بعد انتهاء مرحلة الاحتلال الأجنبي وخروج المستعمر الفرنسي من التراب التونسي بتلك الصورة والطريقة التي خلفت ضجيجا سياسيا كبيرا وبقي حولها إلى اليوم جدل واسع في علاقة بمضمون وثيقة الاستقلال التي بقيت مخفية ولم تنشر إلا بعد الثورة وجدل آخر حول بنود الاتفاقيات المكملة لها والتي اعتبرت مكبلة للاستقلال ومفضية إلى دوام الارتباط مع المستعمر القديم ..
وبعد مضي أكثر من ستين سنة عن استقلال البلاد من المستعمر الفرنسي وما وعد به بناة الدولة الحديثة وبشر به من تزعم قيادة البلاد من تحقيق الرفاه للشعب والازدهار للوطن وتوفير الشغل للعاطلين عن العمل من أبناء الشعب الحالم بغد أفضل وتحقيق النهضة الدائمة في مجال العمران والصناعة والتجارة والفلاحة والتنمية في الجهات وتركيز معالم تفوق وريادة في مجال الصحة والتعليم والمعرفة ..
وبعد مضي سبع وستين سنة من الاستقلال وهي مرحلة كان الحلم فيها كبيرا ومنسوب الثقة هو الآخر عال جدا ومرحلة حكمتها هزات كبيرة لامست الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وخيارات التنمية كانت بمثابة الصدمة التي أفاقت الجميع على حقيقتنا ورافقتها فترات نجاح لا يمكن انكارها مثلت علامات منيرة في تاريخ تونس الحديثة .
وبعد عقود من بناء دولة الاستقلال وتأسيس الدولة التونسية الحديثة ومشروعها الذي بشر به أصحابه ومن هندسه بتونس جديدة حاضنة لأبنائها ومرافقة للمعطوبين منهم و من تعثرت مسيرة حياتهم أو توقفت لأسباب كثيرة.. بعد كل هذا المسار من البناء والتحديث والحلم يحق لنا اليوم ونحن نطوي السنة السابعة والستين من الاستقلال والسنة الثانية عشر بعد الثورة أن نطرح السؤال الكبير : ماذا بقي من وعود الاستقلال ؟ وماذا بقي من مشروع الدولة الوطنية؟
يبدو أن الحصيلة لكل هذا المسار ليست في مجملها مشرقة ولا ايجابية ولعل الخيبة الكبرى هي استفاقة الشعب على أن إستقلاله كان مغشوشا وأن سيادته وقراره السياسي و السيادي غير مستقل وليس بيده وأن دولته لا زالت تابعة لمستعمرها القديم وللقوى التي تتحكم في العالم وترسم مصائر الشعوب وأنه لا يتحكم في إرادته وخياراته وأنه تابع في غذائه وتجارته وصناعته وفكره وثقافته وتعليمه للمستعمر القديم ولقوى الهيمنة في العالم وأنه مكبل باتفاقيات وعهود ومواثيق دولية جعلت منه شعبا محتلا بطريقة ناعمة وخفية وهذه الحقيقة التي نتقاسم الوعي بها مع الكثير من الشعوب التي تسعى إلى النهوض وتحقيق التقدم من خارج الهيمنة الأطلسية والإمبريالية الجديدة نجد لها تعبيرا قويا في الحرب الروسية الأوكرانية وما صرح به الرئيس بوتين في أعقاب هذه الحرب من " أن العالم قد تجاوز النموذج أحادي القطب الذي عفا عليه الزمن ويتم استبداله اليوم بنظام عالمي جديد قائم على الاعتراف بالمسار السيادي لتنمية كل دولة " في إشارة إلى أن قضية التنمية هي مسألة سيادة وطنية و أن الحرب التي يخوضها هي في العمق حرب من أجل التخلص من استعمار العولمة وفك الارتباط مع النظام العالمي الحالي الذي تتحكم فيه أمريكا وحلفاؤها الأوروبيين.
حصيلة سبع وستين سنة من الاستقلال بطالة كبيرة في صفوف الشعب وخاصة في صفوف العاطلين عن العمل من الذين لم يكملوا دراستهم الثانوية وانقطعوا عن التعليم في سن مبكرة والذين يقدر عددهم سنويا بـ100 ألف منقطع وهم أطفال لا تعلم الدولة عنهم شيئا وهم منتشرون في كامل البلاد من دون مرافقة من أحد ولا يملكون المؤهلات والقدرات للعمل بعد أن تخلت الدولة عن التعليم المهني لتتحول هذه الأعداد الكبيرة من المنقطعين عن التعليم إلى مشاريع إجرام وإرهاب واجتياز للحدود خلسة أو ما يعرف بـ"الحرقة" وتمرد عن الدولة والقانون حينما يجدون أنفسهم بعد سنوات من الضياع والتيه المجتمعي وقد أصبحوا شبابا عاطلين عن العمل في حالة من العجز التام وفي وضعية عدم القدرة عن الحصول على عمل وفي حالة غياب لأي رابطة تجمعهم بالدولة وحتى بالوطن.
حصيلة سبع وستين سنة من الاستقلال جهات مهمشة بالكامل تفتقد إلى أبسط أساسيات الحياة وتغيب عنها التنمية في أبسط صورها من توفير ماء صالح للشراب وقنوات للصرف الصحي ومرافق ضرورية من مدارس مجهزة وطرقات معبدة ومواطن شغل بالقدر الأدنى وخدمات اجتماعية عادية ووسائل نقل محترمة.. جهات منسية و مقصية ومعاقبة تتجاهلها الدولة وسكانها لا تربطهم بالسلطة المركزية إلا بطاقة تعريف وطنية وعمود للتيار الكهربائي.. جهات منقطعة بالكامل عن المدن الكبرى والمناطق الساحلية وعن العاصمة مركز الحكم ويعيشون على هامش الدولة ويديرون شؤونهم بمفردهم ومن خلال الحل الفردي وفي غياب الحل الجماعي حل الدولة المفقود.
حصيلة سبع وستين سنة من الاستقلال أمية تصل نسبتها في آخر إحصائية تعود إلى سنة 2022 إلى حدود 18 في المائة أي ما يقارب ملوني أمي وهي نسبة محيرة لشعب عدد سكانه لا يتجاوز 12 مليون والخطورة في هذا المعطى أنه يضرب فئة الشباب حيث أن هناك قرابة مليون أمي منقطع عن الدراسة بصفة مبكرة وخطورتها في علاقة انتشار الأمية بغياب الوعي لدى هؤلاء الأميين بما يحصل في العالم وبما يحصل في محيطهم الصغير والوعي بالتحديات التي تنتظرنا وهم بهذه الأمية عبء ثقيل على الدولة وقد تحولوا إلى حالة شعب يريد أن ينهض وجزء من جسمه مريض ومعطل .
خطورة نسبة الأمية في تونس بعد عشريات من الاستقلال والتحديث والتباهي بالتعليم البورقيبي في الصورة التي باتت عليها المدرسة التونسية وحقيقة التعليم الذي راهنت عليه دولة الاستقلال وتباهت به وفي المحصلة التي انتهى إليها وهو تعليم أنتج لنا ألاف من الشباب الذي وجد ضالته في الجماعات الإرهابية والقتال في صفوف الجماعات المقاتلة من أجل عالم متخيل وحالم لم يجدوه في دولتهم .. وشباب آخر أنتج ثورة أثرت في العالم ولكنه لم يكن مستعدا لها ولا واع برهاناتها، ثورة لم ترافقها النخب المتعلمة ولم تحتضنها ولم تحافظ عليها.. تعليم أنتج شعبا في مجمله متصالح مع الفساد وقابل به ومتصالح مع الاستبداد ويميل إلى العيش في ظله .. تعليم أنتج طبقة متعلمة ونخبة مثقفة لم تؤمن بالتغيير ولم تحافظ على ثورتها.. تعليم أنتج لنا بعد سبع وستين سنة من الاستقلال فقرا نسبته 21 % وبطالة نسبتها 18% وأمية في حدود 18% هي الأخرى وجهلا وخنوعا وخضوعا والأخطر من ذلك قد أنتج لنا شعبا له القابلية للعيش في حياة من دون حربة ..
بقلم نوفل سلامة
بعد انتهاء مرحلة الاحتلال الأجنبي وخروج المستعمر الفرنسي من التراب التونسي بتلك الصورة والطريقة التي خلفت ضجيجا سياسيا كبيرا وبقي حولها إلى اليوم جدل واسع في علاقة بمضمون وثيقة الاستقلال التي بقيت مخفية ولم تنشر إلا بعد الثورة وجدل آخر حول بنود الاتفاقيات المكملة لها والتي اعتبرت مكبلة للاستقلال ومفضية إلى دوام الارتباط مع المستعمر القديم ..
وبعد مضي أكثر من ستين سنة عن استقلال البلاد من المستعمر الفرنسي وما وعد به بناة الدولة الحديثة وبشر به من تزعم قيادة البلاد من تحقيق الرفاه للشعب والازدهار للوطن وتوفير الشغل للعاطلين عن العمل من أبناء الشعب الحالم بغد أفضل وتحقيق النهضة الدائمة في مجال العمران والصناعة والتجارة والفلاحة والتنمية في الجهات وتركيز معالم تفوق وريادة في مجال الصحة والتعليم والمعرفة ..
وبعد مضي سبع وستين سنة من الاستقلال وهي مرحلة كان الحلم فيها كبيرا ومنسوب الثقة هو الآخر عال جدا ومرحلة حكمتها هزات كبيرة لامست الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وخيارات التنمية كانت بمثابة الصدمة التي أفاقت الجميع على حقيقتنا ورافقتها فترات نجاح لا يمكن انكارها مثلت علامات منيرة في تاريخ تونس الحديثة .
وبعد عقود من بناء دولة الاستقلال وتأسيس الدولة التونسية الحديثة ومشروعها الذي بشر به أصحابه ومن هندسه بتونس جديدة حاضنة لأبنائها ومرافقة للمعطوبين منهم و من تعثرت مسيرة حياتهم أو توقفت لأسباب كثيرة.. بعد كل هذا المسار من البناء والتحديث والحلم يحق لنا اليوم ونحن نطوي السنة السابعة والستين من الاستقلال والسنة الثانية عشر بعد الثورة أن نطرح السؤال الكبير : ماذا بقي من وعود الاستقلال ؟ وماذا بقي من مشروع الدولة الوطنية؟
يبدو أن الحصيلة لكل هذا المسار ليست في مجملها مشرقة ولا ايجابية ولعل الخيبة الكبرى هي استفاقة الشعب على أن إستقلاله كان مغشوشا وأن سيادته وقراره السياسي و السيادي غير مستقل وليس بيده وأن دولته لا زالت تابعة لمستعمرها القديم وللقوى التي تتحكم في العالم وترسم مصائر الشعوب وأنه لا يتحكم في إرادته وخياراته وأنه تابع في غذائه وتجارته وصناعته وفكره وثقافته وتعليمه للمستعمر القديم ولقوى الهيمنة في العالم وأنه مكبل باتفاقيات وعهود ومواثيق دولية جعلت منه شعبا محتلا بطريقة ناعمة وخفية وهذه الحقيقة التي نتقاسم الوعي بها مع الكثير من الشعوب التي تسعى إلى النهوض وتحقيق التقدم من خارج الهيمنة الأطلسية والإمبريالية الجديدة نجد لها تعبيرا قويا في الحرب الروسية الأوكرانية وما صرح به الرئيس بوتين في أعقاب هذه الحرب من " أن العالم قد تجاوز النموذج أحادي القطب الذي عفا عليه الزمن ويتم استبداله اليوم بنظام عالمي جديد قائم على الاعتراف بالمسار السيادي لتنمية كل دولة " في إشارة إلى أن قضية التنمية هي مسألة سيادة وطنية و أن الحرب التي يخوضها هي في العمق حرب من أجل التخلص من استعمار العولمة وفك الارتباط مع النظام العالمي الحالي الذي تتحكم فيه أمريكا وحلفاؤها الأوروبيين.
حصيلة سبع وستين سنة من الاستقلال بطالة كبيرة في صفوف الشعب وخاصة في صفوف العاطلين عن العمل من الذين لم يكملوا دراستهم الثانوية وانقطعوا عن التعليم في سن مبكرة والذين يقدر عددهم سنويا بـ100 ألف منقطع وهم أطفال لا تعلم الدولة عنهم شيئا وهم منتشرون في كامل البلاد من دون مرافقة من أحد ولا يملكون المؤهلات والقدرات للعمل بعد أن تخلت الدولة عن التعليم المهني لتتحول هذه الأعداد الكبيرة من المنقطعين عن التعليم إلى مشاريع إجرام وإرهاب واجتياز للحدود خلسة أو ما يعرف بـ"الحرقة" وتمرد عن الدولة والقانون حينما يجدون أنفسهم بعد سنوات من الضياع والتيه المجتمعي وقد أصبحوا شبابا عاطلين عن العمل في حالة من العجز التام وفي وضعية عدم القدرة عن الحصول على عمل وفي حالة غياب لأي رابطة تجمعهم بالدولة وحتى بالوطن.
حصيلة سبع وستين سنة من الاستقلال جهات مهمشة بالكامل تفتقد إلى أبسط أساسيات الحياة وتغيب عنها التنمية في أبسط صورها من توفير ماء صالح للشراب وقنوات للصرف الصحي ومرافق ضرورية من مدارس مجهزة وطرقات معبدة ومواطن شغل بالقدر الأدنى وخدمات اجتماعية عادية ووسائل نقل محترمة.. جهات منسية و مقصية ومعاقبة تتجاهلها الدولة وسكانها لا تربطهم بالسلطة المركزية إلا بطاقة تعريف وطنية وعمود للتيار الكهربائي.. جهات منقطعة بالكامل عن المدن الكبرى والمناطق الساحلية وعن العاصمة مركز الحكم ويعيشون على هامش الدولة ويديرون شؤونهم بمفردهم ومن خلال الحل الفردي وفي غياب الحل الجماعي حل الدولة المفقود.
حصيلة سبع وستين سنة من الاستقلال أمية تصل نسبتها في آخر إحصائية تعود إلى سنة 2022 إلى حدود 18 في المائة أي ما يقارب ملوني أمي وهي نسبة محيرة لشعب عدد سكانه لا يتجاوز 12 مليون والخطورة في هذا المعطى أنه يضرب فئة الشباب حيث أن هناك قرابة مليون أمي منقطع عن الدراسة بصفة مبكرة وخطورتها في علاقة انتشار الأمية بغياب الوعي لدى هؤلاء الأميين بما يحصل في العالم وبما يحصل في محيطهم الصغير والوعي بالتحديات التي تنتظرنا وهم بهذه الأمية عبء ثقيل على الدولة وقد تحولوا إلى حالة شعب يريد أن ينهض وجزء من جسمه مريض ومعطل .
خطورة نسبة الأمية في تونس بعد عشريات من الاستقلال والتحديث والتباهي بالتعليم البورقيبي في الصورة التي باتت عليها المدرسة التونسية وحقيقة التعليم الذي راهنت عليه دولة الاستقلال وتباهت به وفي المحصلة التي انتهى إليها وهو تعليم أنتج لنا ألاف من الشباب الذي وجد ضالته في الجماعات الإرهابية والقتال في صفوف الجماعات المقاتلة من أجل عالم متخيل وحالم لم يجدوه في دولتهم .. وشباب آخر أنتج ثورة أثرت في العالم ولكنه لم يكن مستعدا لها ولا واع برهاناتها، ثورة لم ترافقها النخب المتعلمة ولم تحتضنها ولم تحافظ عليها.. تعليم أنتج شعبا في مجمله متصالح مع الفساد وقابل به ومتصالح مع الاستبداد ويميل إلى العيش في ظله .. تعليم أنتج طبقة متعلمة ونخبة مثقفة لم تؤمن بالتغيير ولم تحافظ على ثورتها.. تعليم أنتج لنا بعد سبع وستين سنة من الاستقلال فقرا نسبته 21 % وبطالة نسبتها 18% وأمية في حدود 18% هي الأخرى وجهلا وخنوعا وخضوعا والأخطر من ذلك قد أنتج لنا شعبا له القابلية للعيش في حياة من دون حربة ..