إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رضا بن سلامة في "سيمنار" الذاكرة الوطنية: أزمة 1986 اختلال اقتصادي كلي.. وُظّفت لقلب موازين الحكم في تونس

 
 
 
تونس- الصباح
خلص الباحث والإعلامي والخبير رضا بن سلامة إلى أن "زوبعة 1986" تُخفي بين طياتها وفي أرقامها علاقة جدلية بين السياسة والاقتصاد بحُكم ترابطهما الوثيق. وفسّر كيف تم توظيف الأزمة سياسيا في تلك الفترة التي عاشتها الساحة السياسية في تونس والتي أدّت إلى إقالة محمد مزالي الوزير الأول في ظروف مأسوية-هزلية. 
وبين في دراسة معمقة لملامح المنظومة الاقتصادية في تونس والوضع الاقتصادي في النصف الأول من الثمانينات من القرن الماضي، أنّ التعبير الأصح لتوصيف ما حدث هو "اختلال في الاقتصاد الكلي" وليس بأزمة اقتصادية.
ولاحظ أنه تم حينها تداول كلمة "أزمة" بشكل واسع لتوصيف ما حدث سنة 1986 من طرف السياسيين ووسائل الإعلام في غير موضعها. وقال:"هي أزمة مُتعدّدة الأوجه والأبعاد ومُركّبة تُعبّر عن تصرّف هدفه التهويل لتيسير إستراتيجية غير مباشرة وتمرير انطلاق الخُطة التي سوف تقلب موازين الحُكم في تونس، في استهداف لرأس الدولة كما تمّ ذلك بعد أشهر.
وبحكم عمله بين 1980-1986 في ديوان محمد مزالي الوزير الأول، ومواكبته للمشهد السياسي، قدّم بن سلامة أمس في إطار سمينارات الذاكرة الوطنية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، عرضا تحليليا وتقييميا للمشهد الذي كان سائدا خلال حقبة الثمانينات بتونس، حاول فيه تبيان أوجه "الاختلال في الاقتصاد الكُلّي سنة 1986" وطرق مُعالجتها وتوظيفها سياسيا. 
والأستاذ رضا بن سلامة متخرج من معهد الدراسات السياسية بباريس المختص في العلاقات الدولية، عمل كمراسل لمدّة سنوات ونشر عدة مؤلفات في السياسة والأدب ودرّس في مؤسسات التعليم العالي وهو إطار سامي وخبير لعدة منظمات دولية وإقليمية في المجال الاقتصادي والصناعي، وكان آخر إنتاجه بعنوان "الحريات وأنماط فساد النظم" وهو عبارة عن قراءة نقدية للممارسات والتسيير العمومي والحوكمة.. 
أشار بن سلامة في عرضه التحليلي، كيف أن السياسة في تونس وبمفهومها الخاطئ تُسيطر على مُجريات الأحداث، وقال:" لدينا أنموذج مُعبِّر تمامًا عن هذه الحالات المُعيّنة التي تمّ الإشارة إليها وذلك من خلال الأوضاع السياسية والاقتصادية في مُنتصف سنة 1986 تحديدًا، وكيفيّة توصيفها ومُعالجتها وتوظيفها."
واستعرض الكاتب قراءة استعادية لِعِقْديْ الستينات والسبعينات من القرن الماضي، التي ألقت بظلالها على النصف الأول من الثمانيات وتوضح جزءا من العوامل التي أدت إلى ما يعرف بأزمة 1986. 
وقال في هذا الشأن: "إن استنباط الحلول للتعامل مع الصعوبات الاقتصادية ليست مُشكلة فنّية يُمكن الاتفاق بِشأنها على حلول فنّية "مُحايدة"، بل إنّ طبيعتها السياسية كثيرًا ما تضع حواجز أمام الحلول والمداخل المُختلفة لِمعالجتها، وهو ما يعني بالأساس ضرورة توفّر إرادة سياسية مُوحّدة كخطوة أولى لإعداد وتنفيذ أيّ برنامج اقتصادي."
وأشار بن سلامة إلى أن "مفهوم التوظيف السياسي للأزمة يعد مُحتملاً بدرجة عالية آنذاك من حيث مستوياته وأسُسه والأطراف المرتبطة به سواء السياسيين أنفسهم أو المواضيع السياسية المُختلفة والارتباطات بالخارج.. ذلك أنّ صناعة الأزمات وافتعالها أو الركوب على موجات الصعوبات الظرفية تكاد تكون اختصاصا لأجيال مُتعاقبة من مُحترفي السياسة في تونس."
 
ركود اقتصادي عالمي 
وبالعودة إلى الأرقام والمؤشرات الاقتصادية في تونس بداية الثمانيات، حاول بن سلامة تأكيد وجهة نظره بأن ما حدث في تونس خلال تلك الفترة لا يمكن توصيفه بأزمة اقتصادية، بل هو "اختلال في الاقتصاد الكلي". وفسّر بأن الأزمة هي مجموعة الظروف والأحداث المُفاجئة التي تنطلق بدون سابق إنذار. ولم يكن الحال كذلك سنة 1986 لأنّ أوْجه القصور كانت هيكلية مُزمنة، ولم تُساهم الصعوبات الظرفية الداخلية والتداعيات الخارجية إلا في إعادة الوعي بتأثيرها على درجة حدّة الصعوبات التي تعترض سير الاقتصاد الجزئي والكُلّي. 
أشار الباحث إلى أن أوائل الثمانينيات اتّسمت بالركود الاقتصادي العالمي الكبير، أثّر على العديد من البلدان المُتقدّمة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وساهمت الآثار طويلة المدى لفترة الركود هذه في أزمة ديون الاقتصادات النامية والناشئة، وفي انتهاج عام للسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة خلال الثمانينات وحتى التسعينات.
وتُعتبر سنوات 1982-1986 صدمة النفط المُضادّة. فقد أخذ الطلب على النفط في التباطؤ. والأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة اللازمة لكبح جماح التضخُّم قلّلت من القوّة الشرائية للدول المُستهلكة. وجعلت أسعار النفط الخام مُرتفعة حتى أنّ هذه الدول فضّلت استغلال الفحم والغاز الطبيعي وبناء محطّات الطاقة النووية.
أمّا بالنّسبة إلى اقتصاديات الدول النامية والناشئة المُثْقلة بالديون، أدّت الثمانينات إلى حالة من الركود الاقتصادي والخنق المالي (ولكن أيضًا توتّرات سياسية واجتماعية قويّة)،
تراجع الاقتصاد الوطني 
ولاحظ بن سلامة أن تونس مُندمجة في النظام الاقتصادي الدولي واقتصادها ليس مُغلقًا. ورغم الإمكانيات المُسخّرة والانجازات المُحقّقة لتنمية الاقتصاد الوطني فإنّها تتأثّر بتحوُّلات الوضع العالمي وتتعرّض لضغوط مُسلّطة من الخارج تدريجيّا. 
وقال:"حدث تراجع ملحوظ في مردودية الاقتصاد التونسي وبرزت صعوبات اقتصادية حادّة نتيجة ارتفاع المديونية الخارجية بسبب انهيار أسعار النفط المُتزامن مع تعثّر القطاعات الإنتاجية والصناعية والفلاحية والخدمية إضافة إلى الخلل الذي طال التوازنات الكبرى للاقتصاد التونسي في ظلّ تراجع موارد الدولة وارتفاع نفقاتها."
وتابع:" لم يقع تدارك مسألة الاختلالات الهيكلية كُليًا في عشرية السبعينات والخطوط العريضة لمحاولة إصلاحها في بداية الثمانينات على مستوى التوازنات الحقيقية والتي تتعلّق بالبطالة، والتقليص من الفوارق بين الجهات والفئات الاجتماعية.. لكنّ استفحال عوامل داخلية وخارجية خاصّة، أربكت المجهود الإصلاحي وأدّت إلى "اختلال في الاقتصاد الكُلّي"."
وبلغة الأرقام، تراجع إنتاج المحروقات من 300 مليون دولار سنة 1985 إلى 200 مليون دولار سنة 1986. وكان سعر البرميل 30 دولار سنة 1985 وانحدر إلى 15 دولار سنة 1986. وتفاقم عجز الميزانية التي صادق عليها مجلس النواب في ديسمبر 1985 قبل انهيار سعر النفط، ابتداء من شهر جانفي 1986 (كانت مواردنا من النفط  تمثل حوالي 20 في المائة من الموارد الجملية للميزانية).
وتضاعفت قيمة الدولار خلال المخطط السادس، ونتج عن ذلك ارتفاع عجز ميزان المدفوعات بنحو 300 مليون دولار، ما يُعادل 15% من مجموع العجز المُسجّل خلال الأربع سنوات الأولى من المُخطّط. كما أدّى إلى إثقال كاهل أصل الدّيْن بمقدار 260 مليون دولار أيْ بنسبة 25% من التقديرات. وارتفعت المواد الأوّلية المستوردة بمُعدّل 9 % سنويا.
وانخفضت أسعار الفسفاط، فبعد أنْ كان سعر الطن 308 دولارًا سنة 1974 نزل إلى 180.33 دولارًا سنة 1980 و121.17 دولارًا سنة 1986. أي بانخفاض 59.16 دولارًا الطن من 1980 إلى 1986.
وكان لذلك تأثير على المُبادلات التجارية. يُضاف إلى هذا الوضع طرد 30 ألف تونسي من قبل السلطات الليبية وانخفاض الموارد من العُملة الأجنبية بـ150 مليون دولار سنة 1985، أما الاعتداء على حمّام الشط في 1 أكتوبر 1985 من قبل الطيران الإسرائيلي فقد كانت له تداعيات كارثية على قطاع السياحة.
 
خطة حكومة مزالي للخروج من الأزمة 
ويؤكد بن سلامة أن حكومة محمد مزالي اهتمّت بالوضع الاقتصادي وعملت على إيجاد الحلول، وأعدّت برنامجا مُفصّلاً للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب في إطار خطّة مُتكاملة وجاهزة للتنفيذ. ومن بين التدابير إعداد مُذكّرة من قبل الإدارة العامة للتخطيط بتاريخ 25 فيفري 1986حول التوازن المالي لسنة 1986 لتقييم تداعيات الظرف الاقتصادي سنة 1986 وتقديم برنامج عمل وإجراءات لمُجابهة الوضع. 
وكانت لتلك الخطة نتائج ايجابية وساهمت في الخروج من الأزمة، إذ يفيد تقرير البنك المركزي لسنة 1987 الذي صدر في جويلية 1988 في مقدمته: "لقد انتعش الاقتصاد التونسي بعد سنة في غاية الصعوبة تميّزت خاصة بتراجع النمو الاقتصادي وتفاقم الاختلالات المالية الداخلية والخارجية..ذلك أنّ الإجراءات والتدابير المعتمدة في شهر أوت سنة 1986 في إطار البرنامج التصحيحي، لم تتأخّر عن إعطاء ثمارها."
ويستشهد الكاتب بتصريح لرشيد صفر وزير الاقتصاد (1983-1986) في ردّه على تدخُلات النواب خلال المناقشات حول الميزانية، واصفا الحصيلة الاقتصادية لسنة 1985 بأنّ النتائج التي تمّ تسجيلها "تبعث على الاعتزاز والفخر، خاصة أنها سُجّلت في ظرف اقتصادي غير ملائم، يتّسم بضغوطات خارجية تجاوزت حدّتها توقُّعات المُخطّط وتقديرات الميزان الاقتصادي لسنة 1985. 
ووفق بن سلامة، لم يكن هذا الموقف مُستساغًا من قبل إسماعيل خليل وزير التخطيط الذي كان له توجّه مُغاير تبيّن خلال جلسة عمل عُقدت في منتصف 1985 حين قدّم عرضًا على الوضع الاقتصادي ونقل إلى الحكومة الاقتراحات الواردة من صندوق النقد الدولي. 
أما الوزير الأول محمد مزالي فقد كانت لديه تحفُّظات كثيرة على "وصفات" صندوق النقد الدولي وسياساته غير المُلائمة التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي (خصخصة واسعة النطاق، وتخفيضات في قيمة العُملة، وتخفيضات في الميزانية، وغالبًا ما تكون النتيجة مأساوية على المستوى الاجتماعي). 
لتأتي المفاجأة يوم 8 جويلية 1986 بدعوة كلّ من وزراء التخطيط والمالية والاقتصاد والوظيفة العمومية ومُحافظ البنك المركزي إلى قصر صقانص للاجتماع بالرئيس الحبيب بورقيبة، دون حضور الوزير الأول، الذي تمّ الإعلان في نشرة الساعة الخامسة من نفس اليوم عن إقالته وتعيين رشيد صفر وزيرا أول، وتُضاف في نفس الوقت حقيبة المالية مع التخطيط إلى إسماعيل خليل. 
 
نقل وإعداد: رفيق بن عبد الله 
 
  رضا بن سلامة في "سيمنار" الذاكرة الوطنية: أزمة 1986 اختلال اقتصادي كلي.. وُظّفت لقلب موازين الحكم في تونس
 
 
 
تونس- الصباح
خلص الباحث والإعلامي والخبير رضا بن سلامة إلى أن "زوبعة 1986" تُخفي بين طياتها وفي أرقامها علاقة جدلية بين السياسة والاقتصاد بحُكم ترابطهما الوثيق. وفسّر كيف تم توظيف الأزمة سياسيا في تلك الفترة التي عاشتها الساحة السياسية في تونس والتي أدّت إلى إقالة محمد مزالي الوزير الأول في ظروف مأسوية-هزلية. 
وبين في دراسة معمقة لملامح المنظومة الاقتصادية في تونس والوضع الاقتصادي في النصف الأول من الثمانينات من القرن الماضي، أنّ التعبير الأصح لتوصيف ما حدث هو "اختلال في الاقتصاد الكلي" وليس بأزمة اقتصادية.
ولاحظ أنه تم حينها تداول كلمة "أزمة" بشكل واسع لتوصيف ما حدث سنة 1986 من طرف السياسيين ووسائل الإعلام في غير موضعها. وقال:"هي أزمة مُتعدّدة الأوجه والأبعاد ومُركّبة تُعبّر عن تصرّف هدفه التهويل لتيسير إستراتيجية غير مباشرة وتمرير انطلاق الخُطة التي سوف تقلب موازين الحُكم في تونس، في استهداف لرأس الدولة كما تمّ ذلك بعد أشهر.
وبحكم عمله بين 1980-1986 في ديوان محمد مزالي الوزير الأول، ومواكبته للمشهد السياسي، قدّم بن سلامة أمس في إطار سمينارات الذاكرة الوطنية بمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، عرضا تحليليا وتقييميا للمشهد الذي كان سائدا خلال حقبة الثمانينات بتونس، حاول فيه تبيان أوجه "الاختلال في الاقتصاد الكُلّي سنة 1986" وطرق مُعالجتها وتوظيفها سياسيا. 
والأستاذ رضا بن سلامة متخرج من معهد الدراسات السياسية بباريس المختص في العلاقات الدولية، عمل كمراسل لمدّة سنوات ونشر عدة مؤلفات في السياسة والأدب ودرّس في مؤسسات التعليم العالي وهو إطار سامي وخبير لعدة منظمات دولية وإقليمية في المجال الاقتصادي والصناعي، وكان آخر إنتاجه بعنوان "الحريات وأنماط فساد النظم" وهو عبارة عن قراءة نقدية للممارسات والتسيير العمومي والحوكمة.. 
أشار بن سلامة في عرضه التحليلي، كيف أن السياسة في تونس وبمفهومها الخاطئ تُسيطر على مُجريات الأحداث، وقال:" لدينا أنموذج مُعبِّر تمامًا عن هذه الحالات المُعيّنة التي تمّ الإشارة إليها وذلك من خلال الأوضاع السياسية والاقتصادية في مُنتصف سنة 1986 تحديدًا، وكيفيّة توصيفها ومُعالجتها وتوظيفها."
واستعرض الكاتب قراءة استعادية لِعِقْديْ الستينات والسبعينات من القرن الماضي، التي ألقت بظلالها على النصف الأول من الثمانيات وتوضح جزءا من العوامل التي أدت إلى ما يعرف بأزمة 1986. 
وقال في هذا الشأن: "إن استنباط الحلول للتعامل مع الصعوبات الاقتصادية ليست مُشكلة فنّية يُمكن الاتفاق بِشأنها على حلول فنّية "مُحايدة"، بل إنّ طبيعتها السياسية كثيرًا ما تضع حواجز أمام الحلول والمداخل المُختلفة لِمعالجتها، وهو ما يعني بالأساس ضرورة توفّر إرادة سياسية مُوحّدة كخطوة أولى لإعداد وتنفيذ أيّ برنامج اقتصادي."
وأشار بن سلامة إلى أن "مفهوم التوظيف السياسي للأزمة يعد مُحتملاً بدرجة عالية آنذاك من حيث مستوياته وأسُسه والأطراف المرتبطة به سواء السياسيين أنفسهم أو المواضيع السياسية المُختلفة والارتباطات بالخارج.. ذلك أنّ صناعة الأزمات وافتعالها أو الركوب على موجات الصعوبات الظرفية تكاد تكون اختصاصا لأجيال مُتعاقبة من مُحترفي السياسة في تونس."
 
ركود اقتصادي عالمي 
وبالعودة إلى الأرقام والمؤشرات الاقتصادية في تونس بداية الثمانيات، حاول بن سلامة تأكيد وجهة نظره بأن ما حدث في تونس خلال تلك الفترة لا يمكن توصيفه بأزمة اقتصادية، بل هو "اختلال في الاقتصاد الكلي". وفسّر بأن الأزمة هي مجموعة الظروف والأحداث المُفاجئة التي تنطلق بدون سابق إنذار. ولم يكن الحال كذلك سنة 1986 لأنّ أوْجه القصور كانت هيكلية مُزمنة، ولم تُساهم الصعوبات الظرفية الداخلية والتداعيات الخارجية إلا في إعادة الوعي بتأثيرها على درجة حدّة الصعوبات التي تعترض سير الاقتصاد الجزئي والكُلّي. 
أشار الباحث إلى أن أوائل الثمانينيات اتّسمت بالركود الاقتصادي العالمي الكبير، أثّر على العديد من البلدان المُتقدّمة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وساهمت الآثار طويلة المدى لفترة الركود هذه في أزمة ديون الاقتصادات النامية والناشئة، وفي انتهاج عام للسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة خلال الثمانينات وحتى التسعينات.
وتُعتبر سنوات 1982-1986 صدمة النفط المُضادّة. فقد أخذ الطلب على النفط في التباطؤ. والأزمة الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة اللازمة لكبح جماح التضخُّم قلّلت من القوّة الشرائية للدول المُستهلكة. وجعلت أسعار النفط الخام مُرتفعة حتى أنّ هذه الدول فضّلت استغلال الفحم والغاز الطبيعي وبناء محطّات الطاقة النووية.
أمّا بالنّسبة إلى اقتصاديات الدول النامية والناشئة المُثْقلة بالديون، أدّت الثمانينات إلى حالة من الركود الاقتصادي والخنق المالي (ولكن أيضًا توتّرات سياسية واجتماعية قويّة)،
تراجع الاقتصاد الوطني 
ولاحظ بن سلامة أن تونس مُندمجة في النظام الاقتصادي الدولي واقتصادها ليس مُغلقًا. ورغم الإمكانيات المُسخّرة والانجازات المُحقّقة لتنمية الاقتصاد الوطني فإنّها تتأثّر بتحوُّلات الوضع العالمي وتتعرّض لضغوط مُسلّطة من الخارج تدريجيّا. 
وقال:"حدث تراجع ملحوظ في مردودية الاقتصاد التونسي وبرزت صعوبات اقتصادية حادّة نتيجة ارتفاع المديونية الخارجية بسبب انهيار أسعار النفط المُتزامن مع تعثّر القطاعات الإنتاجية والصناعية والفلاحية والخدمية إضافة إلى الخلل الذي طال التوازنات الكبرى للاقتصاد التونسي في ظلّ تراجع موارد الدولة وارتفاع نفقاتها."
وتابع:" لم يقع تدارك مسألة الاختلالات الهيكلية كُليًا في عشرية السبعينات والخطوط العريضة لمحاولة إصلاحها في بداية الثمانينات على مستوى التوازنات الحقيقية والتي تتعلّق بالبطالة، والتقليص من الفوارق بين الجهات والفئات الاجتماعية.. لكنّ استفحال عوامل داخلية وخارجية خاصّة، أربكت المجهود الإصلاحي وأدّت إلى "اختلال في الاقتصاد الكُلّي"."
وبلغة الأرقام، تراجع إنتاج المحروقات من 300 مليون دولار سنة 1985 إلى 200 مليون دولار سنة 1986. وكان سعر البرميل 30 دولار سنة 1985 وانحدر إلى 15 دولار سنة 1986. وتفاقم عجز الميزانية التي صادق عليها مجلس النواب في ديسمبر 1985 قبل انهيار سعر النفط، ابتداء من شهر جانفي 1986 (كانت مواردنا من النفط  تمثل حوالي 20 في المائة من الموارد الجملية للميزانية).
وتضاعفت قيمة الدولار خلال المخطط السادس، ونتج عن ذلك ارتفاع عجز ميزان المدفوعات بنحو 300 مليون دولار، ما يُعادل 15% من مجموع العجز المُسجّل خلال الأربع سنوات الأولى من المُخطّط. كما أدّى إلى إثقال كاهل أصل الدّيْن بمقدار 260 مليون دولار أيْ بنسبة 25% من التقديرات. وارتفعت المواد الأوّلية المستوردة بمُعدّل 9 % سنويا.
وانخفضت أسعار الفسفاط، فبعد أنْ كان سعر الطن 308 دولارًا سنة 1974 نزل إلى 180.33 دولارًا سنة 1980 و121.17 دولارًا سنة 1986. أي بانخفاض 59.16 دولارًا الطن من 1980 إلى 1986.
وكان لذلك تأثير على المُبادلات التجارية. يُضاف إلى هذا الوضع طرد 30 ألف تونسي من قبل السلطات الليبية وانخفاض الموارد من العُملة الأجنبية بـ150 مليون دولار سنة 1985، أما الاعتداء على حمّام الشط في 1 أكتوبر 1985 من قبل الطيران الإسرائيلي فقد كانت له تداعيات كارثية على قطاع السياحة.
 
خطة حكومة مزالي للخروج من الأزمة 
ويؤكد بن سلامة أن حكومة محمد مزالي اهتمّت بالوضع الاقتصادي وعملت على إيجاد الحلول، وأعدّت برنامجا مُفصّلاً للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب في إطار خطّة مُتكاملة وجاهزة للتنفيذ. ومن بين التدابير إعداد مُذكّرة من قبل الإدارة العامة للتخطيط بتاريخ 25 فيفري 1986حول التوازن المالي لسنة 1986 لتقييم تداعيات الظرف الاقتصادي سنة 1986 وتقديم برنامج عمل وإجراءات لمُجابهة الوضع. 
وكانت لتلك الخطة نتائج ايجابية وساهمت في الخروج من الأزمة، إذ يفيد تقرير البنك المركزي لسنة 1987 الذي صدر في جويلية 1988 في مقدمته: "لقد انتعش الاقتصاد التونسي بعد سنة في غاية الصعوبة تميّزت خاصة بتراجع النمو الاقتصادي وتفاقم الاختلالات المالية الداخلية والخارجية..ذلك أنّ الإجراءات والتدابير المعتمدة في شهر أوت سنة 1986 في إطار البرنامج التصحيحي، لم تتأخّر عن إعطاء ثمارها."
ويستشهد الكاتب بتصريح لرشيد صفر وزير الاقتصاد (1983-1986) في ردّه على تدخُلات النواب خلال المناقشات حول الميزانية، واصفا الحصيلة الاقتصادية لسنة 1985 بأنّ النتائج التي تمّ تسجيلها "تبعث على الاعتزاز والفخر، خاصة أنها سُجّلت في ظرف اقتصادي غير ملائم، يتّسم بضغوطات خارجية تجاوزت حدّتها توقُّعات المُخطّط وتقديرات الميزان الاقتصادي لسنة 1985. 
ووفق بن سلامة، لم يكن هذا الموقف مُستساغًا من قبل إسماعيل خليل وزير التخطيط الذي كان له توجّه مُغاير تبيّن خلال جلسة عمل عُقدت في منتصف 1985 حين قدّم عرضًا على الوضع الاقتصادي ونقل إلى الحكومة الاقتراحات الواردة من صندوق النقد الدولي. 
أما الوزير الأول محمد مزالي فقد كانت لديه تحفُّظات كثيرة على "وصفات" صندوق النقد الدولي وسياساته غير المُلائمة التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي (خصخصة واسعة النطاق، وتخفيضات في قيمة العُملة، وتخفيضات في الميزانية، وغالبًا ما تكون النتيجة مأساوية على المستوى الاجتماعي). 
لتأتي المفاجأة يوم 8 جويلية 1986 بدعوة كلّ من وزراء التخطيط والمالية والاقتصاد والوظيفة العمومية ومُحافظ البنك المركزي إلى قصر صقانص للاجتماع بالرئيس الحبيب بورقيبة، دون حضور الوزير الأول، الذي تمّ الإعلان في نشرة الساعة الخامسة من نفس اليوم عن إقالته وتعيين رشيد صفر وزيرا أول، وتُضاف في نفس الوقت حقيبة المالية مع التخطيط إلى إسماعيل خليل. 
 
نقل وإعداد: رفيق بن عبد الله 
 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews