في كثير من الأحيان ما تكون سنفونية المايسترو الروسي تشاكوفسكي "الافتتاحية 1812" التي تحمل سامعيها لأجواء الحرب، منذ أيام غزو الامبراطور الفرنسي السابق نابليون بونابارت وانهزامه في وحل وثلوج روسيا القيصرية بعد احكام تكتيك الأرض المحروقة التي حضر إليها ميخائيل كوتوزوف.
لم يكن تشايكوفسكي فقط هو الذي تأثر بهذه الملحمة الروسية ضد مغامرة نابليون لحكم العالم، بعد حرب التحالفين الرابع والخامس في العقدين الأولين من القرن 19، بل كذلك صاحب كتاب "من الحرب" فون كارل كلوزفيتز أحد الجنرالات البروسيين الذي أتى بفكرة أن "الحرب امتداد السياسة" بعد أن ظل هذا المفهوم بعيدا عن هذه المعادلة وأن السياسة كانت دائما في خدمة الحرب، وكان ذلك تعريفا أوليا لماهية الحرب وأهدافها في جيلها الأول الطبيعي.
كلوزفيتز امتدت نظرياته الكلاسيكية للحرب إلى هذه الحرب الجديدة التي اعلنها "القيصر فلادمير بوتين"، حيث أن مبدأها كان سياسيا بحتا، وذهب بالحرب إلى كسر الحواجز الجيوسياسية المفروضة على روسيا منذ انهيار جدار برلين وبداية "عصر الإهانة" الذي دام طوال عقد التسعينيات، وأضحت الأحادية القطبية هي الحاكمة في العالم، انطلاقا من العولمة الليبيرالية للعالم من خلال نشرالانموذج الغربي والأمريكي للأنظمة السياسية ومحاولة إعادة تشكيل المشهد الثقافي الدولي من خلال "الغربنة" و"الأمركة" ومن أعظمها عولمة رأس المال الغربي، ومحاولة ضرب كل من يريد قطع حركة دورانه وهطول أرباحه على العواصم الغربية.
في هذا العقدـ أي عقد الإهانةـ بالنسبة لروسيا، ظهر منوال النيوالليبرالية الذي أثر على كل المبادلات التجارية في العالم طوال أكثر من 30 سنة وساهم لدرجة كبيرة في خلق أزمات وصراعات إقليمية كان بعضها أليما وطويلا وتسبب في خلق الفوضى التي سميت أمريكيا بـ"الفوضى الخلاقة"، على ضفاف الفرات ودجلة في العراق وعلى سفوح جبال تورا بورا في أفغانستان وامتدت إلى شمال افريقيا في صحراء ليبيا وفي الساحل الافريقي وذهبت إلى رسم معالمها على أبواب دمشق وفي صحراء الرقة، وكان ذلك كله نتاج لـ"الميغا امبريالية" (حسب لفظ الكاتب المغربي المهدي منجرة)، التي مثلها الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وساهمت في زيادة الصراعات الاقليمية حتى بلغت منتهاها إلى الحرب الروسية على أوكرانيا كإحدى انعكاساتها المباشرة، للامتداد الامبراطوري الأمريكي إلى "قلب العالم" على حسب تعبير الجيوسياسي الأمريكي ماكندر.
ويبدو أن "قلب العالم" ذي الملامح الأوراسية الضاربة في عمق التاريخ وفي التحكم في مجرياته منذ ما قبل غزو المغول لـ"الغرب الأوروبي" و"الشرق الإسلامي"، لم تجد له أمريكا طريقا مباشرة له، لا انطلاقا من أفغانستان منذ سنة 2001، ولا من خلال الثورات الملونة التي سطرت العقد الأول من القرن العشرين على تخوم "قلب العالم" في آسيا الوسطى وفي أوروبا الشرقية وخاصة في أوكرانيا، ولا كذلك انطلاقا من حصار أراضي جورجيا (مسقط رأس الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين) بعد أن عمل رئيسها ساكشفلي على المغامرة للانضمام لحلف لشمال الأطلسي، وكان الرد منذ آخر ليل سنة 2008 وبزوغ فجر سنة 2009، بأن فجر الروس ومن خلفهم "القيصر بوتين" أراضيها وضم دولتين جديدتين للفلك الروسي وهما أوستيتا الجنوبية وأبخازيا، نفس تلك المغامرة التي كادت لأن تنجح سابقا في جمهورية الشيشان حيث تحرك الأفغان العرب من جبال أفغانستان بعد سيطرة طالبان عليها نحو تخوم داغستان للنزال ضد قوات الدب المريض والرئيس السكير بوريس يالتسين في سنة 1994، لينجح هؤلاء في جره إلى طاولة المفاوضات وإعلان الاستقلال قبل أن يعيد "القيصر الروسي الجديد" على "الإهانة" في قلب العالم بجر الشيشان لحرب جديدة انتهت بعودتها إلى فلك الاتحاد الروسي.
هذا الاتحاد الروسي الذي كاد يتفكك بحاسابات "النيوامبريالية الأمريكية"، امتدت فكرته مع تبني نظام سياسي جديد، كريه بالنسبة للغرب، ولا يمثل تمثلاته وقيمه في الديمقراطية، أضحى يفكر في إعادة احياء نفسه ودوره الامبراطوري، من خلال التركيز لا على الأيديولوجيا بل على التمثلات القومية السلافية والتركيز عليها كفكرة لاتحاد أوراسي يضم الدول السابقة الموجودة في الفلك السوفياتي، وتمتد إلى الأراضي الروسية السابقة والتي بالنسبة لروسيا تأتي خلف شرق نهر الدينبرو، وتلك تاريخيا امتداد لاوكرانيا السابقة الناطقة بالروسية أو ما يطلق عليه بالنسبة للقوميين الروس "نوفاروسيا" أو روسيا الحديثة.
هناك على ضفاف نهر الدينبرو شرقا، يرى بوتين أنها حدود القوة الإمبراطورية الروسيةـ وتنتهي بالنسبة اليه اثار"النيو امبريالية" العبر أطلسية، على ضفاف نهر الدينبرو حيث تنتهي روسيا القيصرية وتنطلق أوروبا بمكوناتها المتنوعة، فغرب النهركانت منطقة ضمت لاوكرانيا بعد تقسيمات الحرب العالمية الأولى وقيام البولشفية، حيث كانت قبلها مكانا اصطدمت فيه روسيا مع الامبراطوريات القائمة شرق أوروبا في قرون ما "قبل النهضة" وما قبل "عصر التنوير" بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر.
وهنا يتضح جيدا لماذا تركزت المعارك الحالية في أوكرانيا على شرق نهر الدينيبرو وليس غربها، فالحديث عن أن المحددات الجيوسياسية الثقافية والحصارية والتاريخية تنتهي على نصف الشرقي لأوكرانيا، وليس غربه، فغربه بولوني الهوى أوروبي الحضارة، ضم من قبل مفجر الثورة البلشفية فلادمير لينين، وكان دوره استراتيجي بالنسبة للبلاشفة وهو أن يكون مجالا جغرافي سياسي وظيفي، قبل أن يصبح منشأ للتيارات السياسية المتأثرة بالغرب الأوروبي ويكون في التسعينيات منطلقا لمطالب الانضمام لحلف الشمال الأطلسي ومن ورائه للاتحاد الأوروبي.
ولعل ما فرضه التاريخ، المعاصر والحديث على أوكرانيا جعلها طاولة مراهنات جديدة بالنسبة للغرب ما بعد الحرب الباردة، فلعبت أمريكا واوروبا البوكر على الطاولة الأوروبية وكانت تدعم منذ سنة 2004 على وتر القومية الأوكرانية (القوزاق الغربيون) التي تأثرت في بدايات القرن العشرين بالارتدادات الحروب مع بولونيا، وليشكلوا بداية تيار قومي يرى في أوكرانيا غرب الدينيبرو أراض لقوميتهم، دونها الروسيةـ وكذلك الجرمانية المنتشرة وسط أوروبا (النمسا بولونيا وألمانيا الاتحادية).
وكانت المراهنة ناجحة في سنة 2004 عند انطلاق الثورة البرتقالية التي أتت بنظام يحلم باوكرانيا الأوروبية، قبل أن يعود تيار "أوكرانيا الروسية" في سنة 2014، الذي اطيح به بثورة ملونة جديدة، فرضت أمرا واقعا على روسيا التي لم ترى امتدادا لهذه السياسة إلا في الحرب وتغيير الواقع الجيوسياسي بالقوة فغامرت بضم شبه جزيرة القرم، ثم ذهبت لقضم حوض الدونباس، بدعمها لانفصالي هذا الإقليم المتحدث بالروسيةـ قبل أن تذهب للمفاوضات وفرض هذا الأمر في العاصمة البلاروسية مينسك سنة 2015، حيث رسمت خطوط الهدنة على أرض الدونباس، هذه الأرض التي كانت منطلقا لهذه الحرب، فأوكرانيا الأوروبية والعبر أطلسية قد تكون منطلقا للاحتواء الغربي لقلب العالم وهذا الاحتواء قد يتجه أبعد من ذلك ليمتد لشرايين "قلب العالم" (سيبيريا) حيث الجحيم البارد وجنة المحروقات القادم على مهل، ولذلك خلص مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق وصاحب نظرية "أفغانستان فيتنام السوفيات" زيغبينو بريجنسكي بعد الحرب الباردة في سنة 1994 " أوكرانيا القوية والمستقرة بأنها ثقل موازن حاسم لروسيا، وينبغي أن تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة، وإذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد".
واليوم نحن أمام سيناريو أوكرانيا المقسمة بين شرق تسعى روسيا للسيطرة عليه بالقوة وباعادة احياء مشهد جيوسياسي جديد في شرق أوروبا، تكون بداية عصر امبراطوري روسي جديد، بعيدا على أوكرانيا الغربية التي ستكون غربية منزوعة السلاح الثقيل ويؤسس للاشعاع الأوراسي الذي تبحث عنه روسيا بعد انهاء "عصرالإهانة"، وتعافي الدب من جروحه السوفياتية بنزوعه للقيم القومية الروسية السلافية.
ويبدو أن نفس "الإهانة" هي التي تحرك اليوم الصين في الشرق الأقصى، وتلك قصة أخرى، قد تكتب قصتها على ضفاف بحرالصين الجنوبي، انطلاقا من تايوان، ونهاية بجزر "سينكاكو" حسب اليابان و"دياويو" في الصين والتي قد تشكل بداية مغامرة جيوسياسية جديدة بطلها الصين وممثلوها حلفاء الغرب في جنوب شرق آسيا التي انطلقت فيها معارك الاصطفاف والمحاور منذ نهاية سنة 2021، وإعلان "حلف الاكوس" الانغلوساكسوني الأمني في المحيطين الهادئ والهندي، وليشمل كذلك "حلف كواد" (الحوار الأمني الرباعي) الذي يضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وهي دول ترى الصين خطرا استراتيجيا لها.
نزار مقني
في كثير من الأحيان ما تكون سنفونية المايسترو الروسي تشاكوفسكي "الافتتاحية 1812" التي تحمل سامعيها لأجواء الحرب، منذ أيام غزو الامبراطور الفرنسي السابق نابليون بونابارت وانهزامه في وحل وثلوج روسيا القيصرية بعد احكام تكتيك الأرض المحروقة التي حضر إليها ميخائيل كوتوزوف.
لم يكن تشايكوفسكي فقط هو الذي تأثر بهذه الملحمة الروسية ضد مغامرة نابليون لحكم العالم، بعد حرب التحالفين الرابع والخامس في العقدين الأولين من القرن 19، بل كذلك صاحب كتاب "من الحرب" فون كارل كلوزفيتز أحد الجنرالات البروسيين الذي أتى بفكرة أن "الحرب امتداد السياسة" بعد أن ظل هذا المفهوم بعيدا عن هذه المعادلة وأن السياسة كانت دائما في خدمة الحرب، وكان ذلك تعريفا أوليا لماهية الحرب وأهدافها في جيلها الأول الطبيعي.
كلوزفيتز امتدت نظرياته الكلاسيكية للحرب إلى هذه الحرب الجديدة التي اعلنها "القيصر فلادمير بوتين"، حيث أن مبدأها كان سياسيا بحتا، وذهب بالحرب إلى كسر الحواجز الجيوسياسية المفروضة على روسيا منذ انهيار جدار برلين وبداية "عصر الإهانة" الذي دام طوال عقد التسعينيات، وأضحت الأحادية القطبية هي الحاكمة في العالم، انطلاقا من العولمة الليبيرالية للعالم من خلال نشرالانموذج الغربي والأمريكي للأنظمة السياسية ومحاولة إعادة تشكيل المشهد الثقافي الدولي من خلال "الغربنة" و"الأمركة" ومن أعظمها عولمة رأس المال الغربي، ومحاولة ضرب كل من يريد قطع حركة دورانه وهطول أرباحه على العواصم الغربية.
في هذا العقدـ أي عقد الإهانةـ بالنسبة لروسيا، ظهر منوال النيوالليبرالية الذي أثر على كل المبادلات التجارية في العالم طوال أكثر من 30 سنة وساهم لدرجة كبيرة في خلق أزمات وصراعات إقليمية كان بعضها أليما وطويلا وتسبب في خلق الفوضى التي سميت أمريكيا بـ"الفوضى الخلاقة"، على ضفاف الفرات ودجلة في العراق وعلى سفوح جبال تورا بورا في أفغانستان وامتدت إلى شمال افريقيا في صحراء ليبيا وفي الساحل الافريقي وذهبت إلى رسم معالمها على أبواب دمشق وفي صحراء الرقة، وكان ذلك كله نتاج لـ"الميغا امبريالية" (حسب لفظ الكاتب المغربي المهدي منجرة)، التي مثلها الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وساهمت في زيادة الصراعات الاقليمية حتى بلغت منتهاها إلى الحرب الروسية على أوكرانيا كإحدى انعكاساتها المباشرة، للامتداد الامبراطوري الأمريكي إلى "قلب العالم" على حسب تعبير الجيوسياسي الأمريكي ماكندر.
ويبدو أن "قلب العالم" ذي الملامح الأوراسية الضاربة في عمق التاريخ وفي التحكم في مجرياته منذ ما قبل غزو المغول لـ"الغرب الأوروبي" و"الشرق الإسلامي"، لم تجد له أمريكا طريقا مباشرة له، لا انطلاقا من أفغانستان منذ سنة 2001، ولا من خلال الثورات الملونة التي سطرت العقد الأول من القرن العشرين على تخوم "قلب العالم" في آسيا الوسطى وفي أوروبا الشرقية وخاصة في أوكرانيا، ولا كذلك انطلاقا من حصار أراضي جورجيا (مسقط رأس الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين) بعد أن عمل رئيسها ساكشفلي على المغامرة للانضمام لحلف لشمال الأطلسي، وكان الرد منذ آخر ليل سنة 2008 وبزوغ فجر سنة 2009، بأن فجر الروس ومن خلفهم "القيصر بوتين" أراضيها وضم دولتين جديدتين للفلك الروسي وهما أوستيتا الجنوبية وأبخازيا، نفس تلك المغامرة التي كادت لأن تنجح سابقا في جمهورية الشيشان حيث تحرك الأفغان العرب من جبال أفغانستان بعد سيطرة طالبان عليها نحو تخوم داغستان للنزال ضد قوات الدب المريض والرئيس السكير بوريس يالتسين في سنة 1994، لينجح هؤلاء في جره إلى طاولة المفاوضات وإعلان الاستقلال قبل أن يعيد "القيصر الروسي الجديد" على "الإهانة" في قلب العالم بجر الشيشان لحرب جديدة انتهت بعودتها إلى فلك الاتحاد الروسي.
هذا الاتحاد الروسي الذي كاد يتفكك بحاسابات "النيوامبريالية الأمريكية"، امتدت فكرته مع تبني نظام سياسي جديد، كريه بالنسبة للغرب، ولا يمثل تمثلاته وقيمه في الديمقراطية، أضحى يفكر في إعادة احياء نفسه ودوره الامبراطوري، من خلال التركيز لا على الأيديولوجيا بل على التمثلات القومية السلافية والتركيز عليها كفكرة لاتحاد أوراسي يضم الدول السابقة الموجودة في الفلك السوفياتي، وتمتد إلى الأراضي الروسية السابقة والتي بالنسبة لروسيا تأتي خلف شرق نهر الدينبرو، وتلك تاريخيا امتداد لاوكرانيا السابقة الناطقة بالروسية أو ما يطلق عليه بالنسبة للقوميين الروس "نوفاروسيا" أو روسيا الحديثة.
هناك على ضفاف نهر الدينبرو شرقا، يرى بوتين أنها حدود القوة الإمبراطورية الروسيةـ وتنتهي بالنسبة اليه اثار"النيو امبريالية" العبر أطلسية، على ضفاف نهر الدينبرو حيث تنتهي روسيا القيصرية وتنطلق أوروبا بمكوناتها المتنوعة، فغرب النهركانت منطقة ضمت لاوكرانيا بعد تقسيمات الحرب العالمية الأولى وقيام البولشفية، حيث كانت قبلها مكانا اصطدمت فيه روسيا مع الامبراطوريات القائمة شرق أوروبا في قرون ما "قبل النهضة" وما قبل "عصر التنوير" بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر.
وهنا يتضح جيدا لماذا تركزت المعارك الحالية في أوكرانيا على شرق نهر الدينيبرو وليس غربها، فالحديث عن أن المحددات الجيوسياسية الثقافية والحصارية والتاريخية تنتهي على نصف الشرقي لأوكرانيا، وليس غربه، فغربه بولوني الهوى أوروبي الحضارة، ضم من قبل مفجر الثورة البلشفية فلادمير لينين، وكان دوره استراتيجي بالنسبة للبلاشفة وهو أن يكون مجالا جغرافي سياسي وظيفي، قبل أن يصبح منشأ للتيارات السياسية المتأثرة بالغرب الأوروبي ويكون في التسعينيات منطلقا لمطالب الانضمام لحلف الشمال الأطلسي ومن ورائه للاتحاد الأوروبي.
ولعل ما فرضه التاريخ، المعاصر والحديث على أوكرانيا جعلها طاولة مراهنات جديدة بالنسبة للغرب ما بعد الحرب الباردة، فلعبت أمريكا واوروبا البوكر على الطاولة الأوروبية وكانت تدعم منذ سنة 2004 على وتر القومية الأوكرانية (القوزاق الغربيون) التي تأثرت في بدايات القرن العشرين بالارتدادات الحروب مع بولونيا، وليشكلوا بداية تيار قومي يرى في أوكرانيا غرب الدينيبرو أراض لقوميتهم، دونها الروسيةـ وكذلك الجرمانية المنتشرة وسط أوروبا (النمسا بولونيا وألمانيا الاتحادية).
وكانت المراهنة ناجحة في سنة 2004 عند انطلاق الثورة البرتقالية التي أتت بنظام يحلم باوكرانيا الأوروبية، قبل أن يعود تيار "أوكرانيا الروسية" في سنة 2014، الذي اطيح به بثورة ملونة جديدة، فرضت أمرا واقعا على روسيا التي لم ترى امتدادا لهذه السياسة إلا في الحرب وتغيير الواقع الجيوسياسي بالقوة فغامرت بضم شبه جزيرة القرم، ثم ذهبت لقضم حوض الدونباس، بدعمها لانفصالي هذا الإقليم المتحدث بالروسيةـ قبل أن تذهب للمفاوضات وفرض هذا الأمر في العاصمة البلاروسية مينسك سنة 2015، حيث رسمت خطوط الهدنة على أرض الدونباس، هذه الأرض التي كانت منطلقا لهذه الحرب، فأوكرانيا الأوروبية والعبر أطلسية قد تكون منطلقا للاحتواء الغربي لقلب العالم وهذا الاحتواء قد يتجه أبعد من ذلك ليمتد لشرايين "قلب العالم" (سيبيريا) حيث الجحيم البارد وجنة المحروقات القادم على مهل، ولذلك خلص مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق وصاحب نظرية "أفغانستان فيتنام السوفيات" زيغبينو بريجنسكي بعد الحرب الباردة في سنة 1994 " أوكرانيا القوية والمستقرة بأنها ثقل موازن حاسم لروسيا، وينبغي أن تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة، وإذا سيطرت روسيا على أوكرانيا فيمكن لها أن تعيد بناء إمبراطوريتها من جديد".
واليوم نحن أمام سيناريو أوكرانيا المقسمة بين شرق تسعى روسيا للسيطرة عليه بالقوة وباعادة احياء مشهد جيوسياسي جديد في شرق أوروبا، تكون بداية عصر امبراطوري روسي جديد، بعيدا على أوكرانيا الغربية التي ستكون غربية منزوعة السلاح الثقيل ويؤسس للاشعاع الأوراسي الذي تبحث عنه روسيا بعد انهاء "عصرالإهانة"، وتعافي الدب من جروحه السوفياتية بنزوعه للقيم القومية الروسية السلافية.
ويبدو أن نفس "الإهانة" هي التي تحرك اليوم الصين في الشرق الأقصى، وتلك قصة أخرى، قد تكتب قصتها على ضفاف بحرالصين الجنوبي، انطلاقا من تايوان، ونهاية بجزر "سينكاكو" حسب اليابان و"دياويو" في الصين والتي قد تشكل بداية مغامرة جيوسياسية جديدة بطلها الصين وممثلوها حلفاء الغرب في جنوب شرق آسيا التي انطلقت فيها معارك الاصطفاف والمحاور منذ نهاية سنة 2021، وإعلان "حلف الاكوس" الانغلوساكسوني الأمني في المحيطين الهادئ والهندي، وليشمل كذلك "حلف كواد" (الحوار الأمني الرباعي) الذي يضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وهي دول ترى الصين خطرا استراتيجيا لها.