اعتبر سامي بن سلامة العضو السابق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات (2011-2012) أن نظرية إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات سخيفة. وقال إن من يطالب بإشراف الداخلية على الانتخابات كمن يطالب بإعادة الحزب الاشتراكي الدستوري للإشراف عليها أو كمن يطالب بمنح الإشراف عليها لوزارة الداخلية كغطاء لحزب لا نعلم اسمه.
وقال في حوار مطول لـ"الصباح" أن من الأفضل الإبقاء على مهمة تنظيم الانتخابات لهيئة الانتخابات الحالية، بعد إصلاحها وتغيير هيكلتها على قاعدة تنقيح المرسوم 27 لسنة 2011، والتخلي عن القانون الحالي الذي "أهلك الهيئة وجعلها تفقد استقلاليتها وتخضع لمحاصصة حزبية أثّرت على أداءها وعلى مجريات الانتخابات التي أدارتها منذ 2014."
وكشف بن سلامة أنه كان يعتقد أن قيس سعيّد وعبير موسي متحالفان سرّا وسيتحالفان في أية انتخابات بترشيح سعيّد لرئاسة الدولة وترشيح موسي لرئاسة الحكومة. وقال "ما يجمع سعّيد وموسي أكثر مما يفرقهما و"الحرب" بينهما لا تعدو أن تخرج عن منافسة سياسية".
وقال أيضا إن مشكل تونس لم يكن في برلمان منتخب أو في وجود أحزاب سياسية بل في ثغرات الدستور والتحايل في تطبيق القوانين واستغلالها لتحقيق غايات سياسية وحزبية ضيقة، مشددا على أن أي مشروع سياسي ولو كان مشروع رئيس الجمهورية لا يمكن تطبيقه إن لم يكن واقعيا. مؤكدا على أن فكرة البناء القاعدي التي يروج لها البعض يصعب تطبيقها، والحل في اعتماد نظام انتخاب مكشوف الوجه كنظام الانتخاب على الأفراد على دورتين. وهو يرى أن المنظومة القضائية الحالية في حاجة إلى إصلاحات جذرية قبل المخاطرة بمحاكمة الإرهابيين والمفسدين، وفق تعبيره.
في ما يلي نص الحوار:
*كيف تقيم المشهد السياسي الراهن؟
المشهد تغيّر كثيرا منذ 25 جويلية2021، أراقب كغيري وأجد صعوبة في تحديد ملامحه والتعرف على لاعبيه الأساسيين ومواقعهم وإن كانت خلفيّة. لا أدري إن كان انقشاع الضباب تدريجيا سيمكننا من الأمل في تغيير حقيقي ودائم، إذ لم يتم تحديد المسؤوليات ولا تحميلها لمن أخفق ومن أجرم طيلة العشرية الفارطة، عَجَز البلد حتى عن إطلاق محاسبة سياسية حقيقية في الفضاء العام أو في وسائل الإعلام وبعضها يفرض على التونسيين التطبيع مع الفشل والرداءة والإجرام.
ما يزيد الطين بلة عدم إطلاق محاسبة قضائية عن سنوات الإجرام والتخريب الاقتصادي والمجتمعي والتكفير والإرهاب واختراق الدولة والمجتمع، ولا يبدو أنها ممكنة حاليا. إذ يبدو من الجليّ أن جهاز القضاء غير متحمس لتتبع من أجرم حقيقة في حق تونس بينما يسارع إلى محاكمة شباب الأحياء وقد سلطت على قرابة الألفين منهم أحكام قاسية بسرعة رهيبة إثر احتجاجات جانفي الماضي وكذلك على الناشطين والمعارضين وأخيرا المربين بتهم ملفقة أو واهية.
وعلى كل حال بات الكثير من التونسيين يطالبون بإصلاحات فورية وجذرية للمنظومة القضائية بمختلف مكوناتها قبل المخاطرة بمحاكمة الإرهابيين والمفسدين في ظل الوضع القضائي الحالي الذي لم يسبق له مثيل منذ الاستقلال، إذ قد يحصل أولئك على البراءة ويفلتون من العقاب ويتم إنكار العدالة ولن يتسنى محاكمتهم مرة أخرى مما سيؤدي إلى رسكلة المفسدين والإرهابيين وإعادتهم إلى المشهد.
*إذن، أنت تؤيد مسار 25 جويلية؟
لقد قتلت حركة النهضة المتاجرة بكل القيم الثورة وأجهزت على مسار الانتقال الديمقراطي، إذ أن انحرافاتها وخططها لضرب الديمقراطية لم تسمح بولادة ديمقراطية حقيقية ومشهد سياسي تعددي ومتوان. إعلان 25 جويلية كان أكثر من ضروري لمستقبل تونس وأظن أنه لم يكن من الحكمة ترك الأوضاع تتعفن أكثر ولولا لجوء الرئيس إلى الفصل 80 في الوقت المناسب لكان هو بذاته أول ضحايا الانفجار القادم. يبقى أن مساندتي للمسار تبقى نقدية طالما لم تتضح الرؤية تماما إذ لديّ بعض التساؤلات والملاحظات ولكنني أعتبر أن أمام تونس فرصة حقيقية وما على رئيس الجمهورية سوى استغلالها.
*وماهي تحفظاتك على القرارات والإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد بما فيها مضمون المرسوم 117؟
لا أعتقد أنه يمكن حكم الشعوب والدول بالإجراءات الاستثنائية ولا بقوانين الطوارئ التي تكون عادة معادية في جوهرها للحرية وللديمقراطية، إذ أنها تسمح بتركيز السلطات بيد واحدة مما يولد خشية مشروعة من تحول الاستثناء إلى قاعدة بطول المدة مما يؤدي إلى التخلي عن حلم الديمقراطية.
كنت أفضل إحداث مجلس استشاري يحل محل مجلس النواب في مناقشة مشاريع المراسيم وإعدادها عوض إشغال مجلس الوزراء بقضايا تشريعية وكان ذلك ليعتبر خطوة سياسية مهمة داخليا وخارجيا وانفتاحا واضحا على القوى الوطنية الرافضة لعودة البرلمان المعلق ووردا على الاتهامات بالميل نحو الحكم الفردي.
تحفظاتي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الإنتاج الروائي لمن فقدوا حظوتهم أو سطوتهم أو امتيازاتهم ومن يحاولون تعطيل المحاسبة الحقيقية وإن كنت مهتما بمعرفة المدة الحقيقية لسريان التدابير الاستثنائية إذ أطالب بإنهائها سريعا.
حسب رأيك متى يمكن أن تنتهي الفترة الاستثنائية وإنهاء العمل بالفصل 80 من الدستور؟
لا بد من التوضيح بأن المطالبة بإنهاء التدابير الاستثنائية سريعا لا يعني المطالبة بإنهاء للعمل بالفصل 80أو بالأمر 117أو بالعودة للبرلمان المعلق أو بإجراء انتخابات فورا. أرفض كأغلب التونسيين العودة للوضع السابق نهائيا وأفضل تحول تونس من المرحلة الاستثنائية إلى مرحلة انتقالية محددة المدة والأهداف تنتهي بالعودة إلى الشعب لأخذ رأيه.
وقد أختلف عن البعض في الاعتقاد بأنه لا يمكن أن تكون تلك المرحلة الانتقالية قصيرة جدا إذ لن تسمح بإصلاح جذري، ولا طويلة جدا فتكرس حكما مطلقا قد يكون دائما. الأفضل لتونس عدم التسرع وتفادي البطء واعتماد الواقعية والاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى لتحديد الفترة اللازمة لإصلاح الأوضاع والتأسيس لديمقراطية حقيقية وإجراء انتخابات في ظروف مناسبة والتي لا أعتقد أنها من المحبذ أن تتجاوز السنتين.
وهذه مدة طويلة نسبيا، لذلك لا أعتقد أنه من الممكن إطلاق مرحلة انتقالية جديدة بتلك المدة بدون بتشريك القوى الحية في البلاد وأخذ رأيها في الإصلاحات المطلوبة وفي المدة التي ستستغرقها.
*وكيف ترى الخطوات المقبلة التي يعتزم سعيّد القيام بها؟
الرئيس سعيّد سياسي غير تقليدي ومن الصعب التكهن بخطواته وبنسقها لكن عموما لا أعتقد أن أولوياته ستتجاهل حاجة التونسيين لإصلاحات تكرس مبدأ الفصل بين السلط وخضوعها لمراقبة السلط الأخرى وتقرّ فيه علوية السلطتين التنفيذية والتشريعية وتمكن من إقرار رقابة قانونية وسياسية على أعمال المرفق القضائي ويكرس له فيه وضع خاص واستقلالية لا تتحول إلى استقلال عن الدولة، وذلك لكي نتمكن من معالجة الآثار السلبية لفشل عملية الانتقال الديمقراطي التي كان من بين أهم أسبابها إخفاق القضاء في القيام بواجباته وتغليبه المصالح القطاعية والحزبية الضيقة على مصلحة البلاد.
تونس في حاجة إلى إصلاحات تقر نظاما سياسيا يعطي للمشروعية الانتخابية والشعبية حقها ويمنح من ينتخب انتخابا عاما ومباشرا سلطات مقابلة للتفويض الشعبي الذي يحصل عليه وتوحّد في إطاره السلطة التنفيذية ويُمتنع عن تشتيتها وتحدد فيه مسؤوليات وتتحقق من خلاله المساءلة والمحاسبة وتجبر فيه السلطات على التعايش مهما كانت الخلافات والأزمات وتلزم فيه على اعتماد آليات فصل النزاعات التي يوفرها الدستور وتبتعد فيه عن فكرة اللجوء إلى حلول فوق دستورية. وهي محتاجة للمزج بين التوازن السياسي والتعديل الانتخابي، إذ أنهما عنصران مترابطان إذ يشكل النظام الانتخابي عنصرا من أهم عناصر تحديد ملامح النظام السياسي.
لا يجب أن تقتصر مطالبتنا بالإصلاحات السياسية على شكل النظام في إطار الجمهورية ولكن علينا تجاوز ذلك إلى المطالبة بإصلاح ثغرات الدستور الحاليمن ناحية التطبيق وإن تم استبداله. وكذلك من ناحية المؤسسات حيث تبدو الحاجة ملحة لإنشاء غرفة ثانية للبرلمان للحد من تغوّل الغرفة الأولى في حال اخترنا التحول إلى نظام برلماني صريح أو التحول إلى نظام شبه رئاسي على النمط الفرنسي أو ربما اعتماد التجربة البرتغالية.
كما أن العودة إلى فكرة المجلس الاقتصادي والاجتماعي تبدو أكثر من ضرورية في وضعنا الحالي وهو ما قد يمكننا من الحد من العدد الكبير من الهيئات الدستورية وغير الدستورية ومن الاقتصار على المجلس المذكور مع الحفاظ على الهيئة التعديلية للسمعي البصري وهيئة انتخابية مستقلة وهيئة لحقوق الإنسان تجمع شتات بقية الهيئات المنتشرة هنا وهناك.
*هناك من يعتقد أن العودة إلى حياة سياسية عادية في تونس باتت صعبة بعد ترذيل البرلمان والأحزاب والتلويح بالاستغناء عنها.. فكيف يمكن إعادة بناء الثقة بين الناخبين والمنظومة الحزبية؟
لا يمكن التخلي عن الديمقراطية التمثيلية رغم الإشكاليات التي تطرحها والاستغناء بالتالي عن برلمان منتخب مباشرة من قبل الشعب أو إلغاء الأحزاب السياسية والهياكل الوسيطة بين الدولة والمجتمع من المشهد.
أعتقد أن إصلاحات سياسية وانتخابية وفرض تطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة وإلغاء نظام الامتيازات والإفلات من المحاسبة والعقاب كفيلة بتيسير العودة إلى حياة سياسية عادية. مشكل تونس لم يكن في وجود برلمان منتخب مباشرة أو في وجود أحزاب سياسية بل في ثغرات الدستور والتحايل في تطبيق القوانين وفي استغلال قوانين الجمهورية لتحقيق غايات سياسية وحزبية وفئوية ضيقة.
لا يمكن تحميل كافة الأحزاب السياسية مسؤولية إساءة حزب حركة النهضة ومن تحالف معه للديمقراطية وإجرامهم في حق الشعب التونسي. ولا يمكن تحميل جميع الأحزاب التي لم تتسلم السلطة ولم تمارسها مسؤولية من أدار البلد ومسؤولية خيارات وقرارات من حكموا تونس منذ سنة 2011 وأساؤوا حكمها.
لا أعتقد بتاتا في انعدام نهائي للثقة بين الناخبين والمنظومة الحزبية ولو حصلت انتخابات غدا فيصوّت الناخبون للأحزاب مرة أخرى فليست كلها مسؤولة عن تردي الوضع وتعفنه. كما أن وجودها ضروري لتأطير المواطنين في أية ديمقراطية مثلها مثل النقابات والجمعيات وإلا فسنجد أنفسنا أمام تنظيمات فاشية خطيرة تملأ الفراغ وتلغي الانتخابات والاقتراع الشعبي ولا أعتقد بصراحة أن هذا ما يخطط له رئيس الجمهورية فعلا.
*ماهو أفضل نظام اقتراع يمكن أن يلاءم مع المرحلة الحالية التي تمر بها تونس، وكيف تنظر إلى مشروع "النظام المجالسي القاعدي" الذي يشاع أن الرئيس سعيد يعتزم اعتماده كنظام انتخابي جديد؟
طبعا تقصد بسؤالك التطرق لموضوع الحملات التفسيرية التي يدعي بعضها العمل في إطار برنامج رئيس الجمهورية والتي تجد حظوة كبيرة لدى بعض وسائل الإعلام. لا أريد الحكم على النوايا ولم أستمع لرئيس الجمهورية منذ توليه منصبه يتبنى تلك النظريات مع أنه لم يسع إلى نفي علاقته بها. ولكن أعتقد أن أغلب ما يتم التحدث عنه غير قابل للتطبيق وربما لا يعلم رواد تلك الحملات مدى صعوبة التوفيق بين النظريات الحالمة والواقع على الأرض.
وربما أنصح في هذا الإطار بدراسة موضوع تقسيم الدوائر الانتخابية منذ الاستقلال بعناية والبحث في تاريخ الصعوبات التي كان يواجهها الحزب الحاكم الأوحد سابقا وهو في أوج قوته في فترة حكم مطلق لتصعيد مرشح لرئاسة بلدية أو لعضوية مجلس النواب لا يثير اختياره الحساسية حسب انتمائه للعرش أو العائلة في المناطق التي لا توجد فيها عروش في ظل اعتراضات لا تحصى ولا تعد.
فليبحثوا عن الطرق التي اعتمدها الحزب والنظام للتعامل بين موازين القوى على الأرض وعن اضطراره في بعض الأحيان لإتباع حلول توافقية اضطرارية كالتخلي عن مرشحه الأصلي أو إرفاقه بنائب من الطرف المقابل أو ترضية الغاضبين بمنصب والٍ أو معتمد. بذلك فقط قد ينزل البعض برجليه على الأرض ويفهم أنه لا يمكن حكم تونس بالنظريات مهما كانت جيدة وأن حكم تونس ليس بالسهولة التي يتصورونها وأن أي مشروع ولو كان مشروع رئيس الجمهورية لا يمكن تطبيقه إن لم يكن واقعيا. وربما يكمن الحل في اعتماد نظام انتخاب مكشوف الوجه كنظام الانتخاب على الأفراد على دورتين لإنهاء الجدل وكحل وسط بين نظام الانتخاب على القائمات ذات القناع وفكرة البناء القاعدي التي يروج لها البعض ويصعب تطبيقها.
*هناك من يرى أن الصراع السياسي في المرحلة المقبلة سيقتصر على مشروع سعيد مقابل مشروع عبير موسي بما أنهما يتصدران نتائج سبر الآراء.. هل أنت مع هذا الرأي.. ولماذا؟
اعتقدت منذ فترة طويلة أن قيس سعيّد وعبير موسي متحالفان سرا وسيتحالفان في أية انتخابات مقبلة بترشيح سعيد لرئاسة الدولة وترشيح موسي لرئاسة الحكومة وفق ما يسمح به النظام السياسي النابع عن دستور 2014، إذ لم أجد صراحة طيلة سنتين من المتابعة ما يفرق بينهما من حيث الخطوط العريضة وفي بعض التفاصيل. وأتساءل إلى اليوم عن مسببات الصراع الذي تحول إلى حرب مفتوحة بين أنصارهما بعد 25 جويلية وهما الطرفان الأساسيان اللذان يدافعان عن الدولة الوطنية ويرفضان التدخلات الخارجية وارتهان الدولة التونسية للأطراف الأجنبية على خلاف السياسات المتبعة من طرف حركة النهضة ومن تحالف معها.
وقد لاحظت أن ما يجمعهما في الواقع أكثر مما يفرقهما بقطع النظر عن الحرب الكلامية، مما يجعل الحرب الباردة بينهما لا تعدو أن تخرج في نظري عن منافسة سياسية خرجت عن إطارها الطبيعي وقد غذتها إجراءات 25جويلية التي جعلت اعتماد تونس النظام الرئاسي أقرب من المحافظة على النظام السياسي الحالي.
في الواقع هنالك مشروعان سياسيان في المرحلة المقبلة يمكن أن يشكلا محورا لصراع سياسي محتدم، مشروع السيادة الوطنية ومشروع الارتهان للخارج الذي جربناه طيلة عشر سنوات. وعليه لا أعتقد أن الصراع سينحصر في المستقبل بين قيس سعيد وعبير موسي اللذان يشكلان كلٌّ بمفرده خطرا قاتلا على المشروع المنافس المدعوم أجنبيا وقبل إنهاء ذلك المشروع المستهدف للشخصية التونسية.
أما إن زالت المخاطر فمن الطبيعي أن يتنافسا وأن يعبر سعيد عن مشروع بنفس محافظ وأن تعبر موسي عن مشروع بنفس أقل محافظة ولكن يبقى التونسيون في حاجة إلى مشروع تقدمي حقيقي يخلق التوازن ويسمح للمواطن التونسي بالاختيار.
أما عن موضوع عمليات سبر الآراء فلا أصدق ما تتحفنا به الشركات المنتجة له كثيرا خصوصا إن كان توجيها المتلقي واضحا وأعتقد أنه من الواجب إصدار مرسوم ينظم مثل تلك العمليات في إطار منفرد أو في إطار إصلاحات عامة سياسية وقانونية للحد من آثارها السلبية.
هناك من يرى أن الإصلاحات السياسية والقانونية التي يعتزم سعيد تنفيذها يجب أن تشمل الإطار التشريعي لهيئة الانتخابات. هل تؤيد هذا الرأي، وكيف يمكن تنقيح القانون الأساسي للهيئة، وفي أي اتجاه؟
من الضروري تنقيح قانون هيئة الانتخابات انطلاقا من المرسوم عدد27 لسنة 2011 ويجب التخلي عن القانون الحالي الذي أهلك الهيئة وجعلها تفقد استقلاليتها وتخضع لمحاصصة حزبية محزنة أثّرت على أدائها وعلى مجريات الانتخابات التي أدارتها منذ 2014.
على أن الإصلاحات لا يجب أن تقتصر على القانون المنظم للهيئة رغم أهميته إذ من الصعب الحديث عن الإصلاح في بلد ما طالما لم يتم تشخيص الأمراض والعلل التي أصابته.
على المستوى السياسي دخلت تونس تجربة مريرة امتدت لما يفوق العشر سنوات سميت بتجربة الانتقال الديمقراطي. ربما كان خطأ كبيرا أن يتم الاقتصار على الانتقال السياسي دون أن يصاحبه انتقال اقتصادي وثقافي واجتماعي. كان ذلك ليخلق البيئة المناسبة لإنجاح التجربة السياسية والتحول إلى ديمقراطية حقيقية. تعطلت التجربة وبانت دلائل فشلها منذ سنوات طويلة، منذ أصبحت الانتخابات مجرد واجهة لا تعبر عن حقيقة التردي الذي وصلته الأمور وإن لم يتم الإعلان عن الفشل رسميا سوى يوم 25جويلية2021.
وإذا ما أردنا فعلا تعديل الأوضاع واستئناف العملية الديمقراطية التي توقفت بعد صدور أمر 22 سبتمبر 2021 فما علينا إلا عدم الاقتصار على ترقيعات للنظام السياسي وللنظام الانتخابي أو قانون هيئة الانتخابات والخوض في الأصل.
*ماذا لو عُرض عليك أن تكون عضوا أو رئيسا لهيئة انتخابات جديدة؟
سأرفض طبعا كما رفضت من قبل.
*كيف ترد على من يعتقد أن وزارة الداخلية يمكنها تولي زمام تنظيم الانتخابات؟
وهل قامت الداخلية طيلة تاريخها بتنظيم الانتخابات في تونس؟ جميع الانتخابات التي جرت منذ الاستقلال إلى 2009كانت بإشراف من الحزب الحاكم وبتنفيذ من الولاة والمعتمدين والعمد التابعين له ولم يسبق لوزارة الداخلية تنظيم الانتخابات ولا خبرة لها في ذلك بل تولت في جميع المحطات الإعلان عن نتائجها شكليا.
من يطالب بإشراف الداخلية على الانتخابات كمن يطالب بإعادة الحزب الاشتراكي الدستوري للإشراف عليها أو كمن يطالب بمنح الإشراف عليها لوزارة الداخلية كغطاء لحزب لا نعلم اسمه. أعتبر نظرية إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات نظرية سخيفة مع احترامي لأصحابها ولو أني لن أقبل شخصيا تولي الوزارة إدارة الانتخابات إذ لم يخبرنا أحد عن تعافيها من الاختراق ومن الأمن الموازي وخلوها من الغرف السوداء وإن أخبرنا أحد فلن نصدقه.
أفضل تولي هيئة الانتخابات بعد إصلاحها وتغيير هيكلتها الإشراف على تنظيم الانتخابات ويمكن للطمأنة ولمراقبتها، إنشاء لجنة تقنية تشرف على الإصلاحات المطلوبة لها ولمراقبة أعمالها وإصدار توصيات بشأنها.
*أين وصلت مشاورات اتحاد الشغل مع خبراء القانون والاقتصاد، لتنقيح القانون الانتخابي وتعديل الدستور؟..
تقدمت الأشغال في لجنة الإصلاح السياسي التي أتشرف بعضويتها ووصلنا إلى مقترحات وتوجهات مهمة ثم توقفت أشغالها فجأة ولا زلنا ننتظر استئنافها أو الإعلان عن عدم الحاجة لتواصل جلساتها.
*ماهي التنقيحات الضرورية التي وجب القيام بها فورا لتنقية منظومة الانتخابات من وجهة نظرك؟
يجب التخلي عن الجانب النظري والتطرق إلى ما أنتجته قوانين وممارسات على أرض الواقع من مشاكل رئيسية حصلت ولم يكن للدستور دور مؤثر في بعضها وكانت ستحدث مهما كان نوع الدستور الذي يحكمنا. وقد ساهمتْ في تدمير مسار الانتقال إلى الديمقراطية بقطع النظر عمن يحكم وعن كيفية وصوله للحكم.
وهنا تتوفر لدينا معطيات مثبتة حول وجود منظومات كاملة مختلة عطلت المسار الانتقالي وساهمت مع المعطى السياسي والدستوري في الإجهاز عليه وهي خاصة المنظومة القضائية والمنظومة الانتخابية ومنظومة الحكم ومنظومة الإعلام. لا يمكن إصلاح منظومة الانتخابات بدون إصلاحات تشمل كامل المنظومات الأخرى.
*ألا يعتبر تكليف سعيّد وزيرة العدل بإعداد مرسوم لتنقيح قانون المجلس الأعلى للقضاء تدخلا في الشأن القضائي أم خطوة لا بد منها؟
يجب إصلاح مفهوم العدالة، لقد تضررت تونس من الإصلاحات الوهمية التي ركزت على القضاء لتمنحه سلطة تفوق سلطة الدولة وأخرجته من نطاق المراقبة والمحاسبة والتقييم والمراجعة. يجب إصلاحا كاملا لمنظومة العدالة بمختلف مكوناتها والتخلي عن حلبات الصراع القطاعي وأولها المجلس الأعلى للقضاء بشكله الحالي.
يجب إعادة المجلس الأعلى للقضاء لسلطة الدولة وإيجاد صيغة تكفل إصلاح الجهاز القضائي وتطويره بدون خلق دولة داخل الدولة. والإصلاح يجب أن يشمل جميع القطاعات القضائية المتخلفة والتي تسحق المواطن التونسي وتجعل تكلفة الحصول على الحق أرفع من الحق ذاته. لا معنى للإصلاح بدون الارتقاء بكامل المنظومة إلى مستوى المعايير الدولية ولا معنى لإصلاح يجلب المنافع والامتيازات للقطاعات الكبرى ويغفل البقية، فعدالة الإشهاد مثلا تنتظر منذ سنة 1994 إصلاحات حقيقية تقر القوة التنفيذية للعقود على غرار أغلب المنظومات القانونية العالمية، وهو إجراء من شأنه التخفيف من العدد الرهيب من القضايا لدى المحاكم وترفض وزارة العدل اعتماده نتيجة لضغوط قطاعية مقيتة. كما أن قطاع الخبراء العدليين مثلا يمثل كارثة بكل المقاييس لما يشهده من انعدام كفاءة وتدخلات وتلاعب ورشاوى وفساد لا يصدق.
إن المنظومة القضائية التونسية تمثل خطرا محدقا بالشعب التونسي من الناحية السياسية والاقتصادية وفي الجانب السياسي لا يمكن إصلاح أي شيء بدون إصلاح عميق للجهاز القضائي. ولا أتحدث عن سلطة قضائية بل عن جهاز من أجهزة الدولة دوره تطبيق القانون على الجميع وليس من بين أدواره لا الاشتغال في السياسة ولا منافسة السلط الحقيقية في البلاد من تنفيذية وتشريعية. ومن المفارقات أن دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958 وهي من أعرق الديمقراطيات تفطن لهذه النقطة ولم يتحدث عن سلطة قضائية Pouvoir Judiciaire بل عن جهاز َAutorité Judiciaire جعله أدنى من سلطة وأكثر من مرفق عام. أما القضاء الإداري فلم يرتق لديها حتى إلى تلك المرتبة وهو قضاء الإدارة التي تحاكم نفسها. ولا أظن أن أحدا في هذا العالم قادر على الإدعاء بأن حال العدالة في فرنسا أسوأ من حالها في تونس أو أنه لميتمكن من أداء الدور المكفول له ضمن دستور الجمهورية الفرنسية.
من واجب الرئيس إن كانت له فعلا نية الإصلاح فك سطوة القطاعات على المنظومة القضائية والسعي إلى إصلاحها جذريا وفي أسرع وقت لإنقاذ المواطن والدولة من براثنها.
رفيق بن عبد الله
تونس- الصباح
اعتبر سامي بن سلامة العضو السابق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات (2011-2012) أن نظرية إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات سخيفة. وقال إن من يطالب بإشراف الداخلية على الانتخابات كمن يطالب بإعادة الحزب الاشتراكي الدستوري للإشراف عليها أو كمن يطالب بمنح الإشراف عليها لوزارة الداخلية كغطاء لحزب لا نعلم اسمه.
وقال في حوار مطول لـ"الصباح" أن من الأفضل الإبقاء على مهمة تنظيم الانتخابات لهيئة الانتخابات الحالية، بعد إصلاحها وتغيير هيكلتها على قاعدة تنقيح المرسوم 27 لسنة 2011، والتخلي عن القانون الحالي الذي "أهلك الهيئة وجعلها تفقد استقلاليتها وتخضع لمحاصصة حزبية أثّرت على أداءها وعلى مجريات الانتخابات التي أدارتها منذ 2014."
وكشف بن سلامة أنه كان يعتقد أن قيس سعيّد وعبير موسي متحالفان سرّا وسيتحالفان في أية انتخابات بترشيح سعيّد لرئاسة الدولة وترشيح موسي لرئاسة الحكومة. وقال "ما يجمع سعّيد وموسي أكثر مما يفرقهما و"الحرب" بينهما لا تعدو أن تخرج عن منافسة سياسية".
وقال أيضا إن مشكل تونس لم يكن في برلمان منتخب أو في وجود أحزاب سياسية بل في ثغرات الدستور والتحايل في تطبيق القوانين واستغلالها لتحقيق غايات سياسية وحزبية ضيقة، مشددا على أن أي مشروع سياسي ولو كان مشروع رئيس الجمهورية لا يمكن تطبيقه إن لم يكن واقعيا. مؤكدا على أن فكرة البناء القاعدي التي يروج لها البعض يصعب تطبيقها، والحل في اعتماد نظام انتخاب مكشوف الوجه كنظام الانتخاب على الأفراد على دورتين. وهو يرى أن المنظومة القضائية الحالية في حاجة إلى إصلاحات جذرية قبل المخاطرة بمحاكمة الإرهابيين والمفسدين، وفق تعبيره.
في ما يلي نص الحوار:
*كيف تقيم المشهد السياسي الراهن؟
المشهد تغيّر كثيرا منذ 25 جويلية2021، أراقب كغيري وأجد صعوبة في تحديد ملامحه والتعرف على لاعبيه الأساسيين ومواقعهم وإن كانت خلفيّة. لا أدري إن كان انقشاع الضباب تدريجيا سيمكننا من الأمل في تغيير حقيقي ودائم، إذ لم يتم تحديد المسؤوليات ولا تحميلها لمن أخفق ومن أجرم طيلة العشرية الفارطة، عَجَز البلد حتى عن إطلاق محاسبة سياسية حقيقية في الفضاء العام أو في وسائل الإعلام وبعضها يفرض على التونسيين التطبيع مع الفشل والرداءة والإجرام.
ما يزيد الطين بلة عدم إطلاق محاسبة قضائية عن سنوات الإجرام والتخريب الاقتصادي والمجتمعي والتكفير والإرهاب واختراق الدولة والمجتمع، ولا يبدو أنها ممكنة حاليا. إذ يبدو من الجليّ أن جهاز القضاء غير متحمس لتتبع من أجرم حقيقة في حق تونس بينما يسارع إلى محاكمة شباب الأحياء وقد سلطت على قرابة الألفين منهم أحكام قاسية بسرعة رهيبة إثر احتجاجات جانفي الماضي وكذلك على الناشطين والمعارضين وأخيرا المربين بتهم ملفقة أو واهية.
وعلى كل حال بات الكثير من التونسيين يطالبون بإصلاحات فورية وجذرية للمنظومة القضائية بمختلف مكوناتها قبل المخاطرة بمحاكمة الإرهابيين والمفسدين في ظل الوضع القضائي الحالي الذي لم يسبق له مثيل منذ الاستقلال، إذ قد يحصل أولئك على البراءة ويفلتون من العقاب ويتم إنكار العدالة ولن يتسنى محاكمتهم مرة أخرى مما سيؤدي إلى رسكلة المفسدين والإرهابيين وإعادتهم إلى المشهد.
*إذن، أنت تؤيد مسار 25 جويلية؟
لقد قتلت حركة النهضة المتاجرة بكل القيم الثورة وأجهزت على مسار الانتقال الديمقراطي، إذ أن انحرافاتها وخططها لضرب الديمقراطية لم تسمح بولادة ديمقراطية حقيقية ومشهد سياسي تعددي ومتوان. إعلان 25 جويلية كان أكثر من ضروري لمستقبل تونس وأظن أنه لم يكن من الحكمة ترك الأوضاع تتعفن أكثر ولولا لجوء الرئيس إلى الفصل 80 في الوقت المناسب لكان هو بذاته أول ضحايا الانفجار القادم. يبقى أن مساندتي للمسار تبقى نقدية طالما لم تتضح الرؤية تماما إذ لديّ بعض التساؤلات والملاحظات ولكنني أعتبر أن أمام تونس فرصة حقيقية وما على رئيس الجمهورية سوى استغلالها.
*وماهي تحفظاتك على القرارات والإجراءات التي اتخذها الرئيس سعيّد بما فيها مضمون المرسوم 117؟
لا أعتقد أنه يمكن حكم الشعوب والدول بالإجراءات الاستثنائية ولا بقوانين الطوارئ التي تكون عادة معادية في جوهرها للحرية وللديمقراطية، إذ أنها تسمح بتركيز السلطات بيد واحدة مما يولد خشية مشروعة من تحول الاستثناء إلى قاعدة بطول المدة مما يؤدي إلى التخلي عن حلم الديمقراطية.
كنت أفضل إحداث مجلس استشاري يحل محل مجلس النواب في مناقشة مشاريع المراسيم وإعدادها عوض إشغال مجلس الوزراء بقضايا تشريعية وكان ذلك ليعتبر خطوة سياسية مهمة داخليا وخارجيا وانفتاحا واضحا على القوى الوطنية الرافضة لعودة البرلمان المعلق ووردا على الاتهامات بالميل نحو الحكم الفردي.
تحفظاتي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الإنتاج الروائي لمن فقدوا حظوتهم أو سطوتهم أو امتيازاتهم ومن يحاولون تعطيل المحاسبة الحقيقية وإن كنت مهتما بمعرفة المدة الحقيقية لسريان التدابير الاستثنائية إذ أطالب بإنهائها سريعا.
حسب رأيك متى يمكن أن تنتهي الفترة الاستثنائية وإنهاء العمل بالفصل 80 من الدستور؟
لا بد من التوضيح بأن المطالبة بإنهاء التدابير الاستثنائية سريعا لا يعني المطالبة بإنهاء للعمل بالفصل 80أو بالأمر 117أو بالعودة للبرلمان المعلق أو بإجراء انتخابات فورا. أرفض كأغلب التونسيين العودة للوضع السابق نهائيا وأفضل تحول تونس من المرحلة الاستثنائية إلى مرحلة انتقالية محددة المدة والأهداف تنتهي بالعودة إلى الشعب لأخذ رأيه.
وقد أختلف عن البعض في الاعتقاد بأنه لا يمكن أن تكون تلك المرحلة الانتقالية قصيرة جدا إذ لن تسمح بإصلاح جذري، ولا طويلة جدا فتكرس حكما مطلقا قد يكون دائما. الأفضل لتونس عدم التسرع وتفادي البطء واعتماد الواقعية والاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى لتحديد الفترة اللازمة لإصلاح الأوضاع والتأسيس لديمقراطية حقيقية وإجراء انتخابات في ظروف مناسبة والتي لا أعتقد أنها من المحبذ أن تتجاوز السنتين.
وهذه مدة طويلة نسبيا، لذلك لا أعتقد أنه من الممكن إطلاق مرحلة انتقالية جديدة بتلك المدة بدون بتشريك القوى الحية في البلاد وأخذ رأيها في الإصلاحات المطلوبة وفي المدة التي ستستغرقها.
*وكيف ترى الخطوات المقبلة التي يعتزم سعيّد القيام بها؟
الرئيس سعيّد سياسي غير تقليدي ومن الصعب التكهن بخطواته وبنسقها لكن عموما لا أعتقد أن أولوياته ستتجاهل حاجة التونسيين لإصلاحات تكرس مبدأ الفصل بين السلط وخضوعها لمراقبة السلط الأخرى وتقرّ فيه علوية السلطتين التنفيذية والتشريعية وتمكن من إقرار رقابة قانونية وسياسية على أعمال المرفق القضائي ويكرس له فيه وضع خاص واستقلالية لا تتحول إلى استقلال عن الدولة، وذلك لكي نتمكن من معالجة الآثار السلبية لفشل عملية الانتقال الديمقراطي التي كان من بين أهم أسبابها إخفاق القضاء في القيام بواجباته وتغليبه المصالح القطاعية والحزبية الضيقة على مصلحة البلاد.
تونس في حاجة إلى إصلاحات تقر نظاما سياسيا يعطي للمشروعية الانتخابية والشعبية حقها ويمنح من ينتخب انتخابا عاما ومباشرا سلطات مقابلة للتفويض الشعبي الذي يحصل عليه وتوحّد في إطاره السلطة التنفيذية ويُمتنع عن تشتيتها وتحدد فيه مسؤوليات وتتحقق من خلاله المساءلة والمحاسبة وتجبر فيه السلطات على التعايش مهما كانت الخلافات والأزمات وتلزم فيه على اعتماد آليات فصل النزاعات التي يوفرها الدستور وتبتعد فيه عن فكرة اللجوء إلى حلول فوق دستورية. وهي محتاجة للمزج بين التوازن السياسي والتعديل الانتخابي، إذ أنهما عنصران مترابطان إذ يشكل النظام الانتخابي عنصرا من أهم عناصر تحديد ملامح النظام السياسي.
لا يجب أن تقتصر مطالبتنا بالإصلاحات السياسية على شكل النظام في إطار الجمهورية ولكن علينا تجاوز ذلك إلى المطالبة بإصلاح ثغرات الدستور الحاليمن ناحية التطبيق وإن تم استبداله. وكذلك من ناحية المؤسسات حيث تبدو الحاجة ملحة لإنشاء غرفة ثانية للبرلمان للحد من تغوّل الغرفة الأولى في حال اخترنا التحول إلى نظام برلماني صريح أو التحول إلى نظام شبه رئاسي على النمط الفرنسي أو ربما اعتماد التجربة البرتغالية.
كما أن العودة إلى فكرة المجلس الاقتصادي والاجتماعي تبدو أكثر من ضرورية في وضعنا الحالي وهو ما قد يمكننا من الحد من العدد الكبير من الهيئات الدستورية وغير الدستورية ومن الاقتصار على المجلس المذكور مع الحفاظ على الهيئة التعديلية للسمعي البصري وهيئة انتخابية مستقلة وهيئة لحقوق الإنسان تجمع شتات بقية الهيئات المنتشرة هنا وهناك.
*هناك من يعتقد أن العودة إلى حياة سياسية عادية في تونس باتت صعبة بعد ترذيل البرلمان والأحزاب والتلويح بالاستغناء عنها.. فكيف يمكن إعادة بناء الثقة بين الناخبين والمنظومة الحزبية؟
لا يمكن التخلي عن الديمقراطية التمثيلية رغم الإشكاليات التي تطرحها والاستغناء بالتالي عن برلمان منتخب مباشرة من قبل الشعب أو إلغاء الأحزاب السياسية والهياكل الوسيطة بين الدولة والمجتمع من المشهد.
أعتقد أن إصلاحات سياسية وانتخابية وفرض تطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة وإلغاء نظام الامتيازات والإفلات من المحاسبة والعقاب كفيلة بتيسير العودة إلى حياة سياسية عادية. مشكل تونس لم يكن في وجود برلمان منتخب مباشرة أو في وجود أحزاب سياسية بل في ثغرات الدستور والتحايل في تطبيق القوانين وفي استغلال قوانين الجمهورية لتحقيق غايات سياسية وحزبية وفئوية ضيقة.
لا يمكن تحميل كافة الأحزاب السياسية مسؤولية إساءة حزب حركة النهضة ومن تحالف معه للديمقراطية وإجرامهم في حق الشعب التونسي. ولا يمكن تحميل جميع الأحزاب التي لم تتسلم السلطة ولم تمارسها مسؤولية من أدار البلد ومسؤولية خيارات وقرارات من حكموا تونس منذ سنة 2011 وأساؤوا حكمها.
لا أعتقد بتاتا في انعدام نهائي للثقة بين الناخبين والمنظومة الحزبية ولو حصلت انتخابات غدا فيصوّت الناخبون للأحزاب مرة أخرى فليست كلها مسؤولة عن تردي الوضع وتعفنه. كما أن وجودها ضروري لتأطير المواطنين في أية ديمقراطية مثلها مثل النقابات والجمعيات وإلا فسنجد أنفسنا أمام تنظيمات فاشية خطيرة تملأ الفراغ وتلغي الانتخابات والاقتراع الشعبي ولا أعتقد بصراحة أن هذا ما يخطط له رئيس الجمهورية فعلا.
*ماهو أفضل نظام اقتراع يمكن أن يلاءم مع المرحلة الحالية التي تمر بها تونس، وكيف تنظر إلى مشروع "النظام المجالسي القاعدي" الذي يشاع أن الرئيس سعيد يعتزم اعتماده كنظام انتخابي جديد؟
طبعا تقصد بسؤالك التطرق لموضوع الحملات التفسيرية التي يدعي بعضها العمل في إطار برنامج رئيس الجمهورية والتي تجد حظوة كبيرة لدى بعض وسائل الإعلام. لا أريد الحكم على النوايا ولم أستمع لرئيس الجمهورية منذ توليه منصبه يتبنى تلك النظريات مع أنه لم يسع إلى نفي علاقته بها. ولكن أعتقد أن أغلب ما يتم التحدث عنه غير قابل للتطبيق وربما لا يعلم رواد تلك الحملات مدى صعوبة التوفيق بين النظريات الحالمة والواقع على الأرض.
وربما أنصح في هذا الإطار بدراسة موضوع تقسيم الدوائر الانتخابية منذ الاستقلال بعناية والبحث في تاريخ الصعوبات التي كان يواجهها الحزب الحاكم الأوحد سابقا وهو في أوج قوته في فترة حكم مطلق لتصعيد مرشح لرئاسة بلدية أو لعضوية مجلس النواب لا يثير اختياره الحساسية حسب انتمائه للعرش أو العائلة في المناطق التي لا توجد فيها عروش في ظل اعتراضات لا تحصى ولا تعد.
فليبحثوا عن الطرق التي اعتمدها الحزب والنظام للتعامل بين موازين القوى على الأرض وعن اضطراره في بعض الأحيان لإتباع حلول توافقية اضطرارية كالتخلي عن مرشحه الأصلي أو إرفاقه بنائب من الطرف المقابل أو ترضية الغاضبين بمنصب والٍ أو معتمد. بذلك فقط قد ينزل البعض برجليه على الأرض ويفهم أنه لا يمكن حكم تونس بالنظريات مهما كانت جيدة وأن حكم تونس ليس بالسهولة التي يتصورونها وأن أي مشروع ولو كان مشروع رئيس الجمهورية لا يمكن تطبيقه إن لم يكن واقعيا. وربما يكمن الحل في اعتماد نظام انتخاب مكشوف الوجه كنظام الانتخاب على الأفراد على دورتين لإنهاء الجدل وكحل وسط بين نظام الانتخاب على القائمات ذات القناع وفكرة البناء القاعدي التي يروج لها البعض ويصعب تطبيقها.
*هناك من يرى أن الصراع السياسي في المرحلة المقبلة سيقتصر على مشروع سعيد مقابل مشروع عبير موسي بما أنهما يتصدران نتائج سبر الآراء.. هل أنت مع هذا الرأي.. ولماذا؟
اعتقدت منذ فترة طويلة أن قيس سعيّد وعبير موسي متحالفان سرا وسيتحالفان في أية انتخابات مقبلة بترشيح سعيد لرئاسة الدولة وترشيح موسي لرئاسة الحكومة وفق ما يسمح به النظام السياسي النابع عن دستور 2014، إذ لم أجد صراحة طيلة سنتين من المتابعة ما يفرق بينهما من حيث الخطوط العريضة وفي بعض التفاصيل. وأتساءل إلى اليوم عن مسببات الصراع الذي تحول إلى حرب مفتوحة بين أنصارهما بعد 25 جويلية وهما الطرفان الأساسيان اللذان يدافعان عن الدولة الوطنية ويرفضان التدخلات الخارجية وارتهان الدولة التونسية للأطراف الأجنبية على خلاف السياسات المتبعة من طرف حركة النهضة ومن تحالف معها.
وقد لاحظت أن ما يجمعهما في الواقع أكثر مما يفرقهما بقطع النظر عن الحرب الكلامية، مما يجعل الحرب الباردة بينهما لا تعدو أن تخرج في نظري عن منافسة سياسية خرجت عن إطارها الطبيعي وقد غذتها إجراءات 25جويلية التي جعلت اعتماد تونس النظام الرئاسي أقرب من المحافظة على النظام السياسي الحالي.
في الواقع هنالك مشروعان سياسيان في المرحلة المقبلة يمكن أن يشكلا محورا لصراع سياسي محتدم، مشروع السيادة الوطنية ومشروع الارتهان للخارج الذي جربناه طيلة عشر سنوات. وعليه لا أعتقد أن الصراع سينحصر في المستقبل بين قيس سعيد وعبير موسي اللذان يشكلان كلٌّ بمفرده خطرا قاتلا على المشروع المنافس المدعوم أجنبيا وقبل إنهاء ذلك المشروع المستهدف للشخصية التونسية.
أما إن زالت المخاطر فمن الطبيعي أن يتنافسا وأن يعبر سعيد عن مشروع بنفس محافظ وأن تعبر موسي عن مشروع بنفس أقل محافظة ولكن يبقى التونسيون في حاجة إلى مشروع تقدمي حقيقي يخلق التوازن ويسمح للمواطن التونسي بالاختيار.
أما عن موضوع عمليات سبر الآراء فلا أصدق ما تتحفنا به الشركات المنتجة له كثيرا خصوصا إن كان توجيها المتلقي واضحا وأعتقد أنه من الواجب إصدار مرسوم ينظم مثل تلك العمليات في إطار منفرد أو في إطار إصلاحات عامة سياسية وقانونية للحد من آثارها السلبية.
هناك من يرى أن الإصلاحات السياسية والقانونية التي يعتزم سعيد تنفيذها يجب أن تشمل الإطار التشريعي لهيئة الانتخابات. هل تؤيد هذا الرأي، وكيف يمكن تنقيح القانون الأساسي للهيئة، وفي أي اتجاه؟
من الضروري تنقيح قانون هيئة الانتخابات انطلاقا من المرسوم عدد27 لسنة 2011 ويجب التخلي عن القانون الحالي الذي أهلك الهيئة وجعلها تفقد استقلاليتها وتخضع لمحاصصة حزبية محزنة أثّرت على أدائها وعلى مجريات الانتخابات التي أدارتها منذ 2014.
على أن الإصلاحات لا يجب أن تقتصر على القانون المنظم للهيئة رغم أهميته إذ من الصعب الحديث عن الإصلاح في بلد ما طالما لم يتم تشخيص الأمراض والعلل التي أصابته.
على المستوى السياسي دخلت تونس تجربة مريرة امتدت لما يفوق العشر سنوات سميت بتجربة الانتقال الديمقراطي. ربما كان خطأ كبيرا أن يتم الاقتصار على الانتقال السياسي دون أن يصاحبه انتقال اقتصادي وثقافي واجتماعي. كان ذلك ليخلق البيئة المناسبة لإنجاح التجربة السياسية والتحول إلى ديمقراطية حقيقية. تعطلت التجربة وبانت دلائل فشلها منذ سنوات طويلة، منذ أصبحت الانتخابات مجرد واجهة لا تعبر عن حقيقة التردي الذي وصلته الأمور وإن لم يتم الإعلان عن الفشل رسميا سوى يوم 25جويلية2021.
وإذا ما أردنا فعلا تعديل الأوضاع واستئناف العملية الديمقراطية التي توقفت بعد صدور أمر 22 سبتمبر 2021 فما علينا إلا عدم الاقتصار على ترقيعات للنظام السياسي وللنظام الانتخابي أو قانون هيئة الانتخابات والخوض في الأصل.
*ماذا لو عُرض عليك أن تكون عضوا أو رئيسا لهيئة انتخابات جديدة؟
سأرفض طبعا كما رفضت من قبل.
*كيف ترد على من يعتقد أن وزارة الداخلية يمكنها تولي زمام تنظيم الانتخابات؟
وهل قامت الداخلية طيلة تاريخها بتنظيم الانتخابات في تونس؟ جميع الانتخابات التي جرت منذ الاستقلال إلى 2009كانت بإشراف من الحزب الحاكم وبتنفيذ من الولاة والمعتمدين والعمد التابعين له ولم يسبق لوزارة الداخلية تنظيم الانتخابات ولا خبرة لها في ذلك بل تولت في جميع المحطات الإعلان عن نتائجها شكليا.
من يطالب بإشراف الداخلية على الانتخابات كمن يطالب بإعادة الحزب الاشتراكي الدستوري للإشراف عليها أو كمن يطالب بمنح الإشراف عليها لوزارة الداخلية كغطاء لحزب لا نعلم اسمه. أعتبر نظرية إشراف وزارة الداخلية على الانتخابات نظرية سخيفة مع احترامي لأصحابها ولو أني لن أقبل شخصيا تولي الوزارة إدارة الانتخابات إذ لم يخبرنا أحد عن تعافيها من الاختراق ومن الأمن الموازي وخلوها من الغرف السوداء وإن أخبرنا أحد فلن نصدقه.
أفضل تولي هيئة الانتخابات بعد إصلاحها وتغيير هيكلتها الإشراف على تنظيم الانتخابات ويمكن للطمأنة ولمراقبتها، إنشاء لجنة تقنية تشرف على الإصلاحات المطلوبة لها ولمراقبة أعمالها وإصدار توصيات بشأنها.
*أين وصلت مشاورات اتحاد الشغل مع خبراء القانون والاقتصاد، لتنقيح القانون الانتخابي وتعديل الدستور؟..
تقدمت الأشغال في لجنة الإصلاح السياسي التي أتشرف بعضويتها ووصلنا إلى مقترحات وتوجهات مهمة ثم توقفت أشغالها فجأة ولا زلنا ننتظر استئنافها أو الإعلان عن عدم الحاجة لتواصل جلساتها.
*ماهي التنقيحات الضرورية التي وجب القيام بها فورا لتنقية منظومة الانتخابات من وجهة نظرك؟
يجب التخلي عن الجانب النظري والتطرق إلى ما أنتجته قوانين وممارسات على أرض الواقع من مشاكل رئيسية حصلت ولم يكن للدستور دور مؤثر في بعضها وكانت ستحدث مهما كان نوع الدستور الذي يحكمنا. وقد ساهمتْ في تدمير مسار الانتقال إلى الديمقراطية بقطع النظر عمن يحكم وعن كيفية وصوله للحكم.
وهنا تتوفر لدينا معطيات مثبتة حول وجود منظومات كاملة مختلة عطلت المسار الانتقالي وساهمت مع المعطى السياسي والدستوري في الإجهاز عليه وهي خاصة المنظومة القضائية والمنظومة الانتخابية ومنظومة الحكم ومنظومة الإعلام. لا يمكن إصلاح منظومة الانتخابات بدون إصلاحات تشمل كامل المنظومات الأخرى.
*ألا يعتبر تكليف سعيّد وزيرة العدل بإعداد مرسوم لتنقيح قانون المجلس الأعلى للقضاء تدخلا في الشأن القضائي أم خطوة لا بد منها؟
يجب إصلاح مفهوم العدالة، لقد تضررت تونس من الإصلاحات الوهمية التي ركزت على القضاء لتمنحه سلطة تفوق سلطة الدولة وأخرجته من نطاق المراقبة والمحاسبة والتقييم والمراجعة. يجب إصلاحا كاملا لمنظومة العدالة بمختلف مكوناتها والتخلي عن حلبات الصراع القطاعي وأولها المجلس الأعلى للقضاء بشكله الحالي.
يجب إعادة المجلس الأعلى للقضاء لسلطة الدولة وإيجاد صيغة تكفل إصلاح الجهاز القضائي وتطويره بدون خلق دولة داخل الدولة. والإصلاح يجب أن يشمل جميع القطاعات القضائية المتخلفة والتي تسحق المواطن التونسي وتجعل تكلفة الحصول على الحق أرفع من الحق ذاته. لا معنى للإصلاح بدون الارتقاء بكامل المنظومة إلى مستوى المعايير الدولية ولا معنى لإصلاح يجلب المنافع والامتيازات للقطاعات الكبرى ويغفل البقية، فعدالة الإشهاد مثلا تنتظر منذ سنة 1994 إصلاحات حقيقية تقر القوة التنفيذية للعقود على غرار أغلب المنظومات القانونية العالمية، وهو إجراء من شأنه التخفيف من العدد الرهيب من القضايا لدى المحاكم وترفض وزارة العدل اعتماده نتيجة لضغوط قطاعية مقيتة. كما أن قطاع الخبراء العدليين مثلا يمثل كارثة بكل المقاييس لما يشهده من انعدام كفاءة وتدخلات وتلاعب ورشاوى وفساد لا يصدق.
إن المنظومة القضائية التونسية تمثل خطرا محدقا بالشعب التونسي من الناحية السياسية والاقتصادية وفي الجانب السياسي لا يمكن إصلاح أي شيء بدون إصلاح عميق للجهاز القضائي. ولا أتحدث عن سلطة قضائية بل عن جهاز من أجهزة الدولة دوره تطبيق القانون على الجميع وليس من بين أدواره لا الاشتغال في السياسة ولا منافسة السلط الحقيقية في البلاد من تنفيذية وتشريعية. ومن المفارقات أن دستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958 وهي من أعرق الديمقراطيات تفطن لهذه النقطة ولم يتحدث عن سلطة قضائية Pouvoir Judiciaire بل عن جهاز َAutorité Judiciaire جعله أدنى من سلطة وأكثر من مرفق عام. أما القضاء الإداري فلم يرتق لديها حتى إلى تلك المرتبة وهو قضاء الإدارة التي تحاكم نفسها. ولا أظن أن أحدا في هذا العالم قادر على الإدعاء بأن حال العدالة في فرنسا أسوأ من حالها في تونس أو أنه لميتمكن من أداء الدور المكفول له ضمن دستور الجمهورية الفرنسية.
من واجب الرئيس إن كانت له فعلا نية الإصلاح فك سطوة القطاعات على المنظومة القضائية والسعي إلى إصلاحها جذريا وفي أسرع وقت لإنقاذ المواطن والدولة من براثنها.