"الإجهاد الحراري"، هو قاتل صامت يتربص ضحاياه في الصيف، حيث يموت الكثير من الأشخاص كل عام نتيجة تعرض أجسادهم لحرارة مرتفعة، وهو أمر تمت ملاحظته بكثرة هذا العام خلال موسم الحج، حيث قتل نتيجته أكثر من 1300 شخص.
والأربعاء، قالت شبكة "بي بي سي" إن حوالى 500 شخص في باكستان، فارقوا الحياة بسبب ارتفاع درجات الحرارة في البلاد.
وتبرز أسئلة حول ماهية الإجهاد الحراري وعوارضه والأعضاء التي يصيبها، في وقت تزداد فيه الوفيات نتيجة الحرارة المرتفعة في عدة دول، وخاصة تلك التي تمتاز بمناخ صحراوي.
ولمعرفة المزيد عن هذا القاتل الصامت وسبل مكافحته خاصة في الكثير من الدول التي يواجه سكانها انقطاعات متزايدة للكهرباء في فصل الصيف، يؤكد خبراء على ضرورة تجنب التعرض لأشعة الشمس بشكل مباشر خلال فترة الظهيرة، وشرب الكثير من الماء والسوائل للمحافظة على ترطيب الجسم.
ويقول الدكتور ضرار بلعاوي، أستاذ ومستشار العلاج الدوائي السريري، إنه مع حلول فصل الصيف، تشتعل درجات الحرارة في جميع أنحاء العالم، مطلقة العنان لموجات حر قياسية تلقي بظلالها الثقيلة على حياة البشر.
ويضيف في حديثه لموقع "الحرة" أنه في ظل هذه الظروف المناخية القاسية، تسجل وفيات مقلقة تعزى إلى الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، خاصة في دول مثل السعودية، وباكستان، والهند، وغيرها، محولة فصل الصيف إلى موسم حارق يهدد الحياة.
كيف يصبح الطقس الحار قاتلا؟
ويشرح بلعاوي قائلا إن الإجهاد الحراري هو حالة طبية خطيرة تحدث عندما يصاب الجسم بفشل في تنظيم حرارته الداخلية بشكل فعال نتيجة للتعرض المفرط للحرارة. فعندما ترتفع درجات الحرارة من حولنا، تحاول أجسامنا التكيّف والتبريد الذاتي عبر آليات مختلفة، أهمها التعرق.
ويتابع "وفي ظل ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير ومستمر، قد لا يكون التعرق كافيا لتبديد الحرارة وخفض درجة حرارة الجسم الداخلية، مما يؤدي إلى ارتفاعها بشكل خطير يهدد وظائف الأعضاء الحيوية".
الأعراض
وتتراوح أعراض الإجهاد الحراري بين الخفيفة والشديدة، منذرة بخطورة الحالة. فقد تبدأ الأعراض بالصداع، والدوار، والغثيان، والتعرق الغزير، والإرهاق. لكن إهمال هذه الأعراض وعدم اتخاذ التدابير اللازمة قد يؤدي إلى تفاقم الحالة وظهور أعراض أشد خطورة كالإرهاق الشديد، والتقيؤ، وتشنجات عضلية، وفقدان الوعي، وحتى الموت في الحالات الشديدة، لا سيما إذا لم يتلق المصاب العلاج الفوري، وفقا لبلعاوي.
التأثير على الأعضاء
ويعزى خطر الإجهاد الحراري إلى تأثيره المدمر على أعضاء حيوية في الجسم، كالدماغ، والقلب، والكلى، والكبد.
وأشار بلعاوي إلى أن ارتفاع درجة حرارة الجسم الداخلية يؤثر سلبا على وظائف هذه الأعضاء، مما قد يؤدي إلى فشلها في أداء وظائفها الحيوية.
وبينما تزداد الوفيات نتيجة حرارة الطقس، يقول علماء إن السبب في ذلك هو أن درجات الحرارة المرتفعة لها تأثير سلبي على أعضاء متعددة، مما يضغط على القلب، ويشوه الجلد، ويسبب الجفاف السريع ويؤدي في النهاية إلى الوفاة، إذا لم يتمكن الجسم من تبريد ذاته بسرعة كافية.
الدماغ
مع ارتفاع درجات الحرارة، قد يواجه الدماغ صعوبة في معالجة المعلومات، وهذا الانخفاض في الوظيفة الإدراكية يمكن أن يضعف القدرة على التحكم، ويعرض الأشخاص لخطر السقوط أو إصابة أنفسهم.
وفي الحالات القصوى، يمكن أن تسبب الحرارة المرتفعة التهابا خطيرا في الدماغ.
خلال مراحل الحرارة الفائقة، لا يعمل الجهاز العصبي جيدا لأن الدماغ يحصل على كمية قليلة جدا من الدم.
وتشير بعض الأبحاث إلى أن الحرارة تؤثر أيضا على الصحة العقلية.
وارتبط ارتفاع درجات الحرارة بارتفاع معدلات الانتحار في الولايات المتحدة والمكسيك، في حين أظهرت دراسة أجريت في بنغلاديش وجود روابط بين مجموعة متنوعة من الضغوطات المرتبطة بالمناخ وعبء القلق والاكتئاب.
وأظهرت إحدى الدراسات، التي نشرتها مجلة الجمعية الطبية الأميركية قبل نحو عامين، أن أيام الحرارة الشديدة في الولايات المتحدة ارتبطت بارتفاع معدلات زيارات أقسام الطوارئ المتعلقة بالصحة العقلية لحالات تشمل القلق وإيذاء النفس وتعاطي المخدرات.
الجلد
يقول لاري كيني، أستاذ علم وظائف الأعضاء وعلم الحركة في جامعة ولاية بنسلفانيا، إنه عندما ترتفع درجة الحرارة، يلعب الجلد دورا مهما في تبريد الجسم، إذ يحتاج البشر إلى الحفاظ على درجة حرارة الجسم الأساسية ضمن "نطاق ضيق جدا".
وفي حديث سابق لقناة "سي.بي.سي- كندا"، كشف كيني أن الطريقتين الرئيسيتين للتحكم في ارتفاع درجة حرارة الجسم هما عن طريق ضخ كثير من الدم إلى الجلد وعن طريق التعرق على معظم مساحة سطح الجسم وتبخير هذا العرق.
لكن هذه العملية يمكن أن ترتبك عندما تكون هناك حرارة شديدة، خاصة عندما تقترن بالرطوبة العالية.
وتعمل هذه العوامل جنبا إلى جنب على تعطيل تبخر العرق بحيث لا يكون له أي تأثير مبرد على الجسم، بينما يجعل الجسد أيضا أكثر جفافا.
ويمكن أن يتعرض كبار السن والرضع لهذا الخطر بشكل خاص.
القلب
مع ارتفاع درجة حرارة الجسم، يبدأ الضغط على نظام القلب والأوعية الدموية بأكمله.
يرجع ذلك، وفق خبراء، إلى احتجاز مزيد من الدم في الجلد بينما يحاول الجسم تبريد نفسه.
هذه الوضعية تضع ضغطا أكبر على القلب لأنه الآن لا يعود لديه سوى كمية أقل من الدم، وعليه أن يعمل بجد أكبر لضخ هذا الدم إلى بقية الجسم.
ويقول دانييل غانيون، الباحث في معهد مونتريال للقلب، إن نقص الأكسجين والمواد المغذية في القلب قد يؤدي إلى حالات مميتة مثل الأزمة القلبية.
وهناك كثير من الدراسات التي تظهر وجود علاقة بين درجات الحرارة القصوى ومشاكل القلب والأوعية الدموية.
الرئتان
قد يكون استنشاق الهواء الساخن الرطب أمرا صعبا على الرئتين، مما يؤدي إلى تفاقم حالات الاختناق لدى المسنين والأطفال، وتعريض أشخاص آخرين لخطر أكبر للإصابة بمشاكل الجهاز التنفسي الأخرى.
وجاء في افتتاحية مجلة "لانسيت" الطبية عام 2008 أن الحرارة الشديدة تشكل خطرا بشكل خاص على المصابين بأمراض الجهاز التنفسي، وأن تفاقم الحالات المزمنة مثل مرض الانسداد الرئوي المزمن، والربو يتزايد بشكل كبير تماشيا مع ارتفاع درجات الحرارة، وغالبا ما يتفاقم بسبب زيادة تلوث الهواء في المدن، فضلا عن الحساسية الموسمية.
ونظرت دراسة في الولايات المتحدة في تأثير حرارة الطقس على كبار السن، ووجدت أن كل زيادة بمقدار 5.6 درجة مئوية كانت مرتبطة بزيادة أربعة في المئة في الحالات الطارئة بسبب أمراض الجهاز التنفسي.
الكلى
عندما يصاب الجسم بالجفاف، فإن ذلك يؤثر بشكل كبير على الكليتين إذ إنهما العضوان المسؤولان عن تصفية الدم عن طريق إزالة الفضلات والمياه الزائدة التي يتم التخلص منها في النهاية على شكل بول.
ويمكن أن يسبب الجفاف الناتج عن احترار الطقس الزائد، إلى الفشل الكلوي، مما قد يؤدي إلى دخول المستشفى في حالة طارئة أو الوفاة.
ولعل الضغط المتزايد على القلب، وزيادة درجة حرارة الجسم، والجفاف يمكن أن يسبب زيادة الضغط على الكلى.
ووجدت دراسة سابقة، نشرت في مجلة الطب الوقائي والصحة العامة، زيادة بنسبة 30% في الإصابة بأمراض الكلى في درجات الحرارة المرتفعة.
ولاحظ الباحثون أيضا حدوث طفرات في حالات معينة، بما في ذلك حصوات الكلى.
ويعد الإجهاد الحراري السبب الرئيسي للوفيات المرتبطة بالطقس ويمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأمراض الكامنة بما في ذلك أمراض القلب والأوعية الدموية والسكري والصحة العقلية والربو، وفق "منظمة الصحة العالمية".
ويمكن أن يزيد "الإجهاد الحراري" من خطر الحوادث وانتقال بعض الأمراض المعدية.
وفي حالة عدم علاجه، قد يؤدي "الإنهاك الحراري" إلى الإصابة بضربة الشمس والتي "قد تسبب الوفاة".
ما علاقة "التغيرات المناخية"؟
يتزايد عدد الأشخاص المعرضين للحرارة الشديدة بشكل كبير بسبب تغير المناخ.
وزادت الوفيات المرتبطة بالحرارة للأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما بنسبة 85 في المئة تقريبا حول العالم، حسبما تشير "منظمة الصحة العالمية".
بين عامي 2000 و2019، تظهر الدراسات أن ما يقرب من 489000 حالة وفاة مرتبطة بالحرارة تحدث كل عام، 45 في المئة منها في آسيا و36 في المئة في أوروبا.
وفي أوروبا وحدها، في صيف عام 2022، حدث ما يقدر بنحو 61672 حالة وفاة مرتبطة بالحرارة.
ويؤدي تغير المناخ إلى زيادة تواتر وشدة موجات الحر، ويتطلب الأمر تطوير مجموعة من التدابير، والتقيد بمزيد من النصائح للمواجهة.
إجراءات وقائية
وفي ظل موجات الحر الشديدة التي تجتاح العديد من مناطق العالم، وخاصة في الدول ذات المناخ الصحراوي والتي تشهد انقطاعا مزمنا للتيار الكهربائي كسوريا، ولبنان، ومصر، والكويت، والعراق، تصبح الوقاية من الإجهاد الحراري أمرا في غاية الأهمية للحفاظ على سلامة الأفراد.
ويقول بلعاوي إنه لضمان السلامة، ينصح باتباع عدة إرشادات، ومنها:
1 الحد من التعرض المباشر لأشعة الشمس، خاصة في ساعات الذروة بين الساعة 10 صباحا و4 مساء.
2 ارتداء ملابس فضفاضة فاتحة اللون مصنوعة من أقمشة قطنية تسمح للجسم بالتنفس لتعكس أشعة الشمس وتخفف من امتصاص الحرارة.
3 شرب كميات كافية من الماء والسوائل، وذلك لتعويض السوائل المفقودة عبر التعرق، مع الحرص على تجنب المشروبات التي تحتوي على الكافيين أو الكحول لأنها تؤدي إلى فقدان السوائل بشكل أسرع.
4 تناول وجبات خفيفة غنية بالخضراوات والفواكه وتجنب الأطعمة الدسمة التي تزيد من حرارة الجسم وترهقه أثناء عملية الهضم.
5 الحرص على أخذ قسط كاف من الراحة في أماكن مظللة وباردة وجيدة التهوية، خاصة بعد القيام بأي مجهود بدني.
6 الاستحمام بالماء البارد أو استخدام الكمادات الباردة لخفض حرارة الجسم بشكل سريع ومؤقت.
7 الانتباه إلى أفراد العائلة الأكثر عرضة للإصابة بالإجهاد الحراري، كالأطفال وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، والحرص على توفير البيئة المناسبة لهم.
8 التوجه إلى أقرب مركز صحي أو مستشفى فور ظهور أعراض الإجهاد الحراري الشديد لتلقي العلاج المناسب.
وكالات