في غمرة ما يحدث اليوم في اليمن من حرب مأساوية تسببت في كوارث إنسانية كبيرة، أطل وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن ليعلن أنه وجب الوصول لحل لهذه الأزمة التي باتت تتسبب في انتكاسة لإحدى أهم حلفاء واشنطن وهي المملكة العربية السعودية، في حربها مع الحوثيين المسيطرين على أغلب مساحات اليمن، فيما اختارت الامارات قبل شهور "الاستكانة" في مساهمتها في هذه الحرب بعد تحقق أبرزأهدافها الاستراتيجية هناك.
فالإمارات استطاعت من منطلق تحالفها مع الانفصاليين الجنوبيين في اليمن من ضمان مراكز مراقبة وحضور مباشر في أهم الممرات المائية الدولية على سواحل اليمن، في وقت تشتعل فيه حرب التمدد الجيوسياسي للقوي الدولية والافريقية في محيط مضيق باب المندب، وخاصة على مستوى خليج عدن وجزيرة سقطرى.
ان هذا التركيز من قبل الامارات على التمركز قريبا من هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة من اليمن كانت قبلها خطوات أخرى في تمركز متقدم للإمارات على الأراضي الصومالية، خاصة وأن الامارات تدرك جيدا أن الحرب على الحوثيين المسنودين مباشرة من ايران سيطول وبالتالي لن تخرج منها بنتائج ملموسة، لذلك انطلقت في استراتيجية منذ 3 سنوات لضمان أهداف جيوسياسية في جنوب اليمن وعدم الانخراط المباشر في قتال مستدام ضد الحوثيين في شمال البلاد، في وقت يبدو أن استراتيجية "التدمير الشامل" التي اتخذتها السعودية لم تمكنها من هزم الحوثيين الذين اتخذوا استراتيجية دفاعية ضد السعوديين، تمثلت في تشتيت التركيز الهجومي الجوي السعودي في قصفه لأهداف على الأرض واستهداف المدنيين مما شكل "ورطة" حقوقية بالنسبة للرياض في العالم.
مقابل ذلك، ركز الحوثيون في استراتيجيتهم الحربية الهجومية على أهداف محددة على الأرض السعودية، واستهدفوا بضربات صاروخية أو من خلال الطيران الموجه على ضرب أهداف جوية كبيرة مثل المطارات المحاذية للحدود اليمينية أو صناعة النفط السعودية التي تمد العالم بأكثر من ربع حاجياته من الذهب الأسود مما خلق تموجات في سوق النفط مع زيادة المخاطر على المستثمرين المضاربين في رؤوس أموال المؤسسات النفطية وخاصة العملاق السعودي أرامكو، هذا بالإضافة إلى عمليات ضرب الأهداف البحرية من قبل الحوثيين انطلاقا من الشاطئ اليمني المطل على البحر الأحمر وخاصة من ميناء الحديدة الذي يعتبر منطقة استراتيجية بالنسبة للحوثيين واستماتوا في الدفاع عنه من الهجمات السعودية والاماراتية.
ولا يبدو أن الخطوة الأخيرة التي قامت بها الولايات المتحدة بإخراج الحوثيين من قائمتها السوداء للمنظمات الإرهابية ستوقف الحوثيين عن التمدد في شمال البلاد وخاصة بمدينة مأرب التي تعتبر من معاقل الحكومة اليمنية المدعومة سعوديا، اذ أن الاستيلاء على مأرب سيشكل بالنسبة للحوثيين ورقة ضغط كبيرة في أي مفاوضات بدأت الولايات المتحدة تحضر لها وتضغط للوصول اليها وجلوس جميع الأطراف على طاولة الحوار للوصول لحل سلمي وسياسي للأزمة اليمنية.
فإذا ما استولى الحوثيون على محافظة مأرب فإن الحكومة اليمينة ستعزل بين الشمال الذي يسيطر عليه الحوثيين، والجنوب الذي يتمركز فيه الانفصاليون اليمنيون ويقوده مجلس انتقالي، فيما ستحصر الصراع بين هذين الطرفين، الأول (الحوثيون) المدعومون من إيران والثاني وهم الانفصاليون المدعومون من قبل الأمارات وهو ما قد يعرض النفوذ السعودي للتقويض.
من هذه الزاوية يمكن قراءة تقدم الرياض لمبادرة سياسية للحوار محل النزاع الموجود في اليمن، وفهم رفض الحوثيين لها، وعلى الأقل على مستوى قصير المدى، فمأرب هي المعركة الحاسمة بالنسبة لهم ولسيطرتهم على الأرض في اليمن وإعلان انتصارهم الميداني على حساب السعودية، فيما الأخيرة بدأت تفكر جيدا في ضرورة الخروج بأخف الأضرار من هذه الحرب خاصة مع موقف امريكي جديد بات يشكل ضغطا عليها.
وكذلك فإن السعودية باتت مع "حلف الضرورة" مع حزب الإصلاح الإسلامي، في تناقض في استراتيجيتها الردعية ضد "الاخوان المسلمين"، وترى أنها تتورط أكثر معهم خاصة وأن هذا الحزب الذي تسيطر عليه قبائل حاشد المتمركزة في شمال السمن والتي يقودها آل الأحمر، بات يمثل مصدر ابتزاز بالنسبة للرياض في علاقته بحكومة منصور هادي التي تدعمها.
وبالتالي فإن السعودية ستكون من خلال خسارة القوات الحكومية اليمنية لمعركة مأرب، الخاسر الاستراتيجي الأكبر، خاصة وأن اتفاق الرياض بين المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الامارات وحكومة هادي المدعومة سعودية سقط في الماء عند محاولة الحكومة العمل من عدن واقتحام مقر الحكومة من قبل هذا المجلس.
ولا يبدو أن معركة مأرب ستذهب نحو أحد السيناريوهات التالية:
أولا/ خسارة القوات الحكومية لمأرب وهذا ما يفضي اما لتشكل جديد لخارطة الصراع بين الجنوب الانفصالي والشمال الحوثي غير المعترف باستقلال الجنوب وبالتالي اصطفاف سعودي جديد مع الامارات (أي اصطفاف سني على قاعدة شمال جنوب ضد الشيعة الزيديين المسيطرين على الشمال) وهذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى استدامة الحرب ودخولها إلى منعطف جديد ستصبح خلاله الأراضي السعودية أكثر تعرضا للخطر من خلال حدودها الجنوبية من قبل الحوثيين، وهذا سيمثل بالنسبة للرياض انتكاسة في تزعمها للحرب فيما سيمثل نقطة لصالح الامارات التي قد تسلم لها مقاليد زعامة الحرب القادمة.
ثانيا/ قبول بابتزاز حزب الإصلاح ومن ورائه قبائل حاشد وضخ الأموال أكثر للتصدي للهجوم الحوثي على مأرب، ومن ثم التوصل لهدنة واطلاق الحوار السياسي مما قد يمكن حلفاء الرياض (حكومة هادي) من المشاركة في السلطة ومحاولة دمج الانفصاليين في هذا الاتفاق، وهذا سيكون خطوة هامة لإنهاء الصراع، الا انه سيكون مكلفا سياسيا بالنسبة للرياض ولنفوذ الامارات في الجنوب.
ثالثا/الذهاب نحو اتفاق بين الحكومة والحوثيين والذهاب للتصدي للانفصال الجنوبي، وهو اتفاق براغماتي، وعلى أساسه سيطالب الحوثيون بأكبر قدر من السلطة (خاصة اذا ما ضموا مأرب)، وهو ما يمثل خسارة استراتيجية بالنسبة للرياض مقابل مكسب جيوسياسي بالنسبة للإيرانيين وخلفائهم الحوثيين، ويبدو أن هذا الخيار سيكون بكلفة كبيرة بالنسبة للرياض التي قد تضطر لرد عليه في مناطق أخرى مثل العراق، وهو ما يمثل كذلك نجاحا بالنسبة للحوثيين الذين لن يقدروا على المقاومة التي قد تشتعل ضدهم من قبل القبائل السنية الرافضة للسيطرة الحوثية عليهم، وهذا ما قد يجعل المنطقة منطلقا جديدا للحركات الجهادية مثل تنظيمي القاعدة في بلاد العرب وتنظيم داعش الذين عرفا انتكاسة كبيرة في اليمن لكن البيئة الخصبة التي سيوفرها سيطرة الحوثيين على مأرب ستحرك النزعات الدينية.
وبالتالي فإن على الرياض أن تذهب لوقف التقدم الحوثي الشيعي في مأرب، بحكم الضرورة الاستراتيجية، ومحاولة استمالة الحوثيين لإمضاء اتفاق مع الحكومة اليمينة والضغط على الامارات العربية لجر الانفصاليين الجنوبيين للانضمام لهذا الاتفاق، وقبول بالتكاليف السياسية المنجرة عن ذلك حتى من خلال خلق حكم فيدرالي في اليمن، على أن يكون الحكم المركزي في صنعاء.
بقلم نزار مقني