إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فيما يتطور مستوى العنف والانقطاع المدرسي.. لماذا عجزت الحكومات عن الإصلاح التربوي..؟

تونس-الصباح

المنظومة التربوية تعاني اليوم  الويلات.. ينتشر عنف يرتقى الى مرتبة الجريمة (آخرها ما جد  في القيروان بعد أن حاول تلميذ طعن أستاذه)، ظواهر خطيرة وسلوكيات شاذة في المحيط  المدرسي، تراجع مدوّ وصارخ لهيبة القسم والمربي ولهذا الصرح العمومي الذي لعب دورا رياديا في ستينات وسبعينات القرن الماضي- وتعود مجددا مسألة الإصلاح التربوي لتقفز إلى الأذهان كأولوية وضرورة ملحة وعاجلة وسط تساؤلات عديدة  عن مآل هذا المشروع الإصلاحي التربوي الذي أعطيت إشارة انطلاقته رسميا مع الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم.. من ذلك متى سيرى هذا المشروع الإصلاحي النور؟ وتحديدا متى يتم الشروع فعليا في إدخال إصلاحات وتعديلات على المنوال التربوي الذي يحتاج، وعلى حد تشخيص الخبراء، الى تدخل عاجل حتى يتسنى إنقاذ المدرسة العمومية قبل أن تتهاوى أكثر..

من هذا المنطلق أبدى كثير من المتابعين للشأن التربوي  مخاوف من أن تتعثر مجددا عملية الإصلاح التربوي  وان تنسف الجهود المبذولة سابقا على اعتبار ان التغييرات الحاصلة على راس الوزارة قد تكون لها، من وجهة نظر البعض، تداعيات على عملية التسريع في مسار الإصلاح التربوي، خاصة وأن كثيرين يراهنون على  أن الاستشارة الوطنية التي انطلقت تزامنا مع بداية  الموسم الدراسي الحالي، قد نشهد أولى مخرجاتها مجسمة فعليا وعلى ارض الواقع مع مستهل العودة المدرسية القادمة.. وهي فرضية تبقى صعبة على اعتبار ان التوجه الذي كان قائما لدى سلطة الإشراف وفقا  لتصريحات وزير التربية السابق محمد علي البوغديري هو التريث، بعد أن اعتبر الوزير السابق في معرض تصريحاته الإعلامية أن الاستشارة ستأخذ الوقت اللازم دون تراخ ودون تسرع لأن أي خطوة غير محسوبة أو في غير محلها، قد تدفع ضريبتها أجيال قادمة لاسيما وأن نتائج هذا الإصلاح ستكون على امتداد 20 سنة..

وبالعودة الى المخاوف التي يسوقها البعض من تأخير عملية الإصلاح جراء التغييرات الحاصلة على رأس الوزارة  فإنها تبقى مجرد فرضية لا تتبناها فئة هامة من المتابعين للشأن التربوي التي ترى أن عملية الإصلاح التربوي ومن خلال إطلاق الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم قد برزت كأولوية وطنية وبالتالي فإن قطار الإصلاح قد انطلق فعليا.. كما أن هذا الملف تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية وإدارته قد أسندت منذ البداية الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الأمر الذي يجعله بمنأى عن أي تأثير..

في هذا الخضم ودون الخوض في مدى صحة أو أحقية كل فرضية فإن المدرسة العمومية تحتاج وأكثر من أي وقت مضى الى تدخل سريع وناجع خاصة وأن الخبراء يرون أن كل تأخير في عملية الإصلاح ندفع غاليا ضريبته وكلفته وبالتالي فإن الوضعية الحرجة للمدرسة العمومية تقتضي التسريع في إدخال تعديلات تشمل أولا المرحلة الابتدائية، في ظل وجود إشكاليات تقتضي النظر فيها سريعا على غرار البرامج والمناهج التي يتعين مراجعتها.. في حين يرى البعض الآخر أن الزمن المدرسي يستوجب التفاتة حازمة من قبل صناع القرار من خلال إيجاد حل للساعات الجوفاء التي تجعل التلميذ عرضة لسلوكيات محفوفة بالمخاطر. وهنا فإن الجميع على دراية بما يحدث من جرائم ومن سلوكيات شاذة في محيط المدارس. فرغم الجهود المبذولة من قبل كل الهياكل المتداخلة يبقى للأسف محيط  عديد الإعداديات والمعاهد الثانوية فضاء ومسرحا لجرائم عدة..

من هذا المنطلق تساءل كثيرون عن مخرجات الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم لا سيما أن آخر التصريحات الرسمية لوزير التربية السابق كانت قد أشارت بعد إغلاق الاستشارة أن الجهود تتركز حاليا على تشخيص الاستشارة وضبط مخرجاتها ليتم بعد ذلك عرض هذه المخرجات على أنظار رئيس الجمهورية  الذي هو بصدد الإعلان عن مشروع  المجلس الأعلى للتربية وعرضه على أنظار مجلس نواب الشعب.

صحيح أن التريث والتعقل مطلوبان، خاصة وأن الأمر يتعلق بمستقبل أجيال وأجيال. لكن وجب أيضا التعجيل بالإصلاح، من خلال وضع لبنات إصلاحية أولى، لأن  المدرسة العمومية حاليا في وضع حرج وأي نفس إصلاحي من شانه أن ينفخ في صورة هذا الصرح العمومي من خلال إجراءات وقرارات تتولى إعادة  الإشعاع والبريق للمدرسة العمومية لا كمنارة تسهم في تكوين كفاءات فقط وإنما تعيد أيضا للصرح العمومي  دوره التربوي الذي افتقدته على مدار العقود الماضية .

وصحيح أيضا أن المدرسة العمومية اليوم، ذاك "الرجل المريض" لكن المرض لا يعني الاستكانة والهوان  والأفول، خاصة إذا ما توفرت إرادة سياسية قوية لإنقاذها. وبالتالي فان هذا الصرح العمومي الذي كان سابقا منارة ومصعدا اجتماعيا ساهم في تكوين أجيال وأجيال قادر على أن ينهض وأن يشع من جديد.

واليوم ومع دخول الإصلاح التربوي مرحلة يعتبرها البعض جادة من خلال إطلاق الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم يأمل كثيرون ألا يتأخر كثيرا النظر في مخرجاتها وأن يتم سريعا تركيز المجلس الأعلى للتربية..

"الصباح" ومن خلال فتحها مجددا لملف الإصلاح التربوي تزيد التأكيد على أنه ينبغي المضي قدما في الإصلاح التربوي من خلال إدخال إصلاحات جوهرية على المدرسة العمومية لا سيما في المرحلة الابتدائية وتحديدا على مستوى البرامج والزمن المدرسي.. صحيح  أن التريث مطلوب لكن كلفة التأخير في الإصلاح وفي إدخال تعديلات يدفع الصرح العمومي ضريبته كل يوم.. كل تأخير يعني مزيد تكريس لمظاهر العنف ولتراجع هيبة المدرسة.. فالمطلوب اليوم أن ينكب الجميع على جعل المدرسة العمومية عنصرا جاذبا لا منفرا وهذا لن يتحقق دون برامج جاذبة تواكب التطور والنسق السريع للتكنولوجيات الحديثة.

وقد أجمع جل المشاركين في هذه المساحة على ضرورة وأهمية المضي قدما والتسريع في وضع أولى لبنات الإصلاح التربوي.

يعلق العديد من المتابعين للشأن التربوي آمالا كبيرة على المجلس الأعلى للتربية الذي تمت دسترته ويرون أن هذا الهيكل في حال تركيزه من شأنه أن يحدث الفارق وأن يكون مرجعا للإصلاح التربوي.

ونحن نعلق آمالا أيضا على أن تجد هذه المساحة أذانا صاغية وأن يتفاعل صناع القرار مع ضرورة التسريع في سن إصلاحات تربوية أو في تركيز المجلس الأعلى للتربية قبيل العودة المدرسية المرتقبة فالجميع من أولياء وتلاميذ وسلطة إشراف ومنظمات مجتمع مهتمة بالشأن التربوي متعطشة الى أي نفس إصلاحي تربوي جديد ..

ملف من إعداد: منال حرزي

 

محمد الصافي (الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي):الشروع في عملية الإصلاح التربوي يعتبر حلما ..

تفاعلا مع أهمية تفعيل قاطرة الإصلاح التربوي بعيدا عن منطق المشاورات والمفاوضات التي يرى كثيرون أنها أخذت حيزا زمنيا هاما لاسيما بعد القيام باستشارة وطنية حول إصلاح التربية والتعليم وحول ما إذا كانت هناك نوايا جدية من قبل سلطة الإشراف لوضع أولى لبنات الإصلاح قبل العودة المدرسية القادمة، يرى الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي في تصريح لـ"الصباح" أن جلسة مطولة التأمت بحر الأسبوع الماضي مع وزارة التربية تم التطرق فيها الى الإصلاح التربوي والى الواقع التربوي من خلال أهمية تفعيل مقاربة عميقة وواقعية وموضوعية للمنظومة التربوية هذا بالتوازي مع التطرق الى جملة من المواضيع الحارقة الأخرى على غرار وضعية المؤسسات التربوية وانتشار حالات العنف. واعتبر محدثنا أن هذه الجلسة الأولى مع وزيرة التربية سلطت الضوء على جملة من المواضيع تحت عنوان "إصلاح المنظومة التربوية" والأمر يحتاج من وجهة نظره الى جلسات أخرى..

أما فيما يتعلق بمسألة الإصلاح التربوي، يشير كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي الى أن الواقع الراهن للمنظومة التربوية يستدعي ضرورة النظر سريعا في   هذا الملف وذلك أمام انتشار ظواهر العنف وعديد السلوكيات اللاأخلاقية، الأمر الذي أدى الى تفاقم معضلة التسرب المدرسي من خلال الأرقام المفزعة التي تقدر بـ109 آلاف انقطاع مدرسي سنويا. واقترح محدثنا أن يقع النظر في جملة من المسائل على غرار منظومة العقوبات مشيرا في هذا السياق الى أن الأساتذة يتذمرون ويرون أن المنظومة القديمة لم تعد قادرة على ردع التلاميذ وبالتالي من الضروري التفكير في أرضية أخرى تستطيع مراعاة هذه الثنائية. كما اعتبر محدثنا أن المؤسسات التربوية لم تعد جاذبة بل أصبحت منفرة وبالتالي فان الشروع في عملية الإصلاح التربوي يعتبر حلما لكل من يغار على المنظومة العمومية .

واستعرض الصافي في هذا الإطار المحطات التي تعثر فيها الإصلاح التربوي الذي كان قد انطلق سنتي 2015 و2016 ولكن لم يتسن لهذا المسار أن يستمر رغم وجود كتيب يتضمن مقاربة إصلاحية شاملة للزمن المدرسي والبرامج المدرسية. وكانت العودة من جديد سنتي 2021 و2022 من خلال إصلاح البرامج وقد انطلق العمل بجدية بين ثلاثة أطراف (أساتذة الثانوي والوزارة والمتفقدون) لكن مع انطلاقة الاستشارة الوطنية طٌلب منهم أن يتريثوا قبل أن يتم الإعلان عن مخرجات الإصلاح.

وخلص الصافي الى القول بأنه يتعين على الجميع العودة الى طاولة المفاوضات في علاقة بالإصلاح التربوي لاسيما فيما يهم البرامج والزمن المدرسي والبنية التحتية.

لا بد من المضي قدما في الإصلاح التربوي

لا يمكن التكهن مطلقا بما يدور في كواليس وزارة التربية  في ما يتعلق بالإصلاح التربوي فالمسألة محاطة بكثير من التكتم. كما أننا لا نذيع سرا إذا ما أكدنا أن وزارة التربية لا تعتبر عنصرا فاعلا في مسألة الإصلاح  التربوي -باستثناء بعض الجهود المبذولة على مستوى التنسيق مع المندوبيات الجهوية للتربية في علاقة بالاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم- على اعتبار أن ملف الإصلاح التربوي برمته تحت إشراف رئيس الجمهورية فضلا عن أن إدارة المشروع قد أسندت  إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

ولكن هذا لا ينفي أن كثيرين سواء من الخبراء أو من الأطراف الاجتماعية يعلقون آمالا كبيرة على الوزيرة الجديدة التي تثمن من وجهة نظرهم الإصلاح التربوي وتسعى الى تجسيمه على ارض الواقع. وقد أكدت بعض الأطراف التي استقت "الصباح" آراءها عبر هذه المساحة حرص الوزيرة الجديدة على الإصلاح التربوي.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة الى أن وزيرة التربية سلوى العباسي كانت قد أكدت في كلمة ألقتها الأربعاء الماضي  خلال إشرافها على الملتقى الختامي لبرنامج تعصير المؤسسات التربوية المنعقد بالحمامات، أنه "لا بد من المضي قدما في الإصلاح التربوي الذي لا بديل عنه كما لا بد من استصلاح نسيج المؤسسات التربوية وتحسين جودة البنية التحتية لهذه المؤسسات".

ومن جانبه أفاد مدير عام وحدة التصرف حسب الأهداف بوزارة التربية، كريم داود، بأن أهم مكونات البرنامج تتمثل في: إحداث 59 مؤسسة تربوية (مدارس إعدادية ومعاهد) وإنشاء 36 ألف مقعد دراسي جديد واقتناء 26 شاحنة رباعية الدفع وتوزيعها على المندوبيات الجهوية للتربية.

وأردف داود أنه سيتم أيضا إضافة 4 عربات إلى الإدارة المركزية بوزارة التربية لمتابعة انجاز برنامج تعصير المؤسسات التربوية وتكوين 400 إطار مركزي وجهوي وتهيئة وصيانة 388 مؤسسة تربوية (مدارس إعدادية ومعاهد) واقتناء معدات وتجهيزات تعليمية وبيداغوجية حديثة. يذكر أن هذا البرنامج ممول من طرف الحكومة التونسية والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الألماني للتنمية والاتحاد الأوروبي.

لكن في المقابل يرى البعض الآخر أن الأرقام سالفة الذكر في ما يهم تعصير المؤسسات التربوية تبقى هامة على أن الأهم، من وجهة نظرهم، هو سعي وزارة التربية  أو ضغطها من أجل التسريع في قاطرة الإصلاح التربوي لتشمل خاصة المناهج والبرامج التعليمية والزمن المدرسي..

 

توفيق الذهبي (كاتب عام نقابة مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي): لا بد أن تكون مخرجات الاستشارة محل تشاور

ولأنه لا مناص اليوم من تفعيل الإصلاح التربوي دون إطالة أو مماطلة حتى يتسنى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يرى كاتب عام نقابة مستشارين الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي توفيق الذهبي في تصريح لـ"الصباح" أن الإصلاح التربوي هو عملية شاملة وجامعة تضم حزمة من القرارات أو الإجراءات التي تهم مختلف الجوانب .

وقد شهدت عملية الإصلاح التربوي خطوة أولى حاسمة تتمثل في اتخاذ القرار بالانطلاق في إصلاح تربوي فعلي يبني على كل ما راكمته المدرسة التونسية والخبراء وتجارب الإصلاح السابقة من أفكار ويأخذ بعين الاعتبار أيضا المستجدات الحاصلة على مستوى الذكاء الاصطناعي واضعا رؤية واضحة ومستقبلية للوضع التربوي في تونس على مدار الخمسين أو ستين سنة القادمة.

وأشار محدثنا الى أن الإصلاح التربوي الذي انطلق سنتي 2015 و2016  والذي شارك فيه بوصفه خبيرا في المعهد العربي لحقوق الإنسان انبنى آنذاك على رؤية واضحة كانت عبارة عن بوصلة تتلخص في بناء مجتمع ديمقراطي تقدمي يعطي فكرة عن آليات المعرفة على مدار 40 أو 50 سنة قادمة .

واعتبر محدثنا في الإطار نفسه أن الإصلاح التربوي هو عملية سياسية تنبني على فكر بناء ونمط  مجتمعي يصبو إليه التونسيون، مشيرا الى أن الإصلاح لا يقتصر أساسا على إدخال إصلاحات أو تعديلات على البرامج والزمن المدرسي وإنما هو ضرورة أن توجد بينهما رؤية لا بد أن تصاغ بتشاركية من خلال تشريك جميع الفاعلين.

وأضاف كاتب عام نقابة مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي أن الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم لا بد أن تكون مخرجاتها محل تشاور وجدل واسع حتى يتسنى ضبط رؤية مشتركة وموحدة للسنوات القادمة.

محمد العبيدي (عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي): بعض المواد تقتضي أنشطة حديثة وفضاءات معينة لممارستها

في قراءته للمسائل العاجلة التي تستوجب الإصلاح في الوقت الراهن يشير في البداية عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي محمد العبيدي في تصريح لـ"الصباح" أن الإصلاح التربوي شأن يهم الجميع، مستنكرا تعثر عملية الإصلاح، جراء تواتر التحويرات الوزارية في الوزارة، قائلا: "وكأن عملية الإصلاح التربوي بيد وزير ما.. وكل وزير يرى الإصلاح من منظوره الخاص".

وأشار العبيدي الى أن وزيرة التربية لم تلتئم معها، الى حد اللحظة، أي جلسة ولا يعرف بعد رؤيتها حول مسالة الإصلاح التربوي وآليات تواصله، مستنكرا في السياق ذاته توقف المسار الإصلاحي سنة 2015 . وأورد محدثنا في هذا الإطار أنه يرى من وجهة نظر شخصية -و حتى لا تذهب كل هذه الجهود هباء- أنه يفترض أن تكون تحت إشراف المجلس الأعلى للتربية على أن يكون هذا الهيكل معقلا لتطوير البرامج وإصلاحها تحت إشراف لجان مختصة .

كما تطرق عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي الى مسائل أخرى لا تقل أهمية في عملية الإصلاح التربوي على غرار الزمن المدرسي الذي لا يتلاءم مع البرامج  مشيرا الى أن بعض المواد تقتضي نشاطات حديثة وفضاءات معينة لممارستها الأمر الذي يقتضي ميزانية خاصة.

 

نورالدين الشمنقي (خبير تربوي)ضرورة الانكباب على إعادة إحياء مسار تطوير البرامج والمناهج

حول أهمية تفعيل قاطرة الإصلاح التربوي مع انطلاقة السنة الدراسية المرتقبة يشير في البداية الخبير التربوي نورالدين الشمنقي في تصريح لـ"الصباح" إلى أن مصطلح الإصلاح التربوي قد تغير في العالم حيث لم نعد  نتحدث اليوم عن إصلاح وإنما عن تحولات في التعليم باعتبار أن التعليم هو مسار خاضع لتحولات دورية وكلمة الإصلاح في حد ذاتها تحمل شحنة سلبية على حد تشخيصه.

وفسر الشمنقي أن باب التحول في التعليم يقتضي أن يكون أولوية وطنية في أي نظام سياسي كان. وبالعودة الى مآل الإصلاح التربوي حاليا قال الشمنقي "ما أنا متفائل به شخصيا، حاليا، هو أن الوزيرة الجديدة كانت  معي سابقا عضوا فاعلا في مسار إعادة النظر في المنظومة التربوية وتطويرها وتعديلها وصياغة محتويات تربوية جديدة". وتابع الشمنقي قائلا "بما أن هنالك استشارة وطنية حول الإصلاح التربوي قد أنجزت فأنا أتصور أن تجد سلطة الإشراف صلة ما في أن يصب المجهود الذي أنجز سابقا في ما يخدم ويصلح من واقع المنظومة التربوية وأن يتم ربط صلة القربى بينه وبين مخرجات الاستشارة الوطنية حول إصلاح "التربية والتعليم التي أنجزتها رئاسة الجمهورية.

وأضاف الخبير التربوي أن إعادة النظر في البرامج والمناهج التعليمية يعتبر اليوم أولوية قصوى لأن المدرسة العمومية لم تعد تحتمل اليوم كلفة تأجيل وتطوير البرامج والمناهج مشيرا الى أن كلفة تأخير تطوير البرامج وإعادة صياغة مدرسة عمومية جديدة أخطر بكثير من المشاكل الأخرى التي نلمسها في قطاعات أخرى.

ليخلص الخبير التربوي نور الدين الشمنقي الى القول: "أدعو من منبر جريدة "الصباح" جميع الفاعلين والمهتمين بالشأن التربوي الى الانكباب على إعادة إحياء مسار تطوير البرامج والمناهج".

 

رضا الزهروني (رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ)لا بد من تركيز المجلس الأعلى للتربية

الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ من بين الأطراف التي تدعو مرارا وتكرارا وفي كل مناسبة الى أن واقع المنظومة التربوية يستوجب تدخلا سريعا وناجعا من خلال وضع أولى لبنات الصلاح التربوي لا سيما على مستوى البرامج وحتى لا تنسف الجهود المبذولة ولا تتعطل أكثر هذه العملية التي باتت اليوم ضرورة ملحة يرى رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني في تصريح لـ"الصباح" أن الجمعية تؤكد في كل مناسبة على أن تنطلق إجراءات الإصلاح في إطار منهجية إستراتيجية واضحة دون ارتجال على أن تشمل عملية الإصلاح البرامج والمناهج التعليمية والزمن المدرسي .

واعتبر محدثنا أن المرحلة الابتدائية تقتضي اليوم إجراءات عاجلة على غرار إصلاح الزمن المدرسي وتخفيف البرامج التعليمية مع إدخال تعديلات على  المواد الأساسية في المرحلة الابتدائية على غرار مادتي الحساب والقراءة. ودعا محدثنا الى أن يتحمل الجميع في عملية الإصلاح مسؤوليته بدءا من مدير المدرسة الى بقية السلطات الجهوية هذا بالتوازي مع ضرورة تحسين البنية الأساسية، إذ من غير المعقول ومن غير المنطقي من وجهة نظر الزهروني أن يدرس التلاميذ في مدارس تفتقر الى الماء الصالح للشرب هذا مع أهمية مراجعة جداول الأوقات على أساس التقليص من عدد الساعات الجوفاء مع توفير قاعات للمراجعة .

ودعا رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ من جانب آخر الى ضرورة تركيز المجلس الأعلى للتربية والتعليم على اعتبار انه تمت دستره كهيكل. لكن لم يتم بعد تفعيله على ارض الواقع مشيرا الى أن هذا الهيكل وفي حال تم تركيزه من شانه أن يحدث الفارق .

 

سليم قاسم (رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم): يجب أن نتعامل مع ملف الإصلاح التربوي بمنأى عن كل تأثير

تفاعلا مع الطرح الذي يشير الى ضرورة التعجيل بسن  وإدخال إصلاحات تربوية سواء على المناهج التعليمية أو الزمن المدرسي وغيرها من المواضيع التي تمثل إشكاليات وتحديات سواء لسلطة الإشراف أو لبقية الفاعلين في المشهد التربوي، يرى رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم في تصريح لـ"الصباح".

إنّ المسار الجديد لإصلاح المنظومة التّربويّة، والذي تزامنت انطلاقته الفعليّة مع إطلاق الاستشارة الوطنية حول إصلاح نظام التربية والتعليم، قد جاء بمقاربة جديدة أساسها المنظوميّة والتّشاركيّة، حيث شمل هذا المسار لأوّل مرّة محاور تتجاوز الشّأن التربويّ بمعناه التّقنيّ التّجزيئيّ المألوف لتشمل مراحل الطّفولة المبكّرة وأنظمة التّعليم العالي والتّكوين المهني والتّعلّم مدى الحياة.

لذلك فإنّ حديث البعض عن "تخوّفهم على الإصلاح" لتغيير شمل منصب وزير التّربية هو حديث لا نجد له أيّ مبرّر موضوعيّ يستند إليه، أوّلا لأنّ ملف الإصلاح برمّته هو تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهوريّة وهو ما يجعله بمنأى عن كلّ تأثير، وثانيا لأنّ إدارة المشروع قد أسندت منذ البداية لوزارة التّعليم العالي والبحث العلمي، وهو قرار حكيم له عديد المبرّرات المنطقيّة والميدانيّة ليس هنا المجال للتّوسّع فيها، وثالثا لأنّنا وبكلّ صراحة لم نر خلال الأشهر الفارطة أيّة إسهامات جادة لوزارة التّربية في ملفّ الإصلاح بحيث يمكن أن نخشى عليها لتغيّر المسؤول الأوّل في الوزارة، حيث اقتصر الأمر على ترديد بعض المبادئ والشّعارات المألوفة من قبيل رقمنة التّعليم وجودة التّعليم، وهي الشّعارات التي ما فتئت الوزارة ترفعها منذ ما يزيد عن العقد من الزّمن دون أن نجد لها أثرا ميدانيّا يُذكر.

وأضاف محدثنا أنه أثار في العديد من المقالات والنّدوات الوطنيّة غير مدفوعة الأجر مسألة الضّرر الفادح الذي لحق بوزارة التّربية بسبب بتر أحد أهمّ مؤسّساتها وهو المركز الوطني للتّجديد البيداغوجي والبحوث التّربويّة، حيث بقيت وزارة التّربية المؤتمنة على مستقبل نحو 2.5 مليون تلميذة وتلميذ منذ سنوات عديدة دون جهاز للتّفكير والاستشراف واليقظة، وهو ما جعلها تسير على غير هدى، وتنتقل بين القرار ونقيضه في عبث يندر أن نجد له مثيلا حتّى في الدّول التي كانت الى وقت قريب تعتبر نظامنا التّربويّ قدوة ومثالا يُحتذى به، وقد خَلَقَ هذا الوضع فراغا رأيناه جليّا حين أعيد فتح ملفّ إصلاح منظومة التّربية والتّعليم على نحو جدّيّ وتشاركيّ، كما فَتَحَ المجال لتكليفات وتعيينات وتحالفات ما أنزل اللّه بها من سلطان، والأشدّ خطورة من كلّ هذا هو بعض التّسريبات التي بدأت تطالعنا، والتي هي في الواقع نسخ مطابقة للأصل من أفكار لا علاقة لها بأجندتنا التّربويّة الوطنيّة ولا بالمصلحة الفضلى لأطفال تونس ولا باستعادة مدرسة الجمهوريّة لألقها وبريقها، لذلك فإنّنا نعيد فنقول إنّه لا مجال للتّخوّف على مسار الإصلاح فللبيت ربّ يحميه ولتونس ولمدرستها بنات وأبناء يحسنون الذّود عن حماها .

من جهة أخرى وفيما يهم إسهام الجمعيّة التّونسيّة لجودة التّعليم في مسيرة بناء منظومة تربويّة وطنيّة عالية الأداء أورد محدثنا أن الجمعية ستواصل العطاء الذي بدأ منذ سنة 2011 دون حسابات ولا أجندات باستثناء حسابات الجودة والحوكمة الرّشيدة وأجندة مدرسة الدّولة الوطنيّة مشيرا الى أن الجمعية تتطلّع إلى إعادة طرح جملة من المشاريع على وزارة التّربية، وهي مشاريع سبق أن طرحتها ولكنهّا قوبلت في كلّ مرّة بالتّرحاب الظّاهر والتّهميش الفعليّ، بل ووصل الأمر إلى حدّ السّطو على بعضها من طرف بعض الجهات التي تدّعي زورا وبهتانا الانتماء إلى المجتمع المدني الوطنيّ وهو منها براء. وذكر قاسم انه من بين المشاريع التي تأمل الجمعية  إعادة عرضها  هو مشروع الميثاق التّربوي الوطنيّ الجامع ومشروع مدوّنة سلوك الأسرة التّربويّة الموسّعة، ومشروع مرجعيّة الجودة في مؤسّسات التّعليم والتّكوين وتكوين شبكة وطنيّة لمدقّقي الجودة، ومشروع المبادرة المدنيّة للتّربية الأسريّة التي يمكن أن تكون أداة بالغة الفعاليّة لمعالجة عديد المظاهر التي استفحلت داخل مؤسّساتنا التّربويّة ومنها ظاهرة العنف وظاهرة السلوكات المحفوفة بالمخاطر وغيرها.

وأضاف رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم إنّ ثقته تامّة في سلامة مسار الإصلاح موضحا انه يعتبر أن ما يجري بين الفينة والأخرى من تغييرات في المناصب والمسؤوليّات إنّما يندرج في إطار تحصينه حتى يكون إصلاحا تونسيّا صميما وناجحا، وتابع قائلا :"نأمل ألاّ تتوقّف حركة التّغيير والتّصويب في وزارة التّربية قبل توفير جميع الشّروط اللاّزمة لتنفيذ الإصلاح المرتقب بكلّ اقتدار، بما في ذلك إعادة هيكلة الوزارة وتركيز منظومة جديدة أساسها قواعد الحوكمة الرّشيدة ومعايير الجودة الوطنيّة، وإعادة هندسة مسارات التّعليم والتّكوين.. وجميعها ملفّات تسبق الإصلاحات البيداغوجيّة البحتة باعتبارها من الشّروط القبليّة اللاّزمة لنجاح هذه الإصلاحات، ولا شكّ أنّ وزارتنا قادرة على كسب هذا الرّهان الحيوي بفضل ما تزخر به من كفاءات قيادة وتنفيذا، في ظلّ النّقلة النّوعيّة التي سيمثّلها المجلس الأعلى للتّربية، والرّعاية المباشرة والدّعم الكبير الذي يلقاه الشّأن التّربويّ من أعلى هرم السّلطة"...

 

الإصلاح التربوي تاريخياز من المسعدي.. مزالي.. الشرفي وجلول وصولا إلى الاستشارة الوطنية

عديدة هي المحطات التي كانت فيها المنظومة التربوية  التونسية وعلى مر عقود من الزمن محل تغييرات وإصلاحات جوهرية نتعرض عبر هذه المساحة -واستنادا الى ما توفره الشبكة العنكبوتية من معلومات الى أهمها وأبرزها.

فقد ورد في موقع المفكرة القانونية وتحت مقال حمل عنوان "الإصلاحات التعليمية في تونس تاريخ سياسي بامتياز" أن  محمود المسعدي لم يكن فقط أحد أهم الأدباء في تاريخ تونس، بل ناضل منذ الثلاثينات في صفوف الحركة الوطنية، كما انتخب رئيسا للجامعة القومية لنقابات التعليم وأمينا عاما مساعدا للإتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه سنة 1948 إلى سنة 1954.

وتولى المسعدي كتابة الدولة للتربية القومية لمدة عشر سنوات كاملة. لكنه لم ينتظر أكثر من ستة أشهر لإصدار أول قانون ينظم التعليم بعد الاستقلال، وهو القانون عدد 118 لسنة 1958 المتعلق بالتعليم.

جعل هذا القانون أربعة أهداف جوهرية للعملية التربوية، أولها “تزكية الشخصية وتنمية المواهب الطبيعية عند جميع الأطفال ذكورا وإناثا بدون أي تمييز بينهم لاعتبار جنسي أو ديني أو اجتماعي”.

ويبقى أهم مكسب جاء به قانون سنة 1958 هو إقرار إجبارية التعليم من سن السادسة إلى سن الثانية عشر. ولئن ترك تحديد التاريخ الذي يبدأ فيه تطبيق الإجبارية إلى نصوص لاحقة، فإن منطوق الفصل الثاني من القانون ترجم الروح السائدة آنذاك : “أبواب التربية والتعليم مفتوحة في وجوه جميع الأطفال ابتداء من سن السادسة”. كما أقر الفصل الثالث مجانية التعليم في جميع درجاته، ضمانا لتكافؤ الفرص. وقد صاحب هذا الإقرار التشريعي استثمار كبير في البنية التحتية التربوية، إذ لم تكن المدارس الموجودة قادرة على استيعاب عدد الأطفال في سن التمدرس. فاستحوذ التعليم على ما بين خمس وثلث الميزانية كل سنة، وارتفع عدد المدارس في عقدين (1958-1978) من 889 إلى 2423 مدرسة، وعدد قاعات التدريس من 4495 إلى 14441، أي أن تلك الفترة شهدت زيادة بقاعة درس جديدة كل 17 ساعة.

بعد تخلّي بورقيبة عن تجربة التعاضد في خريف 1969 كانت حقيبة التربية آخر وزارة تُسحب من أحمد بن صالح وقد  عين بورقيبة مكانه محمد المزالي، الذي كان مدير ديوان الأمين الشابي في نفس الوزارة، والمعروف بمناصرته الشديدة لتعريب التعليم. شغل مزالي منصب وزير التربية مدة ثماني سنوات، سمحت له بإدخال إصلاحات عميقة على المنظومة التعليمية، أهمها تعريب التعليم. فقد استكمل المزالي تعريب كافة المواد، ومنها العلمية كالحساب والإيقاظ العلمي، بالنسبة لكل مستويات التعليم الابتدائي.

وأصبحت الفرنسية تدرس فقط كلغة أجنبية وابتداء من السنة الرابعة..

أما في التعليم الثانوي، فقد بقيت الفرنسية لغة تدريس المواد التقنية والعلمية، في حين تم تعريب مواد التاريخ والجغرافيا والفلسفة.

كما عرفت البرامج التعليمية تحويرات عديدة، وذلك وفق نفس الرؤية التي تهدف أولا وقبل كل شيء إلى “استرداد هويتنا الوطنية والحفاظ على خصوصيتنا الثقافية”

وعرفت إصلاحات المزالي انتقادات واسعة، حيث اتهمت بأنها ماضوية.

بعدها تولى محمد الشرفي، أستاذ القانون المدني وأحد رموز حركة آفاق اليسارية في الستينات ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وزارة التربية في 11 أفريل 1989 كانت للشرفي رؤية إصلاحية للمدرسة، تقوم على مصالحتها مع العصر والدولة ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد كان يعتبر أن التعليم في تونس يتبع توجها رجعيا، على عكس توجه الدولة الحداثي، وأن المدرسة التونسية لا تربي الأطفال على حب تونس وعلى الاندماج في مجتمعهم، وإنما على مُثُل ومرجعيات تناقض ذلك.

وضع الشرفي كأولوية مطلقة مراجعة البرامج المدرسية. أشرف محمد الشرفي على صياغة إطار قانوني جديد نسخ وعوّض قانون 1958، وهو القانون الأساسي عدد 65 لسنة 1991 المتعلق بالنظام التربوي. ويضع الفصل الأول منه ثلاث عشرة غاية للنظام التربوي، منها ترسيخ الوعي لدى الناشئة بالهوية الوطنية التونسية وتنمية الحس المدني والشعور بالانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا وإسلاميا وتدعيم التفتح على الحداثة والحضارة الإنسانية لديها، وتربيتها على الوفاء لتونس والولاء لها، وإعدادها لحياة لا مجال فيها لأي شكل من أشكال التفرقة والتمييز على أساس الجنس أو الأصل الاجتماعي أو اللون أو الدين، وتمكين المتعلمين من إتقان اللغة العربية وحذق لغة أجنبية على الأقل بشكل يمكنهم من الإطلاع المباشر على إنتاج الفكر العلمي ويؤهلهم لمواكبة تطوره والمساهمة فيه.

كما كرّس قانون 1991 مفهوم التعليم الأساسي، الذي يشمل بالإضافة إلى التعليم الابتدائي (ست سنوات)، ثلاث سنوات في المدارس الإعدادية تسهل الانتقال إلى المرحلة الثانوية. هذا الإصلاح سبق الإعداد له منذ الثمانينات، واضطر محمد الشرفي لتطبيقه، رغم أنه كان يفضل ترك إمكانية المرور للتعليم المهني بعد المرحلة الابتدائية. نصّ القانون على إجبارية التعليم الأساسي بين سنّ السادسة والسادسة عشرة، واقتضى تدريس كل المواد الإنسانية والعلمية والتقنية في المدارس الابتدائية والإعدادية باللغة العربية.

ورغم أن قانون 1991 لم يعمر أكثر من عشر سنوات، فإن القانون التوجيهي عدد 80-2002 قد حافظَ على نفس فلسفته ومبادئه.وقد صيغ هذا القانون تحت إشراف وزير التربية آنذاك منصر الرويسي، وهو أيضا من خريجي مدارس اليسار السياسية،. جاء قانون 2002 لمواكبة التطورات والمعايير الدولية في مجال التربية والتعليم، من ذلك مثلا اعتماد “مقاربة الكفايات” والتركيز على التقييم الدوري والمنتظم لكافة مكونات التعليم المدرسي. لكن إصلاحات الرويسي شملت كذلك تغيير طريقة احتساب معدل الباكالوريا  بما سمح بالترفيع كثيرا من نسبة النجاح..

بعد كل هذه التجارب التي شهدت فيها المنظومة التربوية إصلاحات جذرية وعميقة يمكن القول إن عملية الإصلاح التربوي قد تعطلت أو استكانت الى غاية سنة 2015 أين فتح وزير التربية آنذاك ناجي جلول مجددا أبواب الإصلاح التربوي من خلال تجربة يثمنها الى اليوم كثيرون أسفرت عن وجود كتيب يتضمن خلاصة الإصلاحات التربوية المزمع اتخاذها وهو نتاج مقاربات وأهداف تشاركية مع مختلف الأطراف الاجتماعية والفاعلين في المنظومة التربوية. ولكن تعثر وأجهض هذا المشروع الإصلاحي .

بعد محاولة وزير التربية السابق ناجي جلول بقي الإصلاح التربوي على أهميته محل مزايدات الى أن إذن رئيس الجمهورية قيس سعيد بإطلاق الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم التي انطلقت يوم 15 سبتمبر 2023 وتواصلت الى غاية 15 ديسمبر 2023.

وتضمنت الاستشارة 20 سؤالا تعلقت بمحاور كبرى تهم التوجهات القادمة لإصلاح منظومة التعليم، على غرار التربية في مرحلة الطفولة المبكرة، وبرامج التدريس ونظام التقويم والزمن المدرسي، والتنسيق بين أنظمة التربية والتكوين المهني والتعليم العالي، وجودة التدريس والتكنولوجيا الرقمية، وتكافؤ الفرص والتعليم مدى الحياة.

وستكون هذه المخرجات ركيزة أساسية يعتمد عليها المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي ضمنه رئيس الجمهورية قيس سعيد في دستور 25 جويلية 2022 من أجل رسم الإستراتيجية الوطنية لإصلاح التعليم في تونس.

ويعتبر رئيس الجمهورية "الاستشارة الوطنية حول إصلاح التعليم من بين أهم الاستشارات في تاريخ تونس.. لأن الأمر يتعلق بمستقبل الشعب التونسي وبمستقبل الوطن".

وكان رئيس الجمهورية قد أوضح "أن الاستشارة موجهة إلى كل التونسيين والتونسيات وليس لرجال التعليم فحسب وإنما هي استشارة وطنية يشارك فيها من أراد" مشددا على ضرورة حماية عملية الإصلاح بعد استكمال الاستشارة وبعد إنشاء المجلس الأعلى للتعليم بكل مقومات النجاح، معتبرا أن أي خطأ يطرأ على أي إصلاح لا يمكن تداركه إلا بعد عقود.

وقد بلغ عدد المشاركين في هذه الاستشارة، التي انطلقت منذ 15 سبتمبر الماضي، 559 ألفا و290 شخصا يتوزعون الى 290 ألفا و552 شخصا من الإناث و268 ألفا و738 شخصا من الذكور.

واستأثرت الفئة العمرية دون 15 سنة بنصيب الأسد من المشاركين بنسبة 43,2 بالمائة، مقابل 22,2 بالمائة بالنسبة للفئة العمرية بين 16 و20 سنة و20 بالمائة بالنسبة للفئة العمرية المتراوحة بين 41 و65 سنة فيما لم تتجاوز نسبة مشاركة الفئة العمرية المتراوحة بين 31 و40 سنة نسبة 8,7 بالمائة وذلك حسب آخر إحصائيات محينة منشورة على الموقع الالكتروني للاستشارة.

فيما يتطور مستوى العنف والانقطاع المدرسي.. لماذا عجزت الحكومات عن الإصلاح التربوي..؟

تونس-الصباح

المنظومة التربوية تعاني اليوم  الويلات.. ينتشر عنف يرتقى الى مرتبة الجريمة (آخرها ما جد  في القيروان بعد أن حاول تلميذ طعن أستاذه)، ظواهر خطيرة وسلوكيات شاذة في المحيط  المدرسي، تراجع مدوّ وصارخ لهيبة القسم والمربي ولهذا الصرح العمومي الذي لعب دورا رياديا في ستينات وسبعينات القرن الماضي- وتعود مجددا مسألة الإصلاح التربوي لتقفز إلى الأذهان كأولوية وضرورة ملحة وعاجلة وسط تساؤلات عديدة  عن مآل هذا المشروع الإصلاحي التربوي الذي أعطيت إشارة انطلاقته رسميا مع الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم.. من ذلك متى سيرى هذا المشروع الإصلاحي النور؟ وتحديدا متى يتم الشروع فعليا في إدخال إصلاحات وتعديلات على المنوال التربوي الذي يحتاج، وعلى حد تشخيص الخبراء، الى تدخل عاجل حتى يتسنى إنقاذ المدرسة العمومية قبل أن تتهاوى أكثر..

من هذا المنطلق أبدى كثير من المتابعين للشأن التربوي  مخاوف من أن تتعثر مجددا عملية الإصلاح التربوي  وان تنسف الجهود المبذولة سابقا على اعتبار ان التغييرات الحاصلة على راس الوزارة قد تكون لها، من وجهة نظر البعض، تداعيات على عملية التسريع في مسار الإصلاح التربوي، خاصة وأن كثيرين يراهنون على  أن الاستشارة الوطنية التي انطلقت تزامنا مع بداية  الموسم الدراسي الحالي، قد نشهد أولى مخرجاتها مجسمة فعليا وعلى ارض الواقع مع مستهل العودة المدرسية القادمة.. وهي فرضية تبقى صعبة على اعتبار ان التوجه الذي كان قائما لدى سلطة الإشراف وفقا  لتصريحات وزير التربية السابق محمد علي البوغديري هو التريث، بعد أن اعتبر الوزير السابق في معرض تصريحاته الإعلامية أن الاستشارة ستأخذ الوقت اللازم دون تراخ ودون تسرع لأن أي خطوة غير محسوبة أو في غير محلها، قد تدفع ضريبتها أجيال قادمة لاسيما وأن نتائج هذا الإصلاح ستكون على امتداد 20 سنة..

وبالعودة الى المخاوف التي يسوقها البعض من تأخير عملية الإصلاح جراء التغييرات الحاصلة على رأس الوزارة  فإنها تبقى مجرد فرضية لا تتبناها فئة هامة من المتابعين للشأن التربوي التي ترى أن عملية الإصلاح التربوي ومن خلال إطلاق الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم قد برزت كأولوية وطنية وبالتالي فإن قطار الإصلاح قد انطلق فعليا.. كما أن هذا الملف تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية وإدارته قد أسندت منذ البداية الى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الأمر الذي يجعله بمنأى عن أي تأثير..

في هذا الخضم ودون الخوض في مدى صحة أو أحقية كل فرضية فإن المدرسة العمومية تحتاج وأكثر من أي وقت مضى الى تدخل سريع وناجع خاصة وأن الخبراء يرون أن كل تأخير في عملية الإصلاح ندفع غاليا ضريبته وكلفته وبالتالي فإن الوضعية الحرجة للمدرسة العمومية تقتضي التسريع في إدخال تعديلات تشمل أولا المرحلة الابتدائية، في ظل وجود إشكاليات تقتضي النظر فيها سريعا على غرار البرامج والمناهج التي يتعين مراجعتها.. في حين يرى البعض الآخر أن الزمن المدرسي يستوجب التفاتة حازمة من قبل صناع القرار من خلال إيجاد حل للساعات الجوفاء التي تجعل التلميذ عرضة لسلوكيات محفوفة بالمخاطر. وهنا فإن الجميع على دراية بما يحدث من جرائم ومن سلوكيات شاذة في محيط المدارس. فرغم الجهود المبذولة من قبل كل الهياكل المتداخلة يبقى للأسف محيط  عديد الإعداديات والمعاهد الثانوية فضاء ومسرحا لجرائم عدة..

من هذا المنطلق تساءل كثيرون عن مخرجات الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم لا سيما أن آخر التصريحات الرسمية لوزير التربية السابق كانت قد أشارت بعد إغلاق الاستشارة أن الجهود تتركز حاليا على تشخيص الاستشارة وضبط مخرجاتها ليتم بعد ذلك عرض هذه المخرجات على أنظار رئيس الجمهورية  الذي هو بصدد الإعلان عن مشروع  المجلس الأعلى للتربية وعرضه على أنظار مجلس نواب الشعب.

صحيح أن التريث والتعقل مطلوبان، خاصة وأن الأمر يتعلق بمستقبل أجيال وأجيال. لكن وجب أيضا التعجيل بالإصلاح، من خلال وضع لبنات إصلاحية أولى، لأن  المدرسة العمومية حاليا في وضع حرج وأي نفس إصلاحي من شانه أن ينفخ في صورة هذا الصرح العمومي من خلال إجراءات وقرارات تتولى إعادة  الإشعاع والبريق للمدرسة العمومية لا كمنارة تسهم في تكوين كفاءات فقط وإنما تعيد أيضا للصرح العمومي  دوره التربوي الذي افتقدته على مدار العقود الماضية .

وصحيح أيضا أن المدرسة العمومية اليوم، ذاك "الرجل المريض" لكن المرض لا يعني الاستكانة والهوان  والأفول، خاصة إذا ما توفرت إرادة سياسية قوية لإنقاذها. وبالتالي فان هذا الصرح العمومي الذي كان سابقا منارة ومصعدا اجتماعيا ساهم في تكوين أجيال وأجيال قادر على أن ينهض وأن يشع من جديد.

واليوم ومع دخول الإصلاح التربوي مرحلة يعتبرها البعض جادة من خلال إطلاق الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم يأمل كثيرون ألا يتأخر كثيرا النظر في مخرجاتها وأن يتم سريعا تركيز المجلس الأعلى للتربية..

"الصباح" ومن خلال فتحها مجددا لملف الإصلاح التربوي تزيد التأكيد على أنه ينبغي المضي قدما في الإصلاح التربوي من خلال إدخال إصلاحات جوهرية على المدرسة العمومية لا سيما في المرحلة الابتدائية وتحديدا على مستوى البرامج والزمن المدرسي.. صحيح  أن التريث مطلوب لكن كلفة التأخير في الإصلاح وفي إدخال تعديلات يدفع الصرح العمومي ضريبته كل يوم.. كل تأخير يعني مزيد تكريس لمظاهر العنف ولتراجع هيبة المدرسة.. فالمطلوب اليوم أن ينكب الجميع على جعل المدرسة العمومية عنصرا جاذبا لا منفرا وهذا لن يتحقق دون برامج جاذبة تواكب التطور والنسق السريع للتكنولوجيات الحديثة.

وقد أجمع جل المشاركين في هذه المساحة على ضرورة وأهمية المضي قدما والتسريع في وضع أولى لبنات الإصلاح التربوي.

يعلق العديد من المتابعين للشأن التربوي آمالا كبيرة على المجلس الأعلى للتربية الذي تمت دسترته ويرون أن هذا الهيكل في حال تركيزه من شأنه أن يحدث الفارق وأن يكون مرجعا للإصلاح التربوي.

ونحن نعلق آمالا أيضا على أن تجد هذه المساحة أذانا صاغية وأن يتفاعل صناع القرار مع ضرورة التسريع في سن إصلاحات تربوية أو في تركيز المجلس الأعلى للتربية قبيل العودة المدرسية المرتقبة فالجميع من أولياء وتلاميذ وسلطة إشراف ومنظمات مجتمع مهتمة بالشأن التربوي متعطشة الى أي نفس إصلاحي تربوي جديد ..

ملف من إعداد: منال حرزي

 

محمد الصافي (الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي):الشروع في عملية الإصلاح التربوي يعتبر حلما ..

تفاعلا مع أهمية تفعيل قاطرة الإصلاح التربوي بعيدا عن منطق المشاورات والمفاوضات التي يرى كثيرون أنها أخذت حيزا زمنيا هاما لاسيما بعد القيام باستشارة وطنية حول إصلاح التربية والتعليم وحول ما إذا كانت هناك نوايا جدية من قبل سلطة الإشراف لوضع أولى لبنات الإصلاح قبل العودة المدرسية القادمة، يرى الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي في تصريح لـ"الصباح" أن جلسة مطولة التأمت بحر الأسبوع الماضي مع وزارة التربية تم التطرق فيها الى الإصلاح التربوي والى الواقع التربوي من خلال أهمية تفعيل مقاربة عميقة وواقعية وموضوعية للمنظومة التربوية هذا بالتوازي مع التطرق الى جملة من المواضيع الحارقة الأخرى على غرار وضعية المؤسسات التربوية وانتشار حالات العنف. واعتبر محدثنا أن هذه الجلسة الأولى مع وزيرة التربية سلطت الضوء على جملة من المواضيع تحت عنوان "إصلاح المنظومة التربوية" والأمر يحتاج من وجهة نظره الى جلسات أخرى..

أما فيما يتعلق بمسألة الإصلاح التربوي، يشير كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي الى أن الواقع الراهن للمنظومة التربوية يستدعي ضرورة النظر سريعا في   هذا الملف وذلك أمام انتشار ظواهر العنف وعديد السلوكيات اللاأخلاقية، الأمر الذي أدى الى تفاقم معضلة التسرب المدرسي من خلال الأرقام المفزعة التي تقدر بـ109 آلاف انقطاع مدرسي سنويا. واقترح محدثنا أن يقع النظر في جملة من المسائل على غرار منظومة العقوبات مشيرا في هذا السياق الى أن الأساتذة يتذمرون ويرون أن المنظومة القديمة لم تعد قادرة على ردع التلاميذ وبالتالي من الضروري التفكير في أرضية أخرى تستطيع مراعاة هذه الثنائية. كما اعتبر محدثنا أن المؤسسات التربوية لم تعد جاذبة بل أصبحت منفرة وبالتالي فان الشروع في عملية الإصلاح التربوي يعتبر حلما لكل من يغار على المنظومة العمومية .

واستعرض الصافي في هذا الإطار المحطات التي تعثر فيها الإصلاح التربوي الذي كان قد انطلق سنتي 2015 و2016 ولكن لم يتسن لهذا المسار أن يستمر رغم وجود كتيب يتضمن مقاربة إصلاحية شاملة للزمن المدرسي والبرامج المدرسية. وكانت العودة من جديد سنتي 2021 و2022 من خلال إصلاح البرامج وقد انطلق العمل بجدية بين ثلاثة أطراف (أساتذة الثانوي والوزارة والمتفقدون) لكن مع انطلاقة الاستشارة الوطنية طٌلب منهم أن يتريثوا قبل أن يتم الإعلان عن مخرجات الإصلاح.

وخلص الصافي الى القول بأنه يتعين على الجميع العودة الى طاولة المفاوضات في علاقة بالإصلاح التربوي لاسيما فيما يهم البرامج والزمن المدرسي والبنية التحتية.

لا بد من المضي قدما في الإصلاح التربوي

لا يمكن التكهن مطلقا بما يدور في كواليس وزارة التربية  في ما يتعلق بالإصلاح التربوي فالمسألة محاطة بكثير من التكتم. كما أننا لا نذيع سرا إذا ما أكدنا أن وزارة التربية لا تعتبر عنصرا فاعلا في مسألة الإصلاح  التربوي -باستثناء بعض الجهود المبذولة على مستوى التنسيق مع المندوبيات الجهوية للتربية في علاقة بالاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم- على اعتبار أن ملف الإصلاح التربوي برمته تحت إشراف رئيس الجمهورية فضلا عن أن إدارة المشروع قد أسندت  إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

ولكن هذا لا ينفي أن كثيرين سواء من الخبراء أو من الأطراف الاجتماعية يعلقون آمالا كبيرة على الوزيرة الجديدة التي تثمن من وجهة نظرهم الإصلاح التربوي وتسعى الى تجسيمه على ارض الواقع. وقد أكدت بعض الأطراف التي استقت "الصباح" آراءها عبر هذه المساحة حرص الوزيرة الجديدة على الإصلاح التربوي.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة الى أن وزيرة التربية سلوى العباسي كانت قد أكدت في كلمة ألقتها الأربعاء الماضي  خلال إشرافها على الملتقى الختامي لبرنامج تعصير المؤسسات التربوية المنعقد بالحمامات، أنه "لا بد من المضي قدما في الإصلاح التربوي الذي لا بديل عنه كما لا بد من استصلاح نسيج المؤسسات التربوية وتحسين جودة البنية التحتية لهذه المؤسسات".

ومن جانبه أفاد مدير عام وحدة التصرف حسب الأهداف بوزارة التربية، كريم داود، بأن أهم مكونات البرنامج تتمثل في: إحداث 59 مؤسسة تربوية (مدارس إعدادية ومعاهد) وإنشاء 36 ألف مقعد دراسي جديد واقتناء 26 شاحنة رباعية الدفع وتوزيعها على المندوبيات الجهوية للتربية.

وأردف داود أنه سيتم أيضا إضافة 4 عربات إلى الإدارة المركزية بوزارة التربية لمتابعة انجاز برنامج تعصير المؤسسات التربوية وتكوين 400 إطار مركزي وجهوي وتهيئة وصيانة 388 مؤسسة تربوية (مدارس إعدادية ومعاهد) واقتناء معدات وتجهيزات تعليمية وبيداغوجية حديثة. يذكر أن هذا البرنامج ممول من طرف الحكومة التونسية والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الألماني للتنمية والاتحاد الأوروبي.

لكن في المقابل يرى البعض الآخر أن الأرقام سالفة الذكر في ما يهم تعصير المؤسسات التربوية تبقى هامة على أن الأهم، من وجهة نظرهم، هو سعي وزارة التربية  أو ضغطها من أجل التسريع في قاطرة الإصلاح التربوي لتشمل خاصة المناهج والبرامج التعليمية والزمن المدرسي..

 

توفيق الذهبي (كاتب عام نقابة مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي): لا بد أن تكون مخرجات الاستشارة محل تشاور

ولأنه لا مناص اليوم من تفعيل الإصلاح التربوي دون إطالة أو مماطلة حتى يتسنى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يرى كاتب عام نقابة مستشارين الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي توفيق الذهبي في تصريح لـ"الصباح" أن الإصلاح التربوي هو عملية شاملة وجامعة تضم حزمة من القرارات أو الإجراءات التي تهم مختلف الجوانب .

وقد شهدت عملية الإصلاح التربوي خطوة أولى حاسمة تتمثل في اتخاذ القرار بالانطلاق في إصلاح تربوي فعلي يبني على كل ما راكمته المدرسة التونسية والخبراء وتجارب الإصلاح السابقة من أفكار ويأخذ بعين الاعتبار أيضا المستجدات الحاصلة على مستوى الذكاء الاصطناعي واضعا رؤية واضحة ومستقبلية للوضع التربوي في تونس على مدار الخمسين أو ستين سنة القادمة.

وأشار محدثنا الى أن الإصلاح التربوي الذي انطلق سنتي 2015 و2016  والذي شارك فيه بوصفه خبيرا في المعهد العربي لحقوق الإنسان انبنى آنذاك على رؤية واضحة كانت عبارة عن بوصلة تتلخص في بناء مجتمع ديمقراطي تقدمي يعطي فكرة عن آليات المعرفة على مدار 40 أو 50 سنة قادمة .

واعتبر محدثنا في الإطار نفسه أن الإصلاح التربوي هو عملية سياسية تنبني على فكر بناء ونمط  مجتمعي يصبو إليه التونسيون، مشيرا الى أن الإصلاح لا يقتصر أساسا على إدخال إصلاحات أو تعديلات على البرامج والزمن المدرسي وإنما هو ضرورة أن توجد بينهما رؤية لا بد أن تصاغ بتشاركية من خلال تشريك جميع الفاعلين.

وأضاف كاتب عام نقابة مستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي أن الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم لا بد أن تكون مخرجاتها محل تشاور وجدل واسع حتى يتسنى ضبط رؤية مشتركة وموحدة للسنوات القادمة.

محمد العبيدي (عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي): بعض المواد تقتضي أنشطة حديثة وفضاءات معينة لممارستها

في قراءته للمسائل العاجلة التي تستوجب الإصلاح في الوقت الراهن يشير في البداية عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي محمد العبيدي في تصريح لـ"الصباح" أن الإصلاح التربوي شأن يهم الجميع، مستنكرا تعثر عملية الإصلاح، جراء تواتر التحويرات الوزارية في الوزارة، قائلا: "وكأن عملية الإصلاح التربوي بيد وزير ما.. وكل وزير يرى الإصلاح من منظوره الخاص".

وأشار العبيدي الى أن وزيرة التربية لم تلتئم معها، الى حد اللحظة، أي جلسة ولا يعرف بعد رؤيتها حول مسالة الإصلاح التربوي وآليات تواصله، مستنكرا في السياق ذاته توقف المسار الإصلاحي سنة 2015 . وأورد محدثنا في هذا الإطار أنه يرى من وجهة نظر شخصية -و حتى لا تذهب كل هذه الجهود هباء- أنه يفترض أن تكون تحت إشراف المجلس الأعلى للتربية على أن يكون هذا الهيكل معقلا لتطوير البرامج وإصلاحها تحت إشراف لجان مختصة .

كما تطرق عضو الجامعة العامة للتعليم الأساسي الى مسائل أخرى لا تقل أهمية في عملية الإصلاح التربوي على غرار الزمن المدرسي الذي لا يتلاءم مع البرامج  مشيرا الى أن بعض المواد تقتضي نشاطات حديثة وفضاءات معينة لممارستها الأمر الذي يقتضي ميزانية خاصة.

 

نورالدين الشمنقي (خبير تربوي)ضرورة الانكباب على إعادة إحياء مسار تطوير البرامج والمناهج

حول أهمية تفعيل قاطرة الإصلاح التربوي مع انطلاقة السنة الدراسية المرتقبة يشير في البداية الخبير التربوي نورالدين الشمنقي في تصريح لـ"الصباح" إلى أن مصطلح الإصلاح التربوي قد تغير في العالم حيث لم نعد  نتحدث اليوم عن إصلاح وإنما عن تحولات في التعليم باعتبار أن التعليم هو مسار خاضع لتحولات دورية وكلمة الإصلاح في حد ذاتها تحمل شحنة سلبية على حد تشخيصه.

وفسر الشمنقي أن باب التحول في التعليم يقتضي أن يكون أولوية وطنية في أي نظام سياسي كان. وبالعودة الى مآل الإصلاح التربوي حاليا قال الشمنقي "ما أنا متفائل به شخصيا، حاليا، هو أن الوزيرة الجديدة كانت  معي سابقا عضوا فاعلا في مسار إعادة النظر في المنظومة التربوية وتطويرها وتعديلها وصياغة محتويات تربوية جديدة". وتابع الشمنقي قائلا "بما أن هنالك استشارة وطنية حول الإصلاح التربوي قد أنجزت فأنا أتصور أن تجد سلطة الإشراف صلة ما في أن يصب المجهود الذي أنجز سابقا في ما يخدم ويصلح من واقع المنظومة التربوية وأن يتم ربط صلة القربى بينه وبين مخرجات الاستشارة الوطنية حول إصلاح "التربية والتعليم التي أنجزتها رئاسة الجمهورية.

وأضاف الخبير التربوي أن إعادة النظر في البرامج والمناهج التعليمية يعتبر اليوم أولوية قصوى لأن المدرسة العمومية لم تعد تحتمل اليوم كلفة تأجيل وتطوير البرامج والمناهج مشيرا الى أن كلفة تأخير تطوير البرامج وإعادة صياغة مدرسة عمومية جديدة أخطر بكثير من المشاكل الأخرى التي نلمسها في قطاعات أخرى.

ليخلص الخبير التربوي نور الدين الشمنقي الى القول: "أدعو من منبر جريدة "الصباح" جميع الفاعلين والمهتمين بالشأن التربوي الى الانكباب على إعادة إحياء مسار تطوير البرامج والمناهج".

 

رضا الزهروني (رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ)لا بد من تركيز المجلس الأعلى للتربية

الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ من بين الأطراف التي تدعو مرارا وتكرارا وفي كل مناسبة الى أن واقع المنظومة التربوية يستوجب تدخلا سريعا وناجعا من خلال وضع أولى لبنات الصلاح التربوي لا سيما على مستوى البرامج وحتى لا تنسف الجهود المبذولة ولا تتعطل أكثر هذه العملية التي باتت اليوم ضرورة ملحة يرى رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رضا الزهروني في تصريح لـ"الصباح" أن الجمعية تؤكد في كل مناسبة على أن تنطلق إجراءات الإصلاح في إطار منهجية إستراتيجية واضحة دون ارتجال على أن تشمل عملية الإصلاح البرامج والمناهج التعليمية والزمن المدرسي .

واعتبر محدثنا أن المرحلة الابتدائية تقتضي اليوم إجراءات عاجلة على غرار إصلاح الزمن المدرسي وتخفيف البرامج التعليمية مع إدخال تعديلات على  المواد الأساسية في المرحلة الابتدائية على غرار مادتي الحساب والقراءة. ودعا محدثنا الى أن يتحمل الجميع في عملية الإصلاح مسؤوليته بدءا من مدير المدرسة الى بقية السلطات الجهوية هذا بالتوازي مع ضرورة تحسين البنية الأساسية، إذ من غير المعقول ومن غير المنطقي من وجهة نظر الزهروني أن يدرس التلاميذ في مدارس تفتقر الى الماء الصالح للشرب هذا مع أهمية مراجعة جداول الأوقات على أساس التقليص من عدد الساعات الجوفاء مع توفير قاعات للمراجعة .

ودعا رئيس الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ من جانب آخر الى ضرورة تركيز المجلس الأعلى للتربية والتعليم على اعتبار انه تمت دستره كهيكل. لكن لم يتم بعد تفعيله على ارض الواقع مشيرا الى أن هذا الهيكل وفي حال تم تركيزه من شانه أن يحدث الفارق .

 

سليم قاسم (رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم): يجب أن نتعامل مع ملف الإصلاح التربوي بمنأى عن كل تأثير

تفاعلا مع الطرح الذي يشير الى ضرورة التعجيل بسن  وإدخال إصلاحات تربوية سواء على المناهج التعليمية أو الزمن المدرسي وغيرها من المواضيع التي تمثل إشكاليات وتحديات سواء لسلطة الإشراف أو لبقية الفاعلين في المشهد التربوي، يرى رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم في تصريح لـ"الصباح".

إنّ المسار الجديد لإصلاح المنظومة التّربويّة، والذي تزامنت انطلاقته الفعليّة مع إطلاق الاستشارة الوطنية حول إصلاح نظام التربية والتعليم، قد جاء بمقاربة جديدة أساسها المنظوميّة والتّشاركيّة، حيث شمل هذا المسار لأوّل مرّة محاور تتجاوز الشّأن التربويّ بمعناه التّقنيّ التّجزيئيّ المألوف لتشمل مراحل الطّفولة المبكّرة وأنظمة التّعليم العالي والتّكوين المهني والتّعلّم مدى الحياة.

لذلك فإنّ حديث البعض عن "تخوّفهم على الإصلاح" لتغيير شمل منصب وزير التّربية هو حديث لا نجد له أيّ مبرّر موضوعيّ يستند إليه، أوّلا لأنّ ملف الإصلاح برمّته هو تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهوريّة وهو ما يجعله بمنأى عن كلّ تأثير، وثانيا لأنّ إدارة المشروع قد أسندت منذ البداية لوزارة التّعليم العالي والبحث العلمي، وهو قرار حكيم له عديد المبرّرات المنطقيّة والميدانيّة ليس هنا المجال للتّوسّع فيها، وثالثا لأنّنا وبكلّ صراحة لم نر خلال الأشهر الفارطة أيّة إسهامات جادة لوزارة التّربية في ملفّ الإصلاح بحيث يمكن أن نخشى عليها لتغيّر المسؤول الأوّل في الوزارة، حيث اقتصر الأمر على ترديد بعض المبادئ والشّعارات المألوفة من قبيل رقمنة التّعليم وجودة التّعليم، وهي الشّعارات التي ما فتئت الوزارة ترفعها منذ ما يزيد عن العقد من الزّمن دون أن نجد لها أثرا ميدانيّا يُذكر.

وأضاف محدثنا أنه أثار في العديد من المقالات والنّدوات الوطنيّة غير مدفوعة الأجر مسألة الضّرر الفادح الذي لحق بوزارة التّربية بسبب بتر أحد أهمّ مؤسّساتها وهو المركز الوطني للتّجديد البيداغوجي والبحوث التّربويّة، حيث بقيت وزارة التّربية المؤتمنة على مستقبل نحو 2.5 مليون تلميذة وتلميذ منذ سنوات عديدة دون جهاز للتّفكير والاستشراف واليقظة، وهو ما جعلها تسير على غير هدى، وتنتقل بين القرار ونقيضه في عبث يندر أن نجد له مثيلا حتّى في الدّول التي كانت الى وقت قريب تعتبر نظامنا التّربويّ قدوة ومثالا يُحتذى به، وقد خَلَقَ هذا الوضع فراغا رأيناه جليّا حين أعيد فتح ملفّ إصلاح منظومة التّربية والتّعليم على نحو جدّيّ وتشاركيّ، كما فَتَحَ المجال لتكليفات وتعيينات وتحالفات ما أنزل اللّه بها من سلطان، والأشدّ خطورة من كلّ هذا هو بعض التّسريبات التي بدأت تطالعنا، والتي هي في الواقع نسخ مطابقة للأصل من أفكار لا علاقة لها بأجندتنا التّربويّة الوطنيّة ولا بالمصلحة الفضلى لأطفال تونس ولا باستعادة مدرسة الجمهوريّة لألقها وبريقها، لذلك فإنّنا نعيد فنقول إنّه لا مجال للتّخوّف على مسار الإصلاح فللبيت ربّ يحميه ولتونس ولمدرستها بنات وأبناء يحسنون الذّود عن حماها .

من جهة أخرى وفيما يهم إسهام الجمعيّة التّونسيّة لجودة التّعليم في مسيرة بناء منظومة تربويّة وطنيّة عالية الأداء أورد محدثنا أن الجمعية ستواصل العطاء الذي بدأ منذ سنة 2011 دون حسابات ولا أجندات باستثناء حسابات الجودة والحوكمة الرّشيدة وأجندة مدرسة الدّولة الوطنيّة مشيرا الى أن الجمعية تتطلّع إلى إعادة طرح جملة من المشاريع على وزارة التّربية، وهي مشاريع سبق أن طرحتها ولكنهّا قوبلت في كلّ مرّة بالتّرحاب الظّاهر والتّهميش الفعليّ، بل ووصل الأمر إلى حدّ السّطو على بعضها من طرف بعض الجهات التي تدّعي زورا وبهتانا الانتماء إلى المجتمع المدني الوطنيّ وهو منها براء. وذكر قاسم انه من بين المشاريع التي تأمل الجمعية  إعادة عرضها  هو مشروع الميثاق التّربوي الوطنيّ الجامع ومشروع مدوّنة سلوك الأسرة التّربويّة الموسّعة، ومشروع مرجعيّة الجودة في مؤسّسات التّعليم والتّكوين وتكوين شبكة وطنيّة لمدقّقي الجودة، ومشروع المبادرة المدنيّة للتّربية الأسريّة التي يمكن أن تكون أداة بالغة الفعاليّة لمعالجة عديد المظاهر التي استفحلت داخل مؤسّساتنا التّربويّة ومنها ظاهرة العنف وظاهرة السلوكات المحفوفة بالمخاطر وغيرها.

وأضاف رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم إنّ ثقته تامّة في سلامة مسار الإصلاح موضحا انه يعتبر أن ما يجري بين الفينة والأخرى من تغييرات في المناصب والمسؤوليّات إنّما يندرج في إطار تحصينه حتى يكون إصلاحا تونسيّا صميما وناجحا، وتابع قائلا :"نأمل ألاّ تتوقّف حركة التّغيير والتّصويب في وزارة التّربية قبل توفير جميع الشّروط اللاّزمة لتنفيذ الإصلاح المرتقب بكلّ اقتدار، بما في ذلك إعادة هيكلة الوزارة وتركيز منظومة جديدة أساسها قواعد الحوكمة الرّشيدة ومعايير الجودة الوطنيّة، وإعادة هندسة مسارات التّعليم والتّكوين.. وجميعها ملفّات تسبق الإصلاحات البيداغوجيّة البحتة باعتبارها من الشّروط القبليّة اللاّزمة لنجاح هذه الإصلاحات، ولا شكّ أنّ وزارتنا قادرة على كسب هذا الرّهان الحيوي بفضل ما تزخر به من كفاءات قيادة وتنفيذا، في ظلّ النّقلة النّوعيّة التي سيمثّلها المجلس الأعلى للتّربية، والرّعاية المباشرة والدّعم الكبير الذي يلقاه الشّأن التّربويّ من أعلى هرم السّلطة"...

 

الإصلاح التربوي تاريخياز من المسعدي.. مزالي.. الشرفي وجلول وصولا إلى الاستشارة الوطنية

عديدة هي المحطات التي كانت فيها المنظومة التربوية  التونسية وعلى مر عقود من الزمن محل تغييرات وإصلاحات جوهرية نتعرض عبر هذه المساحة -واستنادا الى ما توفره الشبكة العنكبوتية من معلومات الى أهمها وأبرزها.

فقد ورد في موقع المفكرة القانونية وتحت مقال حمل عنوان "الإصلاحات التعليمية في تونس تاريخ سياسي بامتياز" أن  محمود المسعدي لم يكن فقط أحد أهم الأدباء في تاريخ تونس، بل ناضل منذ الثلاثينات في صفوف الحركة الوطنية، كما انتخب رئيسا للجامعة القومية لنقابات التعليم وأمينا عاما مساعدا للإتحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه سنة 1948 إلى سنة 1954.

وتولى المسعدي كتابة الدولة للتربية القومية لمدة عشر سنوات كاملة. لكنه لم ينتظر أكثر من ستة أشهر لإصدار أول قانون ينظم التعليم بعد الاستقلال، وهو القانون عدد 118 لسنة 1958 المتعلق بالتعليم.

جعل هذا القانون أربعة أهداف جوهرية للعملية التربوية، أولها “تزكية الشخصية وتنمية المواهب الطبيعية عند جميع الأطفال ذكورا وإناثا بدون أي تمييز بينهم لاعتبار جنسي أو ديني أو اجتماعي”.

ويبقى أهم مكسب جاء به قانون سنة 1958 هو إقرار إجبارية التعليم من سن السادسة إلى سن الثانية عشر. ولئن ترك تحديد التاريخ الذي يبدأ فيه تطبيق الإجبارية إلى نصوص لاحقة، فإن منطوق الفصل الثاني من القانون ترجم الروح السائدة آنذاك : “أبواب التربية والتعليم مفتوحة في وجوه جميع الأطفال ابتداء من سن السادسة”. كما أقر الفصل الثالث مجانية التعليم في جميع درجاته، ضمانا لتكافؤ الفرص. وقد صاحب هذا الإقرار التشريعي استثمار كبير في البنية التحتية التربوية، إذ لم تكن المدارس الموجودة قادرة على استيعاب عدد الأطفال في سن التمدرس. فاستحوذ التعليم على ما بين خمس وثلث الميزانية كل سنة، وارتفع عدد المدارس في عقدين (1958-1978) من 889 إلى 2423 مدرسة، وعدد قاعات التدريس من 4495 إلى 14441، أي أن تلك الفترة شهدت زيادة بقاعة درس جديدة كل 17 ساعة.

بعد تخلّي بورقيبة عن تجربة التعاضد في خريف 1969 كانت حقيبة التربية آخر وزارة تُسحب من أحمد بن صالح وقد  عين بورقيبة مكانه محمد المزالي، الذي كان مدير ديوان الأمين الشابي في نفس الوزارة، والمعروف بمناصرته الشديدة لتعريب التعليم. شغل مزالي منصب وزير التربية مدة ثماني سنوات، سمحت له بإدخال إصلاحات عميقة على المنظومة التعليمية، أهمها تعريب التعليم. فقد استكمل المزالي تعريب كافة المواد، ومنها العلمية كالحساب والإيقاظ العلمي، بالنسبة لكل مستويات التعليم الابتدائي.

وأصبحت الفرنسية تدرس فقط كلغة أجنبية وابتداء من السنة الرابعة..

أما في التعليم الثانوي، فقد بقيت الفرنسية لغة تدريس المواد التقنية والعلمية، في حين تم تعريب مواد التاريخ والجغرافيا والفلسفة.

كما عرفت البرامج التعليمية تحويرات عديدة، وذلك وفق نفس الرؤية التي تهدف أولا وقبل كل شيء إلى “استرداد هويتنا الوطنية والحفاظ على خصوصيتنا الثقافية”

وعرفت إصلاحات المزالي انتقادات واسعة، حيث اتهمت بأنها ماضوية.

بعدها تولى محمد الشرفي، أستاذ القانون المدني وأحد رموز حركة آفاق اليسارية في الستينات ورئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وزارة التربية في 11 أفريل 1989 كانت للشرفي رؤية إصلاحية للمدرسة، تقوم على مصالحتها مع العصر والدولة ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد كان يعتبر أن التعليم في تونس يتبع توجها رجعيا، على عكس توجه الدولة الحداثي، وأن المدرسة التونسية لا تربي الأطفال على حب تونس وعلى الاندماج في مجتمعهم، وإنما على مُثُل ومرجعيات تناقض ذلك.

وضع الشرفي كأولوية مطلقة مراجعة البرامج المدرسية. أشرف محمد الشرفي على صياغة إطار قانوني جديد نسخ وعوّض قانون 1958، وهو القانون الأساسي عدد 65 لسنة 1991 المتعلق بالنظام التربوي. ويضع الفصل الأول منه ثلاث عشرة غاية للنظام التربوي، منها ترسيخ الوعي لدى الناشئة بالهوية الوطنية التونسية وتنمية الحس المدني والشعور بالانتماء الحضاري وطنيا ومغاربيا وعربيا وإسلاميا وتدعيم التفتح على الحداثة والحضارة الإنسانية لديها، وتربيتها على الوفاء لتونس والولاء لها، وإعدادها لحياة لا مجال فيها لأي شكل من أشكال التفرقة والتمييز على أساس الجنس أو الأصل الاجتماعي أو اللون أو الدين، وتمكين المتعلمين من إتقان اللغة العربية وحذق لغة أجنبية على الأقل بشكل يمكنهم من الإطلاع المباشر على إنتاج الفكر العلمي ويؤهلهم لمواكبة تطوره والمساهمة فيه.

كما كرّس قانون 1991 مفهوم التعليم الأساسي، الذي يشمل بالإضافة إلى التعليم الابتدائي (ست سنوات)، ثلاث سنوات في المدارس الإعدادية تسهل الانتقال إلى المرحلة الثانوية. هذا الإصلاح سبق الإعداد له منذ الثمانينات، واضطر محمد الشرفي لتطبيقه، رغم أنه كان يفضل ترك إمكانية المرور للتعليم المهني بعد المرحلة الابتدائية. نصّ القانون على إجبارية التعليم الأساسي بين سنّ السادسة والسادسة عشرة، واقتضى تدريس كل المواد الإنسانية والعلمية والتقنية في المدارس الابتدائية والإعدادية باللغة العربية.

ورغم أن قانون 1991 لم يعمر أكثر من عشر سنوات، فإن القانون التوجيهي عدد 80-2002 قد حافظَ على نفس فلسفته ومبادئه.وقد صيغ هذا القانون تحت إشراف وزير التربية آنذاك منصر الرويسي، وهو أيضا من خريجي مدارس اليسار السياسية،. جاء قانون 2002 لمواكبة التطورات والمعايير الدولية في مجال التربية والتعليم، من ذلك مثلا اعتماد “مقاربة الكفايات” والتركيز على التقييم الدوري والمنتظم لكافة مكونات التعليم المدرسي. لكن إصلاحات الرويسي شملت كذلك تغيير طريقة احتساب معدل الباكالوريا  بما سمح بالترفيع كثيرا من نسبة النجاح..

بعد كل هذه التجارب التي شهدت فيها المنظومة التربوية إصلاحات جذرية وعميقة يمكن القول إن عملية الإصلاح التربوي قد تعطلت أو استكانت الى غاية سنة 2015 أين فتح وزير التربية آنذاك ناجي جلول مجددا أبواب الإصلاح التربوي من خلال تجربة يثمنها الى اليوم كثيرون أسفرت عن وجود كتيب يتضمن خلاصة الإصلاحات التربوية المزمع اتخاذها وهو نتاج مقاربات وأهداف تشاركية مع مختلف الأطراف الاجتماعية والفاعلين في المنظومة التربوية. ولكن تعثر وأجهض هذا المشروع الإصلاحي .

بعد محاولة وزير التربية السابق ناجي جلول بقي الإصلاح التربوي على أهميته محل مزايدات الى أن إذن رئيس الجمهورية قيس سعيد بإطلاق الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم التي انطلقت يوم 15 سبتمبر 2023 وتواصلت الى غاية 15 ديسمبر 2023.

وتضمنت الاستشارة 20 سؤالا تعلقت بمحاور كبرى تهم التوجهات القادمة لإصلاح منظومة التعليم، على غرار التربية في مرحلة الطفولة المبكرة، وبرامج التدريس ونظام التقويم والزمن المدرسي، والتنسيق بين أنظمة التربية والتكوين المهني والتعليم العالي، وجودة التدريس والتكنولوجيا الرقمية، وتكافؤ الفرص والتعليم مدى الحياة.

وستكون هذه المخرجات ركيزة أساسية يعتمد عليها المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي ضمنه رئيس الجمهورية قيس سعيد في دستور 25 جويلية 2022 من أجل رسم الإستراتيجية الوطنية لإصلاح التعليم في تونس.

ويعتبر رئيس الجمهورية "الاستشارة الوطنية حول إصلاح التعليم من بين أهم الاستشارات في تاريخ تونس.. لأن الأمر يتعلق بمستقبل الشعب التونسي وبمستقبل الوطن".

وكان رئيس الجمهورية قد أوضح "أن الاستشارة موجهة إلى كل التونسيين والتونسيات وليس لرجال التعليم فحسب وإنما هي استشارة وطنية يشارك فيها من أراد" مشددا على ضرورة حماية عملية الإصلاح بعد استكمال الاستشارة وبعد إنشاء المجلس الأعلى للتعليم بكل مقومات النجاح، معتبرا أن أي خطأ يطرأ على أي إصلاح لا يمكن تداركه إلا بعد عقود.

وقد بلغ عدد المشاركين في هذه الاستشارة، التي انطلقت منذ 15 سبتمبر الماضي، 559 ألفا و290 شخصا يتوزعون الى 290 ألفا و552 شخصا من الإناث و268 ألفا و738 شخصا من الذكور.

واستأثرت الفئة العمرية دون 15 سنة بنصيب الأسد من المشاركين بنسبة 43,2 بالمائة، مقابل 22,2 بالمائة بالنسبة للفئة العمرية بين 16 و20 سنة و20 بالمائة بالنسبة للفئة العمرية المتراوحة بين 41 و65 سنة فيما لم تتجاوز نسبة مشاركة الفئة العمرية المتراوحة بين 31 و40 سنة نسبة 8,7 بالمائة وذلك حسب آخر إحصائيات محينة منشورة على الموقع الالكتروني للاستشارة.