بعناية كبيرة ومهارة فائقة وحس مرهف وذوق رفيع في اختيار الأشكال التي يحفرها بمطرقته على أطباق النحاس والأباريق ومعلبات الهدايا والحلويات وغيرها من القطع الجميلة يمضي الحرفي في النقش على النحاس رضا النفزي يومه في قرية الصناعات التقليدية المتاخمة لمبنى ديوان الصناعات التقليدية بالعاصمة.. وهو ليس الوحيد الذي أدمن حرفته وأحبها حتى النخاع إلى درجة أنه أصبح لا يستطيع أن يتنفس خارج أسوار ذلك المبنى الساحر.. مبنى القرية الحرفية بالدندان، بل هناك عشرات مثله، فالقرية حسب قوله تتسع لحرفيين في شتى الاختصاصات لكن صدى نقراتهم على المواد المعدنية والحجارة الرخامية والحديد والفضة والخشب وغيرها لم يصل لأسماع المولعين بالصناعات التقليدية، فحتى القاطنين في المساكن المجاورة، لا يعرفون أنه خلف أسوار ديوان الصناعات التقليدية هناك قرية تتسع إلى أكثر من 45 حرفيا وحرفية في جميع الاختصاصات، وأنهم ينتجون هناك ويعرضون ويبيعون منتوجاتهم على عين المكان، وأنهم اليوم يمرون بضائقة كبيرة ويعانون الأمرين جراء تداعيات كورونا التي أضرت بهم كثيرا في غياب لافت للدولة.
وأضاف رضا أن القرية بعد كورونا أصبحت مقفرة إلا من بعض طلبة الكلية المجاورةالذين يزورونها باستمرار لاستلهام أفكار تفيدهم في بحوثهم ودراستهم.. وبين أن حكايته مع حرفة النقش على النحاس تمتد على أربعة عقود من الزمن، وأنه شغف بها منذ أن كان طفلا في سن 15 سنة، وأنه بمرور السنين أصبح مولعا بها شديد الولع.. فحتى خلال الفترات الصعبة التي مر فيها قطاع الصناعات التقليدية بأزمات فإن حبه الكبير لحرفته الأصلية منعه من أن يستقر في مهنة أخرى.. فقد كان في بعض الأحيان ينقطع عن ورشته مدة شهر أو شهرين على أقصى تقدير وكان يفعل ذلك مكرها ومضطرا ولضرورة توفير لقمة العيش لأفراد عائلته، لكنه سرعان ما يعود إلى نفس المكان ليعيش نفس المتعة ونفس المتاعب.. وبين أن الحرفيين في الصناعات التقليدية بصفة عامة وفي النقش على النحاس بصفة خاصة واجهوا طيلة السنتين الماضيتين صعوبات جمة لأن جائحة كورونا حالت دون التصدير ودون ترويج منتوجاتهم حتى على المستوى المحلي لأن السياحة تضررت وجل النزل أغلقت أبوابها، وبالنسبة إلى المستهلكين العاديين فإن الأسعار لا تتناسب مع مقدرتهم الشرائية. وفسر رضا النفزي أن المواد الأولوية أي النحاس، مستوردة من الخارج وأن سعر النحاس على المستوى العالمي ارتفع بشكل لافت بل تضاعف وأدى ذلك بصفة آلية إلى ارتفاع أسعار منتوجات الصناعات التقليدية من النحاس، فكلفة الإبريق الصغير تصل اليوم إلى خمسين دينارا والحرفي لا يستطيع بيعه بأقل من سبعين دينارا، وحتى السياح فإنهم لا يقتنون القطع باهظة الثمن بل يبحثون عما خف حمله وقل سعره، وحتى لما شارك في معرض ببلغراد فإن الحرفاء اقتنوا منه التحف الصغيرة لأنها رخيصة الثمن.. وأكد أن المال شأن لا يعنيه كثيرا فهاجسه الأكبر هو المحافظة على " روح الصنعة" والمحافظة على صيته لدى حرفائه.. وقال محدثنا إنه رغم الصعوبات الخانقة التي يمر بها الحرفيون فإن الدولة لم تخفض في قيمة الأداءات وبين أنه يدرك أن وضعية المالية العمومية صعبة ويتفهم أن هناك أزمة عالمية ولكنه يرغب في معرفة مآل الوعود التي قدمها رؤساء الحكومات المتعاقبة للحرفيين في الصناعات التقليدية ولأبناء القرية الحرفية بالدندان بالذات، وذكر أنه بإمكان الوزارات مساعدة الحرفيين من خلال اقتناء منتوجاتهم بصفة مباشرة وفسر أن هناك وسطاء أضروا بالحرفيين لأنهم يرفعون في الأسعار وذكر أن هناك كثير من الحرفيين اضطروا إلى تغيير وجهاتهم إلى مهن أخرى وهذا حسب رأيه من شأنه أن يدمر القطاع.
دعم التكوين المهني
على مسافة قصيرة من ورشة النقش على النحاس، عثرنا خلال جولتنا في القرية الحرفية بالدندان على منيرة بن سالم الصغير وهي تجلس خلف كوم من القفاف وباستفسارها عن وضعية ورشتها بعد جائحة كورونا، قالت إن كرونا تسببت في قفز أسعار المواد الأولوية بشكل لا يطاق. وأضافت الحرفية في التطريز اليدوي والاكساء إنها ابنة النظام التربوي القديم فهي بعد المرحلة الابتدائية توجهت إلى التكوين المهني لأنها مولعة بالخياطة ولأن والدتها ربتها على حب الصناعات التقليدية وكانت تقول لها دائما إنه مهما علا شأنها فيجب عليها أن تتعلم حرفة لأنه لا أحد يعرف ماذا يخبئ له الزمن من مفاجآت. وبينت أنها تخصصت في الخياطة والتطريز وشاركت في الكثير من المعارض كما شاركت في مسابقة الخمسة الذهبية، وبعد ممارسة المهنة 20 سنة في منزلها التحقت منذ سنتين بالقرية الحرفية وكان ذلك دافع لها كي تبدع أكثر وتبتكر وتبرع في تزيين السلال وعلب الهدايا وتطريز الجبة وخاصة الجبة الجربية التي لقيت رواجا كبيرا خلال المعرض الوطني الأخير للصناعات التقليدية، ودعت منيرة إلى دعم التكوين المهني لأنه حسب قولها كلمة السر للقضاء على أزمة البطالة الموجودة في البلاد.
ولا تختلف منيرة في الرأي مع ما ذهب إليه الحرفي في صناعة الخيزران محمد الهمامي البالغ من العمر 80 سنة، إذ أكد بدوره على أهمية التكوين في الحرف التقليدية حتى لا تندثر.. وقال الهمامي إنه في سنة 1954 التحق بورشة يديرها أحد الحرفيين الاسبانيين المقيمين في تونس وتحديدا في المدينة العتيقة في مكان يدعى "الخربة". وأضاف أنه بعد الاستقلال أبدى الزعيم الحبيب بورقيبة اهتماما بالتكوين المهني وكان يريد من الحرفيين في العاصمة أن ينتقلوا إلى المناطق الفقيرة لكي يكونوا شبابها وبهذه الكيفية يصرفونهم عن الرغبة في النزوح إلى المدن الكبرى. وبين محدثنا وهو يشير إلى صورة كبيرة علقت بعناية على جدار الورشة المزدان بتحف الزينة أن تلك الصورة جمعته بالزعيم بورقيبة وهي باللون الأبيض والأسود وذكر أن بورقيبة عندما زارهم في مصنع مشغله الاسباني همس إليه قائلا "استرق منه الصنعة يا وليدي" وظلت تلك العبارة ترن في أذنيه وأدرك من خلالها أهمية التكوين. وأضاف أن بورقيبة هو الذي طلب بنفسه من الاسباني أن يذهب إلى عين دراهم وأن يكون شبابها في صناعة الخيزران وذكر أنه رغم صغر سنه لم يتردد في مرافقة مشغله إلى عين دراهم ولم يخف من الحرب في الجزائر التي كانت تقرع طبولها على الحدود.. وأشار إلى أنه تم تدشين مصنع عين دراهم في 29 أكتوبر 1959 من قبل بورقيبة وفي سنة 1968 توفي الاسباني وقال إنه خير بعد وفاة مشغله المكوث في عين دراهم إلى غاية 1975 وكون هناك الكثير من الشبان والفتيات ثم انتقل إلى ديوان الصناعات التقليدية الذي كلفه بتكوين الفتيات في قبلاط واستطعن ببراعتهن اكتساح السوق الفرنسية وتمكن من منافسة منتوجات المغرب ورومانيا، وبين أنه بعد ذلك تحول إلى هرقلة وكون عددا كبيرا من النساء ثم عاد إلى الدندان وكون مئات الشبان وكان هؤلاء بعد التكوين يخضعون إلى اختبار ومن ينجح منهم فيه يمنحه الديوان بطاقة حرفي في صناعة الخيزران وهي وثيقة تسمح له بالانتصاب لحسابه الخاص، واضافة إلى ذلك عمل الهمامي على تكوين فتيات ومنحهن مواد أولوية لصناعة التحف من الخيزران في منازلهن مع بقية افراد العائلة وكان ذلك في إطار مشروع العائلات المنتجة وهو مشروع وفر لعدد كبير من العائلات الفقيرة ومحدودة الدخل مورد رزق وقال إنه استلهم فكرة المشروع من زيارته إلى الصين. كما أشار الهمامي إلى أنه أجرى بحثا حول الالياف النباتية في تونس ووجد أن هناك 16 نبتة يمكن استخدامها في الصناعات التقليدية وحرص على التطبيق لكنه عندما شارك بمنتوج منها في إحدى المسابقات لم يفز بالجائزة، والغريب في الأمر حسب قوله أن الفائزة استعملت مواد مستوردة من أندونيسيا.. وأضاف أنه يستعد إلى خوض تجربة جديدة في تكوين الشباب المعطل عن العمل في الملاسين وعبر عن أمله في أن يفيدهم بخبرته مثلما أفاد من يشتغلون معه في الورشة.. وكانت فاطمة المزوغي التي أثنت على تجربته قد جلست قربه وراحت تنسج خيوط الخيزران لتعد بها سلة حلوة الشكل، وقالت لنا فاطمة إن منتوجاتها تجد رواجا كبيرا في تونس وبالتالي لم تسع إلى بحث فرص للتصدير.. وبينت أن أول عهد لها بالصناعات التقليدية كان سنة 1970 وهي منذ ذلك التاريخ لم تنقطع عن حب عملها رغم قسوة المواد الأولوية على يديها.. وبينت أن الخيزران صعب المراس لكن بعد التعب يأتي الحصاد الجميل..
مهن شاقة لكنها ممتعة
في الضفة المقابلة لورشة صناعة الخيزران تصبب أحد الشبان عرقا وهو يصقل طاولة من الخشب ليحولها إلى تحفة فنية في منتهى الروعة.. وقال هذا الشاب إنه يدعى كمال العويني وإنه رغم مشقة الحرفة فهو لا يدخر أي جهد لتطوير الصناعات التقليدية.. وردا عن سؤال حول سبب غلاء أسعار منتوجات ورشته، أجاب أن المواد الأولوية باهظة جدا فمتر اللوح الأحمر يصل سعره إلى 2800 دينار فما بالك بمادة البلنز، كما أن صناعة الطاولات وغرف الجلوس والنوم كلها يدوية وتتطلب الكثير من الوقت والجهد وسعة الصدر وخاصة الإبداع والابتكار.. وأضاف وقد بدا عليه الإرهاق أن أزمة كورونا خنقت جميع الحرفيين فهذه الأزمة حسب تأكيده ضربت السياحة ومن خلالها الصناعات التقليدية، ودعا كمال الدولة إلى إنقاذ القطاع الذي بات مهددا بالاندثار وطالبها بالتعريف بقرية الصناعات التقليدية وبدعم الحرفيين الموجودين فيها.
وفي نفس السياق بين محمد كريم بيرم الحرفي ورئيس الجامعة التونسية لصناعة الفسيفساء والنقش على الرخام الراجعة بالنظر إلى الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية أن القطاع كان يعاني من صعوبات حتى قبل كورونا وذلك بالنظر إلى غياب آليات التكوين والتسويق.. وفسر أنه في ما مضى كان التكوين في الصناعات التقليدية يتم في ورشات الحرفيين لكن اليوم أصبح تابعا لوزارة التكوين المهني، والمطلوب حسب قوله هو إعادة المتكونين إلى ورشات الحرفيين حتى يتقنوا "الصنعة" على النحو المطلوب، وأضاف أن الحرفيين خلال جائحة كورونا أغلقوا ورشاتهم ولكن النقطة الإيجابية الوحيدة التي تم تسجيلها خلال الجائحة هي أن الحرفيين عملوا على إشهار القرية الحرفية والتعريف بمنتوجاتهم والترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقال بيرم إن الجامعة لديها جملة من المقترحات لتطوير المهنة وهي مقترحات تقوم على التكوين والتسويق وقد تم تقديمها للحكومة وتمت المصادقة عليها منذ سنة 2017 لكنها لم تفعل. وبين أنهم يريدون إعادة التكوين إلى الورشات ويرغبون في بعث مؤسسة تهتم بتسويق منتوجات الصناعات التقليدية.. وخلافا لبقية الحرف التي يعاني أصحابها من ارتفاع كلفة المواد الأولوية فإن المواد الأولوية لصناعة الفسيفساء حسب قوله متوفرة وأشار إلى أن تسعين بالمائة من المنتوجات يتم تصديرها وبين أن التونسيين أصبحوا في السنوات الأخيرة يقتنون منتوجات مزدانة بالفيسفساء خاصة الطاولات والمرايا..
سعيدة بوهلال
تونس- الصباح
بعناية كبيرة ومهارة فائقة وحس مرهف وذوق رفيع في اختيار الأشكال التي يحفرها بمطرقته على أطباق النحاس والأباريق ومعلبات الهدايا والحلويات وغيرها من القطع الجميلة يمضي الحرفي في النقش على النحاس رضا النفزي يومه في قرية الصناعات التقليدية المتاخمة لمبنى ديوان الصناعات التقليدية بالعاصمة.. وهو ليس الوحيد الذي أدمن حرفته وأحبها حتى النخاع إلى درجة أنه أصبح لا يستطيع أن يتنفس خارج أسوار ذلك المبنى الساحر.. مبنى القرية الحرفية بالدندان، بل هناك عشرات مثله، فالقرية حسب قوله تتسع لحرفيين في شتى الاختصاصات لكن صدى نقراتهم على المواد المعدنية والحجارة الرخامية والحديد والفضة والخشب وغيرها لم يصل لأسماع المولعين بالصناعات التقليدية، فحتى القاطنين في المساكن المجاورة، لا يعرفون أنه خلف أسوار ديوان الصناعات التقليدية هناك قرية تتسع إلى أكثر من 45 حرفيا وحرفية في جميع الاختصاصات، وأنهم ينتجون هناك ويعرضون ويبيعون منتوجاتهم على عين المكان، وأنهم اليوم يمرون بضائقة كبيرة ويعانون الأمرين جراء تداعيات كورونا التي أضرت بهم كثيرا في غياب لافت للدولة.
وأضاف رضا أن القرية بعد كورونا أصبحت مقفرة إلا من بعض طلبة الكلية المجاورةالذين يزورونها باستمرار لاستلهام أفكار تفيدهم في بحوثهم ودراستهم.. وبين أن حكايته مع حرفة النقش على النحاس تمتد على أربعة عقود من الزمن، وأنه شغف بها منذ أن كان طفلا في سن 15 سنة، وأنه بمرور السنين أصبح مولعا بها شديد الولع.. فحتى خلال الفترات الصعبة التي مر فيها قطاع الصناعات التقليدية بأزمات فإن حبه الكبير لحرفته الأصلية منعه من أن يستقر في مهنة أخرى.. فقد كان في بعض الأحيان ينقطع عن ورشته مدة شهر أو شهرين على أقصى تقدير وكان يفعل ذلك مكرها ومضطرا ولضرورة توفير لقمة العيش لأفراد عائلته، لكنه سرعان ما يعود إلى نفس المكان ليعيش نفس المتعة ونفس المتاعب.. وبين أن الحرفيين في الصناعات التقليدية بصفة عامة وفي النقش على النحاس بصفة خاصة واجهوا طيلة السنتين الماضيتين صعوبات جمة لأن جائحة كورونا حالت دون التصدير ودون ترويج منتوجاتهم حتى على المستوى المحلي لأن السياحة تضررت وجل النزل أغلقت أبوابها، وبالنسبة إلى المستهلكين العاديين فإن الأسعار لا تتناسب مع مقدرتهم الشرائية. وفسر رضا النفزي أن المواد الأولوية أي النحاس، مستوردة من الخارج وأن سعر النحاس على المستوى العالمي ارتفع بشكل لافت بل تضاعف وأدى ذلك بصفة آلية إلى ارتفاع أسعار منتوجات الصناعات التقليدية من النحاس، فكلفة الإبريق الصغير تصل اليوم إلى خمسين دينارا والحرفي لا يستطيع بيعه بأقل من سبعين دينارا، وحتى السياح فإنهم لا يقتنون القطع باهظة الثمن بل يبحثون عما خف حمله وقل سعره، وحتى لما شارك في معرض ببلغراد فإن الحرفاء اقتنوا منه التحف الصغيرة لأنها رخيصة الثمن.. وأكد أن المال شأن لا يعنيه كثيرا فهاجسه الأكبر هو المحافظة على " روح الصنعة" والمحافظة على صيته لدى حرفائه.. وقال محدثنا إنه رغم الصعوبات الخانقة التي يمر بها الحرفيون فإن الدولة لم تخفض في قيمة الأداءات وبين أنه يدرك أن وضعية المالية العمومية صعبة ويتفهم أن هناك أزمة عالمية ولكنه يرغب في معرفة مآل الوعود التي قدمها رؤساء الحكومات المتعاقبة للحرفيين في الصناعات التقليدية ولأبناء القرية الحرفية بالدندان بالذات، وذكر أنه بإمكان الوزارات مساعدة الحرفيين من خلال اقتناء منتوجاتهم بصفة مباشرة وفسر أن هناك وسطاء أضروا بالحرفيين لأنهم يرفعون في الأسعار وذكر أن هناك كثير من الحرفيين اضطروا إلى تغيير وجهاتهم إلى مهن أخرى وهذا حسب رأيه من شأنه أن يدمر القطاع.
دعم التكوين المهني
على مسافة قصيرة من ورشة النقش على النحاس، عثرنا خلال جولتنا في القرية الحرفية بالدندان على منيرة بن سالم الصغير وهي تجلس خلف كوم من القفاف وباستفسارها عن وضعية ورشتها بعد جائحة كورونا، قالت إن كرونا تسببت في قفز أسعار المواد الأولوية بشكل لا يطاق. وأضافت الحرفية في التطريز اليدوي والاكساء إنها ابنة النظام التربوي القديم فهي بعد المرحلة الابتدائية توجهت إلى التكوين المهني لأنها مولعة بالخياطة ولأن والدتها ربتها على حب الصناعات التقليدية وكانت تقول لها دائما إنه مهما علا شأنها فيجب عليها أن تتعلم حرفة لأنه لا أحد يعرف ماذا يخبئ له الزمن من مفاجآت. وبينت أنها تخصصت في الخياطة والتطريز وشاركت في الكثير من المعارض كما شاركت في مسابقة الخمسة الذهبية، وبعد ممارسة المهنة 20 سنة في منزلها التحقت منذ سنتين بالقرية الحرفية وكان ذلك دافع لها كي تبدع أكثر وتبتكر وتبرع في تزيين السلال وعلب الهدايا وتطريز الجبة وخاصة الجبة الجربية التي لقيت رواجا كبيرا خلال المعرض الوطني الأخير للصناعات التقليدية، ودعت منيرة إلى دعم التكوين المهني لأنه حسب قولها كلمة السر للقضاء على أزمة البطالة الموجودة في البلاد.
ولا تختلف منيرة في الرأي مع ما ذهب إليه الحرفي في صناعة الخيزران محمد الهمامي البالغ من العمر 80 سنة، إذ أكد بدوره على أهمية التكوين في الحرف التقليدية حتى لا تندثر.. وقال الهمامي إنه في سنة 1954 التحق بورشة يديرها أحد الحرفيين الاسبانيين المقيمين في تونس وتحديدا في المدينة العتيقة في مكان يدعى "الخربة". وأضاف أنه بعد الاستقلال أبدى الزعيم الحبيب بورقيبة اهتماما بالتكوين المهني وكان يريد من الحرفيين في العاصمة أن ينتقلوا إلى المناطق الفقيرة لكي يكونوا شبابها وبهذه الكيفية يصرفونهم عن الرغبة في النزوح إلى المدن الكبرى. وبين محدثنا وهو يشير إلى صورة كبيرة علقت بعناية على جدار الورشة المزدان بتحف الزينة أن تلك الصورة جمعته بالزعيم بورقيبة وهي باللون الأبيض والأسود وذكر أن بورقيبة عندما زارهم في مصنع مشغله الاسباني همس إليه قائلا "استرق منه الصنعة يا وليدي" وظلت تلك العبارة ترن في أذنيه وأدرك من خلالها أهمية التكوين. وأضاف أن بورقيبة هو الذي طلب بنفسه من الاسباني أن يذهب إلى عين دراهم وأن يكون شبابها في صناعة الخيزران وذكر أنه رغم صغر سنه لم يتردد في مرافقة مشغله إلى عين دراهم ولم يخف من الحرب في الجزائر التي كانت تقرع طبولها على الحدود.. وأشار إلى أنه تم تدشين مصنع عين دراهم في 29 أكتوبر 1959 من قبل بورقيبة وفي سنة 1968 توفي الاسباني وقال إنه خير بعد وفاة مشغله المكوث في عين دراهم إلى غاية 1975 وكون هناك الكثير من الشبان والفتيات ثم انتقل إلى ديوان الصناعات التقليدية الذي كلفه بتكوين الفتيات في قبلاط واستطعن ببراعتهن اكتساح السوق الفرنسية وتمكن من منافسة منتوجات المغرب ورومانيا، وبين أنه بعد ذلك تحول إلى هرقلة وكون عددا كبيرا من النساء ثم عاد إلى الدندان وكون مئات الشبان وكان هؤلاء بعد التكوين يخضعون إلى اختبار ومن ينجح منهم فيه يمنحه الديوان بطاقة حرفي في صناعة الخيزران وهي وثيقة تسمح له بالانتصاب لحسابه الخاص، واضافة إلى ذلك عمل الهمامي على تكوين فتيات ومنحهن مواد أولوية لصناعة التحف من الخيزران في منازلهن مع بقية افراد العائلة وكان ذلك في إطار مشروع العائلات المنتجة وهو مشروع وفر لعدد كبير من العائلات الفقيرة ومحدودة الدخل مورد رزق وقال إنه استلهم فكرة المشروع من زيارته إلى الصين. كما أشار الهمامي إلى أنه أجرى بحثا حول الالياف النباتية في تونس ووجد أن هناك 16 نبتة يمكن استخدامها في الصناعات التقليدية وحرص على التطبيق لكنه عندما شارك بمنتوج منها في إحدى المسابقات لم يفز بالجائزة، والغريب في الأمر حسب قوله أن الفائزة استعملت مواد مستوردة من أندونيسيا.. وأضاف أنه يستعد إلى خوض تجربة جديدة في تكوين الشباب المعطل عن العمل في الملاسين وعبر عن أمله في أن يفيدهم بخبرته مثلما أفاد من يشتغلون معه في الورشة.. وكانت فاطمة المزوغي التي أثنت على تجربته قد جلست قربه وراحت تنسج خيوط الخيزران لتعد بها سلة حلوة الشكل، وقالت لنا فاطمة إن منتوجاتها تجد رواجا كبيرا في تونس وبالتالي لم تسع إلى بحث فرص للتصدير.. وبينت أن أول عهد لها بالصناعات التقليدية كان سنة 1970 وهي منذ ذلك التاريخ لم تنقطع عن حب عملها رغم قسوة المواد الأولوية على يديها.. وبينت أن الخيزران صعب المراس لكن بعد التعب يأتي الحصاد الجميل..
مهن شاقة لكنها ممتعة
في الضفة المقابلة لورشة صناعة الخيزران تصبب أحد الشبان عرقا وهو يصقل طاولة من الخشب ليحولها إلى تحفة فنية في منتهى الروعة.. وقال هذا الشاب إنه يدعى كمال العويني وإنه رغم مشقة الحرفة فهو لا يدخر أي جهد لتطوير الصناعات التقليدية.. وردا عن سؤال حول سبب غلاء أسعار منتوجات ورشته، أجاب أن المواد الأولوية باهظة جدا فمتر اللوح الأحمر يصل سعره إلى 2800 دينار فما بالك بمادة البلنز، كما أن صناعة الطاولات وغرف الجلوس والنوم كلها يدوية وتتطلب الكثير من الوقت والجهد وسعة الصدر وخاصة الإبداع والابتكار.. وأضاف وقد بدا عليه الإرهاق أن أزمة كورونا خنقت جميع الحرفيين فهذه الأزمة حسب تأكيده ضربت السياحة ومن خلالها الصناعات التقليدية، ودعا كمال الدولة إلى إنقاذ القطاع الذي بات مهددا بالاندثار وطالبها بالتعريف بقرية الصناعات التقليدية وبدعم الحرفيين الموجودين فيها.
وفي نفس السياق بين محمد كريم بيرم الحرفي ورئيس الجامعة التونسية لصناعة الفسيفساء والنقش على الرخام الراجعة بالنظر إلى الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية أن القطاع كان يعاني من صعوبات حتى قبل كورونا وذلك بالنظر إلى غياب آليات التكوين والتسويق.. وفسر أنه في ما مضى كان التكوين في الصناعات التقليدية يتم في ورشات الحرفيين لكن اليوم أصبح تابعا لوزارة التكوين المهني، والمطلوب حسب قوله هو إعادة المتكونين إلى ورشات الحرفيين حتى يتقنوا "الصنعة" على النحو المطلوب، وأضاف أن الحرفيين خلال جائحة كورونا أغلقوا ورشاتهم ولكن النقطة الإيجابية الوحيدة التي تم تسجيلها خلال الجائحة هي أن الحرفيين عملوا على إشهار القرية الحرفية والتعريف بمنتوجاتهم والترويج لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقال بيرم إن الجامعة لديها جملة من المقترحات لتطوير المهنة وهي مقترحات تقوم على التكوين والتسويق وقد تم تقديمها للحكومة وتمت المصادقة عليها منذ سنة 2017 لكنها لم تفعل. وبين أنهم يريدون إعادة التكوين إلى الورشات ويرغبون في بعث مؤسسة تهتم بتسويق منتوجات الصناعات التقليدية.. وخلافا لبقية الحرف التي يعاني أصحابها من ارتفاع كلفة المواد الأولوية فإن المواد الأولوية لصناعة الفسيفساء حسب قوله متوفرة وأشار إلى أن تسعين بالمائة من المنتوجات يتم تصديرها وبين أن التونسيين أصبحوا في السنوات الأخيرة يقتنون منتوجات مزدانة بالفيسفساء خاصة الطاولات والمرايا..