الشخصيات التي تأتي لزيارته ومنها نجيب الشابي وشخصيات نقابية وأخرى من حركة النهضة وبينهم راشد الغنوشي وحمادي الجبالي وغيرهما فضلا عن عميد المحامينآنذاك عبد الرزاق الكيلاني وهوالذي اقترح رضا بلحاج عضوا بالحكومة واقترح فرحات الراجحي وزيرا للداخلية..وهوما يعني أن قانون العفوالتشريعي صدروفق الصيغة التي أرادها زوار الوزير الأول ..
ولاشك أن تجربة الحبيب الصيد على رأس وزارة الداخلية في حكومة الباجي قائد السبسي بعد استقالة محمد الغنوشي ما يفسر الكثير من الأحداثالأمنية اللاحقة حيث يقول إن الوضع العام الداخلي للوزارة كان منقلبا رأسا على عقب وان الوزارة تمشي على رأسهاوأنها باتت مسكونة بكثير من الخوف وقياداتها تبحث عن مختلف السبل لضمان نوع من الحماية الذاتية..وخلال حديثه عما عرف بالقناصة يقول الحبيب الصيد إن الهياكل العسكرية والأمنية لها من الأعوان المختصين في الرماية والقنص المؤطرين ضمن فرق محددة على غرار ما هومعروف في كل العالم واعتبر أن القناصة وفق كل المعطيات أسطورةأكثر منه حقيقة واقعة روجت لها بعض وسائل الإعلاموتداولتها أوساطالرأي العام تحت هاجس الخوف السائد في تلك الفترة.. والأرجح حسب الصيد ودون قطع أن الوضع آنذاك كان متميزا بالفوضى والضبابية بحيث لا احد يعلم من يقتل من، مما ترك مجالا للاتهامات المجانية ..
وقد افرد الصيد مساحة مهمة للحديث عن ظهور السلفيين والانفلات السلفي وخروج مارد الإرهابوالانتصاب الفوضوي للمتشددين في الساحات العامة وأمام المساجد وهوما اعتبره نتيجة طبيعية لخروج هؤلاء من السجن بعد تمتعهم بالعفوالتشريعي وعودة المغتربين والفارين من العدالة إلى البلاد دون تناسي التشجيع والدعم الذي تحظى به هذه الفئة من بعض قيادات حركة النهضة التي كانت ترى فيها سلاحا للدعوة لإثبات الذات والتغلغل في المجتمع (ص 166) ..
واعتبر الصيد أن مؤتمر سكرة في 21 ماي 2011 الذي جمع شتات السلفيين المسرحين من السجن بفضل العفوالتشريعي العام والحضور اللافت لممثل عن حركة النهضة وآخر عن المؤتمر من أجل الجمهورية كان منعرجا هاما في النشاط المنظم والعلني للتيار السلفي بتونس باعتباره المؤتمر التأسيسيلأنصار الشريعة ..
ومن الطرائف التي ينقلها الحبيب الصيد عن علي العريض وهويستعد لتسليمه مسؤولية وزارة الداخلية بعد الانتخابات أنه أسر له بأنه رغم معاناة طويلة في السجن إلاأنه يعترف بالفضل للرئيس السابق زيد العابدين بن عليه الذي لولاه لكان في عداد الموتى حيث كان من المحكوم عليهم بالإعدام في عهد بورقيبة وهوبذلك مدين لبن علي بحياته (ص 240).
حكومة الجبالي ومونبليزير وسوق عكاظ
ولا يخفي الحبيب الصيد خيبة أمله بعد تولي مهامه كمستشار مكلف بالشؤون الأمنية لدى رئيس حكومة "الترويكا" حمادي الجبالي حيث كانت المداولات التي تتم داخل المجلس الأعلىللأمنولاسيما القرارات الصادرة أن الطريق الذي تسلكه هذه القراراتلم يكن إلى الهياكل المعنية في الحكومة بل تتجه مباشرة إلىمونبليزيرأيإلى مقر حركة النهضة حيث تعرض هناك وتغربل وتطبخ على نار أخرى ثم يعود منها ما يتم الاتفاق عليه ليحال إلى الانجاز فيما يسير الباقي إلى سلة المهملات (ص 243).وعن شهادته فيما يتعلق بعمل الحكومة أي حكومة حمادي الجبالي فيقول الحبيب الصيد إن الفوضى العارمة كانت السمة الكبرى لظروف انعقاد دورات المجلس فمواعيد مجلس الوزراء لا يحترمها احد واحترام الوقت آخر ما يمكن التفكير فيه لا من حيث الانطلاق ولا من حيث الاختتام وليس من الغريب غياب عضوفي الحكومة عن أشغال المجلس أو قدومه متأخرا عن الموعد المحدد بل وحتى خروجه قبل الأوان..ولا حرج على البروتوكول الذي ينظم قائمة الحاضرين حيث لا يتورع احدهم عن القدوم إلى المجلس رفقة عون أو إطار حتى انه لاحظ في إحدى المراتامرأة تجلس إلى جانب وزيرة البيئة وعندما سأل عنها قيل له إنها السكرتيرة الخاصة للوزيرة..ويخلص إلىأن حضور اجتماع المجلس كل مستشاري الحكومة جعله أشبه بسوق عكاظ..ويقول الحبيب الصيد إن رئيس الحكومة بدا له غير قادر على التحكم في هذه الفوضى ويعتبر انه ربما كان ذلك لطيبة نواياه وافتقاده الجرأة، كل ذلك إلىجانب تساهله في تسيير النقاش كان يبلغ درجة الانفلات الخطابي..وحاول تنبيه رئيس الحكومة ولكن وجد انه غير قادر على التحكم في المجلس فقرر إعلام رئيس الحركة راشد الغنوشي وهنا أيضا لم ير تقدما يذكر..وهنا اقتنع الصيد بعدم فائدة ما يقدمه من استشارات وجاءت عملية تسليم البغدادي المحمودي وما رافقها من إجراءات غير قانونية بعد قرارالجبالي تسليم البغدادي المحمودي في 24 جوان 2012 للسلطات الليبية لتعزز هذه القناعة لديه بان استشارته لا معنى له وان وجوده اقرب للأخذ بالخاطر وحفاظا على الود مع الباجي..
وفي معرض حديثه عن مؤشرات تدهور الوضع الأمنيواقتحام السفارة الأمريكية في 14 سبتمبر 20212 يشير إلى تفاقم المد السلفي على حساب القيادة الحكيمة وتوقف عند الأحداث التي شهدتها البلاد بعد تولي "الترويكا" مقاليد السلطة حيث لم تمر خمسة أيام على اختيار المنصف المرزوقي رئيسا مؤقتا للجمهورية حتى اشرف على المؤتمر الأول للمجلس الوطني السوري المعارض الذي انعقد بالعاصمة بحضور حوالي 200 شخصية مدشنا بذلك موقفنا مناهضا لواحد من أهم مبادئ الديبلوماسية التونسية وهوعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين.. وأردف المرزوقي ذلك ببيان صادر عن رئاسة الجمهورية في 4 فيفري 2012 بطرد السفير السوري من تونس وسحب أي اعتراف بالنظام الحاكم وهوما يعتبره الصيد قرارا ستكون له تداعياته على العلاقات مع سوريا ومع تواجد عناصر تونسية ضمن المجموعات الإرهابية في سوريا..وعبر سمير ديلووزير حقوق الإنسانأن القرار يعبّر عن موقف الحكومة والشعب التونسي ويدعوالجبالي بدوره بقية الدول العربية إلى طرد سفراء سوريا احتجاجا على القمع الدموي للاحتجاجات في سوريا..ويعتبر الصيد في شهادته أن هذا الموقف شجع عن قصد أو دون قصد التيارات والمجموعات المتطرفة داخل النهضة وحرصها على استنفار الأنصاروخزن السلاح وتسفير الشباب ..
الأكيدأن الكتاب الذي تضمن ثمانية أبواب من زمن الشباب والأحلام مرورا بتونس الأعماقوعلى أبواب وزارة سيادية بشارع بورقيبة وصولا إلى الواجب الوطني ومنعرج الانتقال الديموقراطي وانتخابات المجلس التأسيسيومنه إلى حكومة الترويكا وخيبة الأملوالعودة إلىالأرض الطيبة ونداء الوطنفي ساحة القصبة وصولا إلى صراعه مع المرض وصراع الأجنحةإلىآخر مشوار كمستشار لرئيس الجمهورية فانبين السطور الكثير من التفاصيل والشيطان يكمن دوما في التفاصيل.. من المستبعد أن يكون حديث الحبيب الصيد وهوالذي أزعج الكثيرين بوجوده في السلطة نابع من رغبة في تصفية الحسابات أو لطموحات، فالرجل شبع سياسة وتجارب حتى أرهقته ولكنها لم تنهكه..ولعله بهذه المذكرات وبإخراجهاللرأي العام يزيح الستار عن الكثير من الأحداث التي قد نتفق أو نختلف في قراءتها ولكنها أحداث تحتاج لأكثر من قراءة لاسيما في تجربته الأخيرة كرئيس حكومة بعد انتخابات 2014 وفوز نداء تونس الذي لم يبق منه، برحيل مؤسسه، غير الاسم ..
آسياالعتروس
تونس-الصباح
لماذا يكتب السياسيون مذكراتهم؟ الأكيدأن كل من مارس السياسة يرغب في تدوين تجربته وتخليد اسمه ليظل حاضرا في الأذهانوتكون شهادته أوجزء منها شهادة على العصر، والأكيد أيضا أن لكل تجربته عندما يتعلق الأمر بعالم السياسة بما ظهر منه أو خفي وربما كان احد هذه الأسبابأو جلها وراء إقدام الحبيب الصيد رئيس الحكومة السابق والذي تقلد أكثر من منصب سياسي في مسيرته المهنيةمذكراته تحت عنوان "الحبيب الصيد في حديث الذاكرة" في طبعة أنيقة صادرة عن دار "ليدرز" للنشر وهوالذي يعترف في مقدمة كتابه بأنه "افرغ فيه قلبه"وأراده تسجيلا لمسيرة حياته من زاوية شخصية وانه كتابة للتاريخ وقد تكون فيه عبرة للأجيال القادمة من السياسيين والنخبة القادمةوقناعتنا أنه كتاب يشرح أسبابودوافع واقع تونس اليوم لمن شاء تحديد الأخطاء الفادحة التي رافقت خيارات السنوات الماضية وما رافقها من انهيار..وهوفي الحقيقة محمل بالعبر لمن شاء أن يقرأ ويفهم الكثير من الأحداث التي مرت بها بلادنابعد الاستقلال ولكن وبشكل خاص بعد الثورة حينما كانت للرجل عين على ما يحدث داخل المؤسسة الحاكمة انطلاقا من حكومة محمد الغنوشي الذي أعادهإلى المشهد عندما كانت البلاد تغلي وقد كان عاد لتوه من إسبانيا ويتجه لبعث مشروعه الفلاحي الذي حلم به كثيرا..وربما لم تكن الصدفة وراء اختياراللون الأخضر وغصن الزيتون على صورة الغلاف التي تحمل صورة صاحب الكتاب فعلاقة الرجل بعالم الفلاحة ومعرفته بكل شبر من أرض تونس بدأت مبكرا وهوالطفل الذي نشأ في منطقة وادي الخروب بمدينة سوسة لأب عامل في معمل الآجروأم فلاحة يقول إنها"أرضعته حليب الغرام والتعلق بكل ما له صلة بالأرضوفلاحتها".. للوهلة الأولى فان كتاب الحبيب الصيد الذي وضعه بالتعاون مع الصحفي علي الجليطي يعيد إلى الذاكرة كتاب الرئيس السابق محمد الناصر وهو من نوع الكتب التي تغري القارئ لاسيما من يسعى إلى فهم أو الحصول على بعض التفاصيل التي تسيّر العلاقات السياسية في بيئة كانت محكومة بالتكتم والتعتيم..ومن هنا فان كتاب الحبيب الصيد الذي ورد في نحو490 صفحة موثقة بالصورمن الكتب التي تتميز بسلاسة الطرح ووضوح الرؤية وكأن الحبيب الصيد كان يدون أفكاره لتظل طازجة في الذاكرة وينتظر هذه اللحظة التي يقدم فيها مذكراته.
والكتاب من جزأين،وهوموثق بعدد من الصور الرسمية وأخرى العائلية في محطات مختلفة من مسيرته،وهويؤثث الأولبمسيرة الرجل منذ الطفولة من وادي الخروب إلى معهد "قرولأو سكولة سلتان" إلى كلية العلوم الاقتصادية بالعاصمة وهوالذي كان قبل ذلك يحلم بالالتحاقبكلية الطب أو الكلية العسكرية لكن القدر دفعه إلى العلوم الاقتصادية ثم التخطيط بكل ما تخللها لاحقا من دورات علمية وتدريبية من أمريكاإلى بلجيكا لينخرط في الإدارة العامة للهندسة الريفية ويبدأ مهمة استصلاح سهول الشمال واستصلاح الواحات وإحداثأخرى ...
الأهم قبل المهم
على انه وجب الإشارة رغم أهمية المحطات الذاتية في مسيرة الرجل والتي تعكس مسيرة مشتركة للكثير من النخب التونسية التي تنحدر من وسط اجتماعي متواضع ولكنها وبفضل المصعد الاجتماعي والمثابرة والانضباط والإصرار على النجاح تبوأت ارفع المناصب وفي ذلك ربما ما يفيد الأجيال اليوم في قراءة بعض هذه المحطات..على أن الحقيقة الكتاب يكشف الكثير من كواليس السياسة والمحطات التي مرت بها بلادنا في السنوات القليلة الماضية وإذا كان البعض سيجد في حديث الرجل عن علاقته بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وتجربته في رئاسة الحكومة قبل أن يدفع دفعا إلى المغادرة ما يستوجب التوقف عنده، فان الحقيقة فيما كشفه الحبيب الصيد عن انعدام التجربة والخبرة لدى من تحملوا السلطة بعد 2011 ما يستوجب وضع تلك الأحداث تحت المجهر لأنها لا تزال تعيش معنا وتؤثر فينا بتداعياتها الخطيرة التي لم نكنلندركها في تلك الفترة..إذوبعد عودته إلى تونس في 28 جانفي 2011 وبعد أن قرر خلع ربطة العنق والعودة إلىالأرض سيجد الحبيب الصيد نفسه على موعد جديدومغامرة غير متوقعة عندا اتصل به يوم الأحد 6 فيفري 2011 السيد محمد الغنوشي ليدعوه إلى لقائه في مكتبه بقرطاج حيث كان مقر الحكومة آنذاك بسبب الاعتصام الذي أصاب القصبة بالشلل.وبعيدا عن استعادة الكثير من التفاصيل فان من أوكد وأخطر الملفات التي ستكون أمام الحبيب الصيد كمستشار وليس كعضوفي حكومة الغنوشي والتي طُلب منه إبداءالرأي فيها،في ما يتعلق بتنفيذ قانون العفوالتشريعي العام الذي صادق عليه مجلس الوزراء في قراءة أولى في 20 جانفي تمهيدا لعرضه على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، وقد اعتبر الحبيب الصيد أن ملف العفوالتشريعي اتسم بنوع من الارتجالية وأن القائمة تضمنت مختلف أصناف مساجين الرأي من السياسيين والحقوقيين والنقابيين ونشطاء المجتمع المدني بمن فيهمالإرهابيون الذين بلغ عددهم في الملف حوالي 1200 سجين بموجب أحكام قانون الإرهابومنهم من هومحكوم بالإعدام(ص 145).ويكشف الحبيب الصيد أن ما جلب انتباهه هوإدماج العديد من المساجين في الحق بالتمتع بالعفوبالرغم من التهم الخطيرة التي أدينوا بسببها ولاسيما جرائم القتل..ويعتبر الصيدأن الوزير الأول وعده بإعادة النظر في الأمرولكن يبدوفيما بعد انه اضطر لمسايرة ما عرض عليه من اقتراحات وقد كان في تلك الفترةيستقبل العديد من الشخصيات التي تأتي لزيارته ومنها نجيب الشابي وشخصيات نقابية وأخرى من حركة النهضة وبينهم راشد الغنوشي وحمادي الجبالي وغيرهما فضلا عن عميد المحامينآنذاك عبد الرزاق الكيلاني وهوالذي اقترح رضا بلحاج عضوا بالحكومة واقترح فرحات الراجحي وزيرا للداخلية..وهوما يعني أن قانون العفوالتشريعي صدروفق الصيغة التي أرادها زوار الوزير الأول ..
ولاشك أن تجربة الحبيب الصيد على رأس وزارة الداخلية في حكومة الباجي قائد السبسي بعد استقالة محمد الغنوشي ما يفسر الكثير من الأحداثالأمنية اللاحقة حيث يقول إن الوضع العام الداخلي للوزارة كان منقلبا رأسا على عقب وان الوزارة تمشي على رأسهاوأنها باتت مسكونة بكثير من الخوف وقياداتها تبحث عن مختلف السبل لضمان نوع من الحماية الذاتية..وخلال حديثه عما عرف بالقناصة يقول الحبيب الصيد إن الهياكل العسكرية والأمنية لها من الأعوان المختصين في الرماية والقنص المؤطرين ضمن فرق محددة على غرار ما هومعروف في كل العالم واعتبر أن القناصة وفق كل المعطيات أسطورةأكثر منه حقيقة واقعة روجت لها بعض وسائل الإعلاموتداولتها أوساطالرأي العام تحت هاجس الخوف السائد في تلك الفترة.. والأرجح حسب الصيد ودون قطع أن الوضع آنذاك كان متميزا بالفوضى والضبابية بحيث لا احد يعلم من يقتل من، مما ترك مجالا للاتهامات المجانية ..
وقد افرد الصيد مساحة مهمة للحديث عن ظهور السلفيين والانفلات السلفي وخروج مارد الإرهابوالانتصاب الفوضوي للمتشددين في الساحات العامة وأمام المساجد وهوما اعتبره نتيجة طبيعية لخروج هؤلاء من السجن بعد تمتعهم بالعفوالتشريعي وعودة المغتربين والفارين من العدالة إلى البلاد دون تناسي التشجيع والدعم الذي تحظى به هذه الفئة من بعض قيادات حركة النهضة التي كانت ترى فيها سلاحا للدعوة لإثبات الذات والتغلغل في المجتمع (ص 166) ..
واعتبر الصيد أن مؤتمر سكرة في 21 ماي 2011 الذي جمع شتات السلفيين المسرحين من السجن بفضل العفوالتشريعي العام والحضور اللافت لممثل عن حركة النهضة وآخر عن المؤتمر من أجل الجمهورية كان منعرجا هاما في النشاط المنظم والعلني للتيار السلفي بتونس باعتباره المؤتمر التأسيسيلأنصار الشريعة ..
ومن الطرائف التي ينقلها الحبيب الصيد عن علي العريض وهويستعد لتسليمه مسؤولية وزارة الداخلية بعد الانتخابات أنه أسر له بأنه رغم معاناة طويلة في السجن إلاأنه يعترف بالفضل للرئيس السابق زيد العابدين بن عليه الذي لولاه لكان في عداد الموتى حيث كان من المحكوم عليهم بالإعدام في عهد بورقيبة وهوبذلك مدين لبن علي بحياته (ص 240).
حكومة الجبالي ومونبليزير وسوق عكاظ
ولا يخفي الحبيب الصيد خيبة أمله بعد تولي مهامه كمستشار مكلف بالشؤون الأمنية لدى رئيس حكومة "الترويكا" حمادي الجبالي حيث كانت المداولات التي تتم داخل المجلس الأعلىللأمنولاسيما القرارات الصادرة أن الطريق الذي تسلكه هذه القراراتلم يكن إلى الهياكل المعنية في الحكومة بل تتجه مباشرة إلىمونبليزيرأيإلى مقر حركة النهضة حيث تعرض هناك وتغربل وتطبخ على نار أخرى ثم يعود منها ما يتم الاتفاق عليه ليحال إلى الانجاز فيما يسير الباقي إلى سلة المهملات (ص 243).وعن شهادته فيما يتعلق بعمل الحكومة أي حكومة حمادي الجبالي فيقول الحبيب الصيد إن الفوضى العارمة كانت السمة الكبرى لظروف انعقاد دورات المجلس فمواعيد مجلس الوزراء لا يحترمها احد واحترام الوقت آخر ما يمكن التفكير فيه لا من حيث الانطلاق ولا من حيث الاختتام وليس من الغريب غياب عضوفي الحكومة عن أشغال المجلس أو قدومه متأخرا عن الموعد المحدد بل وحتى خروجه قبل الأوان..ولا حرج على البروتوكول الذي ينظم قائمة الحاضرين حيث لا يتورع احدهم عن القدوم إلى المجلس رفقة عون أو إطار حتى انه لاحظ في إحدى المراتامرأة تجلس إلى جانب وزيرة البيئة وعندما سأل عنها قيل له إنها السكرتيرة الخاصة للوزيرة..ويخلص إلىأن حضور اجتماع المجلس كل مستشاري الحكومة جعله أشبه بسوق عكاظ..ويقول الحبيب الصيد إن رئيس الحكومة بدا له غير قادر على التحكم في هذه الفوضى ويعتبر انه ربما كان ذلك لطيبة نواياه وافتقاده الجرأة، كل ذلك إلىجانب تساهله في تسيير النقاش كان يبلغ درجة الانفلات الخطابي..وحاول تنبيه رئيس الحكومة ولكن وجد انه غير قادر على التحكم في المجلس فقرر إعلام رئيس الحركة راشد الغنوشي وهنا أيضا لم ير تقدما يذكر..وهنا اقتنع الصيد بعدم فائدة ما يقدمه من استشارات وجاءت عملية تسليم البغدادي المحمودي وما رافقها من إجراءات غير قانونية بعد قرارالجبالي تسليم البغدادي المحمودي في 24 جوان 2012 للسلطات الليبية لتعزز هذه القناعة لديه بان استشارته لا معنى له وان وجوده اقرب للأخذ بالخاطر وحفاظا على الود مع الباجي..
وفي معرض حديثه عن مؤشرات تدهور الوضع الأمنيواقتحام السفارة الأمريكية في 14 سبتمبر 20212 يشير إلى تفاقم المد السلفي على حساب القيادة الحكيمة وتوقف عند الأحداث التي شهدتها البلاد بعد تولي "الترويكا" مقاليد السلطة حيث لم تمر خمسة أيام على اختيار المنصف المرزوقي رئيسا مؤقتا للجمهورية حتى اشرف على المؤتمر الأول للمجلس الوطني السوري المعارض الذي انعقد بالعاصمة بحضور حوالي 200 شخصية مدشنا بذلك موقفنا مناهضا لواحد من أهم مبادئ الديبلوماسية التونسية وهوعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين.. وأردف المرزوقي ذلك ببيان صادر عن رئاسة الجمهورية في 4 فيفري 2012 بطرد السفير السوري من تونس وسحب أي اعتراف بالنظام الحاكم وهوما يعتبره الصيد قرارا ستكون له تداعياته على العلاقات مع سوريا ومع تواجد عناصر تونسية ضمن المجموعات الإرهابية في سوريا..وعبر سمير ديلووزير حقوق الإنسانأن القرار يعبّر عن موقف الحكومة والشعب التونسي ويدعوالجبالي بدوره بقية الدول العربية إلى طرد سفراء سوريا احتجاجا على القمع الدموي للاحتجاجات في سوريا..ويعتبر الصيد في شهادته أن هذا الموقف شجع عن قصد أو دون قصد التيارات والمجموعات المتطرفة داخل النهضة وحرصها على استنفار الأنصاروخزن السلاح وتسفير الشباب ..
الأكيدأن الكتاب الذي تضمن ثمانية أبواب من زمن الشباب والأحلام مرورا بتونس الأعماقوعلى أبواب وزارة سيادية بشارع بورقيبة وصولا إلى الواجب الوطني ومنعرج الانتقال الديموقراطي وانتخابات المجلس التأسيسيومنه إلى حكومة الترويكا وخيبة الأملوالعودة إلىالأرض الطيبة ونداء الوطنفي ساحة القصبة وصولا إلى صراعه مع المرض وصراع الأجنحةإلىآخر مشوار كمستشار لرئيس الجمهورية فانبين السطور الكثير من التفاصيل والشيطان يكمن دوما في التفاصيل.. من المستبعد أن يكون حديث الحبيب الصيد وهوالذي أزعج الكثيرين بوجوده في السلطة نابع من رغبة في تصفية الحسابات أو لطموحات، فالرجل شبع سياسة وتجارب حتى أرهقته ولكنها لم تنهكه..ولعله بهذه المذكرات وبإخراجهاللرأي العام يزيح الستار عن الكثير من الأحداث التي قد نتفق أو نختلف في قراءتها ولكنها أحداث تحتاج لأكثر من قراءة لاسيما في تجربته الأخيرة كرئيس حكومة بعد انتخابات 2014 وفوز نداء تونس الذي لم يبق منه، برحيل مؤسسه، غير الاسم ..