نظم مجمع بيت الحكمة ندوة فكرية علمية يوم 10 ماي 2023 خصصها للتعريف بشخصية أحمد الدرعي (1902 / 1965) أحد أعلام الحركة الوطنية ورموز الحركة الفكرية في فترة الثلاثينات من القرن الماضي وأحد قادة حركة الإصلاح والتجديد في بداية القرن الماضي كما كان اللقاء مناسبة للاحتفاء بصدور كتاب أعماله الكاملة الذي جمع منجز الرجل الفكري وهي الوثائق التي كتبها أحمد الدرعي ولم ينشرها وتولت إبنته جمعها و تسليمها إلى الأستاذ عبد المجيد الشرفي الذي تولى تكوين لجنة في بيت الحكمة انكبت على هذه المخطوطات الورقية ودرستها ونقت منها ما يصلح للنشر وتوفقت إلى إخراجها في كتاب تحت اسم "الأعمال الكاملة لأحمد الدرعي" .
قيمة الأعمال الكاملة التي احتفى بها مجمع بيت الحكمة في كونها قد أبرزت حقيقة شخصية لا تقل قيمة من حيث الحضور الفاعل عن غيره من قادة الحركة الوطنية وقادة الفكر في مرحلة الاستعمار فهو وإن كان مغمورا كما يقول عنه الأستاذ عبد المجيد الشرفي لا يعرفه إلا من القلة من الناس فإنه يعد ثالث ثلاثة كانوا مؤثرين بقوة في مرحلة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي مع الطاهر الحداد ومحمد علي الحامي فهو وإن كان غير معرف بالقدر الكافي لقلة انتاجه الفكري إلا أنه في نفس طبقة رفاقه من حركة الشباب التونسي من حيث الرؤية الفكرية والطموح النضالي وخاصة الرغبة في تغيير المجتمع التونسي وتبني رؤية إصلاحية تجديدية لأوضاعه. إن الإضافة التي قدمتها هذه الندوة للقارئ التونسي و العربي أنها عرّفت بفكر هذا الرجل وأخرجت للنور رؤاه ومواقفه التي كانت غير معلومة التي تطرفت شتى القضايا التي كانت تشغل بال المجتمع التونسي و نخبته المثقفة في زمانه .
ومن الأفكار التي عرف بها أحمد الدرعي وذكرت في هذه الندوة أنه اهتم مبكرا بموضوع تطوير أوضاع المجتمع التونسي فهو يعتبر أن التجديد مسألة لا بد منها وهو مسار ضروري وكذلك عملية التحديث هي الأخرى ضرورية غايتها بناء نوعية جديدة من الانتماء غير العربي الإسلامي الذي يبقى حسب رأيه فاعلا ولا لكنه انتماء لا يكفي لوحده وإنما يحتاج أن يكون أكثر انفتاحا على المنجز الإنساني الذي يتجاوز الفضاء العربي والإسلامي إلى فضاءات أخرى إنسانية. فالرجل وفق هذه النظرة كان يدعوا مبكرا إلى هوية إنسانية منفتحة وإلى انتماء كونيا يتجاوز الحدود الضيقة للهويات التقليدية التي تكتفي بالعناصر الثابتة من دين ولغة وثقافة جامعة وتاريخ مشترك إلى الهوية الواسعة والانتماء الإنساني الكبير.
جل كتاباته ومقالاته التي ظهرت في الصحافة في بداية القرن كانت تعكس نظرته الاصلاحية للمجتمع التونسي وما يقترحه من تجديد وتحديث له. كان يطرح رؤية تجديدية تقدمية ترمي إلى تطوير الشريعة الاسلامية وإعادة بعث روج الاجتهاد والتجديد في الفكر والثقافة الإسلامية انطلاقا من التراث التجديدي الإسلامي المنفتح على الاجتهاد المقاصدي وتقديم المصلحة على النص معتمدا على علم الاجتماع والعلوم الانسانية فكان موضوع التجديد هو المحور الأساسي الذي شغل بال أحمد الدرعي واشتغل عليه وهو الهاجس في كل أعماله الفكرية.
الرؤية التجديدية التي يدافع عنها أحمد الدرعي تجعل منه مفكرا ينتمي إلى المدرسة التجديدية التي لا تتوقف عند الإصلاح فقط بل تتجاوزه لتجعله منخرطا في سياق الإصلاح التقدمي الذي يرفض التعصب الديني ويرفض الخرافات وكل مظاهر التخلف التي كانت هي عادة حركة التدين الاجتماعي وهذا ما جعله ينتقد حركة الإصلاح العربية التي ظهرت في بداية من القرن الثامن عشر وحركة الاحياء الديني التي تزعمها كل من رشيد الرضا والشيخ محمد عبده والأفغاني والكواكبي وغيرهم لكونهم في نظره يمثلون امتدادا للتيار السلفي الذي ظل موجودا في كل مراحل التاريخ الاسلامي لذلك كان أخمد الدرعي ينتمي إلى مدرسة موازية لمدرسة رجال الإصلاح والمدرسة الاصلاحية كما ظهرت في بداية القرن التاسع عشر والتي كان من أبرز رموزها في تونس الشيخ محي الدين القليبي والشيخ الطاهر بن عاشور وهو الأمر الذي جعل بعض الدارسين للتيار الاصلاحي في تونس يعتبرون أن حركة الحداثة في بلادنا قد بناها وأسسها أهل التجديد أكثر مما بناها أهل الاصلاح وما يحسب للحركة التجديدية أنها انتجت مفهوم الهوية التونسية الجديدة التي تتجاوز مفهوم الهوية التقليدية المتداولة وعناصرها الثابتة .
إن المدونة الفكرية لأحمد الدرعي كما ظهرت في الأعمال الكاملة تحيل على بعد آخر في تكوينه وشخصيته وهو البعد التنويري والذي يبرز في المنظومة الفكرية التي يدافع عنها والمعجم اللغوي الذي يعتمد عليه ويستعمله فالرجل يتحدث وبصفة مبكرا ونحن في بداية القرن الماضي عن الإنسان العالمي وعن الحكومة العالمية وعن الذات الحرة المفكرة وهي ثلاثة مفاهيم أساسية تتردد باستمرار في كل خطاباته . فالإنسان العالمي هي مقولة أساسية تأسست عليها فلسفة الأنوار في الغرب رغم أن بعض المفكرين يرفضون ربط حركة التنوير بحقبة وزمنية محددة وبالفضاء الغربي تحديدا وإنما التنوير هو الواقع حركة ثقافية يمكن أن تظهر مع كل جيل وفي كل مرحلة من التاريخ لذلك يذهب البعض إلى اعتبار أن أول شخصية تنويرية كانت الفيلسوف سقراط حينما رفع شعار " عد إلى نفسك " والتي تعني أن الحقيقة بداخلك وعندك وكان بهذه المقولة يدعو إلى القطع مع كل أشكال الوصايا .
كان أحمد الدرعي يرفض مقولة الانسان الانتمائي ويعتبر أن أزمة الفكر العربي تكمن في النزعة الانتمائية سواء كانت ايديولوجية أو عرقية أو قومية أو طبقية فهو من دعاة الإنسان الكوني ومن المؤيدين لنظرية القيم والمعرفة الكونية والتي يراها تتحقق من خلال الحكومة العالمية التي تحقق للبشرية جمعاء قيمة الكرامة والمساواة والعدل والإنصاف. لقد كان مطلعا على فلسفات التنوير وفكر فلاسفة عصر الأنوار من أقواله في مسألة الإنسان الكوني أنه لا بد من خلق أمة تنشد السيادة باستحقاق في هذا العصر تتغلب فيها على مناوئيها وتساعد على نشر الحق والعدل والإنصاف بين الشعوب حتى تحقق هذه الحكومة العالمية للبشرية جمعاء الكرامة والمساواة والعدل فلا يحق للإنسان في ضلها أن يبيع نفسه لأي كان مهما كان الثمن .
من معالم التنوير في فكره أنه كان يشدد على الثورة المعرفية ويناقش الفكر الدغمائي ويعتبره العقبة الأساسية أمام بناء إنسان عالمي فبالنسبة إليه لا يمكن القبول بالفكر الوثوقي والمعرفة المطلقة وكان مؤمنا بالفكر العقلاني والعقل الحر يقول عنه عز الدين العامري أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية في مداخلته لقد استخدم أحمد الدرعي العقل استخداما عاما وعلنيا، عاما حينما ناقش كل القضايا التي تعتبر وقتها من الممنوعات وتجاسر على ما يعتبر من المقدسات ودعا إلى التعاطي العقلي مع النص الديني وشدد على أولوية المصلحة العامة على النص أي الإرادة العامة التي تجبر حسب رأيه النص على أن يكون مواكبا للمستجدات السياقية بما يعني وجوبية أن يخضع النص للسياق الاجتماعي والواقعي بدل أن يخضع السياق للنص الديني وهذا يعني أن المطلوب من المستنطقين للنص أن يرغموه حتى يكون مواكبا لطبيعة هذه المستجدات بما يعني القيام بثورات معرفية أساسية وإن أردنا أن نصنف أحمد الدرعي فإننا لن نقبل إلا أن يصنف ضمن الوعي التنويري العقلاني القائم على مبدأ استعمال العام والعلني للعقل وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف كانط يجب أن نتمرد على الوصايا في أشكالها الأربعة الأساسية وهي :
التمرد على العسكر الذي يقول لا تفكر بل نفذ
التمرد على الوصي الديني الذي يقدم نفسه الناطق الرسمي باسم الدين
التمرد على الوصي المعرفي الذي يقدم نفسه المحتكر للحقيقة بحجة تكوين معرفي ما أو سلطة رمزية ما.
التمرد على الحركة النقدية نفسها .
تنتهي هذه الندوة حول المنجز الفكري لأحمد الدرعي والأعمال الكاملة التي ظهرت إلى النور بعد نشرها و طباعتها إلى أن الرجل كان سابق عصره في علاقة بالرؤى الفكرية والمقاربات المعرفية التقدمية التي كان يدعو لها فهو مثلا من دعاة التحرر المطلق للذات المفكرة ذلك أن كامل حركة التنوير كما ظهرت في سياقها التاريخي قامت على فكرة الذات الحرة المفكرة يقول الدرعي : " فهذا الاجماع يمكن أن يصلح للأميين يطمئنون به على ما يعتقدونه بواسطة التقليد وهم في ذلك ليس لهم وسيلة للإدراك غيره أما غيرهم فلا يجوز لهم التقليد فيما اتجهوا للبحث عنه ولا يمكن أن يقبل إلا بعد تمحيصه ونقده وهو حق من حقوقهم " ما قصده الدرعي وأراد إبلاغه هو أن الكارثة الكبرى لكل فكر هو الفكر الطلق ومن هذا الفكر المطلق الإجماع وكل فكر لم ينجح في انجاز وتأسيس مفهوم الذات الحرة المفكرة وجعلها خاضعة لسلطة الوصايا وفق منطق الإجماع فالمعرفة لا يمكن لها أن يتقدم لأن الاجماع لا ينتج إلا الوعي القطيعي أو الوعي الكهنوتي الذي يقدس الفئات التي تقدم نفسها على أنها هي الذات العالمة .
لقد نقد أحمد الدرعي اشكالية إجماع الفقهاء بما هي عائق معرفي يصادر حق الذات المفكرة في حقها في التأويل ومصادرة الحق في الفهم المتعدد وينتقد الكهنوت الديني البورجوازي المتحالف مع السلطة السياسية للبايات لإنتاج الفتاوى ضد الحقوق والحريات يقول : " لقد انتجوا فتاوى تبرر الاستعمار وتؤيده وتحرم ثقافة مقاومة الاستعمار فلحظة الخلاص عندهم – أي الفقهاء - ينتظرونها ولا ينتجونها " بما يعني أن الاستعمار هو قدر الشعب والتخلص منه لا يكون إلا من خارج إرادة الإنسان لقد تمرد على هذا النوع من التفكير الذي يحمله مسؤولية تأخر الأمة حينما أوقف التفكير وأغلق باب الاجتهاد.
قيمة هذه الندوة وأهميتها في ما قامت به من تعريف بشخصية وازنة كانت مغمورة لا يعرفها إلا القلة من النخبة المثقفة و كشفت عن رمز من رموز الحركة الوطنية والفكر الاصلاحي لا يقل قيمة عن غيره من قادة الاصلاح التونسي حتى وان كان قليل الانتاج الكتابي إلا أنه يعتبر العقل المفكر للحركة الاصلاحية التي قادها الحداد .. تقول الروائية والكاتبة " أميرة غنيم " في حديثها عن شخصية أحمد الدرعي في روايتها " نازلة بنت الاكابر " ذات يوم في إحدى اللقاءات الأدبية التي خصصت لمناقشة رواتي دار بيني وبين امرأة نقاش حول مضمون الرواية فقالت محاورتي بخصوص أحمد الدرعي: "لم أكن من قبل اعرف أحمد الدرعي ولكن بعد ان تعرفت عليه أمكن لي القول: لو لم يكتب الحداد كتاب امراتنا في الشريعة والمجتمع لكان قد كتبه أحمد الدرعي".
بقلم: نوغل سلامة
نظم مجمع بيت الحكمة ندوة فكرية علمية يوم 10 ماي 2023 خصصها للتعريف بشخصية أحمد الدرعي (1902 / 1965) أحد أعلام الحركة الوطنية ورموز الحركة الفكرية في فترة الثلاثينات من القرن الماضي وأحد قادة حركة الإصلاح والتجديد في بداية القرن الماضي كما كان اللقاء مناسبة للاحتفاء بصدور كتاب أعماله الكاملة الذي جمع منجز الرجل الفكري وهي الوثائق التي كتبها أحمد الدرعي ولم ينشرها وتولت إبنته جمعها و تسليمها إلى الأستاذ عبد المجيد الشرفي الذي تولى تكوين لجنة في بيت الحكمة انكبت على هذه المخطوطات الورقية ودرستها ونقت منها ما يصلح للنشر وتوفقت إلى إخراجها في كتاب تحت اسم "الأعمال الكاملة لأحمد الدرعي" .
قيمة الأعمال الكاملة التي احتفى بها مجمع بيت الحكمة في كونها قد أبرزت حقيقة شخصية لا تقل قيمة من حيث الحضور الفاعل عن غيره من قادة الحركة الوطنية وقادة الفكر في مرحلة الاستعمار فهو وإن كان مغمورا كما يقول عنه الأستاذ عبد المجيد الشرفي لا يعرفه إلا من القلة من الناس فإنه يعد ثالث ثلاثة كانوا مؤثرين بقوة في مرحلة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي مع الطاهر الحداد ومحمد علي الحامي فهو وإن كان غير معرف بالقدر الكافي لقلة انتاجه الفكري إلا أنه في نفس طبقة رفاقه من حركة الشباب التونسي من حيث الرؤية الفكرية والطموح النضالي وخاصة الرغبة في تغيير المجتمع التونسي وتبني رؤية إصلاحية تجديدية لأوضاعه. إن الإضافة التي قدمتها هذه الندوة للقارئ التونسي و العربي أنها عرّفت بفكر هذا الرجل وأخرجت للنور رؤاه ومواقفه التي كانت غير معلومة التي تطرفت شتى القضايا التي كانت تشغل بال المجتمع التونسي و نخبته المثقفة في زمانه .
ومن الأفكار التي عرف بها أحمد الدرعي وذكرت في هذه الندوة أنه اهتم مبكرا بموضوع تطوير أوضاع المجتمع التونسي فهو يعتبر أن التجديد مسألة لا بد منها وهو مسار ضروري وكذلك عملية التحديث هي الأخرى ضرورية غايتها بناء نوعية جديدة من الانتماء غير العربي الإسلامي الذي يبقى حسب رأيه فاعلا ولا لكنه انتماء لا يكفي لوحده وإنما يحتاج أن يكون أكثر انفتاحا على المنجز الإنساني الذي يتجاوز الفضاء العربي والإسلامي إلى فضاءات أخرى إنسانية. فالرجل وفق هذه النظرة كان يدعوا مبكرا إلى هوية إنسانية منفتحة وإلى انتماء كونيا يتجاوز الحدود الضيقة للهويات التقليدية التي تكتفي بالعناصر الثابتة من دين ولغة وثقافة جامعة وتاريخ مشترك إلى الهوية الواسعة والانتماء الإنساني الكبير.
جل كتاباته ومقالاته التي ظهرت في الصحافة في بداية القرن كانت تعكس نظرته الاصلاحية للمجتمع التونسي وما يقترحه من تجديد وتحديث له. كان يطرح رؤية تجديدية تقدمية ترمي إلى تطوير الشريعة الاسلامية وإعادة بعث روج الاجتهاد والتجديد في الفكر والثقافة الإسلامية انطلاقا من التراث التجديدي الإسلامي المنفتح على الاجتهاد المقاصدي وتقديم المصلحة على النص معتمدا على علم الاجتماع والعلوم الانسانية فكان موضوع التجديد هو المحور الأساسي الذي شغل بال أحمد الدرعي واشتغل عليه وهو الهاجس في كل أعماله الفكرية.
الرؤية التجديدية التي يدافع عنها أحمد الدرعي تجعل منه مفكرا ينتمي إلى المدرسة التجديدية التي لا تتوقف عند الإصلاح فقط بل تتجاوزه لتجعله منخرطا في سياق الإصلاح التقدمي الذي يرفض التعصب الديني ويرفض الخرافات وكل مظاهر التخلف التي كانت هي عادة حركة التدين الاجتماعي وهذا ما جعله ينتقد حركة الإصلاح العربية التي ظهرت في بداية من القرن الثامن عشر وحركة الاحياء الديني التي تزعمها كل من رشيد الرضا والشيخ محمد عبده والأفغاني والكواكبي وغيرهم لكونهم في نظره يمثلون امتدادا للتيار السلفي الذي ظل موجودا في كل مراحل التاريخ الاسلامي لذلك كان أخمد الدرعي ينتمي إلى مدرسة موازية لمدرسة رجال الإصلاح والمدرسة الاصلاحية كما ظهرت في بداية القرن التاسع عشر والتي كان من أبرز رموزها في تونس الشيخ محي الدين القليبي والشيخ الطاهر بن عاشور وهو الأمر الذي جعل بعض الدارسين للتيار الاصلاحي في تونس يعتبرون أن حركة الحداثة في بلادنا قد بناها وأسسها أهل التجديد أكثر مما بناها أهل الاصلاح وما يحسب للحركة التجديدية أنها انتجت مفهوم الهوية التونسية الجديدة التي تتجاوز مفهوم الهوية التقليدية المتداولة وعناصرها الثابتة .
إن المدونة الفكرية لأحمد الدرعي كما ظهرت في الأعمال الكاملة تحيل على بعد آخر في تكوينه وشخصيته وهو البعد التنويري والذي يبرز في المنظومة الفكرية التي يدافع عنها والمعجم اللغوي الذي يعتمد عليه ويستعمله فالرجل يتحدث وبصفة مبكرا ونحن في بداية القرن الماضي عن الإنسان العالمي وعن الحكومة العالمية وعن الذات الحرة المفكرة وهي ثلاثة مفاهيم أساسية تتردد باستمرار في كل خطاباته . فالإنسان العالمي هي مقولة أساسية تأسست عليها فلسفة الأنوار في الغرب رغم أن بعض المفكرين يرفضون ربط حركة التنوير بحقبة وزمنية محددة وبالفضاء الغربي تحديدا وإنما التنوير هو الواقع حركة ثقافية يمكن أن تظهر مع كل جيل وفي كل مرحلة من التاريخ لذلك يذهب البعض إلى اعتبار أن أول شخصية تنويرية كانت الفيلسوف سقراط حينما رفع شعار " عد إلى نفسك " والتي تعني أن الحقيقة بداخلك وعندك وكان بهذه المقولة يدعو إلى القطع مع كل أشكال الوصايا .
كان أحمد الدرعي يرفض مقولة الانسان الانتمائي ويعتبر أن أزمة الفكر العربي تكمن في النزعة الانتمائية سواء كانت ايديولوجية أو عرقية أو قومية أو طبقية فهو من دعاة الإنسان الكوني ومن المؤيدين لنظرية القيم والمعرفة الكونية والتي يراها تتحقق من خلال الحكومة العالمية التي تحقق للبشرية جمعاء قيمة الكرامة والمساواة والعدل والإنصاف. لقد كان مطلعا على فلسفات التنوير وفكر فلاسفة عصر الأنوار من أقواله في مسألة الإنسان الكوني أنه لا بد من خلق أمة تنشد السيادة باستحقاق في هذا العصر تتغلب فيها على مناوئيها وتساعد على نشر الحق والعدل والإنصاف بين الشعوب حتى تحقق هذه الحكومة العالمية للبشرية جمعاء الكرامة والمساواة والعدل فلا يحق للإنسان في ضلها أن يبيع نفسه لأي كان مهما كان الثمن .
من معالم التنوير في فكره أنه كان يشدد على الثورة المعرفية ويناقش الفكر الدغمائي ويعتبره العقبة الأساسية أمام بناء إنسان عالمي فبالنسبة إليه لا يمكن القبول بالفكر الوثوقي والمعرفة المطلقة وكان مؤمنا بالفكر العقلاني والعقل الحر يقول عنه عز الدين العامري أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية في مداخلته لقد استخدم أحمد الدرعي العقل استخداما عاما وعلنيا، عاما حينما ناقش كل القضايا التي تعتبر وقتها من الممنوعات وتجاسر على ما يعتبر من المقدسات ودعا إلى التعاطي العقلي مع النص الديني وشدد على أولوية المصلحة العامة على النص أي الإرادة العامة التي تجبر حسب رأيه النص على أن يكون مواكبا للمستجدات السياقية بما يعني وجوبية أن يخضع النص للسياق الاجتماعي والواقعي بدل أن يخضع السياق للنص الديني وهذا يعني أن المطلوب من المستنطقين للنص أن يرغموه حتى يكون مواكبا لطبيعة هذه المستجدات بما يعني القيام بثورات معرفية أساسية وإن أردنا أن نصنف أحمد الدرعي فإننا لن نقبل إلا أن يصنف ضمن الوعي التنويري العقلاني القائم على مبدأ استعمال العام والعلني للعقل وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف كانط يجب أن نتمرد على الوصايا في أشكالها الأربعة الأساسية وهي :
التمرد على العسكر الذي يقول لا تفكر بل نفذ
التمرد على الوصي الديني الذي يقدم نفسه الناطق الرسمي باسم الدين
التمرد على الوصي المعرفي الذي يقدم نفسه المحتكر للحقيقة بحجة تكوين معرفي ما أو سلطة رمزية ما.
التمرد على الحركة النقدية نفسها .
تنتهي هذه الندوة حول المنجز الفكري لأحمد الدرعي والأعمال الكاملة التي ظهرت إلى النور بعد نشرها و طباعتها إلى أن الرجل كان سابق عصره في علاقة بالرؤى الفكرية والمقاربات المعرفية التقدمية التي كان يدعو لها فهو مثلا من دعاة التحرر المطلق للذات المفكرة ذلك أن كامل حركة التنوير كما ظهرت في سياقها التاريخي قامت على فكرة الذات الحرة المفكرة يقول الدرعي : " فهذا الاجماع يمكن أن يصلح للأميين يطمئنون به على ما يعتقدونه بواسطة التقليد وهم في ذلك ليس لهم وسيلة للإدراك غيره أما غيرهم فلا يجوز لهم التقليد فيما اتجهوا للبحث عنه ولا يمكن أن يقبل إلا بعد تمحيصه ونقده وهو حق من حقوقهم " ما قصده الدرعي وأراد إبلاغه هو أن الكارثة الكبرى لكل فكر هو الفكر الطلق ومن هذا الفكر المطلق الإجماع وكل فكر لم ينجح في انجاز وتأسيس مفهوم الذات الحرة المفكرة وجعلها خاضعة لسلطة الوصايا وفق منطق الإجماع فالمعرفة لا يمكن لها أن يتقدم لأن الاجماع لا ينتج إلا الوعي القطيعي أو الوعي الكهنوتي الذي يقدس الفئات التي تقدم نفسها على أنها هي الذات العالمة .
لقد نقد أحمد الدرعي اشكالية إجماع الفقهاء بما هي عائق معرفي يصادر حق الذات المفكرة في حقها في التأويل ومصادرة الحق في الفهم المتعدد وينتقد الكهنوت الديني البورجوازي المتحالف مع السلطة السياسية للبايات لإنتاج الفتاوى ضد الحقوق والحريات يقول : " لقد انتجوا فتاوى تبرر الاستعمار وتؤيده وتحرم ثقافة مقاومة الاستعمار فلحظة الخلاص عندهم – أي الفقهاء - ينتظرونها ولا ينتجونها " بما يعني أن الاستعمار هو قدر الشعب والتخلص منه لا يكون إلا من خارج إرادة الإنسان لقد تمرد على هذا النوع من التفكير الذي يحمله مسؤولية تأخر الأمة حينما أوقف التفكير وأغلق باب الاجتهاد.
قيمة هذه الندوة وأهميتها في ما قامت به من تعريف بشخصية وازنة كانت مغمورة لا يعرفها إلا القلة من النخبة المثقفة و كشفت عن رمز من رموز الحركة الوطنية والفكر الاصلاحي لا يقل قيمة عن غيره من قادة الاصلاح التونسي حتى وان كان قليل الانتاج الكتابي إلا أنه يعتبر العقل المفكر للحركة الاصلاحية التي قادها الحداد .. تقول الروائية والكاتبة " أميرة غنيم " في حديثها عن شخصية أحمد الدرعي في روايتها " نازلة بنت الاكابر " ذات يوم في إحدى اللقاءات الأدبية التي خصصت لمناقشة رواتي دار بيني وبين امرأة نقاش حول مضمون الرواية فقالت محاورتي بخصوص أحمد الدرعي: "لم أكن من قبل اعرف أحمد الدرعي ولكن بعد ان تعرفت عليه أمكن لي القول: لو لم يكتب الحداد كتاب امراتنا في الشريعة والمجتمع لكان قد كتبه أحمد الدرعي".