كثيرا ما يتطرّق السياسيّون إلى دولة المؤسسات وإلى السلطات الثلاث التي تُمثّل هذه المؤسسات، وهي مؤسسة رئاسة الجمهورية ومؤسسة الحكومة اللتان تُمثّلان السلطة التنفيذية، ومؤسسة البرلمان التي تُمثّل السلطة التشريعيّة ومؤسسة العدالة التي تُمثّل السلطة القضائية. غير أن دولة المؤسسات تقوم في الواقع على العديد من المؤسسات الأخرى ليس هنا المجال للقيام بعملية جرد لها. أما عن السلطات، فنادرا ما نتذكّر التنصيص على السلطة الرابعة التي يُمثّلها الإعلام.
والإعلام مؤسسة قائمة الذات، أحبّ من أحبّ وكره من كره. وهي أيضا تُعاني في كل الأزمان وفي كل الأمصار من محاولات السطو عليها من قبل إحدى المؤسسات الأخرى، أو من قبل الأحزاب أو حتى من الأشخاص.
قد لا يظهر للعيان جدوى هذه المؤسسة، أو قوتها وفعاليّتها، لذلك وجب التذكير ببعض "إنجازاتها".
فالإعلام يشمل مبدئيّا الصحف المكتوبة والمحطات الإذاعية والقنوات التلفزية، وهو يشمل أيضا منذ بضع سنوات شبكات التواصل الاجتماعي، وحتى الإشاعات والأراجيف. والإعلام قادر على مراقبة السلطات الثلاث ومتابعتها متابعة لصيقة إلى حدّ التأثير فيها بشكل مُحدّد لسياسة السلطات، ولسياسة الدولة عموما، وللمصير السياسي للأشخاص. ألم يُجبر الإعلام الرئيس الأمريكي المُنتخب نيكسون على الاستقالة إثر فضيحة واترغايت؟ ألم يتوصّل الإعلام، عبر شبكة الفايسبوك، إلى تجييش الجماهير ضد نظام بن علي إلى حدّ إسقاطه بالمظاهرة العارمة ليوم 14 جانفي 2011؟ ألم يُوصل الإعلام، عبر شبكة الفايسبوك أيضا، قيس سعيّد إلى قصر قرطاج؟
بهذه الصفات والخصوصيات والتجارب الميدانية، في تونس وفي العالم، تبدو إذن جليّا قدرة الإعلام، الرسمي منه وغير الرسمي، على التأثير المباشر على مجريات الأحداث وعلى الأنظمة والمؤسسات والأشخاص. لكن الإشكال الكبير في هذا الصدد يكمن بالخصوص في عدم الوعي بهذه القوّة، أو في عدم إيلائها مكانتها الحقيقية والفعلية. فترى الفاعلين السياسيين يستهترون بها حينا، ويتبارون في طلب ودّها حينا آخر، وينكرون لها حقها في الوجود والفعل والتأثير في مناسبات عديدة.
الإعلام التونسي يُعاني اليوم من ثلاث علّات لا بدّ من العمل على معالجتها بجديّة حتى يقوم بدوره الطبيعي في ظروف تليق بنظام ديمقراطي حقيقي:
أولا، ضعف فادح في مهنيّة عدد ممّن أطلقوا على أنفسهم صفة "الصحافي"، وهي مهنة دقيقة وحسّاسة تستوجب دراسة متخصصة وتكوينا ميدانيّا وثقافة واسعة واطّلاعا مُتواصلا على مجريات الأحداث، كما تتطلّب النزاهة والدقّة. لكنّنا أصبحنا نرى في السنوات الأخيرة أسماء تسطع في سماء الإعلام تبثّ الخرافات وتخلط بين "السكوب" والبوز". بل أن بعضهم لا يُزعجه فتك أعراض الناس، أو بثّ ثقافة التخلّف، أو الدعوة إلى العنف والكراهية، أو تمجيد التطرف والإرهاب.
ثانيا، الانزلاق في فخ تسابق الأحزاب والشخصيات السياسية في استمالة بعض الصحافيين، أو حتى بعض المؤسسات الصحفية برمتها. فترى الصحافي الفلاني المحسوب على حزب بعينه والصحافي الفلتاني الذي ينطق باسم شخصية سياسية مُعيّنة... ولنا في السنوات الأخيرة أمثلة عديدة على ذلك، نذكر منها بالخصوص الحضور المُثير للانتباه وللشكوك لقياديّي حركة النهضة في العديد من الإذاعات، حتى أنك تسمع عديد النهضاويّين في محطات إذاعية مختلفة في نفس الوقت، ممّا يدلّ على سيطرتهم على العديد من وسائل الإعلام ومن الإعلاميّين.
ثالثا، الشحّ غير المفهوم وغير المنطقي في تداول الخبر من قبل الرسميّين، في الفترة الأخيرة بالخصوص. ولقد قرأت مُؤخّرا خبرا في إحدى الصحف يُفيد بأن رئيس الجمهورية منع عن أعضاء الحكومة الجديدة الإدلاء بالتصريحات الإعلامية، ليقتصر الخبر على ما يقوله الرئيس قيس سعيّد لضيوفه، علما بأن هذه الخطب الرئاسيّة، إن كان يصحّ لنا أن نُسمّيها بالخطب، تفتقر إلى الدقة كما يعلم الجميع. فهو يتحدّث عن أناس دون ذكر هويتهم، وعن أشياء دون تحديدها، وما إلى ذلك من "المعطيات" المُبهمة.
أمام هذا الوضع، وبالنظر أيضا إلى الغموض السائد في الحياة السياسية بشكل عام في هذا الظرف الاستثنائي الذي نعيش فيه، أصبح الخبر اليقين نادرا إلى حدّ تتكاثر معه الإشاعات والتأويلات والتناقضات. ولا أدلّ على ذلك من الخبر القائل حينا بوجود نفق على مشارف مقر إقامة سفير فرنسا بالمرسى يبلغ طوله 300 متر تمّ حفره من قبل إرهابي يستهدف دولة فرنسا، والقائل حينا آخر بأن المسألة لا تعدو أن تكون حفرة في حيّ شعبي يبلغ طولها مترا واحدا قام بها شخص يبحث عن كنز.
وفي غياب الخبر اليقين، لا غرابة في تفشّي ظاهرة الإشاعات. والتقصير في الإشاعات ليس من مسؤولية من يبثّها بقدر ما هي مسؤولية العالم بحقائق الأمور ويتعمّد إخفاءها. ولا لوم على من يُصدّق الإشاعات طالما أن الخبر الصحيح ليس في متناول القائمين على الإعلام.
بقلم: منير الشرفي..استاذ جامعي ورئيس مرصد الدفاع عن الدولة المدنية
كثيرا ما يتطرّق السياسيّون إلى دولة المؤسسات وإلى السلطات الثلاث التي تُمثّل هذه المؤسسات، وهي مؤسسة رئاسة الجمهورية ومؤسسة الحكومة اللتان تُمثّلان السلطة التنفيذية، ومؤسسة البرلمان التي تُمثّل السلطة التشريعيّة ومؤسسة العدالة التي تُمثّل السلطة القضائية. غير أن دولة المؤسسات تقوم في الواقع على العديد من المؤسسات الأخرى ليس هنا المجال للقيام بعملية جرد لها. أما عن السلطات، فنادرا ما نتذكّر التنصيص على السلطة الرابعة التي يُمثّلها الإعلام.
والإعلام مؤسسة قائمة الذات، أحبّ من أحبّ وكره من كره. وهي أيضا تُعاني في كل الأزمان وفي كل الأمصار من محاولات السطو عليها من قبل إحدى المؤسسات الأخرى، أو من قبل الأحزاب أو حتى من الأشخاص.
قد لا يظهر للعيان جدوى هذه المؤسسة، أو قوتها وفعاليّتها، لذلك وجب التذكير ببعض "إنجازاتها".
فالإعلام يشمل مبدئيّا الصحف المكتوبة والمحطات الإذاعية والقنوات التلفزية، وهو يشمل أيضا منذ بضع سنوات شبكات التواصل الاجتماعي، وحتى الإشاعات والأراجيف. والإعلام قادر على مراقبة السلطات الثلاث ومتابعتها متابعة لصيقة إلى حدّ التأثير فيها بشكل مُحدّد لسياسة السلطات، ولسياسة الدولة عموما، وللمصير السياسي للأشخاص. ألم يُجبر الإعلام الرئيس الأمريكي المُنتخب نيكسون على الاستقالة إثر فضيحة واترغايت؟ ألم يتوصّل الإعلام، عبر شبكة الفايسبوك، إلى تجييش الجماهير ضد نظام بن علي إلى حدّ إسقاطه بالمظاهرة العارمة ليوم 14 جانفي 2011؟ ألم يُوصل الإعلام، عبر شبكة الفايسبوك أيضا، قيس سعيّد إلى قصر قرطاج؟
بهذه الصفات والخصوصيات والتجارب الميدانية، في تونس وفي العالم، تبدو إذن جليّا قدرة الإعلام، الرسمي منه وغير الرسمي، على التأثير المباشر على مجريات الأحداث وعلى الأنظمة والمؤسسات والأشخاص. لكن الإشكال الكبير في هذا الصدد يكمن بالخصوص في عدم الوعي بهذه القوّة، أو في عدم إيلائها مكانتها الحقيقية والفعلية. فترى الفاعلين السياسيين يستهترون بها حينا، ويتبارون في طلب ودّها حينا آخر، وينكرون لها حقها في الوجود والفعل والتأثير في مناسبات عديدة.
الإعلام التونسي يُعاني اليوم من ثلاث علّات لا بدّ من العمل على معالجتها بجديّة حتى يقوم بدوره الطبيعي في ظروف تليق بنظام ديمقراطي حقيقي:
أولا، ضعف فادح في مهنيّة عدد ممّن أطلقوا على أنفسهم صفة "الصحافي"، وهي مهنة دقيقة وحسّاسة تستوجب دراسة متخصصة وتكوينا ميدانيّا وثقافة واسعة واطّلاعا مُتواصلا على مجريات الأحداث، كما تتطلّب النزاهة والدقّة. لكنّنا أصبحنا نرى في السنوات الأخيرة أسماء تسطع في سماء الإعلام تبثّ الخرافات وتخلط بين "السكوب" والبوز". بل أن بعضهم لا يُزعجه فتك أعراض الناس، أو بثّ ثقافة التخلّف، أو الدعوة إلى العنف والكراهية، أو تمجيد التطرف والإرهاب.
ثانيا، الانزلاق في فخ تسابق الأحزاب والشخصيات السياسية في استمالة بعض الصحافيين، أو حتى بعض المؤسسات الصحفية برمتها. فترى الصحافي الفلاني المحسوب على حزب بعينه والصحافي الفلتاني الذي ينطق باسم شخصية سياسية مُعيّنة... ولنا في السنوات الأخيرة أمثلة عديدة على ذلك، نذكر منها بالخصوص الحضور المُثير للانتباه وللشكوك لقياديّي حركة النهضة في العديد من الإذاعات، حتى أنك تسمع عديد النهضاويّين في محطات إذاعية مختلفة في نفس الوقت، ممّا يدلّ على سيطرتهم على العديد من وسائل الإعلام ومن الإعلاميّين.
ثالثا، الشحّ غير المفهوم وغير المنطقي في تداول الخبر من قبل الرسميّين، في الفترة الأخيرة بالخصوص. ولقد قرأت مُؤخّرا خبرا في إحدى الصحف يُفيد بأن رئيس الجمهورية منع عن أعضاء الحكومة الجديدة الإدلاء بالتصريحات الإعلامية، ليقتصر الخبر على ما يقوله الرئيس قيس سعيّد لضيوفه، علما بأن هذه الخطب الرئاسيّة، إن كان يصحّ لنا أن نُسمّيها بالخطب، تفتقر إلى الدقة كما يعلم الجميع. فهو يتحدّث عن أناس دون ذكر هويتهم، وعن أشياء دون تحديدها، وما إلى ذلك من "المعطيات" المُبهمة.
أمام هذا الوضع، وبالنظر أيضا إلى الغموض السائد في الحياة السياسية بشكل عام في هذا الظرف الاستثنائي الذي نعيش فيه، أصبح الخبر اليقين نادرا إلى حدّ تتكاثر معه الإشاعات والتأويلات والتناقضات. ولا أدلّ على ذلك من الخبر القائل حينا بوجود نفق على مشارف مقر إقامة سفير فرنسا بالمرسى يبلغ طوله 300 متر تمّ حفره من قبل إرهابي يستهدف دولة فرنسا، والقائل حينا آخر بأن المسألة لا تعدو أن تكون حفرة في حيّ شعبي يبلغ طولها مترا واحدا قام بها شخص يبحث عن كنز.
وفي غياب الخبر اليقين، لا غرابة في تفشّي ظاهرة الإشاعات. والتقصير في الإشاعات ليس من مسؤولية من يبثّها بقدر ما هي مسؤولية العالم بحقائق الأمور ويتعمّد إخفاءها. ولا لوم على من يُصدّق الإشاعات طالما أن الخبر الصحيح ليس في متناول القائمين على الإعلام.
بقلم: منير الشرفي..استاذ جامعي ورئيس مرصد الدفاع عن الدولة المدنية