الأزمة الاقتصادية تدفع باتحاد الشغل والأحزاب نحو التصعيد
بقلم: كمال بن يونس
اشتد التنافس بين كبار صناع القرار في البلاد وأصحاب "مبادرات إخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتراكمة".
وقد تسببت نتائج "انتخابات 29 جانفي في تفجير "صراع وجود" و"معركة شرعيات" غير مسبوقة بين المحسوبين على الرئيس قيس سيعد مشروعه السياسي من جهة ومعارضيهم من جهة ثانية.
وفي الوقت الذي نوه فيه الرئيس سعيد بنجاح أنصاره في إنجاز الطور الأخير من "خارطة الطريق" السياسية والانتخابية التي أعلن عنها قبل عام وبضعة أشهر، تعمق الانقسام داخل الطبقة السياسية بين الداعمين للسلطة من جهة وقيادات اتحاد الشغل والأحزاب السياسية المعارضة من جهة ثانية.
في نفس الوقت عمقت الأزمات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية التوترات بين السلطات وخصومها وأدت إلى "تقارب" غير مسبوق بين خصوم قصري قرطاج والقصبة بأنواعهم، بمن فيهم الأطراف التي كانت تساند قرارات 25 جويلية 2022 وتعتبرها "تصحيحا للمسار" وليس "انقلابا على الدستور وعلى البرلمان الشرعي" مثلما تورد المعارضة.
فإلى أين تسير تونس وقد تعمقت الهوة بين الفاعلين السياسيين؟
منذ زيارة الرئيس الى القصبة جدد الثقة في رئيسة الحكومة نجلاء بودن وفريقها رغم مطالبة أحزاب عديدة ومقربين من قصر قرطاج بتغييرهما مع اتهامهما بـ"الفشل".
واكتفى سعيد بتعديلات جزئية شملت أساسا الخارجية والتربية والفلاحة. كما أمر سلطات الأمن والقضاء بالقيام بحملة "تطهير ومحاسبة". فكانت النتيجة إيقافات وتتبعات شملت شخصيات عمومية ومسؤولين سابقين في الدولة والمجتمع المدني بينهم خيام التركي الذي يتزعم مبادرة وطنية للحوار عمودها الفقري مستقلون وقياديون سابقون في الأحزاب مثل غازي الشواشي ومحمد الحامدي وعبد الحميد الجلاصي..
وفي الوقت الذي رجح فيه القاضي فاروق بوعسكر رئيس الهيئة العليا للانتخابات تنصيب "البرلمان الجديد" الشهر القادم، أعلنت النقابات والمعارضة عن خطة تصعيد جديدة تشمل تنظيم إضرابات عامة ومظاهرات في عدة جهات.
أنصار الرئيس وخصومه
ومن خلال قراءة مختلف ردود الفعل على نتائج انتخابات 29 جانفي وعلى "خارطة الطريق الرئاسية" يمكن أن نلاحظ تعمق الهوة داخل المشهد السياسي التونسي بين أنصار قيس سعيد وخصومه وبين 4 مبادرات سياسية يزعم قادة كل منها "إنقاذ البلاد" من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتراكمة.
هذه المبادرات السياسية التي قدمتها شخصيات مستقلة، بزعامة الحقوقي خيام التركي، والنقابات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تنقسم إلى شقين: الأول يشمل كل المبادرات التي تعترف بشرعية مسار قيس سعيد باعتباره رئيس منتخبا، بينما يشمل الشق الثاني: المبادرات التي لا تعترف بشرعية مسار 25 جويلية 2021 وتعتبر قرارات مابعد 22 سبتمبر "باطلة وغير شرعية" بما فيها الانتخابات الجديدة.
4 مبادرات
ويمكن تلخيص المبادرات السياسية المقترحة إلى أربعة، اثنتان منها داعمة لقصر قرطاج واثنتان معارضة له.
حسب المبادرة الأولى التي يقدمها المحسوبون على "حراك 25 جويلية" و"مسار الشعب يريد" والأحزاب القومية العروبية واليسارية التي تدعم سعيد، لا يوجد حاليا في البلاد "صراع شرعيات ولا أزمة سياسية".
ويساند هؤلاء تصريحات الرئيس التي نوه فيها بـ"احترام المواعيد" الانتخابية وخارطة الطريق السياسية.
كما يدعون إلى تثبيت الرئيس قيس سعيد وحكومته وأن تصب كل المبادرات في إيجاد حلول لـ"الأزمة الاجتماعية والاقتصادية" وفي "محاربة الفساد والفاسدين ومحاكمة السياسيين ورجال الأعمال المسؤولين عن الإخفاقات والفساد منذ 2011 ".
في المقابل تدعو "المبادرة الثانية" لتيار آخر من أنصار الرئيس إلى رفض مطالب المعارضين بتنظيم "انتخابات رئاسية مبكرة" وبتشكيل "حكومة جديدة من شخصيات مستقلة".
ويبررون موقفهم بكون شرعية قيس سعيد في قرطاج تتواصل حتى انتهاء عهدته في موفى العام القادم.
لكن أصحاب هذه المبادرة يدعون السلطات إلى القيام بإصلاحات تشمل ملفات الحقوق والحريات واستقلال القضاء التي تعقدت بعد حل المجلس الأعلى للقضاء المنتخب وإحالة معارضين ونشطاء على المحاكم وتتبع بعضهم أمام القضاء العسكري.
ويعتبر عبيد البريكي الوزير السابق وأمين عام "حزب تونس إلى الأمام أن " المبادرات التي تدعو إلى إقالة رئيس الدولة أو إلى إسقاطه فشلت ، وأن "الفراغ السياسي على رأس هرم الدولة قد يجر البلاد الى مخاطر تفكيك الدولة والاحتراب الداخلي". ويدعو البريكي الى استمرارية الدولة ويقول: "ان الرئاسة مؤسسة وليست شخصا".
مبادرات المعارضين والنقابات
لكن للمعارضين وللقيادات النقابية رأي آخر تعكسه مبادراتهم السياسية وأهمها اثنتان.
المبادرة الأولى تدعو إلى استقالة رئيس الدولة "تفاعلا مع الرسائل السياسية التي وجهها نحو 88 بالمائة من الناخبين الذين قاطعوا الانتخابات مرتين في ظرف شهر ونصف أو امتنعوا عن المشاركة فيها تعبيرا عن رفضهم لكل النخب السياسية الرسمية الحاكمة والمعارضة و لخارطة الطريق الرئاسية".
وتدعو هذه المبادرة إلى أن يبقى قيس سعيد في الحكم، لكنه يعين "حكومة إنقاذ وطني" تكون مهمتها أساسا اقتصادية اجتماعية والإشراف على تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة هذا العام أو مطلع 2024 مع التفاعل مع مبادرات "الحوار الوطني الشامل" التي دعت لها النقابات والمنظمات الحقوقية والمهنية والأحزاب.
أما المبادرة الثانية للمعارضين فتستبعد سيناريو استقالة الرئيس سعيد وحكومته.
لذلك فهي تدعو إلى "حوار وطني سياسي" بين المعارضين والنقابات والمجتمع المدني يتزامن مع تصعيد الإضرابات والاحتجاجات السياسية في الشارع من أجل "إسقاط منظومة الحكم التي تسيطر على المشهد منذ 25 جويلية 2022 ".
لكن إلى أي حد سيكتب لهذه المبادرات أن ترى النور بعد التصعيد الجديد بين السلطات من جهة والمركزية النقابية وقيادات المعارضة من جهة ثانية.
لأول مرة
من جهة أخرى، وتعقيبا على تصريحات الرئيس سعيد التي اتهم فيها قيادات نقابية بالتوظيف السياسي للمنظمة النقابية اعتبر قياديون في اتحاد الشغل بينهم الناطق الرسمي باسمه الزعيم سامي الطاهري أن "تصعيد سعيد يستهدف مبادرة الاتحاد للحوار الوطني" مع نقابة المحامين ورابطة حقوق الإنسان ومنظمة "منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية".
وانتقد الكاتب العام المساعد بالاتحاد حفيظ حفيظ تصريحات سعيد وأعلن باسم المركزية النقابية عن "رفض المنظمة التهم الباطلة" التي صرّحت بها النيابة العمومية في حق النقابي أنيس الكعبي.
وقال المسؤول الكبير في اتحاد الشغل “ان تعرض الكعبي للإيقاف يأتي في إطار مواصلة التضييق على الحريات العامة والفردية”. وأعلن أن القيادات النقابية تعترض بقوة على ما وصفه بـ“الخطاب الاستفزازي والتحريضي.. في حق الاتحاد العام التونسي للشغل” وتتبع قيادات نقابات النقل وشركة الطريق السيارة .
كما اعترض على تصريح لرئيس الجمهورية حول وجود "أهداف سياسية وراء إضراب نقابة مؤسسة "تونس للطرقات السيارة". الذي قال بيان عن محكمة العاصمة أنه تسبب في خسائر للدولة بمئات ملايين الدنانير.
غلق الطرقات وسكك الحديد
واعتبر حفيظ حفيظ في بيان رسمي نقلته وكالة الأنباء الحكومية أن “اتحاد الشغل يتعرّض لاستهداف واضح من طرف رئاسة الجمهورية باعتباره منظمة كانت وستبقى في الصفوف الأولى، بهدف منعها من لعب دورها الوطني خصوصا بعد تقدمها بمبادرة للإنقاذ الوطني.
ولم يستبعد سامي الطاهري الناطق الرسمي باسم اتحاد الشغل أن تقرر النقابات في المدة القادمة سلسلة من الإضرابات القطاعية والعامة في مواجهة “حملة الاستهداف التي تطال المنظمة ومبادراتها السياسية لإنقاذ تونس من سيناريو الاقتتال والأزمات الخطيرة”.
في المقابل صعد محسوبون على رئيس الجمهورية لأول مرة منذ سنوات حملة عملية إعلامية ضد القيادات النقابية وزعيمها نور الدين الطبوبي مع اتهامها بـ"بالفساد والبيرقراطية وبمعاداة الرئيس قيس سعيد ومشروعه الإصلاحي".
في هذا السياق رفع بعض المحسوبين على قيس سعيد، بينهم المحامية وفاء الشاذلي والإعلامي رياض جراد، انتقاداتهم في وسائل الإعلام للقيادات النقابية بزعامة نور الدين الطبوبي وللمعارضة السياسية بزعامة أحمد نجيب الشابي رئيس جبهة الخلاص الوطني التي تضم 10 أطراف سياسية بينها أحزاب النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وعمل وانجاز واللقاء من اجل تونس.
كما أعلن عدد من الفائزين في الانتخابات البرلمانية الجديدة مثل نقيب المحامين السابق إبراهيم بودربالة، موافقتهم على التصريح الجديد الذي أدلى به رئيس الدولة قيس سعيد أمام كوادر أمنية في ثكنة الحرس الوطني بالعاصمة تونس.
وقد لوح سعيد في هذا التصريح علنا بمحاسبة بعض القياديين في النقابات الذين قال عنهم إنهم "يقومون بقطع الطرق وسكك الحديد أو التهديد بذلك بتعلات واهية" وأورد أنهم" لا يمكن أن يبقوا خارج دائرة المساءلة مضيفا “الحق النقابي مضمون بالدستور، ولا يمكن أن يتحوّل إلى غطاء لمآرب سياسيّة لم تعد تخفى على أحد”.
قانون المالية ورجال الأعمال
لكن متغيرات المشهد السياسي التونسي مؤخرا لم تتأثر فقط بالرسائل السياسية التي وجهها غالبية الناخبين وزعماء المعارضة والنقابات بمناسبة انتخابات 29 جانفي، بل تأثرت كذلك بالمستجدات السلبية في عالمي المال والأعمال بعد ارتفاع الأسعار ونسب التضخم والفقر والبطالة"، على حد تعبير الخبير الاقتصادي جمال الدين عويديد الذي سجل معارضة نقابات رجال الأعمال لقانون المالية الجديد ولتضخم الضرائب والاداءات.
وتعمقت "الأزمة بأبعادها المالية الاقتصادية والاجتماعية السياسية"، في نظر أستاذ الاقتصاد في الجامعة رضا الشكندالي، بعد التصنيفات الخطيرة الجديدة التي أصدرتها وكالة "موديز" للبنك المركزي التونسي ولعدد من البنوك، الى درجة "ج سلبي 2 "، أي إلى درجة واحدة قبل الإعلان عن "إفلاس الدولة".
ولاحظ الخبير الاقتصادي والمسؤول السابق في عدد من البنوك العربية والتونسية عز الدين سعيدان، أن هذه التصنيفات أزعجت رجال الأعمال والمستثمرين و"ستحرم تونس مجددا من فرص الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي ومن السوق المالية العربية والعالمية".
وبرر سعيدان استنتاجه بكون الصناديق والبنوك الدولية تعتمد عدة مقاييس في تقييم علاقاتها بالبنوك والدول في العالم بينها "الحوكمة الرشيدة" و"الشفافية السياسية والديمقراطية".
الورقة الدولية
لكن رغم هذه التقييمات المتشائمة يعتبر عدد من أنصار السلطة أن "الورقة الإقليمية والدولية تلعب لصالح السلطات التونسية لأسباب عديدة، من بينها الدعم الذي تقدمه لها العواصم الغربية التي لم تعد تهمها كثيرا ملفات الديمقراطية بقدر ما يهمها تعاونها في مجالي "مكافحة الإرهاب" ومنع تسلل مزيد من المهاجرين غير القانونيين إلى أوروبا عبر السواحل التونسية.
في هذا السياق يتابع صناع القرار والمراقبون في تونس نتائج زيارتي رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني الى الجزائر وليبيا وزيارة وزيري الخارجية والداخلية الايطاليين الى تونس ودول المنطقة لبحث ملفات الإرهاب والهجرة غير القانونية.
واكتست مشاورات روما والجزائر أهمية خاصة بالنسبة للسياسيين والمراقبين في تونس لأن رئيسة الحكومة الإيطالية أعلنت في أعقابها بأنها بحثت في الجزائر "سيناريوهات تطور الأوضاع في تونس"..
وسبق للرئيس الجزائري أن صرح قبل نصف عام أن أعلن من روما أنه بحث مع المسؤولين الإيطاليين سبل "مساعدة تونس للعودة إلى المسار الديمقراطي".
بالتزامن مع كل هذا باشر السفير الأمريكي الجديد جوي هود مهامه.
وكانت السلطات ووسائل الإعلام التونسية انتقدت العام الماضي تعيين جوي هود سفيرا لواشنطن في تونس وتصريحاته عند ترشيحه من قبل "الكونغرس" والتي أعلن فيها أنه برنامجه يشمل "دعم الديمقراطية والتنمية في تونس" و"ضمان حياد المؤسسة العسكرية"، إلى جانب دعم "مسار التطبيع مع إسرائيل".
فهل يقترن وصول السفير الأمريكي وتعاقب التصريحات في عواصم غربية وإقليمية عن "دعم تونس" بتسريح القروض والتمويلات لفائدة الدولة التونسية لمساعدتها على كسب معاركها مع النقابات والمعارضة أم يحصل العكس؟
كل السيناريوهات واردة.. إذا تواصلت معركة الشرعيات داخليا وتوظيف "الخارج" للتناقضات الداخلية والإقليمية خدمة لأجنداته.
لكن الانهيار الاقتصادي والمالي قد يزيد المشهد السياسي تعقيدا والأوضاع الأمنية والاجتماعية غموضا، بما يؤثر على بلدان الجوار الأكثر اضطرابا وهشاشة وخاصة في ليبيا، التي تعتبر تونس "رئتها الثانية" منذ بدء مسلسل الحروب فيها مطلع 2011.