لا طالما كان التعليم في تونس مصعدا اجتماعيا، يحث الآباء أبناءهم على ركوبه من أجل أن يضمنوا لهم وحتى للعائلة كلها مستقبلا أفضل قوامه العلم والمعرفة ومدخولا ماديا جيدا ووضعية اجتماعية أفضل في المستقبل. ولكن اليوم تشهد العملية التعليمية تغيرات عدة في العالم على مستوى المحتوى والأسلوب وتوظيف التقنيات الحديثة في التحصيل العلمي وتنويع تجربة التلميذ والطالب والعمل على تطوير مهارات حياتية يومية، أو حتى تدريس مادة السعادة لتلاميذ التعليم الثانوي في ألمانيا.
في مقابل ذلك، مازال قطاع التعليم في تونس في مواجهة تحديات عدة تجعل نتائجه متدنية في التصنيفات العالمية، فقد حلت تونس في المركز 84 عالميا والسابع عربيا في مؤشر جودة التعليم ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ الذي يصدره المنتدى ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ دافوس 2021. ويربط الخبراء تراجع تونس في تصنيفها في السنوات الأخيرة بسبب التأخر الرقمي في المؤسسات التربوية أو أيضا الوضع الاقتصادي الذي لم يسمح للدولة بالاستثمار في قطاع التعليم بالشكل المطلوب، ولكن مهما كانت العوامل التي تفسر ذلك، فإن مختلف المتدخلين يدركون أنه لابد من العمل على إصلاح المنظومة التربوية في تونس.
"الصباح" رصدت آراء عديد الأطراف حول إقبال التونسيين على التعليم الخاص وجودة التعليم في تونس عموميا كان أو خاصا، في كل الأحوال مازال الولي التونسي يؤمن بأن التعليم هو المصعد الاجتماعي أما جودته فهي ما يبحث عنها الجميع.
كاتب عام نقابة متفقدي التعليم الابتدائي لـ"الصباح": هنالك من عاد إلى التعليم العمومي من الخاص بسبب كورونا
"بسبب كوفيد-19 ولأسباب اقتصادية هنالك عودة كبيرة من الخاص إلى العمومي" بحسب ما أكده متفقد عام للتربية وكاتب عام النقابة العامة لمتفقدي التعليم الابتدائي بالاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الشمنقي في تصريحه لـ"الصباح"، فهنالك كما يوضح من فقد عمله ولم يعد قادرا الآن على الإيفاء بتكاليف المدارس الخاصة. يلاحظ هنا الشمنقي أنه يتحدث عن دراية بالموضوع وأنه تابع عديد الحالات التي يتجه فيها مواطنون لإعادة أبنائهم إلى التعليم العمومي، مبرزا أن هنالك طلبات بهذا الخصوص سنويا. "الدعاية والتسويق طبعا موجودة لدى القطاع الخاص أكثر من القطاع العمومي"، وهذا ما يعطي انطباعا بحسب محدثنا بأنه مطلوب أكثر، هنالك لوبيات تدفع لتحسين صورة التعليم الخاص على حساب التعليم العمومي هذا موجود مثل بقية القطاعات.
ومن العوامل التي تدفع المواطنين إلى الاتجاه إلى التعليم الخاص، كما يوضح محدثنا، أن المواطن يتجه إلى إبقاء ابنه في المدرسة الخاصة طوال اليوم في حين أنه في التعليم العمومي يحتاج أيضا إلى تأمين بقاء ابنه في الروضة أو الحضانة طوال ساعات عمله (garde)، فيدفع مبلغا معينا ويبقي ابنه أو ابنته في مكان واحد طوال اليوم وتتكفل به المؤسسة على مستوى ساعات الدرس والأنشطة والطعام، أما العامل الثاني الذي يدفع المواطنين إلى الاتجاه إلى التعليم الخاص هم تدريس اللغات في سن مبكرة في المدارس الخاصة. ولكن في المقابل يشير إلى أن هنالك فئة من التونسيين مازالت حريصة على تدريس أبنائها في المدرسة العمومية نتيجة جودة إطار التدريس، فهنالك تكوين مستمر في المدرسة العمومية في حين أن التعليم الخاص يعتمد على اختصاصات مختلفة ويكون الإطار التربوي غير خاضع للتكوين بالضرورة.
إشكاليات في التعليم العمومي والخاص
يبرز الشمنقي الانفجار الحاصل على مستوى إحداث المدارس الخاصة، وهنالك من ليست لهم أية علاقة بالتربية والتعليم وينشئون المدارس الخاصة، كما يقول ولكن هذا لا يعني أنه لا توجد مؤسسات عريقة ومهنية في التعليم الخاص. ولكن "منظومة التعليم بمستوييها العمومي والخاص تعاني من عديد الإشكاليات مازلنا نشتغل بقوانين مثل القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي 2002 وهي منظومة بعيدة عن الواقع الذي نعيشه اليوم، كانت هنالك تجربة لإصلاح التعليم ولكنها توقفت لأسباب عديدة، واليوم النية الآن جدية وطيبة من فريق وزير التربية الحالي بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية هنالك حديث عن إطلاق مسار إصلاح التعليم وإصلاح المنظومة التربوية وفق القيم الكونية ووفق المبادئ التي تأسس عليها أيضا التعليم في تونس من 1958 إلى اليوم".
ويتابع "بالرغم من النتائج السلبية لأزمة كوفيد-19 كان لها فوائد لأنه أصبح من الواضح أنه عندما يكون عدد التلاميذ أقل تكون العملية التعليمية أفضل وأيضا التفكير بجدية في استعمال وسائل التواصل الحديثة وآليات التدريس عن بعد وغيرها".
رئيس غرفة التعليم الخاص لـ"الصباح": نحو 220 ألف تلميذ في التعليم الخاص..
بخصوص الإحصائيات النهائية حول عدد التلاميذ في القطاع الخاص فإنها تتحدد في نوفمبر، كما يوضح رئيس غرفة التعليم الخاص زهير المشرقي في تصريحه لـ"الصباح" ولكن إلى حد الآن يقدر عدد التلاميذ في التعليم الخاص بين 200 ألف و220 ألفا يمثلون بين 10% و15% من التلاميذ في تونس. أما عدد المؤسسات التعليمية الخاصة بين الابتدائي والإعدادي فتصل إلى 1100 مؤسسة موجودة في كامل جهات الجمهورية.
من وجهة نظر محدثنا مازال هنالك إقبال وتوجه للتعليم الخاص لدى الأولياء، نظرا "للنقائص الموجودة في المنظومة العمومية، فالتونسي يتوجه للتعليم الخاص بحثا عن جودة التعليم والخدمات الأخرى التي يوفرها والاستقرارية إضافة إلى الانتماء الاجتماعي"، ويضيف "أنا أمثل التعليم الخاص، ولكنني ضد تدهور التعليم العمومي في تونس، ولكن اليوم أصبح دور التعليم الخاص جوهريا ولولا التعليم الخاص لانهارت المنظومة تماما وإلا فماذا يفسر أن كل من تتوفر له الإمكانيات يسجل أبناءه في القطاع الخاص". كما يرى محدثنا أنه يجب النظر للتعليم الخاص على أنه وسيلة لامتصاص البطالة في قطاع التعليم.
إشكاليات وضرورة الإصلاح
"نحن لدينا استعداد ورغبة في تنظيم القطاع ولكن هنالك إشكالية لدى الوزارة لأخذ القرارات، فنحن كغرفة نمد أيدينا للإصلاح ولتجاوز مشاكل القطاع، ولكن على الدولة أيضا أن تتحمل مسؤوليتها وبالعكس قدمنا اقتراحات بهذا الخصوص"، ويعدد المشرقي الإشكاليات المطروحة في التعليم الخاص والتي تتعلق بعضها بالبنية التحتية والمعلمين وتأطيرهم إضافة إلى أنه يشدد على حماية حقوق من يعمل في القطاع من ناحية الأجر والضمان الاجتماعي وأيضا كراس شروط جديدة تنظم إحداث المؤسسات التربوية. ويبرز أن هنالك بعض المؤسسات المخالفة لكراس الشروط وهناك تساهل معها في إسناد التراخيص ومؤسسات أخرى تواجه البيروقراطية بالرغم من أنها تقدم خدمات جيدة جدا ويعتبر أن هنالك مماطلة من الوزارة.
ارتفاع الأسعار والحلول
"هنالك ارتفاع في المؤسسات الخاصة في ظرف 6 أو 7 سنوات ظهرت نحو 600 مؤسسة وقد تضاعف عبء الرواتب على هذه المؤسسات ثلاث وأربع مرات، إضافة إلى غلاء في عدد من المواد مما ينجر عنه غلاء في الأسعار، ولكن هنالك حلول تفترض تدخل الدولة وكانت لدينا مقترحات ولكن هنالك غياب للتفاعل".
رئيس منظمة إرشاد المستهلك لـ"الصباح": التونسي يقترض ليدرس أبناءه في القطاع الخاص
يبرز رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي في تصريح لـ"الصباح" أن التونسي يضحي من أجل أبنائه - وباعتبار أنه لم يعد قادرا اليوم على الاقتراض لاقتناء منزل- فأصبح يقترض لتدريس أبنائه حتى يضمن لهم مستقبلا أفضل. وهنالك أيضا من يقدم تضحيات كبرى لتدريس أبنائه في المدارس الأجنبية ولكن هذا يرهق العائلة بشكل كبير. فالميزانية التي تخصصها العائلة التونسية للتعليم كبيرة جدا ومرهقة.
ويشير الرياحي إلى ارتفاع في أسعار التعليم الخاص، "نجد غلاء في الترسيم وتكلفة التعليم الخاص والعديد من الخدمات التي يقدمها ونجد زيادات كبرى تصل حتى 15 و20 بالمائة إلى جانب الأدوات المدرسية المطلوبة التي تكون محددة وبكميات معينة والكتب الأجنبية المطلوبة"، "كما تتباين الأسعار من مؤسسة تعليمية خاصة إلى أخرى ومكان على آخر في الروضة يمكن أن تصل تكلفة السنة على الولي إلى 4000 آلاف دينار وعلى المستوى الجامعي تكون المبالغ باهظة".
الإصلاح مطلوب
من وجهة نظر محدثنا لابد من إصلاح التعليم العمومي فهو المصعد الاجتماعي وهو الذي يحدد مدى تقدمنا كدولة لأن التعليم العمومي سيوفر أكثر أريحية وأكثر فاعلية في تكوين الأجيال المستقبلية.
ويضيف أنه قد تكونت صورة سلبية حول التعليم العمومي جراء الانقطاعات وتعاطي الدولة مع ملف التعليم في السنوات الأخيرة، والتعليم العمومي يتضرر أيضا بالظرفية العامة ككل، ولكن يبقى التعليم العمومي هو القاطرة من وجهة نظر محدثنا، إلا أنه يلقي الضوء أيضا على قضية أخرى تتمثل في مغادرة 120 ألف تلميذ لمقاعد الدراسة، معتبرا أن المسألة تتعلق هنا بكيفية تعاطي الدولة مع التعليم العمومي.
رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم لـ"الصباح": فقدنا وحدة التعليم.. والوزارة لم تدرس أسباب مغادرة التعليم العمومي
يرى رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم والخبير التربوي لدى المنظّمات الدّوليّة سليم قاسم أن توحيد التعليم كان من أبرز المكاسب التي حققها قانون نوفمبر 1958 الذي وضع أسس المدرسة التونسيّة الحديثة. ورغم تواضع الموارد المادية وندرة الموارد البشريّة خلال تلك الفترة، فقد استطاعت الدّولة أن توفّر تدريجيا لجميع بناتها وأبنائها فرصة النّفاذ إلى خدمات تعليمية مجانيّة وذات جودة عالية، وهو ما أهل مدرستنا لتأدية دورها كمصعد اجتماعي وكرافد أساسي من روافد التّنمية الاقتصاديّة والبشريّة.
ولكنه يرى أيضا أن معظم هذه المكاسب قد بدأت في التّلاشي منذ ثمانينات القرن الفارط على الأقل، نتيجة لاضطراب حوكمة المنظومة التربوية واختلال آليّة أخذ القرار فيها، فتراجعت جودة مكتسبات التلاميذ، وتحولت مجانية التعليم إلى مجرد شعار يُرفع، في حين يؤكد الواقع تكبد كل عائلة تونسيّة لنفقات باهظة من أجل تعليم أبنائها، أمّا أخطر الظّواهر على الإطلاق، فهي بلا شكّ فقدان تعليمنا لوحدته التي مثّلت على مدى عقود أحد مظاهر قوّته وعاملا من عوامل نجاحه.
تعليم في صيغة الجمع
"لقد أصبحنا في تونس نتحدث عن تعليم عمومي "عادي" وتعليم عمومي "نموذجي" و"تعليم خاص" و"تعليم أجنبي"، دون أن نغفل عن "التعليم الديني" الذي اكتسح البلاد بعد جانفي 2011. ولئن كانت التّفسيرات الأولى تسارع إلى تحميل ضعف أداء المدرسة العموميّة مسؤوليّة هذا الانقسام، فإنّ الأمر يحتاج منّا بلا شك نظرة أكثر شمولا حتّى لا نقف عند حدود الظّاهر ونستطيع النّفاذ إلى الأسباب الحقيقيّة لهذه الظّاهرة الخطيرة".
ويتابع قاسم أم "أول ما يسترعي الانتباه هو أن وزارة التربية لم تنجز إلى اليوم دراسة مقارنة تحدد نوعيّة التلاميذ التونسيين المسجلين خارج منظومة التّعليم العمومي، وتبحث خاصة في أسباب مغادرتهم لها، وذلك بالرّغم من احتواء الوزارة على إدارة عامة خاصة بالدراسات وأخرى خاصة بالتقييم والجودة ومرصد يُفترض أن يركز على مثل هذه الظواهر باعتبارها مؤشرا ذا دلالة على أكثر من صعيد"، ويضيف "وفي غياب مثل هذه الدراسات الدقيقة، فإن الاستنتاجات المتسرعة تبقى هي سيدة الموقف، وها قد انضافت إليها في المدّة الأخيرة شعبويات متهافتة تتهم المنظومة العمومية بالانهيار، وتتهم التّعليم الخاص بكل الشرور، وتتهم العائلات التي تضحي من أجل تسجيل أبنائها فيه بالسرقة والفساد".
ويفسر الخبير التربوي لدى المنظّمات الدّوليّة أن هناك ثابتين أساسيّين مترابطين لم يتغيّرا منذ مدرسة قرطاج البونيقيّة قبل نحو 30 قرنا، ولذلك فإنّه بالإمكان الاعتماد عليهما كمرجع لفهم المشهد الحالي المضطرب: أولا أن الأسرة التّونسيّة تقدس المعرفة والتعليم، وثانيا أن أولوية الأولويات بالنّسبة إلى الأسرة التونسية هي أن توفر لبناتها وأبنائها التّنشئة التّي تضمن لهم أفضل مستقبل، مهما كان الثّمن ومهما كانت التّضحيات". و" لذلك فحين نرى آلاف الأمهات والأباء اليوم يبذلون قصارى الجهد من أجل التحاق فلذات أكبادهم بالإعداديات والمعاهد النموذجية، وحين نراهم يقتطعون من قوت يومهم بل ويتداينون من البنوك لتوفير كلفة الدروس الخصوصية أو كلفة التسجيل في التعليم الخاص، فإن علينا أن نصارح أنفسنا بأنهم لا يبحثون عن الرفاه لأبنائهم لأن الرفاه لا يتوفّر في مستودعات الدروس الخصوصية، ولا يبحثون عن البرامج الخارقة لأنّ ذات البرامج تدرس هنا وهناك، إنهم يبحثون عن المدرس الجيد والتأطير الرّفيع"، ويعتبر أن الانتدابات العشوائية أغرقت مدارسنا العمومية بمدرسين محدودي الخبرة، إضافة إلى الإضرابات، يفسر لجوء من استطاع إلى ذلك سبيلا إلى المدارس الأجنبية، فإن "الغاية الأولى لمعظمهم هي أن يضمنوا لأبنائهم مقعدا في الجامعات الأوروبية والأمريكية، واستقرارا في هذه الدول بعد ذلك".
ويرى قاسم في مشاهد الأولياء المعتصمين للمطالبة بإلحاق أبنائهم بالإعداديات والمعاهد النموذجية، والأولياء المتدافعين أمام المؤسسات التعليمية الخاصة والأجنبية لتسجيل أبنائهم، هي مشاهد تؤكد تعلق التونسي بالتعليم ورغبته في ضمان مستقبل أبنائه، ولكنّها في الآن نفسه مشاهد مأساويّة، وهي مأساة تتجاوز بكثير أزمة منظومة تربويّة عبثت بها السّياسة ونال الفساد نصيبه منها لتكون أزمة بلد أضاع توازنه وبات أبناؤه يبحثون عن الخلاص الفردي، في انتظار خلاص جماعي".
إعداد: أروى الكعلي
تونس-الصباح
لا طالما كان التعليم في تونس مصعدا اجتماعيا، يحث الآباء أبناءهم على ركوبه من أجل أن يضمنوا لهم وحتى للعائلة كلها مستقبلا أفضل قوامه العلم والمعرفة ومدخولا ماديا جيدا ووضعية اجتماعية أفضل في المستقبل. ولكن اليوم تشهد العملية التعليمية تغيرات عدة في العالم على مستوى المحتوى والأسلوب وتوظيف التقنيات الحديثة في التحصيل العلمي وتنويع تجربة التلميذ والطالب والعمل على تطوير مهارات حياتية يومية، أو حتى تدريس مادة السعادة لتلاميذ التعليم الثانوي في ألمانيا.
في مقابل ذلك، مازال قطاع التعليم في تونس في مواجهة تحديات عدة تجعل نتائجه متدنية في التصنيفات العالمية، فقد حلت تونس في المركز 84 عالميا والسابع عربيا في مؤشر جودة التعليم ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ الذي يصدره المنتدى ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ دافوس 2021. ويربط الخبراء تراجع تونس في تصنيفها في السنوات الأخيرة بسبب التأخر الرقمي في المؤسسات التربوية أو أيضا الوضع الاقتصادي الذي لم يسمح للدولة بالاستثمار في قطاع التعليم بالشكل المطلوب، ولكن مهما كانت العوامل التي تفسر ذلك، فإن مختلف المتدخلين يدركون أنه لابد من العمل على إصلاح المنظومة التربوية في تونس.
"الصباح" رصدت آراء عديد الأطراف حول إقبال التونسيين على التعليم الخاص وجودة التعليم في تونس عموميا كان أو خاصا، في كل الأحوال مازال الولي التونسي يؤمن بأن التعليم هو المصعد الاجتماعي أما جودته فهي ما يبحث عنها الجميع.
كاتب عام نقابة متفقدي التعليم الابتدائي لـ"الصباح": هنالك من عاد إلى التعليم العمومي من الخاص بسبب كورونا
"بسبب كوفيد-19 ولأسباب اقتصادية هنالك عودة كبيرة من الخاص إلى العمومي" بحسب ما أكده متفقد عام للتربية وكاتب عام النقابة العامة لمتفقدي التعليم الابتدائي بالاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الشمنقي في تصريحه لـ"الصباح"، فهنالك كما يوضح من فقد عمله ولم يعد قادرا الآن على الإيفاء بتكاليف المدارس الخاصة. يلاحظ هنا الشمنقي أنه يتحدث عن دراية بالموضوع وأنه تابع عديد الحالات التي يتجه فيها مواطنون لإعادة أبنائهم إلى التعليم العمومي، مبرزا أن هنالك طلبات بهذا الخصوص سنويا. "الدعاية والتسويق طبعا موجودة لدى القطاع الخاص أكثر من القطاع العمومي"، وهذا ما يعطي انطباعا بحسب محدثنا بأنه مطلوب أكثر، هنالك لوبيات تدفع لتحسين صورة التعليم الخاص على حساب التعليم العمومي هذا موجود مثل بقية القطاعات.
ومن العوامل التي تدفع المواطنين إلى الاتجاه إلى التعليم الخاص، كما يوضح محدثنا، أن المواطن يتجه إلى إبقاء ابنه في المدرسة الخاصة طوال اليوم في حين أنه في التعليم العمومي يحتاج أيضا إلى تأمين بقاء ابنه في الروضة أو الحضانة طوال ساعات عمله (garde)، فيدفع مبلغا معينا ويبقي ابنه أو ابنته في مكان واحد طوال اليوم وتتكفل به المؤسسة على مستوى ساعات الدرس والأنشطة والطعام، أما العامل الثاني الذي يدفع المواطنين إلى الاتجاه إلى التعليم الخاص هم تدريس اللغات في سن مبكرة في المدارس الخاصة. ولكن في المقابل يشير إلى أن هنالك فئة من التونسيين مازالت حريصة على تدريس أبنائها في المدرسة العمومية نتيجة جودة إطار التدريس، فهنالك تكوين مستمر في المدرسة العمومية في حين أن التعليم الخاص يعتمد على اختصاصات مختلفة ويكون الإطار التربوي غير خاضع للتكوين بالضرورة.
إشكاليات في التعليم العمومي والخاص
يبرز الشمنقي الانفجار الحاصل على مستوى إحداث المدارس الخاصة، وهنالك من ليست لهم أية علاقة بالتربية والتعليم وينشئون المدارس الخاصة، كما يقول ولكن هذا لا يعني أنه لا توجد مؤسسات عريقة ومهنية في التعليم الخاص. ولكن "منظومة التعليم بمستوييها العمومي والخاص تعاني من عديد الإشكاليات مازلنا نشتغل بقوانين مثل القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي 2002 وهي منظومة بعيدة عن الواقع الذي نعيشه اليوم، كانت هنالك تجربة لإصلاح التعليم ولكنها توقفت لأسباب عديدة، واليوم النية الآن جدية وطيبة من فريق وزير التربية الحالي بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية هنالك حديث عن إطلاق مسار إصلاح التعليم وإصلاح المنظومة التربوية وفق القيم الكونية ووفق المبادئ التي تأسس عليها أيضا التعليم في تونس من 1958 إلى اليوم".
ويتابع "بالرغم من النتائج السلبية لأزمة كوفيد-19 كان لها فوائد لأنه أصبح من الواضح أنه عندما يكون عدد التلاميذ أقل تكون العملية التعليمية أفضل وأيضا التفكير بجدية في استعمال وسائل التواصل الحديثة وآليات التدريس عن بعد وغيرها".
رئيس غرفة التعليم الخاص لـ"الصباح": نحو 220 ألف تلميذ في التعليم الخاص..
بخصوص الإحصائيات النهائية حول عدد التلاميذ في القطاع الخاص فإنها تتحدد في نوفمبر، كما يوضح رئيس غرفة التعليم الخاص زهير المشرقي في تصريحه لـ"الصباح" ولكن إلى حد الآن يقدر عدد التلاميذ في التعليم الخاص بين 200 ألف و220 ألفا يمثلون بين 10% و15% من التلاميذ في تونس. أما عدد المؤسسات التعليمية الخاصة بين الابتدائي والإعدادي فتصل إلى 1100 مؤسسة موجودة في كامل جهات الجمهورية.
من وجهة نظر محدثنا مازال هنالك إقبال وتوجه للتعليم الخاص لدى الأولياء، نظرا "للنقائص الموجودة في المنظومة العمومية، فالتونسي يتوجه للتعليم الخاص بحثا عن جودة التعليم والخدمات الأخرى التي يوفرها والاستقرارية إضافة إلى الانتماء الاجتماعي"، ويضيف "أنا أمثل التعليم الخاص، ولكنني ضد تدهور التعليم العمومي في تونس، ولكن اليوم أصبح دور التعليم الخاص جوهريا ولولا التعليم الخاص لانهارت المنظومة تماما وإلا فماذا يفسر أن كل من تتوفر له الإمكانيات يسجل أبناءه في القطاع الخاص". كما يرى محدثنا أنه يجب النظر للتعليم الخاص على أنه وسيلة لامتصاص البطالة في قطاع التعليم.
إشكاليات وضرورة الإصلاح
"نحن لدينا استعداد ورغبة في تنظيم القطاع ولكن هنالك إشكالية لدى الوزارة لأخذ القرارات، فنحن كغرفة نمد أيدينا للإصلاح ولتجاوز مشاكل القطاع، ولكن على الدولة أيضا أن تتحمل مسؤوليتها وبالعكس قدمنا اقتراحات بهذا الخصوص"، ويعدد المشرقي الإشكاليات المطروحة في التعليم الخاص والتي تتعلق بعضها بالبنية التحتية والمعلمين وتأطيرهم إضافة إلى أنه يشدد على حماية حقوق من يعمل في القطاع من ناحية الأجر والضمان الاجتماعي وأيضا كراس شروط جديدة تنظم إحداث المؤسسات التربوية. ويبرز أن هنالك بعض المؤسسات المخالفة لكراس الشروط وهناك تساهل معها في إسناد التراخيص ومؤسسات أخرى تواجه البيروقراطية بالرغم من أنها تقدم خدمات جيدة جدا ويعتبر أن هنالك مماطلة من الوزارة.
ارتفاع الأسعار والحلول
"هنالك ارتفاع في المؤسسات الخاصة في ظرف 6 أو 7 سنوات ظهرت نحو 600 مؤسسة وقد تضاعف عبء الرواتب على هذه المؤسسات ثلاث وأربع مرات، إضافة إلى غلاء في عدد من المواد مما ينجر عنه غلاء في الأسعار، ولكن هنالك حلول تفترض تدخل الدولة وكانت لدينا مقترحات ولكن هنالك غياب للتفاعل".
رئيس منظمة إرشاد المستهلك لـ"الصباح": التونسي يقترض ليدرس أبناءه في القطاع الخاص
يبرز رئيس منظمة إرشاد المستهلك لطفي الرياحي في تصريح لـ"الصباح" أن التونسي يضحي من أجل أبنائه - وباعتبار أنه لم يعد قادرا اليوم على الاقتراض لاقتناء منزل- فأصبح يقترض لتدريس أبنائه حتى يضمن لهم مستقبلا أفضل. وهنالك أيضا من يقدم تضحيات كبرى لتدريس أبنائه في المدارس الأجنبية ولكن هذا يرهق العائلة بشكل كبير. فالميزانية التي تخصصها العائلة التونسية للتعليم كبيرة جدا ومرهقة.
ويشير الرياحي إلى ارتفاع في أسعار التعليم الخاص، "نجد غلاء في الترسيم وتكلفة التعليم الخاص والعديد من الخدمات التي يقدمها ونجد زيادات كبرى تصل حتى 15 و20 بالمائة إلى جانب الأدوات المدرسية المطلوبة التي تكون محددة وبكميات معينة والكتب الأجنبية المطلوبة"، "كما تتباين الأسعار من مؤسسة تعليمية خاصة إلى أخرى ومكان على آخر في الروضة يمكن أن تصل تكلفة السنة على الولي إلى 4000 آلاف دينار وعلى المستوى الجامعي تكون المبالغ باهظة".
الإصلاح مطلوب
من وجهة نظر محدثنا لابد من إصلاح التعليم العمومي فهو المصعد الاجتماعي وهو الذي يحدد مدى تقدمنا كدولة لأن التعليم العمومي سيوفر أكثر أريحية وأكثر فاعلية في تكوين الأجيال المستقبلية.
ويضيف أنه قد تكونت صورة سلبية حول التعليم العمومي جراء الانقطاعات وتعاطي الدولة مع ملف التعليم في السنوات الأخيرة، والتعليم العمومي يتضرر أيضا بالظرفية العامة ككل، ولكن يبقى التعليم العمومي هو القاطرة من وجهة نظر محدثنا، إلا أنه يلقي الضوء أيضا على قضية أخرى تتمثل في مغادرة 120 ألف تلميذ لمقاعد الدراسة، معتبرا أن المسألة تتعلق هنا بكيفية تعاطي الدولة مع التعليم العمومي.
رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم لـ"الصباح": فقدنا وحدة التعليم.. والوزارة لم تدرس أسباب مغادرة التعليم العمومي
يرى رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم والخبير التربوي لدى المنظّمات الدّوليّة سليم قاسم أن توحيد التعليم كان من أبرز المكاسب التي حققها قانون نوفمبر 1958 الذي وضع أسس المدرسة التونسيّة الحديثة. ورغم تواضع الموارد المادية وندرة الموارد البشريّة خلال تلك الفترة، فقد استطاعت الدّولة أن توفّر تدريجيا لجميع بناتها وأبنائها فرصة النّفاذ إلى خدمات تعليمية مجانيّة وذات جودة عالية، وهو ما أهل مدرستنا لتأدية دورها كمصعد اجتماعي وكرافد أساسي من روافد التّنمية الاقتصاديّة والبشريّة.
ولكنه يرى أيضا أن معظم هذه المكاسب قد بدأت في التّلاشي منذ ثمانينات القرن الفارط على الأقل، نتيجة لاضطراب حوكمة المنظومة التربوية واختلال آليّة أخذ القرار فيها، فتراجعت جودة مكتسبات التلاميذ، وتحولت مجانية التعليم إلى مجرد شعار يُرفع، في حين يؤكد الواقع تكبد كل عائلة تونسيّة لنفقات باهظة من أجل تعليم أبنائها، أمّا أخطر الظّواهر على الإطلاق، فهي بلا شكّ فقدان تعليمنا لوحدته التي مثّلت على مدى عقود أحد مظاهر قوّته وعاملا من عوامل نجاحه.
تعليم في صيغة الجمع
"لقد أصبحنا في تونس نتحدث عن تعليم عمومي "عادي" وتعليم عمومي "نموذجي" و"تعليم خاص" و"تعليم أجنبي"، دون أن نغفل عن "التعليم الديني" الذي اكتسح البلاد بعد جانفي 2011. ولئن كانت التّفسيرات الأولى تسارع إلى تحميل ضعف أداء المدرسة العموميّة مسؤوليّة هذا الانقسام، فإنّ الأمر يحتاج منّا بلا شك نظرة أكثر شمولا حتّى لا نقف عند حدود الظّاهر ونستطيع النّفاذ إلى الأسباب الحقيقيّة لهذه الظّاهرة الخطيرة".
ويتابع قاسم أم "أول ما يسترعي الانتباه هو أن وزارة التربية لم تنجز إلى اليوم دراسة مقارنة تحدد نوعيّة التلاميذ التونسيين المسجلين خارج منظومة التّعليم العمومي، وتبحث خاصة في أسباب مغادرتهم لها، وذلك بالرّغم من احتواء الوزارة على إدارة عامة خاصة بالدراسات وأخرى خاصة بالتقييم والجودة ومرصد يُفترض أن يركز على مثل هذه الظواهر باعتبارها مؤشرا ذا دلالة على أكثر من صعيد"، ويضيف "وفي غياب مثل هذه الدراسات الدقيقة، فإن الاستنتاجات المتسرعة تبقى هي سيدة الموقف، وها قد انضافت إليها في المدّة الأخيرة شعبويات متهافتة تتهم المنظومة العمومية بالانهيار، وتتهم التّعليم الخاص بكل الشرور، وتتهم العائلات التي تضحي من أجل تسجيل أبنائها فيه بالسرقة والفساد".
ويفسر الخبير التربوي لدى المنظّمات الدّوليّة أن هناك ثابتين أساسيّين مترابطين لم يتغيّرا منذ مدرسة قرطاج البونيقيّة قبل نحو 30 قرنا، ولذلك فإنّه بالإمكان الاعتماد عليهما كمرجع لفهم المشهد الحالي المضطرب: أولا أن الأسرة التّونسيّة تقدس المعرفة والتعليم، وثانيا أن أولوية الأولويات بالنّسبة إلى الأسرة التونسية هي أن توفر لبناتها وأبنائها التّنشئة التّي تضمن لهم أفضل مستقبل، مهما كان الثّمن ومهما كانت التّضحيات". و" لذلك فحين نرى آلاف الأمهات والأباء اليوم يبذلون قصارى الجهد من أجل التحاق فلذات أكبادهم بالإعداديات والمعاهد النموذجية، وحين نراهم يقتطعون من قوت يومهم بل ويتداينون من البنوك لتوفير كلفة الدروس الخصوصية أو كلفة التسجيل في التعليم الخاص، فإن علينا أن نصارح أنفسنا بأنهم لا يبحثون عن الرفاه لأبنائهم لأن الرفاه لا يتوفّر في مستودعات الدروس الخصوصية، ولا يبحثون عن البرامج الخارقة لأنّ ذات البرامج تدرس هنا وهناك، إنهم يبحثون عن المدرس الجيد والتأطير الرّفيع"، ويعتبر أن الانتدابات العشوائية أغرقت مدارسنا العمومية بمدرسين محدودي الخبرة، إضافة إلى الإضرابات، يفسر لجوء من استطاع إلى ذلك سبيلا إلى المدارس الأجنبية، فإن "الغاية الأولى لمعظمهم هي أن يضمنوا لأبنائهم مقعدا في الجامعات الأوروبية والأمريكية، واستقرارا في هذه الدول بعد ذلك".
ويرى قاسم في مشاهد الأولياء المعتصمين للمطالبة بإلحاق أبنائهم بالإعداديات والمعاهد النموذجية، والأولياء المتدافعين أمام المؤسسات التعليمية الخاصة والأجنبية لتسجيل أبنائهم، هي مشاهد تؤكد تعلق التونسي بالتعليم ورغبته في ضمان مستقبل أبنائه، ولكنّها في الآن نفسه مشاهد مأساويّة، وهي مأساة تتجاوز بكثير أزمة منظومة تربويّة عبثت بها السّياسة ونال الفساد نصيبه منها لتكون أزمة بلد أضاع توازنه وبات أبناؤه يبحثون عن الخلاص الفردي، في انتظار خلاص جماعي".