تونس – الصباح
يحتفل اليوم التونسيون، وسط ظروف وأجواء استثنائية، بإحياء الذكرى 58 لعيد الجلاء تاريخ جلاء وإخراج آخر جندي فرنسي عن الأراضي التونسية من مدينة بنزرت يوم 15 أكتوبر 1963 واكتمال مكسب الاستقلال التام عن الاستعمار الفرنسي، بعد معارك دامية تواصلت على امتداد سنوات ذهب ضحيتها 630 شهيدا وخلفت مئات الجرحى بين مدنيين وممن شاركوا في تلك المعارك من جنود ومتطوعين من الشباب والكشافة والمقاومين الذين التحقوا بصفوف الحرب بقلعة النضال بالشمال التونسي من كامل جهات الجمهورية. علما أن حصول تونس على استقلالها كان يوم 20 مارس 1956.
وتتزامن ذكرى هذا العام مع الوضع السياسي الاستثنائي الذي تمر به بلادنا بعد أيام قليلة من مباشرة حكومة بودن الجديدة لمهامها في تسيير دواليب الدولة، مقابل وتطلعات الجميع لمرحلة جديدة في تاريخ تونس تكون مسألة تحقيق المصالحة مع كل مقومات السيادة الوطنية من بين أولوياتها انطلاقا من إعادة الاعتبار للأعياد والمناسبات الوطنية وإيلائها الأهمية التي تضعها في مرتبة محطات مرجعية تربط السابق بالحاضر واللاحق وتذكّر الأجيال اللاحقة بأبرز المحطات المفصلية من تاريخ تونس. يأتي ذلك بعد محاولات الطمس والتغييب الممنهج لهذه المحطات الوطنية خلال السنوات العشر الأخيرة. إذ قاربت هذه المناسبة كغيرها من الأعياد الوطنية الأخرى أن تدخل في طي النسيان بعد أن أفرغت هذه المواعيد من قيمتها التاريخية والنضالية وأصبحت تمر دون طعم ولا لون أو رائحة". خاصة أمام تواصل محاولات بعض الأحزاب والسياسيين الدفع للمس من السيادة الوطنية والتحرك لحث القوى والمنظمات الأجنبية للتدخل الشؤون الوطنية الداخلية فضلا عن محاولات التشكيك في سلطة القرار الوطني النابع من الشعب واللهث وراء "مظلات" أجنبية لضرب وهز عرش السيادة الوطنية تحت عناوين مختلفة.
وبقطع النظر عن أحداث ونتائج رحى الحرب والمقاومة ضد المستعمر في عاصمة الجلاء بنزرت أو غيرها من المناطق بكامل جهات الجمهورية التي كانت مسرحا لمعارك طاحنة خلال فترة الاستعمار الفرنسي التي بدأت من 1881 وتواصلت على امتداد 82 عاما، عرفت نضال أجيال عديد روت دماء عدد كبير من الشهداء ترابها والتي تحتفظ الذاكرة وكتب التاريخ اليوم بتفاصيلها، وذلك من أجل أن تنعم أجل الأمس واليوم وغدا بالحرية والسيادة الوطنية، إلا أن مثل هذه المناسبات تظل خطوطا عريضة محفورة في تاريخ تونس الحافل بالمحطات النضالية التي كُتِبَت بأحرف من ذهب وخُطَّت بدماء المئات من أبنائها ممن قدموا أرواحهم فداء له لتنعم الأجيال اللاحقة باستقلاله ويرفرف علم بلادنا عاليا معلنا أن السيادة الوطنية خط أحمر وأن العمل على إعلاء راية الوطن والنهوض به ليكون في مستوى تطلعات وانتظارات أبنائه وضمان استقلال قراراته واجب مقدس.
وتجدر الإشارة إلى أن عديد الجهات عبرت عن استنكارها لتمشي المنظومة السابقة بمختلف الحكومات التي تعاقبت عليها في تهميش المواعيد الوطنية وتغييب الاحتفاليات بالأعياد والمناسبات الوطنية ونددت بمثل تلك الممارسات في طمس كل معالم الاحتفالية في عيد الجلاء كما في الأعياد الوطنية إلى درجة أن هذه المناسبة أصبحت شبه جهوية يقتصر الاحتفال فيها على بعض الجهات الناشطة في المجتمع المدني أو الغيورين على المناسبة من العاملين في السلط المحلية والجهوية بعد نجاح المنظومة السابقة في نفي الصبغة الوطنية عن هذه الذكرى التي بإحيائها إحياء لذكرى استشهاد عدد كبير من أبناء تونس من كامل جهات الجمهورية وإحالة على المراحل النضالية التي عرفتها تونس في مقاومة المستعمر. ثم أن في القطع مع الاحتفال بعيد الجلاء كما بقية المواعيد الوطنية يشكل خطرا على مناهج تكريس حب الوطن من خلال استحضار ذكرى رموزه ومواعيده التاريخ المفصلية نظرا لتداعيات ذلك على علاقة المواطن بالوطن خاصة بالنسبة للأجيال الصاعدة. لتعود بذلك الأعلام الوطنية ترفرف في الشوارع والساحات الكبرى والمؤسسات الوطنية احتفالا بمثل هذه الأعياد.
لذلك فإن إعادة الاعتبار للأعياد الوطنية في مرحلة تونس الجديدة والعمل على غرس وتكريس ثقافة حب الوطن واحترام رموزه ومناضليه وتحقيق المصالحة مع تاريخ تونس لا يقل أهمية عن توجه المنظومة الجديدة للقضاء على الفساد المستشري في الإدارة وداخل مؤسسات الدولة أو ضمان العيش الكريم للمواطن التونسي في سياقاته وعبر الأساليب المختلفة.
فعيد الجلاء الذي يتزامن مع هذا اليوم من شهر أكتوبر 2021 يعد محطة مفصلية في تاريخ تونس المعاصر في علاقتها مع المواعيد الوطنية والانتظارات لإعادة الاعتبار لها ليس باكتفاء رئيس الجمهورية بتمتيع عدد من المساجين بعفو خاص أو منح يوم عطلة للتلاميذ والطبلة والموظفين أو الاكتفاء ببعض أشكال الاحتفال النمطية المفرغة من الأهداف وإنما عبر الدفع لجعل هذه الذكرى وغيرها من الأعياد الوطنية مناسبات لتمتين علاقة كل الأجيال بهذا الوطن ليكونوا جنود صد منيعة ضد كل الأجندات التي تعمل على إضعافه وانهياره وتفقيره وتخريبه ونهش ثرواته وذلك عبر إعلاء راية العلم والعمل والجدية وتكريس مبدأ الثقة. ويذكر أن رئيس الجمهورية قيس سعيد كان قد أعلن في بلاغ لرئاسة الجمهورية عن تمتيع 1221محكوما عليهم بالعفو الخاص بمناسبة إحياء الذكرى 58 لعيد الجلاء. ليؤدّي هذا العفو الخاص إلى إطلاق سراح 271 سجينا، وسيتمّ تمتيع البقية بالحطّ من مدة العقاب المحكوم به.
لذلك سيكون قيس سعيد من خلال هذه المناسبة أمام محك معركة جديدة في القطع مع المخلفات السلبية للمنظومة التي حكمت البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة وتداعيات ضربها الممنهج لكل مقومات الوطنية وسيادة الدولة وكل ما يكرس علاقة المواطن بتونس من خلال تغييب كل مظاهر الاحتفالية في مثل هذه المناسبات وتهميشها لتكون كسائر الأيام والأشهر والسنوات ليقين الجميع أن المساعي لطمس تاريخ البلاد من أجل وضع تاريخ جديد بعناوين وتوجهات مختلفة لا يزال قائما فقط في انتظار أن تسنح الفرصة لذلك.
نزيهة الغضباني