شعر ذهبي وعيون جميلة خضراء اللون ووجه ملائكي ممتلئ عليه بعض الندوب الصغيرة، كانت ضحكتها تملأ المكان وتجلب اهتمام كل من مرّ بجانبها حتى أن بعضهم بادلها اللعب ووضع لها بعض النقود والبقية ابتسموا وواصلوا طريقهم،.
هي رضيعة العام ونصف تقريبا، أسنانها لم تكمل نموها كأنها توقفت عن النمو كما توقفت براءتها هنا في مدينة مدنين، حيث حملتها " امرأة" لتستجدي بها عطف الناس وسط ساحة السوق كما يعرف بالعامية " السوق الفوقاني".
هي لا تعرف اي اقدار قادتها الى ان تكون هنا تحت حرارة شمس تجاوزت ال 38 درجة ووسط ريح "الشهيلي" عكس كل رضيع طبيعي ينعم بدفئ عائلته وحنانه والدته.
لا شيء يقطع ضحكات هذه الرضيعة الا صوت المرأة وهي تطلب نقودا قائلة بوجه مكشوف " يفرحك اعطيني حويجة، يراك ناجحة أختي عاونوني بلي كتب من ربي...": كانت تتودد بلهجة تونسية يسهل عليك تحديد الجهة التي تعود اليها.
هذا المشهد لم يعتد عليه سكان مدينة مدنين، فظاهرة التسول باستعمال الرضع والأطفال باتت منتشرة بكثرة في الجهة، مشهد أثار استغراب السكان وعلقوا عليه كثيرا.
رضع وأطفال مصدر عيش " المرتزقة "…
هذه الرضيعة لم تكن لوحدها بالمكان فمعها كانت طفلة صغيرة لم تتحاوز عامها الرابع تلاعبها ولكن لا تفوت لحظة لتطلب من المرأة المغادرة.
صورة متكررة، رضع وطفلة رفقة 3 نساء، كل واحدة منهن اتخذت لنفسها مكانا في ساحة السوق اليومي بمدينة مدنين بعيدا عن أعين العناصر الأمنية.
هن نساء شابات لا يحملن اي اعاقة ويمارسن نشاط تسول بكل أريحية، فلا مندوبية حماية الطفولة على علم بوضعية الصغار ولا النيابة العمومية على بينة بهذه الممارسات.
خطورة هذا المشهد تتلخص في استبدال الرضع والأطفال بين النساء المتسولات، إذ تتغير مرافقتهم من يوم لآخر، فرضيعة العام ونصف كانت موفى الأسبوع المنقضي في حضن امرأة بدت ملامح وجهها متعبة وهي تجلس على أحد مدارج محل مغلق واليوم الاثنين ذات الرضيعة نجدها لدى امرأة أخرى كانت قبل يومين تتسول وسط السوق وبين يديها رضيع عمره 3 أشهر كان يبكي بشدة طالبا الحليب.
وفي محطات متابعتنا للموضوع، وجدناهن اليوم يجلسن بأحد مدارج محل مغلق يتحدثن بصوت عالي وبجانبهن رضيعة وطفلة، قبل أن تغادر احداهن لوحدها وتتخذ مكانها تحت سور جامع "سيدي علي بن عبيد" للتسول بعيدا عن الأنظار، وفي كل مرة تسرق هاتفها لتحادث شخصا معينا.
وغير بعيد عنها كانت مرافقتها وسط السوق تلتفت يمنة ويسرة وكأنها تبحث عن جمع سريع للمساعدات والمغادرة معتمدة على مظلتها وملابسها الواسعة لاخفاء ملامحها.
اجرام في حق الصغار والسلطة التنفيذية تلاحظ وتمضي
هم صغار ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا في محيط يتلذذ اغتصاب براءتهم ويتشفى منهم ويستعملهم لمصالح ذاتية وشخصية وربحية، تجارة مجرمة دوليا.
ويعد التسول جرما يعاقب عليه القانون في تونس كشكل من الاتجار بالبشر، حيث ينص القانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 المؤرخ في 3 أوت 2016 المتعلق بمنع االتجار بالأشخاص ومكافحته على أن التسول هو من بين أهم أشكال الاتجار بالبشر.
واشترط القانون في جريمة الاتجار بالأطفال توفر وجوبا الفعل والغرض بقطع النظر عن الوسيلة، حيث أن " استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواءهم أو استقبالهم قصد الاستغلال أيا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله ويشمل الاستغلال..... التسول".
هذا النص الواضح لا يلقى التطبيق اللازم والكافي في ظل تواصل نشاط عصابات الاتجار بالأطفال بوجه مكشوف وغياب الرقابة الأمنية اللازمة وسلبية دور مندوب حماية الطفولة بمدنين. كما أننا اتصلنا باقليم الأمن الوطني بمدنين لفهم شكل التعاطي مع الموضوع ولكن لم نظفر برد.
وردا على جملة من التساؤلات التي تقدمنا بها الى الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بمدنين عرفات المبسوط، قال إن النيابة العمومية باشرت عدة محاضر تتعلق بظاهرة التسول بمدن مدنين وجرجيس وجربة مشيرا الى ان ما طرحه موقعنا يعد اركان جريمة الاتجار بالبشر واثبات ما تناوله موقعنا هو من مهام الضابطة العدلية.
وأضاف المبسوط أن كل الأسئلة المتعلقة بظاهرة التسول باستعمال الرضع والأطفال وتفاعل القضاء مع ذلك سيقع الرد عليها لاحقا لما يتطلب ذلك من تحضيرات للافادة.
يبدو أن هذه التجارة ستواصل انتشارها واستغلال الرضع والأطفال في غياب التدخلات الذاتية للأطراف المعنية بحماية الطفولة والمرأة رغم أن القانون يؤكد صراحة على ان التسول هو شكل من أشكال الاتجار بالبشر الممنوعة وفق الاتفاقات الدولية والقانون التونسي، وهنا نتساءل اي نصير ينتظر هؤلاء الضحايا في دولة ينطبق عليها المثل القائل " تحل عين وتغمض".
نعيمة خليصة