يصر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، ينس ستولتنبرغ في مختلف تصريحاته على أن "البند الخامس لاتفاقية الحلف، يشكّل جوهره"، على اعتبار "إدراك الأعداء المحتملين بأن الاعتداء على عضو في الحلف، بمثابة اعتداء على كافة أعضائه، يحول دون وقوع ذلك". فهل ينطبق ذلك على الأزمة في أوكرانيا والحال أن أوكرانيا ليست عضوا في الناتو ولا يمكن أن ينطبق عليها هذا البند الذي كان احد الأسباب وراء انسحاب فرنسا من الحلف الأطلسي بقرار من الجنرال ديغول ولن تعود إليه إلا بعد أكثر من ثلاثين عاما وكان ذلك خلال قمة كيرل سترازبورغ سنة 2009 عندما قرر الرئيس الأسبق ساركوزي وانجيلا ميركيل عودة فرنسا إلى القيادة في الحلف الأطلسي ..
ليس من الواضح كيف سيكون دور أوروبا في ملف الأزمة الأوكرانية والحال أن أوروبا الأكثر تهديدا من نشوب حرب في قلب القارة العجوز التي عاشت في تسعينات القرن الماضي تداعيات ومخاطر حرب يوغسلافيا السابقة، حتى هذه المرحلة تبقى أوروبا في موقف الحاضر الغائب أو المتتبع لتطورات الأحداث وحتى هذه المرحلة لم يتسن للدول الأوروبية إلا التلويح بعقوبات اقتصادية على روسيا أو التعجيل بدعوة مواطنيها بمغادرة أوكرانيا تحسبا لما يمكن أن يحدث وهو ما يعني أن أوروبا أول من سيتحمل مخاطر وتداعيات أي حرب في المنطقة وما يعني أيضا أهمية عدم إسقاط خيار المفاوضات والحلول الديبلوماسية لإبعاد شبح حرب لا احد يريدها ..
حالة استنفار
العالم يستنفر، اجتماع طارئ لمجلس الأمن وقادة العالم الحر لم يغمض لهم جفن يسابقون الليل والنهار بعد إعلان الرئيس الروسي بوتين اعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك، المعروفتين بـ"إقليم دونباس"، وهي الورقة التي كان واضحا أن بوتين يحتفظ بها في انتظار اللحظة الحاسمة لتسجيل أكثر من نقطة في شبكة الغرب فتكون أولا بمثابة حصان طروادة لخلط كل الحسابات وفرملة جهود الناتو في الدفع إلى احتضان أوكرانيا في صفوفه وتكون ثانيا اختبارا لما سيكون عليه موقف الغرب عمليا بعد هذا القرار وما إذا ستتجاوز الأمور حدود العقوبات الاقتصادية على روسيا أو ما إذا سيذهب إلى ابعد من ذلك .
البند الأخطر في ميثاق الحلف الأطلسي
فبوتين يدرك جيدا أن ميثاق الحلف الأطلسي وتحديدا البند الخامس منه يقر بأن الاعتداء علي أي عضو بمثابة الاعتداء على كل الأعضاء وهو أيضا يعلم أن أوكرانيا ليست عضوا في الحلف ولا ينطبق عليها البند المذكور الذي تم اللجوء إليه بعد هجمات 11 سبتمبر لاجتياح أفغانستان في إطار الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب فيما ظل البند الرابع يعتمد في تدخلات الحلف الأطلسي في العراق أو كذلك في تدخلات تركيا في سوريا .
وخلال اقل من أربع وعشرين ساعة بادر برلماني البلدين أو الجمهوريتين الجديدتين إلى التصديق على اتفاقية صداقة مع روسيا، إلى هنا يبدو المشهد خاليا من المفاجآت وتحركات بوتين تكاد تكون معلنة ومتوقعة لدى الغرب الذي ما انفك يحذر موسكو من اجتياح أوكرانيا ..
سوريا دعم لروسيا في كل الحالات
ردود الفعل المعلنة من الغرب يقابلها صمت وتجاهل كلي من جانب الدول العربية والإسلامية التي لم ترحب ولم تبادر إلى إدانة ما حدث وكأنها تخشى الإعلان عن الاصطفاف لهذا الطرف أو ذاك في أزمة عابرة للحدود لن تغيب تداعياتها عن أسواق النفط وأسواق المال وحتى عن الفضاء السيبيراني.. وحدها سوريا تبدو متعاطفة ومؤيدة للقرار الروسي بين مختلف الدول العربية التي التزمت الصمت في انتظار ما يمكن أن تكشفه الساعات القادمة من تطورات, والأكيد أن الموقف السوري الذي جاء على لسان وزير الخارجية فيصل المقداد في وصفه ما يحدث بأن ما يقوم به الغرب ضد روسيا مشابه لما قام به ضد سوريا في حربها على الإرهاب معلنا دعم بلاده قرار الرئيس فلاديمير بوتين الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك والتعاون معهما وهو موقف له مبرراته بالنظر إلى الحرب المستمرة في سوريا وتواتر التدخلات العسكرية التركية منذ نحو عقد من الزمن والدور الروسي وتحديدا دور بوتين في دعم وضمان استمرار نظام الأسد. والأرجح أن الصين لن تتخلف عن دعم بوتين في ما ذهب إليه وستجد في ذلك ما يعزز أيضا توجهاتها الرافضة لاعتراف باستقلال تايوان أو تراجع واشنطن عن التزاماتها السابقة بالاعتراف بصين واحدة .
من العراق إلى أوكرانيا
وربما ساد اعتقاد بأن هناك تشابها بين المناخ الدولي السائد اليوم على وقع الأزمة في أوكرانيا وبين المناخ الدولي الذي رافق الإعداد للحرب على العراق بكل ما سبقها من حملات إعلامية وحروب كلامية وتقارير استخباراتية وأمنية عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق تهدد الأمن والسلم العالميين بكل ما رافق ذلك من استعراضات وسيناريوهات تنافس في التسويق لها للمجتمع الدولي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ومعهما وزير الخارجية الأمريكي كولن باول الذي كان يحذر مجلس الأمن الدولي من ترسانة عراقية مدمرة قبل أن يتضح زيف تلك المعلومات ويتحول اجتياح العراق إلى مشروع لنشر الديموقراطية وحقوق الإنسان مؤجل التنفيذ بعد ما لحق هذا البلد من دمار وخراب على وقع الصراعات الدموية الطائفية والجماعات الإرهابية التي وجدت لها في بلاد الرافدين أرضية خصبة للتمدد والانتشار ...
لا خلاف أن بوتين وهو سليل رجل المخابرات السوفياتية ورجل الكي جي بي بامتياز والحالم بإحياء أمجاد روسيا القيصرية له حساباته التي لا تعترف بالخيار الديموقراطي والحريات والتعددية يدرك جيدا أن دخول أوكرانيا وانضمامها للحلف الأطلسي يعني بكل بساطة إسقاط الجدار العازل بين روسيا وبين الغرب ويفتح الطريق نحو مواصلة التسلل إلى ما يعتبره بوتين بالفضاء الروسي بعد انهيار جدار برلين واختفاء ما كان يوصف بحلف فرصوفيا ..
دونباس.. سيناريو الحسم
هل استشعر بوتين هذا السيناريو وهل أدرك منذ أفريل 2014 ، وعندما تمت الإطاحة بالرئيس الأوكراني المدعوم من موسكو فيكتور يانوكوفيتش على خلفية احتجاجات كبرى عام 2014،أن هذا الخيار لا مفر منه وهو ما دفع روسيا آنذاك لضم شبه جزيرة القرم، ومساندة التمرد الحاصل في دونباس شرق أوكرانيا؟ قد يكون حدس بوتين جعله يستبق طموحات أوكرانيا وإغراءات الناتو بالانضمام الى صفوفه. تشير لعبة الاحداث في حينها الى ان الانفصاليين الموالين لموسكو حاصروا المباني الحكومية في منطقتي دونتيسك ولوجانسك، وأعلنوا تأسيس جمهوريتين شعبيتين، وخاضوا معارك ضد القوات الأوكرانية والمتطوعين، ليتم بعد ذلك بأسابيع إجراء استفتاء شعبي لإعلان الاستقلال وأن تصبحا جزءا من روسيا، لكن موسكو اختارت عدم التعجل والاحتفاظ بهذا الخيار الى الوقت المناسب لمنع انضمام أوكرانيا إلى الناتو. وبعد هزيمة القوات الأوكرانية في أوت 2014، وقعت كييف والانفصاليين ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا هدنة مينسك 1 ثم مينيك 2 التي نصت على أن تراقب منظمة الأمن والتعاون وقف إطلاق النار قبل أن ينهار الاتفاقان تباعا ويسود التوتر.. وإعلان بوتين جمهوريتي لوجانسك دونيتسك يكون بذلك فرض قبضته على الجمهوريتين دون خوض اللجوء إلى الحرب على الأرض .
قرار بوتين أطلق لسان قادة العالم للدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة وخيار الأمن والسلم وما يستوجبه من احترام للشرعية الدولية ولسيادة الدول والشعوب، وهو موقف قد لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا أنها كلمة حق يراد به باطل فالشرعية الدولية قابلة للتطويع إذ يتم تغييبها أو فرضها وفق مقتضيات لعبة المصالح الإستراتيجية والتحالفات العسكرية مع عودة أجواء الحرب الباردة بين الشرق والغرب ولكن في مناخات مختلفة لن تكون حربا إيديولوجية بين شرق شيوعي وغرب ليبيرالي ولكنها حرب عنوانها السباق النووي والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت وكل ما يمكن أن يجعل العالم شحنة من اللهب وجحيما مفتوحا قد يكون له أول ولكن لن يكون له آخر ..
هذه التطورات وربما غيرها دفعت ليندا توماس غرينفيلد المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، الى وصف ما قام به بوتين هجوما على سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية وهو هجوم على مكانة أوكرانيا كدولة عضو في الأمم المتحدة، وهو ينتهك مبدأ أساسيا من مبادئ القانون الدولي..
غرينفيلد حذرت من أن بوتين يطالب بجميع الأراضي التابعة للإمبراطورية الروسية، الإمبراطورية الروسية عينها التي سبقت الاتحاد السوفيتي، أي قبل أكثر من 100 عام، وهذا يشمل كلّا من أوكرانيا، كما تشمل فنلندا وبيلاروسيا وجورجيا ومولدوفا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. يريد بوتين أن يعيد العالم بالزمن إلى الوراء، إلى وقت ما قبل الأمم المتحدة، إلى وقت كانت فيه الإمبراطوريات هي من يحكم العالم. غير أن باقي العالم قام بالمضي قدماً. نحن لسنا في العام 1919 إننا في العام 2022.
الاقتصاد العالمي بدوره يستعد لمسار غير متوقع مع تصاعد أزمة أوكرانيا التي أججت مجددا أسعار النفط وفي الوقت الذي كان العالم يتوقع بداية الانفراج ورفع حالة الشلل التي رافقت الاقتصاد العالمي منذ ظهور الجائحة قبل سنتين ها أن الأزمة في أوكرانيا تدفع إلى مشهد لا يمكن التنبؤ بتداعياته المستقبلية وما يمكن أن تؤول إليه الأزمة من ارتفاع لأسعار الغذاء والطاقة واللقاحات ..
لا يزال أمام بوتين هامش واسع لمواصلة المراوغة ودفع خصومه الى التفاوض والقبول بشروطه أو جزء منها وفرض الأمر الواقع على الناتو على اعتبار أن أوكرانيا ليست عضوا فيه. ولكن يبقى الأكيد انه لا شيء يبدو محسوما أيضا ولاشيء يمكن أن يلغي حدوث أي رد فعل متهور أو تحرك غير محسوب يفرض على الجميع سيناريو قد يكون غائبا عن كل الأذهان حتى الآن ..
آسيا العتروس
تونس-الصباح
يصر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، ينس ستولتنبرغ في مختلف تصريحاته على أن "البند الخامس لاتفاقية الحلف، يشكّل جوهره"، على اعتبار "إدراك الأعداء المحتملين بأن الاعتداء على عضو في الحلف، بمثابة اعتداء على كافة أعضائه، يحول دون وقوع ذلك". فهل ينطبق ذلك على الأزمة في أوكرانيا والحال أن أوكرانيا ليست عضوا في الناتو ولا يمكن أن ينطبق عليها هذا البند الذي كان احد الأسباب وراء انسحاب فرنسا من الحلف الأطلسي بقرار من الجنرال ديغول ولن تعود إليه إلا بعد أكثر من ثلاثين عاما وكان ذلك خلال قمة كيرل سترازبورغ سنة 2009 عندما قرر الرئيس الأسبق ساركوزي وانجيلا ميركيل عودة فرنسا إلى القيادة في الحلف الأطلسي ..
ليس من الواضح كيف سيكون دور أوروبا في ملف الأزمة الأوكرانية والحال أن أوروبا الأكثر تهديدا من نشوب حرب في قلب القارة العجوز التي عاشت في تسعينات القرن الماضي تداعيات ومخاطر حرب يوغسلافيا السابقة، حتى هذه المرحلة تبقى أوروبا في موقف الحاضر الغائب أو المتتبع لتطورات الأحداث وحتى هذه المرحلة لم يتسن للدول الأوروبية إلا التلويح بعقوبات اقتصادية على روسيا أو التعجيل بدعوة مواطنيها بمغادرة أوكرانيا تحسبا لما يمكن أن يحدث وهو ما يعني أن أوروبا أول من سيتحمل مخاطر وتداعيات أي حرب في المنطقة وما يعني أيضا أهمية عدم إسقاط خيار المفاوضات والحلول الديبلوماسية لإبعاد شبح حرب لا احد يريدها ..
حالة استنفار
العالم يستنفر، اجتماع طارئ لمجلس الأمن وقادة العالم الحر لم يغمض لهم جفن يسابقون الليل والنهار بعد إعلان الرئيس الروسي بوتين اعتراف روسيا باستقلال جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك، المعروفتين بـ"إقليم دونباس"، وهي الورقة التي كان واضحا أن بوتين يحتفظ بها في انتظار اللحظة الحاسمة لتسجيل أكثر من نقطة في شبكة الغرب فتكون أولا بمثابة حصان طروادة لخلط كل الحسابات وفرملة جهود الناتو في الدفع إلى احتضان أوكرانيا في صفوفه وتكون ثانيا اختبارا لما سيكون عليه موقف الغرب عمليا بعد هذا القرار وما إذا ستتجاوز الأمور حدود العقوبات الاقتصادية على روسيا أو ما إذا سيذهب إلى ابعد من ذلك .
البند الأخطر في ميثاق الحلف الأطلسي
فبوتين يدرك جيدا أن ميثاق الحلف الأطلسي وتحديدا البند الخامس منه يقر بأن الاعتداء علي أي عضو بمثابة الاعتداء على كل الأعضاء وهو أيضا يعلم أن أوكرانيا ليست عضوا في الحلف ولا ينطبق عليها البند المذكور الذي تم اللجوء إليه بعد هجمات 11 سبتمبر لاجتياح أفغانستان في إطار الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب فيما ظل البند الرابع يعتمد في تدخلات الحلف الأطلسي في العراق أو كذلك في تدخلات تركيا في سوريا .
وخلال اقل من أربع وعشرين ساعة بادر برلماني البلدين أو الجمهوريتين الجديدتين إلى التصديق على اتفاقية صداقة مع روسيا، إلى هنا يبدو المشهد خاليا من المفاجآت وتحركات بوتين تكاد تكون معلنة ومتوقعة لدى الغرب الذي ما انفك يحذر موسكو من اجتياح أوكرانيا ..
سوريا دعم لروسيا في كل الحالات
ردود الفعل المعلنة من الغرب يقابلها صمت وتجاهل كلي من جانب الدول العربية والإسلامية التي لم ترحب ولم تبادر إلى إدانة ما حدث وكأنها تخشى الإعلان عن الاصطفاف لهذا الطرف أو ذاك في أزمة عابرة للحدود لن تغيب تداعياتها عن أسواق النفط وأسواق المال وحتى عن الفضاء السيبيراني.. وحدها سوريا تبدو متعاطفة ومؤيدة للقرار الروسي بين مختلف الدول العربية التي التزمت الصمت في انتظار ما يمكن أن تكشفه الساعات القادمة من تطورات, والأكيد أن الموقف السوري الذي جاء على لسان وزير الخارجية فيصل المقداد في وصفه ما يحدث بأن ما يقوم به الغرب ضد روسيا مشابه لما قام به ضد سوريا في حربها على الإرهاب معلنا دعم بلاده قرار الرئيس فلاديمير بوتين الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك والتعاون معهما وهو موقف له مبرراته بالنظر إلى الحرب المستمرة في سوريا وتواتر التدخلات العسكرية التركية منذ نحو عقد من الزمن والدور الروسي وتحديدا دور بوتين في دعم وضمان استمرار نظام الأسد. والأرجح أن الصين لن تتخلف عن دعم بوتين في ما ذهب إليه وستجد في ذلك ما يعزز أيضا توجهاتها الرافضة لاعتراف باستقلال تايوان أو تراجع واشنطن عن التزاماتها السابقة بالاعتراف بصين واحدة .
من العراق إلى أوكرانيا
وربما ساد اعتقاد بأن هناك تشابها بين المناخ الدولي السائد اليوم على وقع الأزمة في أوكرانيا وبين المناخ الدولي الذي رافق الإعداد للحرب على العراق بكل ما سبقها من حملات إعلامية وحروب كلامية وتقارير استخباراتية وأمنية عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق تهدد الأمن والسلم العالميين بكل ما رافق ذلك من استعراضات وسيناريوهات تنافس في التسويق لها للمجتمع الدولي الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ومعهما وزير الخارجية الأمريكي كولن باول الذي كان يحذر مجلس الأمن الدولي من ترسانة عراقية مدمرة قبل أن يتضح زيف تلك المعلومات ويتحول اجتياح العراق إلى مشروع لنشر الديموقراطية وحقوق الإنسان مؤجل التنفيذ بعد ما لحق هذا البلد من دمار وخراب على وقع الصراعات الدموية الطائفية والجماعات الإرهابية التي وجدت لها في بلاد الرافدين أرضية خصبة للتمدد والانتشار ...
لا خلاف أن بوتين وهو سليل رجل المخابرات السوفياتية ورجل الكي جي بي بامتياز والحالم بإحياء أمجاد روسيا القيصرية له حساباته التي لا تعترف بالخيار الديموقراطي والحريات والتعددية يدرك جيدا أن دخول أوكرانيا وانضمامها للحلف الأطلسي يعني بكل بساطة إسقاط الجدار العازل بين روسيا وبين الغرب ويفتح الطريق نحو مواصلة التسلل إلى ما يعتبره بوتين بالفضاء الروسي بعد انهيار جدار برلين واختفاء ما كان يوصف بحلف فرصوفيا ..
دونباس.. سيناريو الحسم
هل استشعر بوتين هذا السيناريو وهل أدرك منذ أفريل 2014 ، وعندما تمت الإطاحة بالرئيس الأوكراني المدعوم من موسكو فيكتور يانوكوفيتش على خلفية احتجاجات كبرى عام 2014،أن هذا الخيار لا مفر منه وهو ما دفع روسيا آنذاك لضم شبه جزيرة القرم، ومساندة التمرد الحاصل في دونباس شرق أوكرانيا؟ قد يكون حدس بوتين جعله يستبق طموحات أوكرانيا وإغراءات الناتو بالانضمام الى صفوفه. تشير لعبة الاحداث في حينها الى ان الانفصاليين الموالين لموسكو حاصروا المباني الحكومية في منطقتي دونتيسك ولوجانسك، وأعلنوا تأسيس جمهوريتين شعبيتين، وخاضوا معارك ضد القوات الأوكرانية والمتطوعين، ليتم بعد ذلك بأسابيع إجراء استفتاء شعبي لإعلان الاستقلال وأن تصبحا جزءا من روسيا، لكن موسكو اختارت عدم التعجل والاحتفاظ بهذا الخيار الى الوقت المناسب لمنع انضمام أوكرانيا إلى الناتو. وبعد هزيمة القوات الأوكرانية في أوت 2014، وقعت كييف والانفصاليين ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا هدنة مينسك 1 ثم مينيك 2 التي نصت على أن تراقب منظمة الأمن والتعاون وقف إطلاق النار قبل أن ينهار الاتفاقان تباعا ويسود التوتر.. وإعلان بوتين جمهوريتي لوجانسك دونيتسك يكون بذلك فرض قبضته على الجمهوريتين دون خوض اللجوء إلى الحرب على الأرض .
قرار بوتين أطلق لسان قادة العالم للدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة وخيار الأمن والسلم وما يستوجبه من احترام للشرعية الدولية ولسيادة الدول والشعوب، وهو موقف قد لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا أنها كلمة حق يراد به باطل فالشرعية الدولية قابلة للتطويع إذ يتم تغييبها أو فرضها وفق مقتضيات لعبة المصالح الإستراتيجية والتحالفات العسكرية مع عودة أجواء الحرب الباردة بين الشرق والغرب ولكن في مناخات مختلفة لن تكون حربا إيديولوجية بين شرق شيوعي وغرب ليبيرالي ولكنها حرب عنوانها السباق النووي والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت وكل ما يمكن أن يجعل العالم شحنة من اللهب وجحيما مفتوحا قد يكون له أول ولكن لن يكون له آخر ..
هذه التطورات وربما غيرها دفعت ليندا توماس غرينفيلد المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، الى وصف ما قام به بوتين هجوما على سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية وهو هجوم على مكانة أوكرانيا كدولة عضو في الأمم المتحدة، وهو ينتهك مبدأ أساسيا من مبادئ القانون الدولي..
غرينفيلد حذرت من أن بوتين يطالب بجميع الأراضي التابعة للإمبراطورية الروسية، الإمبراطورية الروسية عينها التي سبقت الاتحاد السوفيتي، أي قبل أكثر من 100 عام، وهذا يشمل كلّا من أوكرانيا، كما تشمل فنلندا وبيلاروسيا وجورجيا ومولدوفا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا. يريد بوتين أن يعيد العالم بالزمن إلى الوراء، إلى وقت ما قبل الأمم المتحدة، إلى وقت كانت فيه الإمبراطوريات هي من يحكم العالم. غير أن باقي العالم قام بالمضي قدماً. نحن لسنا في العام 1919 إننا في العام 2022.
الاقتصاد العالمي بدوره يستعد لمسار غير متوقع مع تصاعد أزمة أوكرانيا التي أججت مجددا أسعار النفط وفي الوقت الذي كان العالم يتوقع بداية الانفراج ورفع حالة الشلل التي رافقت الاقتصاد العالمي منذ ظهور الجائحة قبل سنتين ها أن الأزمة في أوكرانيا تدفع إلى مشهد لا يمكن التنبؤ بتداعياته المستقبلية وما يمكن أن تؤول إليه الأزمة من ارتفاع لأسعار الغذاء والطاقة واللقاحات ..
لا يزال أمام بوتين هامش واسع لمواصلة المراوغة ودفع خصومه الى التفاوض والقبول بشروطه أو جزء منها وفرض الأمر الواقع على الناتو على اعتبار أن أوكرانيا ليست عضوا فيه. ولكن يبقى الأكيد انه لا شيء يبدو محسوما أيضا ولاشيء يمكن أن يلغي حدوث أي رد فعل متهور أو تحرك غير محسوب يفرض على الجميع سيناريو قد يكون غائبا عن كل الأذهان حتى الآن ..