الديبلوماسي السابق توفيق وناس لـ"الصباح": "دبلوماسية تونس كانت لامعة والآن تبحث عن نفسها"
تونس – الصباح
راهنت عديد الجهات الداخلية والخارجية على التأسيس لعقيدة دبلوماسية في تونس يكون منطلقها المسار الثوري بعد 14 أكتوبر 2011 الذي حظي بدعم دولي واسع وكان الانتظار محمولا على التخلص من ضعف السياسات الخارجية التي كبلت تونس خلال فترة حكم بن علي خاصة وان الآباء المؤسسين والذي رسموا عبر التاريخ علاقات خارجية متنوعة لتونس مثل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وغيره من رجالات الدولة التونسية، وضعوا ثوابت وتقاليد وأعرافا لازالت تذكر في تاريخ السياسة الخارجية التونسية رغم الهزات التي شهدتها في العشر سنوات الأخيرة نتاج التغييرات السياسية الداخلية قبل الخارجية، لكن لا احد يمكن أن يخفي الأداء الهزيل والهزات التي عاشتها السياسة الخارجية خلال ثلاث فترات سياسية مختلفة من رئاسة المنصف المرزوقي إلى فترة حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والى غاية اليوم مع رئيس الجمهورية قيس سعيد.
الدبلوماسي السابق توفيق وناس قال انه بصفة عامة عرفت الدبلوماسية التونسية ثلاث فترات عامة الأولى ديبلوماسية ما قبل الاستقلال فإلي جانب جهود المقاومة الداخلية سعت عديد الشخصيات الفاعلة مثل الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد والمنجي سليم والحبيب ثامر وصالح بن يوسف وغيرهم من رجالات الدولة الوطنية في تلك الفترة بجهد دبلوماسي إضافي الى الحصول على استقلال تونس الذي اخذ بعدا دوليا لذلك فان كل من حمل قضية الاستقلال على مستوى دولي قام بعمل دبلوماسي لفائدة تونس، ثم جاء الاستقلال وبناء الدولة وكان أول وزير خارجية لتونس هو الحبيب بورقيبة الذي كان يرأس الحكومة التونسية وأسس بورقيبة لدبلوماسية الدولة لتنخرط تونس في الدور العالمي وقد تجلى ذلك في مشاركتها في الأمم المتحدة وكان اول رئيس عربي وافريقي للجمعية العامة للامم المتحدة المنجي سليم وتأسست بذلك ثوابت معروفة في التقاليد السياسة الخارجية التونسي أبرزها القيام بدور حيادي ايجابي يأخذ المواقف الصائبة من القضايا العادلة.
واعتبر وناس ان الدبلوماسية التونسية كانت لامعة على النطاق الدولي لكن تراجعت مع بن علي وانطفأت كشمس عند الغروب وأصبحت في خدمة شخصنة الحكم فكانت خافتة اللون لان تونس كانت تعرف بعدم احترام حقوق الإنسان وكانت فترة 23 سنة شهدت فيها اضمحلالا وانحدارا للدور الدبلوماسي التونسي.
دعم دولي لكن..
وفي فترة ما بعد الثورة أكد وناس ان تونس حظيت بدعم عالمي كبير وكانت هناك فرصة ذهبية للدبلوماسية التونسية لتلعب دورا لفائدة الوطن وإعادة مكانتها في العالم لكن بسرعة كبيرة لما استقر حكم الترويكا والنهضة انخرطت دبلوماسيتنا في سياسة المحاور وأخذت مواقف غير محايدة ما خلق نوع من الرداءة في اداء السياسة الخارجية لذلك كانت غير مجدية من الناحية الوطنية رغم ان الفرصة كانت سانحة لان الرأي العام الدولي كان داعما للمسار الثوري.
كما اعتبر الدبلوماسي السابق توفيق وناس ان دبلوماسية تونس أصبحت متعثرة في كبرى القضايا مثل سوريا واليمن اضافة الى انخراط الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في سياسة المحاور رغم انه كان متشبعا بدبلوماسية الاب المؤسس الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لكن كان لقائد السبسي هوس بالحكم الداخلي أكثر من وضع او رسم سياسات خارجية قوية لتونس.
اما بعد 25 جويلية قال وناس ان الدبلوماسية التونسية تبحث عن نفسها من جديد لانها توفرت على مناخات سياسية جديدة لكن إشكاليتين الأولى تتمثل في إقناع الراي العام الدولي بما وقع في 25 جويلية وفاعلية ونجاعة القرارات الجديدة والإشكال الثاني هو مهمة حشد دعم اقتصادي ونقدي لتونس في ظل الأوضاع المالية الصعبة نتيجة اثار عشر سنوات من التصرف العشوائي لذلك هناك فترة إعادة ترميم البيت الدبلوماسي التونسي من خلال عدم السماح للتدخل الأجنبي لأنه مع احترام السيادة الوطنية يقع الانفتاح على السياسة الدولية وفهم المعضلات الإقليمية والدولية (اقتصاد، بيئة، تعاون دولي..) من اجل بناء علاقات وتعاون دولي قويين.
حدد الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، السياسات الخارجية لتونس في فترة حكمه انطلاقا من استحقاقات الثورة لذلك عرفت قراراته بعدا ثورجيا حيث رسم توجهات مختلفة عن الدبلوماسية التقليدية التي عرفتها تونس لعقود طويلة حيث اختلفت في كل أبعادها عن ديبلوماسية الآباء المؤسسين وهم أساسا الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ورجل الدبلوماسية التونسية المنجي سليم.
دبلوماسية المنصف المرزوقي كانت مؤيدة من البداية للقضية الفلسطينية وتجسدت في لقاءاته مع عدد من قيادات المقاومة الفلسطينية، كما خير المرزوقي قطع العلاقات مع النظام السوري وتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا لدعم المعارضة السورية معتبرا قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا قرارا سياديا.
وكان الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي قد أعلن في بيان صدر عن مؤسسة الرئاسة يوم 4 فيفري 2012 عن طرد السفير السوري بتونس، وسحب أي اعتراف بالنظام الحاكم في دمشق، داعيا الرئيس بشار الأسد للتنحي عن السلطة.
بعد فوز حزب نداء تونس في انتخابات 2014 ووصول الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج لاحظنا عودة إلى المواقف التقليدية في السياسات الخارجية زمن بورقيبة سواء في علاقة بالقضية الفلسطينية بعد استقبال السبسي الرئيس الفلسطيني، محمود عباس وهو أول نشاط رسمي له في قصر قرطاج مع الذهاب في خيار اخذ مسافة مما يجري في ليبيا من نزاع هذا الى جانب الدور التونسي في تفعيل قنوات الحوار بين المتنازعين على الأراضي الليبية من خلال تنظيم مؤتمر الصخيرات.
رئيس الجمهورية قيس سعيد التزم بالمشترك الدبلوماسي وبالتقاليد المتعارف عليها وذلك في زيارة دول الجوار في البداية حيث توجه في أول فيفري 2020 الى الجزائر كأول زيارة رسمية له في الخارج، هذه الزيارة أتت في سياقات إقليمية متحركة هذا إلى جانب الحراك السياسي الداخلي لكلا البلدين.
فيما لم تتعد زيارتا سعيد الى ليبيا والجزائر الجولات السياحية خاصة المتعلقة بمصر وقد كتب في هذا السياق المحلل السياسي عبد اللطيف دربالة معلقا بان "الجولة السياحيّة التي قام بها رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد في مصر كانت ناجحة فعلا. كما ان زيارة قيس سعيّد إلى ليبيا كانت على العكس خاطفة واستغرقت ساعتين فقط.. وتمّت بارتجال وعلى عجل.. دون أيّ تحضير مسبق.. ولا تنسيق مع الحكومة.. ودون اصطحاب وزراء معنيّين بفرص التعاون مع ليبيا التي بدأت مسارا سياسيّا سلميّا جديدا وحركة إعادة إعمار واستثمار نشطة تسيل لعاب كلّ دول العالم بما فيها الكبرى والغنيّة".
كما لم تخل "دبلوماسية سعيد" من المفاجأة حيث قرر إقالة المندوب التونسي الدائم لدى الأمم المتحدة، المنصف البعتي وكان ذلك "هزة" انضافت لموجات الارتباك التي شهدتها السياسة الخارجية التونسية منذ تولي سعيد السلطة وفي تبرير القرار أشارت وزارة الشؤون الخارجية التونسية في بيان لها سابق أنّ قرار إعفاء البعتي "يعود لاعتبارات مهنية بحتة ولضعف الأداء وغياب التنسيق والتفاعل مع الوزارة في مسائل هامة مطروحة للبحث في المنظمة الأممية، خصوصا أن عضوية تونس غير الدائمة بمجلس الأمن تقتضي التشاور الدائم والتنسيق المسبق مع الوزارة، بما ينسجم مع مواقف تونس المبدئية ويحفظ مصالحها".
ضربة أخرى للدبلوماسية في عهد قيس سعيد تمثلت في استثناء تونس من الحضور في مؤتمر برلين، الخاص بليبيا هذا دون ان ننسى الحضور بالغياب في القمة الصينية الأفريقية الأخيرة، كما اثار غياب الراية الوطنية خلال استقبال وزير الخارجية عثماني الجرندي مؤخرا الى طرابلس جدلا واسعا حيث اعتبر رئيس حزب المجد عبد الوهاب الهاني أنه تمت إهانة تونس ورئيس الدبلوماسية وهو وزير الخارجية في طرابلس عند استقباله من طرف موظف بوزارة الخارجية دون إحضار العلم التونسي، عكس ما تقتضيه الأصول وعلاقات الجوار ودور تونس المحوري في دعم الشقيقة ليبيا، وفق تعبيره.
وأضاف الهاني في تدوينة عبر صفحته بالفايسبوك "أن وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش انتقلت شخصيا للمطار لاستقبال نظيرها الكويتي وإحضار العلم الكويتي كما تقتضيه الأصول، للمشاركة في الملتقى الدولي لدعم ليبيا."
كما جاء في تدخل للكاتب والمحلل السياسي شكري بن عيسى لإحدى الإذاعات الدولية الجزائرية ان تصريحات الجرندي لمساعدة وزير الخارجية الأمريكية في خصوص ان سعيد سيتولى "الإعلان عن بقية الخطوات التي من شأنها طمأنة شركاء تونس جعلت من الرجل في حرج دبلوماسي لان سعيد لا يلمح في خطاباته نحو الخارج المعايير والقيم الدبلوماسية والجرندي في كل مرة يضطر للمخاتلة الدبلوماسية في للتعديل والتصويب."
كما اعتبر بن عيسى "ان سعيد سيواجه ضغط دولي متزايد الذي يضغط بعد مواقف مجموعة السبع والبرلمان الأوروبي والكونغرس وتصنيفات "موديز السلبية".
ثوابت دبلوماسية..
لعقود طويلة كانت للديبلوماسية التونسية ثوابت راسخة في رسم سياساتها الخارجية وهي ترتكز على أبعاد كبرى تتمثل أساسا في الوفاء الكامل لمقومات الهوية العربية الإسلامية لتونس ومقتضيات انتماءاتها المغاربية والعربية والإفريقية والمتوسطية وعلاقاتها التاريخية والحضارية مع القارة الأوروبية ومن الدور النشيط والمتميز الذي اضطلعت به تونس ولا تزال في محيطها الجغراسياسي والذي جعل منها عبر التاريخ، رغم صغر الحجم الجغرافي والديمغرافي ومحدودية الثروات الطبيعية قطبا للإبداع والإشعاع وأنموذجا فريدا للتعايش الحي بين الثقافات والحضارات.
وتعمل الدبلوماسية التونسية على تعزيز مكانة تونس ومصداقيتها على الساحتين الإقليمية والدولية كدولة محبة للسلام ومتعلقة بالشرعية الدولية وعاملة بدأب على تنمية علاقاتها الخارجية في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ونصرة القضايا العادلة والمساهمة الدائمة في كل جهد وعمل جماعي لخدمة الأمن والاستقرار وتحقيق الرخاء والتقدم لفائدة الإنسانية قاطبة انطلاقا من الترابط الوثيق بين السلم والأمن والاستقرار والتنمية والديمقراطية.
ارتباك السياسة الخارجية
رامي الصالحي رئيس مكتب المغرب العربي للشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان رأى أن بتصريحاته وخطاباته المتشنجة فان رئيس الجمهورية قيس سعيد، وهي مظاهر غريبة عن الدبلوماسية التونسية وتقاليدها، أمعن في عزل البلاد عن سياقها الدولي من جانب أمريكي وأوروبي الى جانب الإشكاليات مع ليبيا وكذلك الجزائر وهذه قد تطرح لاحقا خاصة بعد الزيارة التي تؤديها رئيسة الحكومة نجلاء بودن الى المملكة العربية السعودية في حين انه في التقاليد والثوابت في البناء الديبلوماسي فان دول الجوار تكون في قائمة ترتيب الزيارات الرسمية للمسؤولين الجدد في تونس وهي اعراف مشتركة مع هذه الدول وتعتبر هذه الخطوة إشارة غير ايجابية لان التقاليد الدبلوماسية المشتركة يجب المحافظة عليها وتطويرها وتعزيزها
وأضاف الصالحي انه تاريخا الدبلوماسية التونسية مبنية على الحياد والابتعاد ما أمكن على كل الصراعات والخلافات سواء بين الأشقاء العرب أو مع بقية الفاعلين الدوليين أمريكيين أو أوروبيين وحتى في الخلافات بين المغرب والجزائر تونس في فترة ماضية حافظت تونس على الحياد والتزمت بالمقررات الأممية، لكن بعد 2011 تونس انخرطت في سياسة المحاور وأصبحت تتنازع بين محورين الاول قطري تركي والثاني مصري إماراتي سعودي هذا الى جانب التذبذب في علاقاتنا ما أدى الى حصول ارتباك في الدبلوماسية يفهم منها ان السياسات الخارجية تشهد اهتزازات لأنه في كل مرة تفرز تشكيلة سياسية جديدة تكون لديها ميولات وارتباطات للأسف ببعض الجهات الخارجية وهذا اثر كثيرا على موقع تونس وعلى شركاتها الإستراتيجية وهذه المسالة تعمقت أكثر بعد 25 جويلية بعد ان خرجنا من مرحلة سياسة المحاور الى مرحلة صراع مع الشركاء الدوليين.
عزلة دولية..
الباحث في العلاقات الدولية والمختص في الشأن الليبي بشير الجويني، اكد انه تاريخيا استندت السياسة الخارجية التونسية على جملة من المبادئ التي تترجم حرص الدولة على تعزيز أسباب التفاهم والتسامح والتضامن بين الدول والشعوب وإضفاء مزيد من العدل والديمقراطية والتوازن في العلاقات الدولية وذلك من خلال التمسك بالشرعية الدولية واحترام مقتضياتها وقراراتها وتغليب منطق الحوار والتفاوض والوسائل السلمية كسبيل لفض الخلافات والنزاعات الى جانب تطوير العلاقات الدولية في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
خلال فترتي حكم الرئيسين السابقين سواء المنصف المرزوقي او الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي كانت الدبلوماسية التونسية محط صراع ونزاع بين محاور مختلفة حيث تم رسم سياسات خارجية تمتاز بقربها من محاور إقليمية وبعدها اعن اخرى لكن ما يحسب لهما انهما لم ينخرطا بصفة مباشرة في الصراع بين المحاور لكن الان اصبح صراعا مباشرا حول اصطفاف تونس مثلا المساعدات الطبية المتواترة على تونس ما بعد قرارا سعيد ليست مجانية فهي تحمل رسائل خاصة وان الأزمة الصحية التونسية مسبوقة وهو ما يطرح تساؤلا لماذا هبت هذه الدول وخاصة التي عرف عنها انخراطها في صراع المحاور الى مساندة تونس؟ لذلك الاستنتاج الواضح ان هذه الرسائل لدعم ومساندة قرارات 25 كانت بهدف ضرب التجربة الديمقراطية لتونس باعتبار ان الديمقراطية تهديد لهذه الأنظمة.
في نفس السياق اعتبر بشير الجويني المختص في العلاقات الدولية أن الحراك الدبلوماسي في تونس بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد لا يعكس الحرص الحقيقي الذي يتلاءم مع " الزلزال السياسي" الذي حصل في البلاد، مشيرا الى ان السياسات الخارجية اتسمت بنوع من العزلة الدولية التي بدأت تشهد تزايد ملحوظ خاصة بعد وجود تقارب واضح مع المحور 25 المصري الإماراتي السعودي لتصبح تونس في عين العاصفة والتجاذبات والمحاور الدولية في خرق واضح للثوابت الوطنية الدبلوماسية.
كما ان المتابع للحراك الدبلوماسي في تونس خلال الفترة الحالية من وجهة رأي الجويني يشهد ان تونس تخسر حلفاءها خاصة ممن راهنوا على التجربة الديمقراطية للأسف على أجندا برلمانات العالم (الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي) دون ان نغفل عن توجيه رسائل تهديد مبطنة من أهم الشركاء (بيان نائبة وزير الخارجية الأمريكي وطلب تقرير حول دور الجيش في مساندة المسار).
العديد من المختصين في الشأن الدبلوماسي كانت لهم قراءات مشتركة حول كيفية رسم العلاقات الخارجية التونسية في العشرية التي تلت ثورة 14 جانفي 2011 وهي ان البناء الدبلوماسي تميز بالتردد والارتباك وأحيانا العجز عن اخذ القرارات، كما يراها البعض الآخر أصبحت تتلخص فقط في بعض التصريحات والزيارات في حين أن العمل الدبلوماسي هو أداة لخدمة السياسة الخارجية للدولة.
ملف من إعداد جهاد الكلبوسي
الديبلوماسي السابق توفيق وناس لـ"الصباح": "دبلوماسية تونس كانت لامعة والآن تبحث عن نفسها"
تونس – الصباح
راهنت عديد الجهات الداخلية والخارجية على التأسيس لعقيدة دبلوماسية في تونس يكون منطلقها المسار الثوري بعد 14 أكتوبر 2011 الذي حظي بدعم دولي واسع وكان الانتظار محمولا على التخلص من ضعف السياسات الخارجية التي كبلت تونس خلال فترة حكم بن علي خاصة وان الآباء المؤسسين والذي رسموا عبر التاريخ علاقات خارجية متنوعة لتونس مثل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وغيره من رجالات الدولة التونسية، وضعوا ثوابت وتقاليد وأعرافا لازالت تذكر في تاريخ السياسة الخارجية التونسية رغم الهزات التي شهدتها في العشر سنوات الأخيرة نتاج التغييرات السياسية الداخلية قبل الخارجية، لكن لا احد يمكن أن يخفي الأداء الهزيل والهزات التي عاشتها السياسة الخارجية خلال ثلاث فترات سياسية مختلفة من رئاسة المنصف المرزوقي إلى فترة حكم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والى غاية اليوم مع رئيس الجمهورية قيس سعيد.
الدبلوماسي السابق توفيق وناس قال انه بصفة عامة عرفت الدبلوماسية التونسية ثلاث فترات عامة الأولى ديبلوماسية ما قبل الاستقلال فإلي جانب جهود المقاومة الداخلية سعت عديد الشخصيات الفاعلة مثل الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وفرحات حشاد والمنجي سليم والحبيب ثامر وصالح بن يوسف وغيرهم من رجالات الدولة الوطنية في تلك الفترة بجهد دبلوماسي إضافي الى الحصول على استقلال تونس الذي اخذ بعدا دوليا لذلك فان كل من حمل قضية الاستقلال على مستوى دولي قام بعمل دبلوماسي لفائدة تونس، ثم جاء الاستقلال وبناء الدولة وكان أول وزير خارجية لتونس هو الحبيب بورقيبة الذي كان يرأس الحكومة التونسية وأسس بورقيبة لدبلوماسية الدولة لتنخرط تونس في الدور العالمي وقد تجلى ذلك في مشاركتها في الأمم المتحدة وكان اول رئيس عربي وافريقي للجمعية العامة للامم المتحدة المنجي سليم وتأسست بذلك ثوابت معروفة في التقاليد السياسة الخارجية التونسي أبرزها القيام بدور حيادي ايجابي يأخذ المواقف الصائبة من القضايا العادلة.
واعتبر وناس ان الدبلوماسية التونسية كانت لامعة على النطاق الدولي لكن تراجعت مع بن علي وانطفأت كشمس عند الغروب وأصبحت في خدمة شخصنة الحكم فكانت خافتة اللون لان تونس كانت تعرف بعدم احترام حقوق الإنسان وكانت فترة 23 سنة شهدت فيها اضمحلالا وانحدارا للدور الدبلوماسي التونسي.
دعم دولي لكن..
وفي فترة ما بعد الثورة أكد وناس ان تونس حظيت بدعم عالمي كبير وكانت هناك فرصة ذهبية للدبلوماسية التونسية لتلعب دورا لفائدة الوطن وإعادة مكانتها في العالم لكن بسرعة كبيرة لما استقر حكم الترويكا والنهضة انخرطت دبلوماسيتنا في سياسة المحاور وأخذت مواقف غير محايدة ما خلق نوع من الرداءة في اداء السياسة الخارجية لذلك كانت غير مجدية من الناحية الوطنية رغم ان الفرصة كانت سانحة لان الرأي العام الدولي كان داعما للمسار الثوري.
كما اعتبر الدبلوماسي السابق توفيق وناس ان دبلوماسية تونس أصبحت متعثرة في كبرى القضايا مثل سوريا واليمن اضافة الى انخراط الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في سياسة المحاور رغم انه كان متشبعا بدبلوماسية الاب المؤسس الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لكن كان لقائد السبسي هوس بالحكم الداخلي أكثر من وضع او رسم سياسات خارجية قوية لتونس.
اما بعد 25 جويلية قال وناس ان الدبلوماسية التونسية تبحث عن نفسها من جديد لانها توفرت على مناخات سياسية جديدة لكن إشكاليتين الأولى تتمثل في إقناع الراي العام الدولي بما وقع في 25 جويلية وفاعلية ونجاعة القرارات الجديدة والإشكال الثاني هو مهمة حشد دعم اقتصادي ونقدي لتونس في ظل الأوضاع المالية الصعبة نتيجة اثار عشر سنوات من التصرف العشوائي لذلك هناك فترة إعادة ترميم البيت الدبلوماسي التونسي من خلال عدم السماح للتدخل الأجنبي لأنه مع احترام السيادة الوطنية يقع الانفتاح على السياسة الدولية وفهم المعضلات الإقليمية والدولية (اقتصاد، بيئة، تعاون دولي..) من اجل بناء علاقات وتعاون دولي قويين.
حدد الرئيس الأسبق منصف المرزوقي، السياسات الخارجية لتونس في فترة حكمه انطلاقا من استحقاقات الثورة لذلك عرفت قراراته بعدا ثورجيا حيث رسم توجهات مختلفة عن الدبلوماسية التقليدية التي عرفتها تونس لعقود طويلة حيث اختلفت في كل أبعادها عن ديبلوماسية الآباء المؤسسين وهم أساسا الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ورجل الدبلوماسية التونسية المنجي سليم.
دبلوماسية المنصف المرزوقي كانت مؤيدة من البداية للقضية الفلسطينية وتجسدت في لقاءاته مع عدد من قيادات المقاومة الفلسطينية، كما خير المرزوقي قطع العلاقات مع النظام السوري وتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا لدعم المعارضة السورية معتبرا قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا قرارا سياديا.
وكان الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي قد أعلن في بيان صدر عن مؤسسة الرئاسة يوم 4 فيفري 2012 عن طرد السفير السوري بتونس، وسحب أي اعتراف بالنظام الحاكم في دمشق، داعيا الرئيس بشار الأسد للتنحي عن السلطة.
بعد فوز حزب نداء تونس في انتخابات 2014 ووصول الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج لاحظنا عودة إلى المواقف التقليدية في السياسات الخارجية زمن بورقيبة سواء في علاقة بالقضية الفلسطينية بعد استقبال السبسي الرئيس الفلسطيني، محمود عباس وهو أول نشاط رسمي له في قصر قرطاج مع الذهاب في خيار اخذ مسافة مما يجري في ليبيا من نزاع هذا الى جانب الدور التونسي في تفعيل قنوات الحوار بين المتنازعين على الأراضي الليبية من خلال تنظيم مؤتمر الصخيرات.
رئيس الجمهورية قيس سعيد التزم بالمشترك الدبلوماسي وبالتقاليد المتعارف عليها وذلك في زيارة دول الجوار في البداية حيث توجه في أول فيفري 2020 الى الجزائر كأول زيارة رسمية له في الخارج، هذه الزيارة أتت في سياقات إقليمية متحركة هذا إلى جانب الحراك السياسي الداخلي لكلا البلدين.
فيما لم تتعد زيارتا سعيد الى ليبيا والجزائر الجولات السياحية خاصة المتعلقة بمصر وقد كتب في هذا السياق المحلل السياسي عبد اللطيف دربالة معلقا بان "الجولة السياحيّة التي قام بها رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد في مصر كانت ناجحة فعلا. كما ان زيارة قيس سعيّد إلى ليبيا كانت على العكس خاطفة واستغرقت ساعتين فقط.. وتمّت بارتجال وعلى عجل.. دون أيّ تحضير مسبق.. ولا تنسيق مع الحكومة.. ودون اصطحاب وزراء معنيّين بفرص التعاون مع ليبيا التي بدأت مسارا سياسيّا سلميّا جديدا وحركة إعادة إعمار واستثمار نشطة تسيل لعاب كلّ دول العالم بما فيها الكبرى والغنيّة".
كما لم تخل "دبلوماسية سعيد" من المفاجأة حيث قرر إقالة المندوب التونسي الدائم لدى الأمم المتحدة، المنصف البعتي وكان ذلك "هزة" انضافت لموجات الارتباك التي شهدتها السياسة الخارجية التونسية منذ تولي سعيد السلطة وفي تبرير القرار أشارت وزارة الشؤون الخارجية التونسية في بيان لها سابق أنّ قرار إعفاء البعتي "يعود لاعتبارات مهنية بحتة ولضعف الأداء وغياب التنسيق والتفاعل مع الوزارة في مسائل هامة مطروحة للبحث في المنظمة الأممية، خصوصا أن عضوية تونس غير الدائمة بمجلس الأمن تقتضي التشاور الدائم والتنسيق المسبق مع الوزارة، بما ينسجم مع مواقف تونس المبدئية ويحفظ مصالحها".
ضربة أخرى للدبلوماسية في عهد قيس سعيد تمثلت في استثناء تونس من الحضور في مؤتمر برلين، الخاص بليبيا هذا دون ان ننسى الحضور بالغياب في القمة الصينية الأفريقية الأخيرة، كما اثار غياب الراية الوطنية خلال استقبال وزير الخارجية عثماني الجرندي مؤخرا الى طرابلس جدلا واسعا حيث اعتبر رئيس حزب المجد عبد الوهاب الهاني أنه تمت إهانة تونس ورئيس الدبلوماسية وهو وزير الخارجية في طرابلس عند استقباله من طرف موظف بوزارة الخارجية دون إحضار العلم التونسي، عكس ما تقتضيه الأصول وعلاقات الجوار ودور تونس المحوري في دعم الشقيقة ليبيا، وفق تعبيره.
وأضاف الهاني في تدوينة عبر صفحته بالفايسبوك "أن وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش انتقلت شخصيا للمطار لاستقبال نظيرها الكويتي وإحضار العلم الكويتي كما تقتضيه الأصول، للمشاركة في الملتقى الدولي لدعم ليبيا."
كما جاء في تدخل للكاتب والمحلل السياسي شكري بن عيسى لإحدى الإذاعات الدولية الجزائرية ان تصريحات الجرندي لمساعدة وزير الخارجية الأمريكية في خصوص ان سعيد سيتولى "الإعلان عن بقية الخطوات التي من شأنها طمأنة شركاء تونس جعلت من الرجل في حرج دبلوماسي لان سعيد لا يلمح في خطاباته نحو الخارج المعايير والقيم الدبلوماسية والجرندي في كل مرة يضطر للمخاتلة الدبلوماسية في للتعديل والتصويب."
كما اعتبر بن عيسى "ان سعيد سيواجه ضغط دولي متزايد الذي يضغط بعد مواقف مجموعة السبع والبرلمان الأوروبي والكونغرس وتصنيفات "موديز السلبية".
ثوابت دبلوماسية..
لعقود طويلة كانت للديبلوماسية التونسية ثوابت راسخة في رسم سياساتها الخارجية وهي ترتكز على أبعاد كبرى تتمثل أساسا في الوفاء الكامل لمقومات الهوية العربية الإسلامية لتونس ومقتضيات انتماءاتها المغاربية والعربية والإفريقية والمتوسطية وعلاقاتها التاريخية والحضارية مع القارة الأوروبية ومن الدور النشيط والمتميز الذي اضطلعت به تونس ولا تزال في محيطها الجغراسياسي والذي جعل منها عبر التاريخ، رغم صغر الحجم الجغرافي والديمغرافي ومحدودية الثروات الطبيعية قطبا للإبداع والإشعاع وأنموذجا فريدا للتعايش الحي بين الثقافات والحضارات.
وتعمل الدبلوماسية التونسية على تعزيز مكانة تونس ومصداقيتها على الساحتين الإقليمية والدولية كدولة محبة للسلام ومتعلقة بالشرعية الدولية وعاملة بدأب على تنمية علاقاتها الخارجية في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ونصرة القضايا العادلة والمساهمة الدائمة في كل جهد وعمل جماعي لخدمة الأمن والاستقرار وتحقيق الرخاء والتقدم لفائدة الإنسانية قاطبة انطلاقا من الترابط الوثيق بين السلم والأمن والاستقرار والتنمية والديمقراطية.
ارتباك السياسة الخارجية
رامي الصالحي رئيس مكتب المغرب العربي للشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان رأى أن بتصريحاته وخطاباته المتشنجة فان رئيس الجمهورية قيس سعيد، وهي مظاهر غريبة عن الدبلوماسية التونسية وتقاليدها، أمعن في عزل البلاد عن سياقها الدولي من جانب أمريكي وأوروبي الى جانب الإشكاليات مع ليبيا وكذلك الجزائر وهذه قد تطرح لاحقا خاصة بعد الزيارة التي تؤديها رئيسة الحكومة نجلاء بودن الى المملكة العربية السعودية في حين انه في التقاليد والثوابت في البناء الديبلوماسي فان دول الجوار تكون في قائمة ترتيب الزيارات الرسمية للمسؤولين الجدد في تونس وهي اعراف مشتركة مع هذه الدول وتعتبر هذه الخطوة إشارة غير ايجابية لان التقاليد الدبلوماسية المشتركة يجب المحافظة عليها وتطويرها وتعزيزها
وأضاف الصالحي انه تاريخا الدبلوماسية التونسية مبنية على الحياد والابتعاد ما أمكن على كل الصراعات والخلافات سواء بين الأشقاء العرب أو مع بقية الفاعلين الدوليين أمريكيين أو أوروبيين وحتى في الخلافات بين المغرب والجزائر تونس في فترة ماضية حافظت تونس على الحياد والتزمت بالمقررات الأممية، لكن بعد 2011 تونس انخرطت في سياسة المحاور وأصبحت تتنازع بين محورين الاول قطري تركي والثاني مصري إماراتي سعودي هذا الى جانب التذبذب في علاقاتنا ما أدى الى حصول ارتباك في الدبلوماسية يفهم منها ان السياسات الخارجية تشهد اهتزازات لأنه في كل مرة تفرز تشكيلة سياسية جديدة تكون لديها ميولات وارتباطات للأسف ببعض الجهات الخارجية وهذا اثر كثيرا على موقع تونس وعلى شركاتها الإستراتيجية وهذه المسالة تعمقت أكثر بعد 25 جويلية بعد ان خرجنا من مرحلة سياسة المحاور الى مرحلة صراع مع الشركاء الدوليين.
عزلة دولية..
الباحث في العلاقات الدولية والمختص في الشأن الليبي بشير الجويني، اكد انه تاريخيا استندت السياسة الخارجية التونسية على جملة من المبادئ التي تترجم حرص الدولة على تعزيز أسباب التفاهم والتسامح والتضامن بين الدول والشعوب وإضفاء مزيد من العدل والديمقراطية والتوازن في العلاقات الدولية وذلك من خلال التمسك بالشرعية الدولية واحترام مقتضياتها وقراراتها وتغليب منطق الحوار والتفاوض والوسائل السلمية كسبيل لفض الخلافات والنزاعات الى جانب تطوير العلاقات الدولية في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
خلال فترتي حكم الرئيسين السابقين سواء المنصف المرزوقي او الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي كانت الدبلوماسية التونسية محط صراع ونزاع بين محاور مختلفة حيث تم رسم سياسات خارجية تمتاز بقربها من محاور إقليمية وبعدها اعن اخرى لكن ما يحسب لهما انهما لم ينخرطا بصفة مباشرة في الصراع بين المحاور لكن الان اصبح صراعا مباشرا حول اصطفاف تونس مثلا المساعدات الطبية المتواترة على تونس ما بعد قرارا سعيد ليست مجانية فهي تحمل رسائل خاصة وان الأزمة الصحية التونسية مسبوقة وهو ما يطرح تساؤلا لماذا هبت هذه الدول وخاصة التي عرف عنها انخراطها في صراع المحاور الى مساندة تونس؟ لذلك الاستنتاج الواضح ان هذه الرسائل لدعم ومساندة قرارات 25 كانت بهدف ضرب التجربة الديمقراطية لتونس باعتبار ان الديمقراطية تهديد لهذه الأنظمة.
في نفس السياق اعتبر بشير الجويني المختص في العلاقات الدولية أن الحراك الدبلوماسي في تونس بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد لا يعكس الحرص الحقيقي الذي يتلاءم مع " الزلزال السياسي" الذي حصل في البلاد، مشيرا الى ان السياسات الخارجية اتسمت بنوع من العزلة الدولية التي بدأت تشهد تزايد ملحوظ خاصة بعد وجود تقارب واضح مع المحور 25 المصري الإماراتي السعودي لتصبح تونس في عين العاصفة والتجاذبات والمحاور الدولية في خرق واضح للثوابت الوطنية الدبلوماسية.
كما ان المتابع للحراك الدبلوماسي في تونس خلال الفترة الحالية من وجهة رأي الجويني يشهد ان تونس تخسر حلفاءها خاصة ممن راهنوا على التجربة الديمقراطية للأسف على أجندا برلمانات العالم (الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي) دون ان نغفل عن توجيه رسائل تهديد مبطنة من أهم الشركاء (بيان نائبة وزير الخارجية الأمريكي وطلب تقرير حول دور الجيش في مساندة المسار).
العديد من المختصين في الشأن الدبلوماسي كانت لهم قراءات مشتركة حول كيفية رسم العلاقات الخارجية التونسية في العشرية التي تلت ثورة 14 جانفي 2011 وهي ان البناء الدبلوماسي تميز بالتردد والارتباك وأحيانا العجز عن اخذ القرارات، كما يراها البعض الآخر أصبحت تتلخص فقط في بعض التصريحات والزيارات في حين أن العمل الدبلوماسي هو أداة لخدمة السياسة الخارجية للدولة.