تونس – الصباح
بعد شهر تقريبا من مباشرة حكومة نجلاء بودن الاستثنائية الجديدة لمهامها، لا تزال الانتظارات التي تختزلها مطالب الجميع بضرورة وضع برنامج عمل واضح قوامه الإصلاح والإنقاذ للدولة من الانهيار في ظل ما تواجهه من أزمات اقتصادية ومالية عمومية واجتماعية وصحية وبيئية خانقة نتيجة مخلفات وتراكمات سياسات ومنظومات أجمعت عديد المواقف على وصفها بالفاشلة، إذ لم يكن لها يوما برنامج واضح المعالم في تسيير دواليب الدولة. وهو تقريبا نفس المطلب الذي ترفعه عدة جهات داخلية وخارجية لاسيما في ما يتعلق بالجهات المانحة للقروض وغيرها من البلدان والمنظمات الدولية المتابعة للشأن الوطني والتي تربطها علاقات تعاون وشراكة وصداقة مع تونس.
في المقابل أثبتت بودن منذ توليها مقاليد الحكومة أنها تسير على نفس خطى المنهج السياسي الذي اختاره رئيس الجمهورية قيس سعيد في تعاطيه مع بعض المسائل لعل أبرزها نجاحه في توظيف هذا المنحى لحل الأزمة الصحية التي عرفتها بلادنا بعد تفشي الجائحة الوبائية "كوفيد 19" في أوائل الصائفة الأخيرة وفتكها بالآلاف من الأرواح بعد عجز حكومة مشيشي على إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ أرواح المواطنين، لتنجح دبلوماسية سعيد في استجداء الدعم الخارجي للحصول على التلاقيح والتجهيزات الطبية والأدوية في إيقاف نزيف الجائحة في ظرف وجيز. وذلك بمراهنة رئيسة الحكومة في هذه المرحلة الصعبة على الدعم الخارجي لحل مشاكل البلاد الحارقة أساسا منها ما تعلق بالمالية العمومية وإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، ليكون هذا الخيار من بين العناوين العريضة لسياسة حكومتها والدولة ككل خلال المرحلة القادمة. وهو ما بدا واضحا في توجهها إلى حد الآن. فقد كان لقاؤها مؤخرا مع رئيس البنك الإفريقي للتنمية "أكينويمي أديسينا" في باريس، أثناء مشاركتها في المؤتمر العالمي للتربية الذي نظمته اليونسكو بعاصمة الأنوار على هامش أشغال الدور 41 للمؤتمر العام للمنظمة في احتفالها بالذكرى 75 لتأسيسها، مناسبة للبحث والاتفاق حول مشروع تعاون ودعم وفق ما صرح به هذا الأخير وذلك بتقديم قرض لتونس يخصص للنهوض بقطاعات الفلاحة والنقل والمساندة المالية والرقمنة والتكنولوجيا والبحث العلمي وصناعة الأدوية. وهو ما أكدته رئاسة الحكومة مضيفة أنه قد تم الاتفاق بين الطرفين أثناء نفس اللقاء في باريس، على تنظيم جلسة عمل مرتقبة بتونس لتناول مختلف أوجه التعاون بين البنك الإفريقي للتنمية وبلادنا لمواصلة تدعيم التعاون المثمر بينهما. كما شكل هاجس توفير دعم خارجي لتونس محور لقائها أمس مع عبد الفاتح السيسي الرئيس المصري في المؤتمر الدولي حول ليبيا بباريس مع ممثلي عدة دول إقليمية عربية وأوروبية.
يأتي ذلك بعد فتح بودن قصر "القصبة" منذ دخوله، للقيام بسلسلة من اللقاءات مع سفراء لبلدان وازنة في الاقتصاد العالمي وأخرى لها دور وتأثير إقليمي من قارات مختلفة تربطها ببلادنا علاقات صداقة وتعاون فضلا عن ممثلي الهياكل والمنظمات الدولية. وكان آخرها لقاؤها بسفير الصين "جانغجيان قواه" قبل سفرها إلى فرنسا وسبقه لقاء الثلاثاء مع سفير إيطاليا بتونس لورنزو فانارا. ونشر موقع السفارة الإيطالية أن اللقاء تمحور حول آفاق التعاون بين البلدين والاستثمار في الطاقة والتكنولوجيا وغيرها من قضايا الهجرة التي تؤرق البلدين والتنمية المستدامة.
كما استقبلت نجلاء بودن خلال الأسبوع الأول من الشهر الجاري مجموعة من السفراء وضعتها في خانة بحث سبل وآفاق مزيد تدعيم التعاون في مختلف المجالات وخاصة المجال الاقتصادي وتطويره اعتبارا للفرص الاستثمارية والإمكانيات التي تملكها تونس خاصة منها الخبرات البشرية في مجال الهندسة والتكنولوجيا والبحث العلمي، مما يؤهلها لتكون قطبا جاذبا للمستثمرين ومشعا على القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط. مثلما تم الإعلان عنه ونذكر من بينهم علي أحمد الظفيري سفير الكويت وإدوارد أوكدن سفير المملكة المتحدة، وأندريه باران سفير فرنسا وسفير الولايات المتحدة الأمريكية "دونالد بلوم"، إضافة إلى ماركوس كورنارو، سفير الاتحاد الأوروبي بتونس وسان نهمكوك سفير كوريا فضلا عن المصري إيهاب فهمي والتركي كاجلار فهري شاكيرالب وسفير السعودية عبدالعزيز بن علي الصقر وغيرهم من ممثلي البلدان المغاربية والعربية والأوروبية.
وقد أبدى هؤلاء السفراء المعتمدون في تونس، من خلال ما نشرته مواقع عديد السفارات، تفاعلا إيجابيا عبر التأكيد على مساندتهم لتونس خلال هذه المرحلة ودعمهم لكل المبادرات التي من شأنها تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للتونسيين، معربين عن أملهم في مزيد تطوير العلاقات الثنائية مع بلدانهم ومع الاتحاد الأوروبي في أفق المواعيد المشتركة المقبلة.
ويذكر أن بودن سبق أن التقت الوزير الأول الجزائري أيمن عبدالرحمان بالرياض أثناء مشاركتهما في قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر في 25 أكتوبر المنقضي وتناولا مسألة التعاون بين البلدين في عدة مجالات.
ولعل ما يرجح النجاح في سياسة رئاسة الحكومة في هذه المرحلة الاستثنائية والمتمثلة في اختيار هذا التوجه والمراهنة على الدعم الخارجي في سياق مساعيها وبحثها عن إيجاد الحلول للمشاكل والأزمات الداخلية التي تتخبط فيها بلادنا، هو أنه يتم موازاة مع انفتاح الفريق الحكومي ممثلا في كافة الوزارات، على بحث ومناقشة مسألة الإصلاح والتطوير وفق أسس صحيحة من أجل النأي بالمسار السياسي الجديد عن إمكانية السقوط في الحلول الترقيعية ومواصلة نفس سياسة الحكومات السابقة بما يؤسس لمرحلة سياسية جديدة كان رئيس الجمهورية قد أشار له وأكده في عديد المناسبات.
والهام في توجه بودن لإقناع البلدان والمنظمات والأنظمة الدولية بضرورة مساندة تونس في الخروج من كومة الأزمات والمصاعب التي تواجهها في هذه المرحلة والدفع لوضع مشروعها الإصلاحي على طريق التفعيل الصحيح في كنف مناخ ديمقراطي يحفظ الحقوق والحريات ويدعمها، هو مدى قدرتها على تقديم برامج وآليات إصلاح كفيلة بجعل هذه القوى والبلدان تقف إلى جانب التجربة التونسية ومسارات تحديها وتدفع لإنجاحها لاسيما في ظل ما تواجهه من صعوبات وعراقيل ومحاولات شيطنة في الداخل والخارج.
نزيهة الغضباني