إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قيس سعيد الى أين: هل آن لأبي حنيفة أن يمد رجله؟

بقلم: مقداد اسعاد

 

  • تونس اليوم يحكمها قيس سعيد، هل هو قادر على أن يثني بعد إجراءات 25 بنجاح على المستويين السياسي والاقتصادي؟ لا شك أن الحدث كبير، لعمق التغيير وعظم الرجة التي أحدثها في تونس. صفحة برلمان عبير وراشد طويت غير مأسوف عنها، وفتح كتاب قيس سعيد المجهول المحتوى، وهو ما يخيف الكثيرين وأنا منهم. لا أحب أن أركب قطار لا أعلم له وجهة. أؤكد منطلقا رفضي لخيار قيس سعيد السياسي المجالسي التصعيدي من المحلي الى المركزي المغيّب للأحزاب وللبرلمان، المخالف لسيرورة البشرية، وأعتبر أن الديمقراطية في شكلها التمثيلي الكلاسيكي المعروف اليوم تكون على هناتها أفضل ما ابتكر الانسان. صحيح أن التجربة التونسية متعثرة لكنها تسير في الطريق الصحيح لبناء الدولة والمجتمع، وما عليها الا الصبر والمثابرة في هذا البناء التاريخي التجريبي الذي مهما طالت طريقه فإنه يبدأ من النقطة الواحدة، والسابقون السابقون على طريق الديمقراطية هم الناجحون في النهاية. أتمنى أن يغلب هذا الخيار الواقعي ما يدعو له قيس سعيد ويحمل البلاد حملا عليه، وذلك بتمطيط الفصل 80 من الدستور الى ما لا يحتمل، وبالتجاوزات والانتهاكات القانونية أيضا. وما تضخيمه لعدد المتظاهرين لتأييده الا دليل انحراف أكيد وخطير. سيد الرئيس لا يحق لك أن تسخر منا، أفق إن المتظاهرين يوم 03 أكتوبر المؤيدين لقراراتك لا يتجاوز عددهم الواحد في المائة من المليون وثماني مائة ألف متظاهر بحسب تصريحك، ولتعلم أن الاحترام بينك وبين الشعب متبادل يبدأ باحترام عقولنا..
  • هذا أما الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، فهو مخيف وسيتفاقم حتما، لكن بالتدريج. بدأ بارتفاع البطالة، تحت ثقل كوفيد 19 واخواتها، ثم سيأتي دور نقص المواد الغذائية والأدوية رغم غلائها، ومنها الى الطوابير على البنزين وغيره... أما الشعب فقد لا يلتفت الى القصبة وقرطاج وإنما سيهرع الى تأمين احتياجاته كل بما تيسر له، حتى بالخطف والسرقة عند بعضهم، وبالتسول عند اخرين والصبر لمن بقي منهم. أما المحيط فحدث ولا حرج، لا شك أن الفضلات ستعم الشوارع، وتغيب الدولة شيئا فشيئا.
  • هل يكون قيس سعيد أقدم على قرار 25 جويلية الخطير دون رؤية ولا تخطيط؟ أظن أن الرئيس لا يبالي بما يقول هذا وذاك، وقد تجاوز الى مرحلة جديدة بما أقدم عليه يوم 25 جويلية وما تبعه من أوامر رئاسية كدستور مؤقت بأمر 117، أو خارطة طريق على هواه... أسقط في أيدي خصومه وراحوا يرغون ويزبدون على الفضائيات التي وجدت مادة تملأ بها فراغها. قيس سعيد متجهم لا يبتسم، ووجد معارضوه في ذلك مادة حسبوها حجة ضده وأطلقوا صواريخهم المضادة عليه، لكنها لم تصبه ولم تنقص كثيرا من شعبيته. بقي يظهر بانتظام نكاية في خصومه الذين أغلق أمامهم احتمال العودة إلى الوراء، وظل يتقدم لا يبالي بالطلقات من أي نوع.
  • تفسيري لهذه الظاهرة أن قيس سعيد يتغذى من تجهّمه، من عدائيته الظاهرة، من ترذيله للطبقة السياسية التي أصبح الشعب التونسي وخاصة الشباب منه يحسب له فضل أخذ ثأر له منها بقي يتمناه من عشر سنين. وقد حبك حكام تونس اللعبة من أجل البقاء. شريحة كبرى من الشعب التونسي تحس بالعجز والغبن أمام هذا المخطط الشيطاني الجهنمي الذي في ظاهره ديمقراطي (دعاية) وفي حقيقته حكم عبث عضوض، وجهل وأنانية وفساد. ومن هذه الصورة الفاسدة لمعارضته يتغذى قيس سعيد.
  • معارضة قيس سعيد ضرورية ومشروعة، لكنها مثقلة بحمل وجوه منهية الصلاحية، تشبثت بالبقاء. وما لم تتحرر منها سيبقى تحركها دون جدوى رغم كثرة المشاركين فيه. وضع البلاد صعب اذ لا يمكن لرجل أن يختزل كل السلطات دون رقيب. والى حين أن يتحرر معارضو قيس سعيد من شرعيات ملطخة، فإن الأفق سيبقى مسدودا أمامها، كل ذلك والرئيس يصول وحده ويجول، وأمامه فسحة من الوقت ومجال حركة ومراوغة كبير، تغذيه وتوسعه طبقة سياسية داخلية وقوى خارجية عداءها وخوفها من النهضة وحلفائها أكبر من رفضها لقيس سعيد وشطحاته الفكرية وممارساته الغريبة. بل لعلهم جميعهم يجدون له أعذارا ويتمنون نجاحه في إزاحة ما يعتبرونه اخطبوطا لم تنفع معه مئات الاعتصامات والاضرابات والاحتجاجات. وضع ليس هناك أفضل منه لرئيس ينقلب على منظومة، لا يحتاج الى إراقة دماء، وتكفيه بعض التجاوزات القانونية مؤقتا مثل اعتقال صحفي قناة معارضة وعرضه على القضاء العسكري، يسكت زملاءه من الإعلاميين ومدعي النضال من أجل حقوق الانسان من الداخل والخارج... خلافا لما يتصور ويروج خصوم قيس سعيد، فالرجل في أريحية من أمره.
  • الخطة الاتصالية لقيس سعيد قد تكون أكثر نجاعة مما يحذر يصفها معارضوه، صحيح أنه دائم العبوس بما لم نتعود عليه وبما لا يليق بتصرف رئيس، فيغضب البعض ويعجب البعض، وهذا سر اعتماده على هكذا أسلوب من التواصل الإعلامي. كثيرون هم أولئك الذين يتفاعلون إيجابيا مع خطاباته العنيفة ومنهم من ينتشي، ويكتب على صفحات التواصل الاجتماعي نصا رديئا متخلّفا وبذيئا، لا يحترم الضوابط الأخلاقية واللغوية، لا شك أن دراسة اجتماعية علمية لهكذا ظاهرة ستكون صادمة للجميع. هذا أما الوزن الحقيقي لأنصار قيس سعيد فهو غير معروف، الرئيس يبقى على الغموض حوله ويتفادى أن ينزله الى الميزان ليبقى مبهما وحتى لا تظهر معرّاته بشعارات غير لائقة تفصح على توجه التيارات الفكرية والعقائدية الملتفة حول الرئيس، وأيضا مستوى مناصريه. قيس سعيد في الحقيقة ليس في حاجة للمسيرات والاستعراضات، والسلطة كل السلطة بيده، وهو يستفيد من ذاك الغموض حول حقيقة وزنه الشعبي، أما غياب الماكينة التنظيمية المتمرسة فهو العائق الكبير أمام استغلال الشارع. وإذا ما استغل قيس إمكانات الدولة في تحريك الشارع فلا شك أنه يخسر في النهاية، ويقلب قرار 25 جويلية الى انقلاب.

دفاع عن الرئيس

  • هذا أما الشق الذي يغضب من الخطاب المتجهّم لقيس سعيد، فهم ضحاياه المباشرون من الأحزاب. أنا مستقل، أحاول أن أجد فيما يقوم به الرئيس وجها إيجابيا، لكن غموضه المتعمد يخيفني، ولا ينطلي عليّ. أشك كثيرا في قدرته على ابتكار العجلة من جديد من "صنع تونسي". دافع عن الرئيس أحد المقربين إليه والداعمين له، وهو صديق لي أثق به، قال: أنتم تقوّلون السيد الرئيس ما لم يصرح به، وهو صاحب رؤية ومشروع وأعصاب صلبة، تجعله يسير الى انقاذ تونس بما يتطلبه الأمر وليس بما يريده معارضوه من منظمتي الحكم البائدتين لما قبل وبعد 2011 المتعاونتين. ويضيف هذا الصديق أن ما يسمى بالحشد الشعبي ليس غير فزاعة لن تثبت أمام واقع تونس المختلف عن لبنان والعراق، وأن الـتأويلات المختلفة لفكر وقناعات السيد الرئيس ليست مناورات وتخيلات مجانبة للصواب. خذ عني هذا الكلام، الشيء الثابت الوحيد عند السيد الرئيس أن مشروعه لا يتجاوز حماية الشعب من اللوبيات المالية والإعلامية وغيرها التي تمنع شبابه ونساءه وضعفاءه من المساهمة في تحديد سياسة البلاد بما يضمن العدالة والحق في الحياة الكريمة. قيس سعيد أنقذ تونس من انسداد خطير حبكته المنظومة الفاسدة التي لم تكتف باستغلال ثروات البلاد بل كل ثوابتها وحتى دينها الحنيف، وكونت بذاك الخليط حبكة جهنمية وضعت تونس أمام خطر وشيك، من أجل ذلك جاء قرار 25 جويلية بصفة مؤقتة، استثناء حتى توضع تونس على السكة. قيس سعيد لا يفرض مشروعا مجتمعيا ولا اديويولوجيا من أي نوع، هو خادم للشعب ويريده أن يكون سيد نفسه وصاحب قراره ومبتكر مشروعه كما يريده هو ولنفسه وليس كما يريده الرئيس بقناعات مسبقة. مشروع الرئيس هو تحرير التونسيين وكفي.
  • وجدتني أقول "آمين" مجاملة لصديقي وليس اقتناعا. لست أدري إن كان قيس سعيد سيكون ذاك الرجل الذي يثني على إجراءاته الجريئة تلك بقدرة على تسيير البلاد ومكافحة الفساد ودفع الاقتصاد. كل المؤشرات تشكك بشدة في ذلك، بل تنبئ بما هو خطير ومخيف والحمل ثقيل، لا شك أنه يحتاج الى قدرة على التسيير وتشبيك الطاقات الوطنية واستغلال الفرص المتاحة جهويا وعالميا، مع الحفاظ على الثوابت والإنجازات الهامة للثورة وفي مقدمتها الحرية والديمقراطية.
  • الديمقراطية ليست كاملة لكنها الأفضل بين مثيلاتها بين النظم السياسية، هكذا اعتبرها الوزير الأول البريطاني تشرتشل بطل الحرب العالمية الثانية والمنتصر على الدكتاتور هتلر. يعرفها بعضهم أنها حكم الشعب، وما الدولة في الحقيقة الا افراز لتدافع وإرادة وتوافق مجتمعي... في تونس لا أظن أن السيد الرئيس يقدر على ابتكار نظام سياسي جديد، خاصة بهذا التصرف الأحادي والمتسرع. ما يبشر به قيس سعيد من نظام حكم مصعد من الجهات بالإنتخاب على الافراد بشكل مباشر مفتت ومستقل، ستكون نتائجه وخيمة على الدولة التونسية بسيطرة العائلات المتنفذة وحلول الجهوية والعروشية محل المساواة في الفرص إضافة الى إضعاف الإدارة، وتراجع عصرنتها. وأيّـا ما كانت الحجج المؤيدة أو الرافضة لهكذا مشروع مجتمعي فان قيس سعيد ليس له الحق أن يعتمد على نتيجة انتخابات حرة تحت نظام متناقض تماما مع خياراته هذه، أو ما ضخمه بمائة مرة من حشود متظاهرة لتغيير نظام الحكم الى نقيضه. وذلك لسببين الأول قانوني أخلاقي يخصه هو، فهو لا يملك حق ما يعلنه، والثاني أن محاولته هذه ستبوء حتما بالفشل فهو لا يستطيع لي ذراع تونس اعتمادا على هكذا مغالطة. لا يحق لقيس أن يكسر السلم الذي به ارتقى الى أعلى هرم السلطة، وأيضا لا يحق له أن يعطي الدستور الذي أقسم عليه الى الأتان لتأكله. إن كان للرئيس مشروع مجتمع جديد فليترك قرطاج ويتفرغ له دعاية ومجادلة واقناعا، ويصبر عليه حتى لو بقي للأجيال اللاحقة.
  • هذا أما ما يعلنه قيس سعيد من أجندة حول المصالحة الاقتصادية وتشريك الشباب في الحوار، وما يروجه بحماسة كبيرة عن جدوى المصالحة الاقتصادية مع رجال أعمال "تائبين"، فإن هناك مبالغات كبيرة حول الموضوع، يشكك فيها المطلعون والمختصون. أولا عن حقيقة ما وضعت الدولة عليه اليد من ممتلكات. حدثني أحد المحاسبين كلفته الدولة بمتابعة أربعة من هؤلاء، أنه لما اطلع على الوثائق الخاصة بتلك الممتلكات بدت له كبيرة، لكنه لما ذهب لمعاينتها كانت مفاجأته كبيرة وقد وجدها غير ذات قيمة تذكر من الإهمال وخاصة بسبب تضخيم القيمة منطلقا لتقديمها كضمانات للبنوك وبتواطؤ مع القائمين عليها أصلا. هذا ثم ما معنى أن يأتي مستثمر ينتصب في قرية فقيرة بمشروع تنموي للصالح العام، مسيّـر كهذا سيشترط الاستقلالية لنجاح مهمته. وهو إن استقل أصبح من أعيان البلدة والفاعلين فيها وسرعان ما يأخذ مكانا بالفساد أكبر من الذي كان له قبل الثورة. أما مراقبته من المجتمع المدني وأبناء الجهة فهي عملية صعبة وبدون جدوى.
  • ما يبشر به الرئيس ليس دعما للدولة بل خطر عليها. نحن اليوم في عالم يتطور بزيادة الحكامة في التسيير، باستعمال نظريات جديدة فاعلة وناجعة، في جو من التنافسية العالمية. مشروع الرئيس يرجع بالدولة الى الوراء، الى طرق تسيير بدائية، تتعطل مع انطلاقها. يكفي للتوانسة أنهم مثلوا للأنظمة المتعاقبة فئران تجارب أو أيتاما يتعلم أصحاب القرار فيهم الحجامة. الشيء الذي يمكن للرئيس تحقيقه، وقد يكون الهدف الحقيقي من كل هذه الزوبعة هو تأسيس ماكينة (حزبية) تنظيمية غائبة اليوم عنه. لا شك أن لجانا ستجد إطار تكوينها بإرادة وتمويل وأدوات حكومية، لغاية في نفس يعقوب وليس لصالح الشعب.

سيدي الرئيس الشعب ممتن لك أن رآك تريحه من وجوه كالحة لم تستح ومازالت تطلّ طمعا في البقاء، لكنه لم يعطك صكا على بياض لتحدد له وحدك وجهته. تونس "صعبة" وقد برهنت أنها لا تُغلب...

 

         قيس سعيد الى أين: هل آن لأبي حنيفة أن يمد رجله؟

بقلم: مقداد اسعاد

 

  • تونس اليوم يحكمها قيس سعيد، هل هو قادر على أن يثني بعد إجراءات 25 بنجاح على المستويين السياسي والاقتصادي؟ لا شك أن الحدث كبير، لعمق التغيير وعظم الرجة التي أحدثها في تونس. صفحة برلمان عبير وراشد طويت غير مأسوف عنها، وفتح كتاب قيس سعيد المجهول المحتوى، وهو ما يخيف الكثيرين وأنا منهم. لا أحب أن أركب قطار لا أعلم له وجهة. أؤكد منطلقا رفضي لخيار قيس سعيد السياسي المجالسي التصعيدي من المحلي الى المركزي المغيّب للأحزاب وللبرلمان، المخالف لسيرورة البشرية، وأعتبر أن الديمقراطية في شكلها التمثيلي الكلاسيكي المعروف اليوم تكون على هناتها أفضل ما ابتكر الانسان. صحيح أن التجربة التونسية متعثرة لكنها تسير في الطريق الصحيح لبناء الدولة والمجتمع، وما عليها الا الصبر والمثابرة في هذا البناء التاريخي التجريبي الذي مهما طالت طريقه فإنه يبدأ من النقطة الواحدة، والسابقون السابقون على طريق الديمقراطية هم الناجحون في النهاية. أتمنى أن يغلب هذا الخيار الواقعي ما يدعو له قيس سعيد ويحمل البلاد حملا عليه، وذلك بتمطيط الفصل 80 من الدستور الى ما لا يحتمل، وبالتجاوزات والانتهاكات القانونية أيضا. وما تضخيمه لعدد المتظاهرين لتأييده الا دليل انحراف أكيد وخطير. سيد الرئيس لا يحق لك أن تسخر منا، أفق إن المتظاهرين يوم 03 أكتوبر المؤيدين لقراراتك لا يتجاوز عددهم الواحد في المائة من المليون وثماني مائة ألف متظاهر بحسب تصريحك، ولتعلم أن الاحترام بينك وبين الشعب متبادل يبدأ باحترام عقولنا..
  • هذا أما الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي، فهو مخيف وسيتفاقم حتما، لكن بالتدريج. بدأ بارتفاع البطالة، تحت ثقل كوفيد 19 واخواتها، ثم سيأتي دور نقص المواد الغذائية والأدوية رغم غلائها، ومنها الى الطوابير على البنزين وغيره... أما الشعب فقد لا يلتفت الى القصبة وقرطاج وإنما سيهرع الى تأمين احتياجاته كل بما تيسر له، حتى بالخطف والسرقة عند بعضهم، وبالتسول عند اخرين والصبر لمن بقي منهم. أما المحيط فحدث ولا حرج، لا شك أن الفضلات ستعم الشوارع، وتغيب الدولة شيئا فشيئا.
  • هل يكون قيس سعيد أقدم على قرار 25 جويلية الخطير دون رؤية ولا تخطيط؟ أظن أن الرئيس لا يبالي بما يقول هذا وذاك، وقد تجاوز الى مرحلة جديدة بما أقدم عليه يوم 25 جويلية وما تبعه من أوامر رئاسية كدستور مؤقت بأمر 117، أو خارطة طريق على هواه... أسقط في أيدي خصومه وراحوا يرغون ويزبدون على الفضائيات التي وجدت مادة تملأ بها فراغها. قيس سعيد متجهم لا يبتسم، ووجد معارضوه في ذلك مادة حسبوها حجة ضده وأطلقوا صواريخهم المضادة عليه، لكنها لم تصبه ولم تنقص كثيرا من شعبيته. بقي يظهر بانتظام نكاية في خصومه الذين أغلق أمامهم احتمال العودة إلى الوراء، وظل يتقدم لا يبالي بالطلقات من أي نوع.
  • تفسيري لهذه الظاهرة أن قيس سعيد يتغذى من تجهّمه، من عدائيته الظاهرة، من ترذيله للطبقة السياسية التي أصبح الشعب التونسي وخاصة الشباب منه يحسب له فضل أخذ ثأر له منها بقي يتمناه من عشر سنين. وقد حبك حكام تونس اللعبة من أجل البقاء. شريحة كبرى من الشعب التونسي تحس بالعجز والغبن أمام هذا المخطط الشيطاني الجهنمي الذي في ظاهره ديمقراطي (دعاية) وفي حقيقته حكم عبث عضوض، وجهل وأنانية وفساد. ومن هذه الصورة الفاسدة لمعارضته يتغذى قيس سعيد.
  • معارضة قيس سعيد ضرورية ومشروعة، لكنها مثقلة بحمل وجوه منهية الصلاحية، تشبثت بالبقاء. وما لم تتحرر منها سيبقى تحركها دون جدوى رغم كثرة المشاركين فيه. وضع البلاد صعب اذ لا يمكن لرجل أن يختزل كل السلطات دون رقيب. والى حين أن يتحرر معارضو قيس سعيد من شرعيات ملطخة، فإن الأفق سيبقى مسدودا أمامها، كل ذلك والرئيس يصول وحده ويجول، وأمامه فسحة من الوقت ومجال حركة ومراوغة كبير، تغذيه وتوسعه طبقة سياسية داخلية وقوى خارجية عداءها وخوفها من النهضة وحلفائها أكبر من رفضها لقيس سعيد وشطحاته الفكرية وممارساته الغريبة. بل لعلهم جميعهم يجدون له أعذارا ويتمنون نجاحه في إزاحة ما يعتبرونه اخطبوطا لم تنفع معه مئات الاعتصامات والاضرابات والاحتجاجات. وضع ليس هناك أفضل منه لرئيس ينقلب على منظومة، لا يحتاج الى إراقة دماء، وتكفيه بعض التجاوزات القانونية مؤقتا مثل اعتقال صحفي قناة معارضة وعرضه على القضاء العسكري، يسكت زملاءه من الإعلاميين ومدعي النضال من أجل حقوق الانسان من الداخل والخارج... خلافا لما يتصور ويروج خصوم قيس سعيد، فالرجل في أريحية من أمره.
  • الخطة الاتصالية لقيس سعيد قد تكون أكثر نجاعة مما يحذر يصفها معارضوه، صحيح أنه دائم العبوس بما لم نتعود عليه وبما لا يليق بتصرف رئيس، فيغضب البعض ويعجب البعض، وهذا سر اعتماده على هكذا أسلوب من التواصل الإعلامي. كثيرون هم أولئك الذين يتفاعلون إيجابيا مع خطاباته العنيفة ومنهم من ينتشي، ويكتب على صفحات التواصل الاجتماعي نصا رديئا متخلّفا وبذيئا، لا يحترم الضوابط الأخلاقية واللغوية، لا شك أن دراسة اجتماعية علمية لهكذا ظاهرة ستكون صادمة للجميع. هذا أما الوزن الحقيقي لأنصار قيس سعيد فهو غير معروف، الرئيس يبقى على الغموض حوله ويتفادى أن ينزله الى الميزان ليبقى مبهما وحتى لا تظهر معرّاته بشعارات غير لائقة تفصح على توجه التيارات الفكرية والعقائدية الملتفة حول الرئيس، وأيضا مستوى مناصريه. قيس سعيد في الحقيقة ليس في حاجة للمسيرات والاستعراضات، والسلطة كل السلطة بيده، وهو يستفيد من ذاك الغموض حول حقيقة وزنه الشعبي، أما غياب الماكينة التنظيمية المتمرسة فهو العائق الكبير أمام استغلال الشارع. وإذا ما استغل قيس إمكانات الدولة في تحريك الشارع فلا شك أنه يخسر في النهاية، ويقلب قرار 25 جويلية الى انقلاب.

دفاع عن الرئيس

  • هذا أما الشق الذي يغضب من الخطاب المتجهّم لقيس سعيد، فهم ضحاياه المباشرون من الأحزاب. أنا مستقل، أحاول أن أجد فيما يقوم به الرئيس وجها إيجابيا، لكن غموضه المتعمد يخيفني، ولا ينطلي عليّ. أشك كثيرا في قدرته على ابتكار العجلة من جديد من "صنع تونسي". دافع عن الرئيس أحد المقربين إليه والداعمين له، وهو صديق لي أثق به، قال: أنتم تقوّلون السيد الرئيس ما لم يصرح به، وهو صاحب رؤية ومشروع وأعصاب صلبة، تجعله يسير الى انقاذ تونس بما يتطلبه الأمر وليس بما يريده معارضوه من منظمتي الحكم البائدتين لما قبل وبعد 2011 المتعاونتين. ويضيف هذا الصديق أن ما يسمى بالحشد الشعبي ليس غير فزاعة لن تثبت أمام واقع تونس المختلف عن لبنان والعراق، وأن الـتأويلات المختلفة لفكر وقناعات السيد الرئيس ليست مناورات وتخيلات مجانبة للصواب. خذ عني هذا الكلام، الشيء الثابت الوحيد عند السيد الرئيس أن مشروعه لا يتجاوز حماية الشعب من اللوبيات المالية والإعلامية وغيرها التي تمنع شبابه ونساءه وضعفاءه من المساهمة في تحديد سياسة البلاد بما يضمن العدالة والحق في الحياة الكريمة. قيس سعيد أنقذ تونس من انسداد خطير حبكته المنظومة الفاسدة التي لم تكتف باستغلال ثروات البلاد بل كل ثوابتها وحتى دينها الحنيف، وكونت بذاك الخليط حبكة جهنمية وضعت تونس أمام خطر وشيك، من أجل ذلك جاء قرار 25 جويلية بصفة مؤقتة، استثناء حتى توضع تونس على السكة. قيس سعيد لا يفرض مشروعا مجتمعيا ولا اديويولوجيا من أي نوع، هو خادم للشعب ويريده أن يكون سيد نفسه وصاحب قراره ومبتكر مشروعه كما يريده هو ولنفسه وليس كما يريده الرئيس بقناعات مسبقة. مشروع الرئيس هو تحرير التونسيين وكفي.
  • وجدتني أقول "آمين" مجاملة لصديقي وليس اقتناعا. لست أدري إن كان قيس سعيد سيكون ذاك الرجل الذي يثني على إجراءاته الجريئة تلك بقدرة على تسيير البلاد ومكافحة الفساد ودفع الاقتصاد. كل المؤشرات تشكك بشدة في ذلك، بل تنبئ بما هو خطير ومخيف والحمل ثقيل، لا شك أنه يحتاج الى قدرة على التسيير وتشبيك الطاقات الوطنية واستغلال الفرص المتاحة جهويا وعالميا، مع الحفاظ على الثوابت والإنجازات الهامة للثورة وفي مقدمتها الحرية والديمقراطية.
  • الديمقراطية ليست كاملة لكنها الأفضل بين مثيلاتها بين النظم السياسية، هكذا اعتبرها الوزير الأول البريطاني تشرتشل بطل الحرب العالمية الثانية والمنتصر على الدكتاتور هتلر. يعرفها بعضهم أنها حكم الشعب، وما الدولة في الحقيقة الا افراز لتدافع وإرادة وتوافق مجتمعي... في تونس لا أظن أن السيد الرئيس يقدر على ابتكار نظام سياسي جديد، خاصة بهذا التصرف الأحادي والمتسرع. ما يبشر به قيس سعيد من نظام حكم مصعد من الجهات بالإنتخاب على الافراد بشكل مباشر مفتت ومستقل، ستكون نتائجه وخيمة على الدولة التونسية بسيطرة العائلات المتنفذة وحلول الجهوية والعروشية محل المساواة في الفرص إضافة الى إضعاف الإدارة، وتراجع عصرنتها. وأيّـا ما كانت الحجج المؤيدة أو الرافضة لهكذا مشروع مجتمعي فان قيس سعيد ليس له الحق أن يعتمد على نتيجة انتخابات حرة تحت نظام متناقض تماما مع خياراته هذه، أو ما ضخمه بمائة مرة من حشود متظاهرة لتغيير نظام الحكم الى نقيضه. وذلك لسببين الأول قانوني أخلاقي يخصه هو، فهو لا يملك حق ما يعلنه، والثاني أن محاولته هذه ستبوء حتما بالفشل فهو لا يستطيع لي ذراع تونس اعتمادا على هكذا مغالطة. لا يحق لقيس أن يكسر السلم الذي به ارتقى الى أعلى هرم السلطة، وأيضا لا يحق له أن يعطي الدستور الذي أقسم عليه الى الأتان لتأكله. إن كان للرئيس مشروع مجتمع جديد فليترك قرطاج ويتفرغ له دعاية ومجادلة واقناعا، ويصبر عليه حتى لو بقي للأجيال اللاحقة.
  • هذا أما ما يعلنه قيس سعيد من أجندة حول المصالحة الاقتصادية وتشريك الشباب في الحوار، وما يروجه بحماسة كبيرة عن جدوى المصالحة الاقتصادية مع رجال أعمال "تائبين"، فإن هناك مبالغات كبيرة حول الموضوع، يشكك فيها المطلعون والمختصون. أولا عن حقيقة ما وضعت الدولة عليه اليد من ممتلكات. حدثني أحد المحاسبين كلفته الدولة بمتابعة أربعة من هؤلاء، أنه لما اطلع على الوثائق الخاصة بتلك الممتلكات بدت له كبيرة، لكنه لما ذهب لمعاينتها كانت مفاجأته كبيرة وقد وجدها غير ذات قيمة تذكر من الإهمال وخاصة بسبب تضخيم القيمة منطلقا لتقديمها كضمانات للبنوك وبتواطؤ مع القائمين عليها أصلا. هذا ثم ما معنى أن يأتي مستثمر ينتصب في قرية فقيرة بمشروع تنموي للصالح العام، مسيّـر كهذا سيشترط الاستقلالية لنجاح مهمته. وهو إن استقل أصبح من أعيان البلدة والفاعلين فيها وسرعان ما يأخذ مكانا بالفساد أكبر من الذي كان له قبل الثورة. أما مراقبته من المجتمع المدني وأبناء الجهة فهي عملية صعبة وبدون جدوى.
  • ما يبشر به الرئيس ليس دعما للدولة بل خطر عليها. نحن اليوم في عالم يتطور بزيادة الحكامة في التسيير، باستعمال نظريات جديدة فاعلة وناجعة، في جو من التنافسية العالمية. مشروع الرئيس يرجع بالدولة الى الوراء، الى طرق تسيير بدائية، تتعطل مع انطلاقها. يكفي للتوانسة أنهم مثلوا للأنظمة المتعاقبة فئران تجارب أو أيتاما يتعلم أصحاب القرار فيهم الحجامة. الشيء الذي يمكن للرئيس تحقيقه، وقد يكون الهدف الحقيقي من كل هذه الزوبعة هو تأسيس ماكينة (حزبية) تنظيمية غائبة اليوم عنه. لا شك أن لجانا ستجد إطار تكوينها بإرادة وتمويل وأدوات حكومية، لغاية في نفس يعقوب وليس لصالح الشعب.

سيدي الرئيس الشعب ممتن لك أن رآك تريحه من وجوه كالحة لم تستح ومازالت تطلّ طمعا في البقاء، لكنه لم يعطك صكا على بياض لتحدد له وحدك وجهته. تونس "صعبة" وقد برهنت أنها لا تُغلب...

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews