في 2011 والثورة في ذروة توهجها ونظام بن علي يترنح.. يذكر الجميع ذاك التصريح الذي أدلت به هيلاري كلينتون لقناة "الجزيرة" وأكدت فيه أن الحكومة الأمريكية تراقب ما يحدث في تونس دون أن تقف إلى جانب النظام على حساب الشعب ولا العكس بالعكس.. تصريح كان منسجما مع السياسيات الأمريكية المعروفة عندما تُباغت بأحداث في العالم غير متوقعة أو غير ملمة ببعض تفاصيلها حيث تخيير الصمت والمراقبة اللصيقة في انتظار من سينتصر.. وهذا المنتصر هو من سيحدد بعد ذلك كيفية التعامل معه ..
اليوم يتبنى ضمنيا السيناتور الأمريكي كريس ميرفي الديمقراطي الذي ترأس الوفد الأمريكي في لقائه بسعيد، تقريبا نفس الموقف الذي تبنته هيلاري كلينتون ابان الثورة، عندما غرد على صفحته الرسمية مؤكدا على أن الولايات المتحدة تهتم فقط بحماية وتقدم مسار ديمقراطي واقتصادي سليم في تونس وأنها لا تفضل أي حزب سياسي عن آخر وأنها لا تخدم أجندة على حساب أخرى.. رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ للشرق الأدنى وجنوب آسيا وآسيا الوسطى ومكافحة الإرهاب،كريس مورفي، الذي أكد أيضا أنّه حثّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد على العودة للمسار الديمقراطي والإسراع بإنهاء حالة الطوارئ..
وهذه الزيارة للوفد الأمريكي والتي أثارت الكثير من الجدل وردود الأفعال بين متحمس لها ومستقو بما يمكن أن تحققه من نتائج وبين رافض لها ومعتبرا إياها، تدخلا أمريكيا في شأن وطني- سيادي.. تأتي في علاقة بإعلان إجراءات 25 جويلية والزلزال السياسي الذي ضرب تونس وغيّر كليا ملامح الحكم والسلطة. وقبل ذلك كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، قد حث الرئيس قيس على "احترام الديمقراطية" بعد إعلانه إقالة رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان، متعهدا بدعم الاقتصاد التونسي ومساعدة البلاد في مواجهة انتشار فيروس كورونا. وهذه المتابعة الأمريكية اللصيقة لتطور المشهد في تونس تؤكد حرص الولايات المتحدة على أن لها كلمتها في صياغة ورسم ملامح التجربة الديمقراطية.. وبين وقوف أعضاء الكونغرس أواخر جانفي 2011 لتحية نجاح الثورة التونسية بطلب من الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ..
يتأكد حرص الإدارة الأمريكية تحت قيادة الرئيس الديمقراطي ، بايدن، على أن تكون حاضرة ومؤثرة ومغيرة في المشهد التونسي، ليس فقط من أجل الديمقراطية كما زعم ذلك وفد كريس مورفي ولكن من أجل المصالح الأمريكية في تونس وخاصة في المنطقة المغاربية وفي إفريقيا، هذه المصالح التي كانت السبب في الإطاحة بزين العابدين بن علي ونظامه، الذي لم يلتقط الرسالة التي أبغلته إياها كوندليزا رايس، بشكل جيد، خلال لقائها به في 2008 وتلميحها إلى ضرورة تحقيق انتقال سياسي في تونس، ولعل ذلك ما جعل بن علي ورجال نظامه مقتنعين أن الأمريكان كانوا سببا في إزاحته من على كرسي الحكم..
وخلال كامل عشرية الثورة لم يتوقف التدخل الأمريكي في تونس تحت غطاء ومسميات متعددة منها دعم الديمقراطية الناشئة أو من خلال المساعدات الاقتصادية والأمنية والعسكرية.. لكن اللافت في هذه العلاقة هو أنها ظلت مبنية طوال العشرية الماضية على تقديم المساعدات والهبات مقابل الاطلاع على كل التفاصيل والجزئيات حتى تلك التي لها علاقة بالأمن القومي دون أن تكون هناك علاقة مصلحة مشتركة مبينة مثلا على تبادل تجاري متين بين البلدين يخدم الاقتصاد الوطني ولكنها ظلت علاقة أقرب إلى التبعية خاصة في عشرية ما بعد الثورة وتميز العلاقة بين الولايات المتحدة وبعض الأحزاب على رأسها حركة النهضة وهي التي تمثل الإسلام السياسي والتي راهن عليها الأمريكان في كل الثورات العربية لبناء ديمقراطيات شبيهة بالديمقراطية التونسية خلال العشر سنوات الماضية والتي اكتشفنا كم كانت ديمقراطية مغشوشة وصورية وعاجزة عن تحقيق ما تطلع إليه التونسيون .. !
مراهنة على الإسلام السياسي
لم يكن خافيا أن الولايات المتحدة الأمريكية في 2011 راهنت بقوة ودعمت حركات الإسلام السياسي بعد نجاح ثورات الربيع العربي في الإطاحة بالأنظمة القديمة الاستبدادية وهذا الرهان تبين لاحقا بعد ما آلت اليه أغلب هذه الثورات من خراب وأن ذاك الرهان لم يكن هدفه دعم الديمقراطية كما تروج الى ذلك الإدارة الأمريكية وكما ينطلي ذلك على البسطاء والسذج، بل كان هدفه احتواء الشعوب العربية الغاضبة تحت غطاء وهمي وهو الحرية والديمقراطية ..
فالأمريكان كانوا على بينة أن الشعوب العربية ضاقت ذرعا بالطغاة والمستبدين الذين حكموها بالحديد والنار لعقود وأن لحظة الانفجار الثوري قادمة لا محالة وان ديمقراطية الدبابة جُربت وفشلت في العراق ولذلك عندما اندلعت الثورات العربية التقط الأمريكان اللحظة ودافعوا بقوة عن الديمقراطية الموعودة على شرط ان تكون منسجمة مع المصالح الأمريكية، وأكبر دليل على ذلك أن انتفاضة الشعبية في البحرين والتي كانت دوافعها مذهبية ودينية لم تلتف إليها الولايات المتحدة الأمريكية ولم تبد وقتها أي حماس للديمقراطية في دولة ملكية قمعية ولم تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان لأن نجاح ثورة البحرين تعني توسعا للمد الشيعي في المنطقة .
وكان الدعم الأمريكي لحركات الإسلام السياسي في بلدان الثورات العربية، ترجمة للدفاع عن مصالحها في المنطقة، حيث وجدت في هذه الحركات التي لا تملك الخبرة ولا الكفاءة في إدارة شؤون بلادها، فرصتها في إخضاعها حتى تتحول إلى أدوات لتنفيذ تعليمات البيت الأبيض، في ظل ديمقراطية مغشوشة، تم إطلاق يد هذه الحركات الإسلامية فيها لتعبث بدولها الأم بسبب انعدام الكفاءة أو بسبب مطامع وفساد قياداتها .
حركة النهضة والعلاقة الخاصة والغامضة
يتذكر الجميع الى اليوم تلك الصورة المثيرة التي جمعت رئيس حكومة الترويكا حمادي الجبالي وهو يحتضن بحرارة لافتة السيناتور الأمريكي المثير للجدل جون ماكين في 2012 ، والتي تعبر عن نوع من الامتنان من طرف قيادي نهضاوي بارز وقتها تجاه سيناتور أمريكي يتمتع بعلاقات ونفوذ واسع داخل الولايات المتحدة ..ولم تكن تلك الزيارة الأولى لماكيين الذي زار تونس بعد أيام من سقوط نظام بن علي والتقى وقتها رئيس الحكومة الأسبق كما التقى بعد الجبالي بعلي العريض في 2013 بعد تقلده منصب رئيس حكومة عقب اغتيال الشهيد شكري بلعيد وفي بداية 2015 زار تونس مجددا بعد أشهر قليلة من الانتخابات والتقى وقتها زعيم حركة النهضة التي خسرت انتخابات 2014 ، راشد الغنوشي .
وهذه الزيارات المتكررة لجون ماكيين والتي كان يحرص خلالها على لقاءات قيادات من حركة النهضة، قابلتها زيارات لراشد الغنوشي الى الولايات المتحدة والتي كانت أغلبها زيارات سرية وغير معلنة، وكان عراب أغلب تلك الزيارات هو القيادي المستقيل من النهضة رضوان المصمودي الذي تحول من خلال مركزه الإسلام والديمقراطية الى جسر تواصل بين اللوبيات النافذة في الولايات المتحدة الأمريكية وحركة النهضة .
ولعل زيارة الغنوشي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في أواخر نوفمبر 2011 الأكثر إثارة للجدل، باعتبار أن هذا المعهد أسسه اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي، ايباك، وقد كان الصهيوني المتعصب مارتن أنديك هو المؤسس الفعلي له. وقتها قال الغنوشي في محاضرته أن موقف الولايات المتحدة من الثورات العربية كان إيجابيا وهو ما يمكن أن يسهل العلاقة بين الإسلام والغرب بعد التشويه الذي أحدثه الإرهابيون في هذه الصورة، على حد تعبيره وفق مقتطف من محاضرته المنشورة على موقع المعهد .
ولم يتوقف الدعم الأمريكي لحركة النهضة عند استقبال الغنوشي ومحاورته بل في انه تم اختياره من طرف مجلة "التايم" ضمن أهم 100 شخصية مؤثرة بالعالم في سنة 2012 .
عقود اللوبيينغ كشفت المستور
في تقريرها الأخير، حول انتخابات 2019، كيفت محكمة المحاسبات عقود اللوبيينغ التي قامت بها كل من حركة النهضة وحزب قلب تونس وقائمة عيش تونسي، مع شركات أمريكية لتلميع صورتها والقيام باتصالات مباشرة مع مسؤولين أمريكيين، ونشرها موقع وزارة العدل الأمريكية كنوع من التمويل الأجنبي الذي يعد جريمة انتخابية.. حيث ثبت أن حركة النهضة تعاقدت مع شركة لوبيينغ متخصصة في الاتصال والعلاقات العامة بعقد قيمته 285 ألف دولار في سنة 2014 بهدف تحسين صورتها والقيام باتصالات مع مسؤولين في الدولة الأمريكية إضافة إلى عقد آخر بقيمة 112.500 ألف دولار بمجموع يقدر بـ 397 ألف دولار.
وبعد إجراءات 25 جويلية كررت حركة النهضة العملية وتعاقدت مع شركة لوبيينغ لتحسين صورتها أمام الرأي العام وللتواصل مع مسؤولين أمريكيين حيث نشر موقع وزارة العدل الأمريكية عقد لوبينغ بتاريخ يوم 29 جويلية 2021 ، قامت به الحركة بقيمة 30 ألف دولار. وقد فتح القضاء تحقيقا في عقد اللوبينغ هذا .
عين على الانتخابات وأخرى على البرلمان
منذ مدة، عبر عضوا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عادل البرينصي ونبيل العزيزي عن تخوفهما من الأدوار الخفية للمؤسسة الدولية للنظم الانتخابية الأمريكية ومن محاولتها اختراق الحياة السياسية في تونس تحت عنوان المساعدة والمرافقة، وذلك في حوار سابق لـ"الصباح" حيث أشار إلى ان هذه المؤسسة تشرف على التكوين والتدريب وحتى التسجيل والتطبيقات كما أنها تملك قاعدة بيانات التسجيل وبالتالي معطيات شخصية لملايين التونسيين إلى جانب أنها تقوم بتقييم أداء الهيئة.. علما وأن المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية (IFES) هي منظمة غير حكومية، تقدم نفسها على أنها تعمل في مجال المساعدة التقنية الانتخابية ..
وفي ذات السياق، يثير المعهد الديمقراطي الوطني الذي يقدم نفسه كمنظمة دولية لدعم الديمقراطية في كل دول العالم، موجة من ردود الأفعال المنددة بعد أن اتهمته رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، بأنه من بين المنظمات الأجنبية التي تتدخل في عمل البرلمان وأنه يحضر الجلسات العامة للبرلمان وأشغال لجانه مع الكتل والأحزاب، ويكتب التقارير ويبدي الرأي في عدد من مشاريع القوانين المعروضة"، مؤكدة ان ذلك يعد انتهاكا للسيادة الوطنية، وفق تعبيرها.
ورد وقتها المعهد على هذه الاتهامات بقوله أنه يدعم مشاركة الشباب في العمل السياسي من خلال الترّبص الداخلي في المجالس التشريعية والبرلمانات وأن الهدف من هذه البرامج هو توفير إمكانية للشباب للمشاركة في العمل السياسي.. لكن هذه المهمة يرى البعض ان هدفها إعداد جيل سياسي موالي للولايات المتحدة الأمريكية .
منية العرفاوي
تونس- الصباح
في 2011 والثورة في ذروة توهجها ونظام بن علي يترنح.. يذكر الجميع ذاك التصريح الذي أدلت به هيلاري كلينتون لقناة "الجزيرة" وأكدت فيه أن الحكومة الأمريكية تراقب ما يحدث في تونس دون أن تقف إلى جانب النظام على حساب الشعب ولا العكس بالعكس.. تصريح كان منسجما مع السياسيات الأمريكية المعروفة عندما تُباغت بأحداث في العالم غير متوقعة أو غير ملمة ببعض تفاصيلها حيث تخيير الصمت والمراقبة اللصيقة في انتظار من سينتصر.. وهذا المنتصر هو من سيحدد بعد ذلك كيفية التعامل معه ..
اليوم يتبنى ضمنيا السيناتور الأمريكي كريس ميرفي الديمقراطي الذي ترأس الوفد الأمريكي في لقائه بسعيد، تقريبا نفس الموقف الذي تبنته هيلاري كلينتون ابان الثورة، عندما غرد على صفحته الرسمية مؤكدا على أن الولايات المتحدة تهتم فقط بحماية وتقدم مسار ديمقراطي واقتصادي سليم في تونس وأنها لا تفضل أي حزب سياسي عن آخر وأنها لا تخدم أجندة على حساب أخرى.. رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ للشرق الأدنى وجنوب آسيا وآسيا الوسطى ومكافحة الإرهاب،كريس مورفي، الذي أكد أيضا أنّه حثّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد على العودة للمسار الديمقراطي والإسراع بإنهاء حالة الطوارئ..
وهذه الزيارة للوفد الأمريكي والتي أثارت الكثير من الجدل وردود الأفعال بين متحمس لها ومستقو بما يمكن أن تحققه من نتائج وبين رافض لها ومعتبرا إياها، تدخلا أمريكيا في شأن وطني- سيادي.. تأتي في علاقة بإعلان إجراءات 25 جويلية والزلزال السياسي الذي ضرب تونس وغيّر كليا ملامح الحكم والسلطة. وقبل ذلك كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، قد حث الرئيس قيس على "احترام الديمقراطية" بعد إعلانه إقالة رئيس الحكومة وتجميد عمل البرلمان، متعهدا بدعم الاقتصاد التونسي ومساعدة البلاد في مواجهة انتشار فيروس كورونا. وهذه المتابعة الأمريكية اللصيقة لتطور المشهد في تونس تؤكد حرص الولايات المتحدة على أن لها كلمتها في صياغة ورسم ملامح التجربة الديمقراطية.. وبين وقوف أعضاء الكونغرس أواخر جانفي 2011 لتحية نجاح الثورة التونسية بطلب من الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ..
يتأكد حرص الإدارة الأمريكية تحت قيادة الرئيس الديمقراطي ، بايدن، على أن تكون حاضرة ومؤثرة ومغيرة في المشهد التونسي، ليس فقط من أجل الديمقراطية كما زعم ذلك وفد كريس مورفي ولكن من أجل المصالح الأمريكية في تونس وخاصة في المنطقة المغاربية وفي إفريقيا، هذه المصالح التي كانت السبب في الإطاحة بزين العابدين بن علي ونظامه، الذي لم يلتقط الرسالة التي أبغلته إياها كوندليزا رايس، بشكل جيد، خلال لقائها به في 2008 وتلميحها إلى ضرورة تحقيق انتقال سياسي في تونس، ولعل ذلك ما جعل بن علي ورجال نظامه مقتنعين أن الأمريكان كانوا سببا في إزاحته من على كرسي الحكم..
وخلال كامل عشرية الثورة لم يتوقف التدخل الأمريكي في تونس تحت غطاء ومسميات متعددة منها دعم الديمقراطية الناشئة أو من خلال المساعدات الاقتصادية والأمنية والعسكرية.. لكن اللافت في هذه العلاقة هو أنها ظلت مبنية طوال العشرية الماضية على تقديم المساعدات والهبات مقابل الاطلاع على كل التفاصيل والجزئيات حتى تلك التي لها علاقة بالأمن القومي دون أن تكون هناك علاقة مصلحة مشتركة مبينة مثلا على تبادل تجاري متين بين البلدين يخدم الاقتصاد الوطني ولكنها ظلت علاقة أقرب إلى التبعية خاصة في عشرية ما بعد الثورة وتميز العلاقة بين الولايات المتحدة وبعض الأحزاب على رأسها حركة النهضة وهي التي تمثل الإسلام السياسي والتي راهن عليها الأمريكان في كل الثورات العربية لبناء ديمقراطيات شبيهة بالديمقراطية التونسية خلال العشر سنوات الماضية والتي اكتشفنا كم كانت ديمقراطية مغشوشة وصورية وعاجزة عن تحقيق ما تطلع إليه التونسيون .. !
مراهنة على الإسلام السياسي
لم يكن خافيا أن الولايات المتحدة الأمريكية في 2011 راهنت بقوة ودعمت حركات الإسلام السياسي بعد نجاح ثورات الربيع العربي في الإطاحة بالأنظمة القديمة الاستبدادية وهذا الرهان تبين لاحقا بعد ما آلت اليه أغلب هذه الثورات من خراب وأن ذاك الرهان لم يكن هدفه دعم الديمقراطية كما تروج الى ذلك الإدارة الأمريكية وكما ينطلي ذلك على البسطاء والسذج، بل كان هدفه احتواء الشعوب العربية الغاضبة تحت غطاء وهمي وهو الحرية والديمقراطية ..
فالأمريكان كانوا على بينة أن الشعوب العربية ضاقت ذرعا بالطغاة والمستبدين الذين حكموها بالحديد والنار لعقود وأن لحظة الانفجار الثوري قادمة لا محالة وان ديمقراطية الدبابة جُربت وفشلت في العراق ولذلك عندما اندلعت الثورات العربية التقط الأمريكان اللحظة ودافعوا بقوة عن الديمقراطية الموعودة على شرط ان تكون منسجمة مع المصالح الأمريكية، وأكبر دليل على ذلك أن انتفاضة الشعبية في البحرين والتي كانت دوافعها مذهبية ودينية لم تلتف إليها الولايات المتحدة الأمريكية ولم تبد وقتها أي حماس للديمقراطية في دولة ملكية قمعية ولم تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان لأن نجاح ثورة البحرين تعني توسعا للمد الشيعي في المنطقة .
وكان الدعم الأمريكي لحركات الإسلام السياسي في بلدان الثورات العربية، ترجمة للدفاع عن مصالحها في المنطقة، حيث وجدت في هذه الحركات التي لا تملك الخبرة ولا الكفاءة في إدارة شؤون بلادها، فرصتها في إخضاعها حتى تتحول إلى أدوات لتنفيذ تعليمات البيت الأبيض، في ظل ديمقراطية مغشوشة، تم إطلاق يد هذه الحركات الإسلامية فيها لتعبث بدولها الأم بسبب انعدام الكفاءة أو بسبب مطامع وفساد قياداتها .
حركة النهضة والعلاقة الخاصة والغامضة
يتذكر الجميع الى اليوم تلك الصورة المثيرة التي جمعت رئيس حكومة الترويكا حمادي الجبالي وهو يحتضن بحرارة لافتة السيناتور الأمريكي المثير للجدل جون ماكين في 2012 ، والتي تعبر عن نوع من الامتنان من طرف قيادي نهضاوي بارز وقتها تجاه سيناتور أمريكي يتمتع بعلاقات ونفوذ واسع داخل الولايات المتحدة ..ولم تكن تلك الزيارة الأولى لماكيين الذي زار تونس بعد أيام من سقوط نظام بن علي والتقى وقتها رئيس الحكومة الأسبق كما التقى بعد الجبالي بعلي العريض في 2013 بعد تقلده منصب رئيس حكومة عقب اغتيال الشهيد شكري بلعيد وفي بداية 2015 زار تونس مجددا بعد أشهر قليلة من الانتخابات والتقى وقتها زعيم حركة النهضة التي خسرت انتخابات 2014 ، راشد الغنوشي .
وهذه الزيارات المتكررة لجون ماكيين والتي كان يحرص خلالها على لقاءات قيادات من حركة النهضة، قابلتها زيارات لراشد الغنوشي الى الولايات المتحدة والتي كانت أغلبها زيارات سرية وغير معلنة، وكان عراب أغلب تلك الزيارات هو القيادي المستقيل من النهضة رضوان المصمودي الذي تحول من خلال مركزه الإسلام والديمقراطية الى جسر تواصل بين اللوبيات النافذة في الولايات المتحدة الأمريكية وحركة النهضة .
ولعل زيارة الغنوشي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في أواخر نوفمبر 2011 الأكثر إثارة للجدل، باعتبار أن هذا المعهد أسسه اللوبي الصهيوني في الكونغرس الأمريكي، ايباك، وقد كان الصهيوني المتعصب مارتن أنديك هو المؤسس الفعلي له. وقتها قال الغنوشي في محاضرته أن موقف الولايات المتحدة من الثورات العربية كان إيجابيا وهو ما يمكن أن يسهل العلاقة بين الإسلام والغرب بعد التشويه الذي أحدثه الإرهابيون في هذه الصورة، على حد تعبيره وفق مقتطف من محاضرته المنشورة على موقع المعهد .
ولم يتوقف الدعم الأمريكي لحركة النهضة عند استقبال الغنوشي ومحاورته بل في انه تم اختياره من طرف مجلة "التايم" ضمن أهم 100 شخصية مؤثرة بالعالم في سنة 2012 .
عقود اللوبيينغ كشفت المستور
في تقريرها الأخير، حول انتخابات 2019، كيفت محكمة المحاسبات عقود اللوبيينغ التي قامت بها كل من حركة النهضة وحزب قلب تونس وقائمة عيش تونسي، مع شركات أمريكية لتلميع صورتها والقيام باتصالات مباشرة مع مسؤولين أمريكيين، ونشرها موقع وزارة العدل الأمريكية كنوع من التمويل الأجنبي الذي يعد جريمة انتخابية.. حيث ثبت أن حركة النهضة تعاقدت مع شركة لوبيينغ متخصصة في الاتصال والعلاقات العامة بعقد قيمته 285 ألف دولار في سنة 2014 بهدف تحسين صورتها والقيام باتصالات مع مسؤولين في الدولة الأمريكية إضافة إلى عقد آخر بقيمة 112.500 ألف دولار بمجموع يقدر بـ 397 ألف دولار.
وبعد إجراءات 25 جويلية كررت حركة النهضة العملية وتعاقدت مع شركة لوبيينغ لتحسين صورتها أمام الرأي العام وللتواصل مع مسؤولين أمريكيين حيث نشر موقع وزارة العدل الأمريكية عقد لوبينغ بتاريخ يوم 29 جويلية 2021 ، قامت به الحركة بقيمة 30 ألف دولار. وقد فتح القضاء تحقيقا في عقد اللوبينغ هذا .
عين على الانتخابات وأخرى على البرلمان
منذ مدة، عبر عضوا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عادل البرينصي ونبيل العزيزي عن تخوفهما من الأدوار الخفية للمؤسسة الدولية للنظم الانتخابية الأمريكية ومن محاولتها اختراق الحياة السياسية في تونس تحت عنوان المساعدة والمرافقة، وذلك في حوار سابق لـ"الصباح" حيث أشار إلى ان هذه المؤسسة تشرف على التكوين والتدريب وحتى التسجيل والتطبيقات كما أنها تملك قاعدة بيانات التسجيل وبالتالي معطيات شخصية لملايين التونسيين إلى جانب أنها تقوم بتقييم أداء الهيئة.. علما وأن المؤسسة الدولية للنظم الانتخابية (IFES) هي منظمة غير حكومية، تقدم نفسها على أنها تعمل في مجال المساعدة التقنية الانتخابية ..
وفي ذات السياق، يثير المعهد الديمقراطي الوطني الذي يقدم نفسه كمنظمة دولية لدعم الديمقراطية في كل دول العالم، موجة من ردود الأفعال المنددة بعد أن اتهمته رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسي، بأنه من بين المنظمات الأجنبية التي تتدخل في عمل البرلمان وأنه يحضر الجلسات العامة للبرلمان وأشغال لجانه مع الكتل والأحزاب، ويكتب التقارير ويبدي الرأي في عدد من مشاريع القوانين المعروضة"، مؤكدة ان ذلك يعد انتهاكا للسيادة الوطنية، وفق تعبيرها.
ورد وقتها المعهد على هذه الاتهامات بقوله أنه يدعم مشاركة الشباب في العمل السياسي من خلال الترّبص الداخلي في المجالس التشريعية والبرلمانات وأن الهدف من هذه البرامج هو توفير إمكانية للشباب للمشاركة في العمل السياسي.. لكن هذه المهمة يرى البعض ان هدفها إعداد جيل سياسي موالي للولايات المتحدة الأمريكية .