ماجستير في الحقوق والعلوم السياسية وباحث في القانون الدستوري
تعيش البلاد التونسية هذه الأيام كما هو معلوم على وقع التّرشحات للانتخابات البرلمانية في صورتها الجديدة ... ورغم عمق الأزمة السياسية و الاجتماعية التي طبعت هذا الانزياح السياسي السّلس والجدل الحاصل داخليا وخارجيا حول شرعية المرور إلى الوضعية الجديدة في المشهد السياسي يمضي بنا السيد رئيس الجمهورية في قافلته بالسّرعة القصوى ليضع الجميع أمام أول محطّة من محطّات مشروعه السّياسي لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشّعب وفقا لفلسفة جديدة يفوض من خلالها الشّعب صاحب السّيادة الوظيفة التّشريعية لمجلس نيابي أول " مجلس نواب الشعب " ومجلس نيابي ثاني " المجلس الوطني للجهات والأقاليم " عن طريق الانتخاب المباشر العام والحر على الأفراد وفقا لتقسيم جديد للدوائر الانتخابية التي حدّدت بـ151 دائرة داخليا و10 دوائر على مستوى الخارج . وقد جاء المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 الذي يتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء حاملا لمقاربة جديدة تؤسس لنظام سياسي يلغي دور الأحزاب في تشكيل المشهد السياسي القادم ويجعل من الغرفة الأولى للبرلمان فضاء يمارس فيه النائب وظيفته التّشريعية وفقا لصلاحيات محدّدة يضبطها الدستور .ويعطي للغرفة الثّانية أي المجلس الوطني للجهات والأقاليم بعدا تنمويا لضمان التّوازن بين الجهات ... ويبدو أن هذه المقاربة جاءت لتقطع نهائيا مع ما يسميه رئيس الجمهورية بالعبث حينما تشظّت السلطة السياسية وتبرأت الأحزاب الحاكمة من مسؤوليتها في ما يعرف بالعشرية السوداء وتحوّل المجلس النّيابي إلى حلبة صراع بين الفاعلين السّياسيين ، وسادت الفوضى واستفحل الفساد وترذّلّ العمل البرلماني وهو ما عجّل باتخاذ رئيس الجمهورية لجملة من القرارات ..
ونحن نتطلّع لرؤية صورة جديدة لتونس ما بعد 25 جويلية علينا أن نمرّ أولا من مداخل النصوص والمراسيم التي أصدرها رئيس الجمهورية لتشكيل المشهد السياسي القادم ونرصد المعالجة السياسية للازمات التي تعيشها البلاد والضّمانات الكفيلة بحماية الدّيمقراطية في ظل نظام رئاسي سلطوي وإخراج سياسي ضبابي في مجمله .
قد لا يختلف إثنان على أن المكسب الوحيد الذي جناه التونسيون من حراك 2011 هو الحرية والديمقراطية وهي مضامين لمسيرة طويلة من نضال التّونسيين ... وقد أجمع المحلّلون على أن ما أقدم عليه الرئيس سعيد يهدّد هذا المكسب باعتبار فردية السّلطة في النّظام الرئاسي واستئثار السّلطة التنفيذية بجميع الصّلاحيات والوظائف ... ونذهب نحن في قراءتنا لنص الدستور والتّعديلات التي أدخلت على القانون الانتخابي بالمرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 إلى رصد بعض الملامح لطبيعة النظام السياسي على الأقل من خلال صورة البرلمان المرتقب ومهام النّائب خاصّة وأنّ البلاد تستعد لإجراء انتخابات تشريعية جديدة في شهر ديسمبر القادم ...
صورة البرلمان في النظام السياسي التونسي الجديد .
تبرز صورة البرلمان في النظام السياسي التونسي الجديد من خلال جملة الفصول التي تواترت في الباب الثالث من الدستور على امتداد ثلاثون فصل تمّ تقسيمها إلى قسمين ، قسم أول حول مجلس نواب الشعب واستأثر بأغلبية الفصول وقسم ثان حول المجلس الوطني للجهات والأقاليم ... وقد حملت هذه النصوص من بدايتها ( الفصل 56 ) ملامح فلسفة جديدة تتحدث عن وظيفة تشريعية يفوضها الشعب صاحب السيادة لنواب الغرفتين في غياب مضامين السلطة التي تمّ سحبها من المجلس النيابي ... ويبدو من خلال عديد الفصول الواردة في باب " الوظيفة التشريعية " أنّ المجلسين سيكون دورهما محدودا في مجال العمل التشريعي التّقني وفقا لضوابط وقيود دستورية كثيرة .
1 ) محدودية الوظيفة التّشريعية للبرلمان .
إذا كان النظام الرئاسي يعتمد أساسا على مبدأ الفصل بين السّلط فإن ما جاء به دستور 2022 يعمق هذا الفصل ..وقد ورد في الفصل 67 منه أن مجلس نواب الشعب يمارس الوظيفة التّشريعية في حدود الاختصاصات المخوّلة له في هذا الدستور و هو ما يحيل على فكرة التضييق والحصر وقد يكون هذا الإجراء الدستوري ردّا مباشرا على ما كان يحدث في البرلمان المنحل السابق والذي اعتبره رئيس الجمهورية في 25 جويلية خطرا داهما عندما فعّل الفصل 80 من دستور 2014 حيث شهدت تلك الفترة تحكم مطلق للأغلبية البرلمانية في مفاصل السلطة التنفيذية ...وكذلك تحكّم نواب الأحزاب الحاكمة في السّلط الجهوية والإدارات المركزية والمؤسسات الخاصة وتمكين المقربين منهم من امتيازات خدمية كبيرة وضرب المؤسسات العمومية... والتّحكم في السوق الدّاخلية والخارجية من خلال إبرام الصّفقات وعقود الاستثمار مع جهات داعمة للأحزاب الحاكمة ... وإبرام الاتفاقيات بطرق مشبوهة وفي أوقات مثيرة مع جهات هي الأخرى مشبوهة ... وتوفير الإطار التّشريعي لتكوين الجمعيات والتي يعرف الجميع الأدوار التي قامت بها تلك في تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ...هذا بالإضافة إلى أنّ البرلمان أصبح سوق لشراء الأصوات لتوفير النصاب القانوني لتمرير مشاريع القوانين والاتفاقيات ... ومن يتحصل على امتياز ما يغادر كتلته ليلتحق بكتلة أخرى ...ومسرحا للعنف وترذيل الحياة السّياسية وتمريغ هبة الدولة داخله ... وتسويق صور أضرت بسمعة البلاد في عديد المجالات ... يتمتّع النّواب بحصانة تامة في فعل ما يريدون ويتصرفون داخل وخارج المجلس بعنجهية وتسلط تحت حماية النظام الداخلي للبرلمان ... وتجاوزوا بذلك دورهم التشريعي والرقابي ليتدخلوا بشكل سافر في أعمال السلطة التنفيذية ويمارسون البلطجة السّياسية في الجهات فيعطّلون ما يريدون تعطيله ويمرّرون ما يرغبون في تمريره... ولعلّ ما ورد من فصول في دستور 2022 يؤكّد هذا التوجّه لتحديد مهام المجلس النّيابي في إطار الوظيفة التّشريعية التي يختصّ بها .
وتبرز حدود هذه الوظيفة في بعيدين: تضييق على مضامين مشاريع القوانين التي يتقدم بها النائب .. وتضييق على الدور الرقابي الذي يمارسه النّائب على السلطة التنفيذية ..
أ - تضييقات في المجال التّشريعي :
إنّ المتمعنّ في نصوص الباب المتعلّق بالوظيفية التشريعية في الدستور يدرك أنّ المشرّع صاغ بشكل واضح اختصاصات البرلمان وحدود المهام الموكلة للنائب من خلال وظيفته التّشريعية حيث يرفض الفصل 69 من الدستور أي مشروع قانون أو تنقيح قوانين نافذة من شأنه أنّ يمسّ بالتّوازنات المالية للدّولة...كما يسحب الفصل 68 من الدستور من النواب مهمة تقديم مشاريع قوانين تتعلق بالموافقة على المعاهدات ومشاريع قوانين المالية ويجعل هذه المشاريع من الاختصاصات الحصريّة لرئيس الجمهورية الذي يمكّنه الدستور من الدفع بعدم قبول أي مشروع قانون أو مشروع تعديل يتضمّن تدخّلا في مجال السلطة الترتيبية العامة التي يعتبرها المشرع هي الأخرى من الاختصاصات الحصريّة لرئيس الجمهورية كما يؤكّد ذلك الفصل 76 من الدستور ... وينحصر الدّور التّشريعي للبرلمان في المصادقة على المعاهدات التّجارية والخاصّة وتلك التي تتعلّق بالتّعهدات المالية للدّولة والمصادقة كذلك على مشاريع قوانين المالية وغلق الميزانية ... ويمكن تنفيذ مشروع ميزانية الدّولة حتى إذا لم تتم المصادقة عليها في الوقت المخصّص لها ... فالنّائب مطالب بتقديم مشاريع قوانين لا تتعارض مع التّوازنات المالية والاقتصادية للدّولة ولا تخرج عن دائرة سياستها العامّة التي يضبطها رئيس الجمهورية بحيث كلّ مشاريع القوانين التي تخالف ذلك تسقط وترفض ولا تقبل ... وفي كلّ الحالات يمارس مجلس نواب الشّعب الوظيفة التّشريعية في حدود الاختصاصات المخوّلة له حسب الفصل 67 من الدستور... كما تسحب هذه التضييقات على المهام الرقابية للبرلمان .
ب - إكراهات في المجال الرّقابي .
رغم فردية السلطة التنفيذية في دستور 2022 وعلى رأسها رئيس الجمهورية الذي يتولّى وضع السّياسة العامة للدّولة ويشرف على تنفيذها بمساعدة حكومة تتكوّن من وزراء تكون مسؤولة أمام الرئيس فهو الذين يعينهم بالتّشاور مع رئيس الحكومة وهو الذي يعزلهم ... إلاّ أن بعض الفصول من الدستور أعطت بعض الصّلاحيات والمهام الرقّابية لمجلس نواب الشعب لأعمال الحكومة في إطار التّعاون بين الوظيفتين التّشريعية والتّنفيذية وتناسبا مع ما ورد في الفصل 114 من الدستور الذي يعطي الحق لأعضاء الحكومة في الحضور بمجلس نواب الشعب أو المجلس الوطني للجهات والأقاليم سواء في جلساتهم العامة أو ضمن أعمال اللّجان ... ولكن هذا التناسب يختلّ عندما نصل إلى تحديد هذه المهام الرقابية للبرلمان ومضامينها التي تتمثّل أساسا كما ورد في الفقرة الثانية بنفس الفصل 114 في تمكين النّواب من التّوجه بأسئلة كتابية أو شفاهية لأعضاء الحكومة ... وللمجلسين أيضا أن يعارضا الحكومة بتوجيه لائحة لوم كما جاء في الفصي 115 إذا تبينّ أنّ أعمال الحكومة ونشاطاتها تخالف السّياسة العامة للدّولة والاختيارات الاساسيّة المنصوص عليها بالدّستور التي ضبطها وحدّدها رئيس الجمهورية... ولهم كذلك الحق في الطعن في عدم دستورية بعض القوانين أمام المحكمة الدّستورية خدمة لأحكام الدّستور... فنواب المجلسين هنا هم من يسهرون على مراقبة تنفيذ الحكومة للسّياسة العامة للدّولة والسّهر على دستورية القوانين ... إذ يبدو جليا أنّ البرلمان بغرفتيه في خدمة ما يضبطه رئيس الجمهورية من سياسات واختيارات وهو ما لا يعطي للدور الرّقابي أي دور تعديلي أو معارض لسياسات الدّولة...
2) محاصرة نشاط النّائب و سلوكه .
ورغم هذا التّقييد والاكراهات في الوظيفة التّشريعية والرقابية للنائب إلاّ أنّ الدستور تمادى في محاصرة العمل النّيابي من حيث ضبط مدوّنة سلوك للنائب إن صح التّعبير والتّهديد بسحب الوكالة منه عند الإخلال بواجباته ومهامه النيّابية .
أ - ضبط مدونة سلوك للنائب :
يحجر دستور 2022 على النائب ممارسة أي نشاط آخر مواز لوظيفته التّشريعية سواء كان ذلك مجانا أو بمقابل بحيث عليه أن يستثمر كلّ جهده ووقته في العمل التّشريعي والرقابي كما يحدده الدستور وقد فرض الفصل 72 منه أن ينتخب مجلس نواب الشّعب من بين أعضائه لجانا قارة تعمل دون انقطاع حتى أثناء عطلة المجلس و قد ننتظر الإجراءات الترتيبية لهذا الفصل في النظام الداخلي للمجلس أو في نصوص قانونية ترتيبية أخرى ...كما أعاد هذا الدّستور صياغة فكرة الحصانة البرلمانية بنفس التوّجه والفلسفة حيث يحتمي النّائب بحصانته في حالة ممارسة مهامه النّيابية داخل المجلس فقط ، معنى ذلك أن النّائب إذا اقترف سلوكا موجبا للمساءلة القانونية خارج المجلس يفقد آليا الحصانة ويكون عرضة للتّتبع والمحاكمة ...كما لا يتمتّع النائب حسب الفصل 66 من الدّستور بالحصانة البرلمانية إذا صدرت منه أفعالا تدخل ضمن جرائم القذف والثّلب وتبادل العنف داخل المجلس أو خارجه أو بسبب تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس... ويبدو أن هذا الفصل جاء كردة فعل على ما كان يحدث في البرلمان السابق من عنف وترذيل وتعطيل للعمل التّشريعي...
ب - التّهديد بسحب الوكالة من النائب :
تضمّن دستور 2022 إجراء جديدا يتعلّق بحق النّاخبين في سحب الوكالة من النّائب الذي انتخبوه في صورة إخلاله بواجب النّزاهة كما جاء ذلك في الفصل 39 منه أو التّقصير البيّن في القيام بمهامه النّيابية أو عدم بذل عناية كافية لتحقيق البرنامج الذي كان قد تقدّم به لناخبيه أثناء الحملة الانتخابية و التّي تمّ تدوينه في وثيقة التّزكية التي صادق عليها النّاخب... هذا التهديد بسحب الوكالة من النائب جاء مشروطا ومحددا بضوابط إجرائية بحيث يتقدّم عُشُرُ النّاخبين بعريضة سحب الوكالة ممضاة ومعلّلة من قبل النّاخبين المسجّلين بالدّائرة الانتخابية التي ترشح بها النّائب موضوع عريضة السّحب إلى الهيئة الفرعية للانتخابات ... وقد مكّن الدستور النّائب المهدّد بسحب الوكالة بإمكانية الطّعن في قرار الهيئة المتعلق بقبول العريضة أمّام الدائرة الابتدائية للمحكمة الإدارية ترابيا ... كما منع الدّستور أن تقدّم عرائض سحب الوكالة قبل انقضاء الدّورة النّيابية الأولى أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدّة النّيابية ..وكذلك اعتبر أن عريضة سحب الوكالة من النّائب لا تقدّم إلا مرّة واحدة طيلة المدّة النّيابية . ... وفي صورة تصويت الأغلبية المطلقة على عريضة سحب الوكالة يفقد النّائب المعني صفة النّائب ويعاين مكتب المجلس النّيابي الشّغور ويعلم الهيئة المستقلّة للانتخابات التي بناء على ذلك تضبط موعدا للانتخابات الجزئية ...
إن ما يرسخ في أذهاننا ونحن نغادر نص الدّستور أنّ النّظام السّياسي التّونسي الجديد بقدر ما تبدو فصوله تكرّس معاني الاستقلالية بين الوظيفتين التّشريعية والتنفيذية بقدر ما تخفي تبعيّة لجميع هذه الوظائف لخدمة السّياسة العامّة للدّولة التي يضبطها رئيس الجمهورية ويسهر الجميع دون استثناء على تنفيذها وحمايتها من أي تجاوزات .
الاستاذ توفيق الحافظي
ماجستير في الحقوق والعلوم السياسية وباحث في القانون الدستوري
تعيش البلاد التونسية هذه الأيام كما هو معلوم على وقع التّرشحات للانتخابات البرلمانية في صورتها الجديدة ... ورغم عمق الأزمة السياسية و الاجتماعية التي طبعت هذا الانزياح السياسي السّلس والجدل الحاصل داخليا وخارجيا حول شرعية المرور إلى الوضعية الجديدة في المشهد السياسي يمضي بنا السيد رئيس الجمهورية في قافلته بالسّرعة القصوى ليضع الجميع أمام أول محطّة من محطّات مشروعه السّياسي لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشّعب وفقا لفلسفة جديدة يفوض من خلالها الشّعب صاحب السّيادة الوظيفة التّشريعية لمجلس نيابي أول " مجلس نواب الشعب " ومجلس نيابي ثاني " المجلس الوطني للجهات والأقاليم " عن طريق الانتخاب المباشر العام والحر على الأفراد وفقا لتقسيم جديد للدوائر الانتخابية التي حدّدت بـ151 دائرة داخليا و10 دوائر على مستوى الخارج . وقد جاء المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 الذي يتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء حاملا لمقاربة جديدة تؤسس لنظام سياسي يلغي دور الأحزاب في تشكيل المشهد السياسي القادم ويجعل من الغرفة الأولى للبرلمان فضاء يمارس فيه النائب وظيفته التّشريعية وفقا لصلاحيات محدّدة يضبطها الدستور .ويعطي للغرفة الثّانية أي المجلس الوطني للجهات والأقاليم بعدا تنمويا لضمان التّوازن بين الجهات ... ويبدو أن هذه المقاربة جاءت لتقطع نهائيا مع ما يسميه رئيس الجمهورية بالعبث حينما تشظّت السلطة السياسية وتبرأت الأحزاب الحاكمة من مسؤوليتها في ما يعرف بالعشرية السوداء وتحوّل المجلس النّيابي إلى حلبة صراع بين الفاعلين السّياسيين ، وسادت الفوضى واستفحل الفساد وترذّلّ العمل البرلماني وهو ما عجّل باتخاذ رئيس الجمهورية لجملة من القرارات ..
ونحن نتطلّع لرؤية صورة جديدة لتونس ما بعد 25 جويلية علينا أن نمرّ أولا من مداخل النصوص والمراسيم التي أصدرها رئيس الجمهورية لتشكيل المشهد السياسي القادم ونرصد المعالجة السياسية للازمات التي تعيشها البلاد والضّمانات الكفيلة بحماية الدّيمقراطية في ظل نظام رئاسي سلطوي وإخراج سياسي ضبابي في مجمله .
قد لا يختلف إثنان على أن المكسب الوحيد الذي جناه التونسيون من حراك 2011 هو الحرية والديمقراطية وهي مضامين لمسيرة طويلة من نضال التّونسيين ... وقد أجمع المحلّلون على أن ما أقدم عليه الرئيس سعيد يهدّد هذا المكسب باعتبار فردية السّلطة في النّظام الرئاسي واستئثار السّلطة التنفيذية بجميع الصّلاحيات والوظائف ... ونذهب نحن في قراءتنا لنص الدستور والتّعديلات التي أدخلت على القانون الانتخابي بالمرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 إلى رصد بعض الملامح لطبيعة النظام السياسي على الأقل من خلال صورة البرلمان المرتقب ومهام النّائب خاصّة وأنّ البلاد تستعد لإجراء انتخابات تشريعية جديدة في شهر ديسمبر القادم ...
صورة البرلمان في النظام السياسي التونسي الجديد .
تبرز صورة البرلمان في النظام السياسي التونسي الجديد من خلال جملة الفصول التي تواترت في الباب الثالث من الدستور على امتداد ثلاثون فصل تمّ تقسيمها إلى قسمين ، قسم أول حول مجلس نواب الشعب واستأثر بأغلبية الفصول وقسم ثان حول المجلس الوطني للجهات والأقاليم ... وقد حملت هذه النصوص من بدايتها ( الفصل 56 ) ملامح فلسفة جديدة تتحدث عن وظيفة تشريعية يفوضها الشعب صاحب السيادة لنواب الغرفتين في غياب مضامين السلطة التي تمّ سحبها من المجلس النيابي ... ويبدو من خلال عديد الفصول الواردة في باب " الوظيفة التشريعية " أنّ المجلسين سيكون دورهما محدودا في مجال العمل التشريعي التّقني وفقا لضوابط وقيود دستورية كثيرة .
1 ) محدودية الوظيفة التّشريعية للبرلمان .
إذا كان النظام الرئاسي يعتمد أساسا على مبدأ الفصل بين السّلط فإن ما جاء به دستور 2022 يعمق هذا الفصل ..وقد ورد في الفصل 67 منه أن مجلس نواب الشعب يمارس الوظيفة التّشريعية في حدود الاختصاصات المخوّلة له في هذا الدستور و هو ما يحيل على فكرة التضييق والحصر وقد يكون هذا الإجراء الدستوري ردّا مباشرا على ما كان يحدث في البرلمان المنحل السابق والذي اعتبره رئيس الجمهورية في 25 جويلية خطرا داهما عندما فعّل الفصل 80 من دستور 2014 حيث شهدت تلك الفترة تحكم مطلق للأغلبية البرلمانية في مفاصل السلطة التنفيذية ...وكذلك تحكّم نواب الأحزاب الحاكمة في السّلط الجهوية والإدارات المركزية والمؤسسات الخاصة وتمكين المقربين منهم من امتيازات خدمية كبيرة وضرب المؤسسات العمومية... والتّحكم في السوق الدّاخلية والخارجية من خلال إبرام الصّفقات وعقود الاستثمار مع جهات داعمة للأحزاب الحاكمة ... وإبرام الاتفاقيات بطرق مشبوهة وفي أوقات مثيرة مع جهات هي الأخرى مشبوهة ... وتوفير الإطار التّشريعي لتكوين الجمعيات والتي يعرف الجميع الأدوار التي قامت بها تلك في تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ...هذا بالإضافة إلى أنّ البرلمان أصبح سوق لشراء الأصوات لتوفير النصاب القانوني لتمرير مشاريع القوانين والاتفاقيات ... ومن يتحصل على امتياز ما يغادر كتلته ليلتحق بكتلة أخرى ...ومسرحا للعنف وترذيل الحياة السّياسية وتمريغ هبة الدولة داخله ... وتسويق صور أضرت بسمعة البلاد في عديد المجالات ... يتمتّع النّواب بحصانة تامة في فعل ما يريدون ويتصرفون داخل وخارج المجلس بعنجهية وتسلط تحت حماية النظام الداخلي للبرلمان ... وتجاوزوا بذلك دورهم التشريعي والرقابي ليتدخلوا بشكل سافر في أعمال السلطة التنفيذية ويمارسون البلطجة السّياسية في الجهات فيعطّلون ما يريدون تعطيله ويمرّرون ما يرغبون في تمريره... ولعلّ ما ورد من فصول في دستور 2022 يؤكّد هذا التوجّه لتحديد مهام المجلس النّيابي في إطار الوظيفة التّشريعية التي يختصّ بها .
وتبرز حدود هذه الوظيفة في بعيدين: تضييق على مضامين مشاريع القوانين التي يتقدم بها النائب .. وتضييق على الدور الرقابي الذي يمارسه النّائب على السلطة التنفيذية ..
أ - تضييقات في المجال التّشريعي :
إنّ المتمعنّ في نصوص الباب المتعلّق بالوظيفية التشريعية في الدستور يدرك أنّ المشرّع صاغ بشكل واضح اختصاصات البرلمان وحدود المهام الموكلة للنائب من خلال وظيفته التّشريعية حيث يرفض الفصل 69 من الدستور أي مشروع قانون أو تنقيح قوانين نافذة من شأنه أنّ يمسّ بالتّوازنات المالية للدّولة...كما يسحب الفصل 68 من الدستور من النواب مهمة تقديم مشاريع قوانين تتعلق بالموافقة على المعاهدات ومشاريع قوانين المالية ويجعل هذه المشاريع من الاختصاصات الحصريّة لرئيس الجمهورية الذي يمكّنه الدستور من الدفع بعدم قبول أي مشروع قانون أو مشروع تعديل يتضمّن تدخّلا في مجال السلطة الترتيبية العامة التي يعتبرها المشرع هي الأخرى من الاختصاصات الحصريّة لرئيس الجمهورية كما يؤكّد ذلك الفصل 76 من الدستور ... وينحصر الدّور التّشريعي للبرلمان في المصادقة على المعاهدات التّجارية والخاصّة وتلك التي تتعلّق بالتّعهدات المالية للدّولة والمصادقة كذلك على مشاريع قوانين المالية وغلق الميزانية ... ويمكن تنفيذ مشروع ميزانية الدّولة حتى إذا لم تتم المصادقة عليها في الوقت المخصّص لها ... فالنّائب مطالب بتقديم مشاريع قوانين لا تتعارض مع التّوازنات المالية والاقتصادية للدّولة ولا تخرج عن دائرة سياستها العامّة التي يضبطها رئيس الجمهورية بحيث كلّ مشاريع القوانين التي تخالف ذلك تسقط وترفض ولا تقبل ... وفي كلّ الحالات يمارس مجلس نواب الشّعب الوظيفة التّشريعية في حدود الاختصاصات المخوّلة له حسب الفصل 67 من الدستور... كما تسحب هذه التضييقات على المهام الرقابية للبرلمان .
ب - إكراهات في المجال الرّقابي .
رغم فردية السلطة التنفيذية في دستور 2022 وعلى رأسها رئيس الجمهورية الذي يتولّى وضع السّياسة العامة للدّولة ويشرف على تنفيذها بمساعدة حكومة تتكوّن من وزراء تكون مسؤولة أمام الرئيس فهو الذين يعينهم بالتّشاور مع رئيس الحكومة وهو الذي يعزلهم ... إلاّ أن بعض الفصول من الدستور أعطت بعض الصّلاحيات والمهام الرقّابية لمجلس نواب الشعب لأعمال الحكومة في إطار التّعاون بين الوظيفتين التّشريعية والتّنفيذية وتناسبا مع ما ورد في الفصل 114 من الدستور الذي يعطي الحق لأعضاء الحكومة في الحضور بمجلس نواب الشعب أو المجلس الوطني للجهات والأقاليم سواء في جلساتهم العامة أو ضمن أعمال اللّجان ... ولكن هذا التناسب يختلّ عندما نصل إلى تحديد هذه المهام الرقابية للبرلمان ومضامينها التي تتمثّل أساسا كما ورد في الفقرة الثانية بنفس الفصل 114 في تمكين النّواب من التّوجه بأسئلة كتابية أو شفاهية لأعضاء الحكومة ... وللمجلسين أيضا أن يعارضا الحكومة بتوجيه لائحة لوم كما جاء في الفصي 115 إذا تبينّ أنّ أعمال الحكومة ونشاطاتها تخالف السّياسة العامة للدّولة والاختيارات الاساسيّة المنصوص عليها بالدّستور التي ضبطها وحدّدها رئيس الجمهورية... ولهم كذلك الحق في الطعن في عدم دستورية بعض القوانين أمام المحكمة الدّستورية خدمة لأحكام الدّستور... فنواب المجلسين هنا هم من يسهرون على مراقبة تنفيذ الحكومة للسّياسة العامة للدّولة والسّهر على دستورية القوانين ... إذ يبدو جليا أنّ البرلمان بغرفتيه في خدمة ما يضبطه رئيس الجمهورية من سياسات واختيارات وهو ما لا يعطي للدور الرّقابي أي دور تعديلي أو معارض لسياسات الدّولة...
2) محاصرة نشاط النّائب و سلوكه .
ورغم هذا التّقييد والاكراهات في الوظيفة التّشريعية والرقابية للنائب إلاّ أنّ الدستور تمادى في محاصرة العمل النّيابي من حيث ضبط مدوّنة سلوك للنائب إن صح التّعبير والتّهديد بسحب الوكالة منه عند الإخلال بواجباته ومهامه النيّابية .
أ - ضبط مدونة سلوك للنائب :
يحجر دستور 2022 على النائب ممارسة أي نشاط آخر مواز لوظيفته التّشريعية سواء كان ذلك مجانا أو بمقابل بحيث عليه أن يستثمر كلّ جهده ووقته في العمل التّشريعي والرقابي كما يحدده الدستور وقد فرض الفصل 72 منه أن ينتخب مجلس نواب الشّعب من بين أعضائه لجانا قارة تعمل دون انقطاع حتى أثناء عطلة المجلس و قد ننتظر الإجراءات الترتيبية لهذا الفصل في النظام الداخلي للمجلس أو في نصوص قانونية ترتيبية أخرى ...كما أعاد هذا الدّستور صياغة فكرة الحصانة البرلمانية بنفس التوّجه والفلسفة حيث يحتمي النّائب بحصانته في حالة ممارسة مهامه النّيابية داخل المجلس فقط ، معنى ذلك أن النّائب إذا اقترف سلوكا موجبا للمساءلة القانونية خارج المجلس يفقد آليا الحصانة ويكون عرضة للتّتبع والمحاكمة ...كما لا يتمتّع النائب حسب الفصل 66 من الدّستور بالحصانة البرلمانية إذا صدرت منه أفعالا تدخل ضمن جرائم القذف والثّلب وتبادل العنف داخل المجلس أو خارجه أو بسبب تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس... ويبدو أن هذا الفصل جاء كردة فعل على ما كان يحدث في البرلمان السابق من عنف وترذيل وتعطيل للعمل التّشريعي...
ب - التّهديد بسحب الوكالة من النائب :
تضمّن دستور 2022 إجراء جديدا يتعلّق بحق النّاخبين في سحب الوكالة من النّائب الذي انتخبوه في صورة إخلاله بواجب النّزاهة كما جاء ذلك في الفصل 39 منه أو التّقصير البيّن في القيام بمهامه النّيابية أو عدم بذل عناية كافية لتحقيق البرنامج الذي كان قد تقدّم به لناخبيه أثناء الحملة الانتخابية و التّي تمّ تدوينه في وثيقة التّزكية التي صادق عليها النّاخب... هذا التهديد بسحب الوكالة من النائب جاء مشروطا ومحددا بضوابط إجرائية بحيث يتقدّم عُشُرُ النّاخبين بعريضة سحب الوكالة ممضاة ومعلّلة من قبل النّاخبين المسجّلين بالدّائرة الانتخابية التي ترشح بها النّائب موضوع عريضة السّحب إلى الهيئة الفرعية للانتخابات ... وقد مكّن الدستور النّائب المهدّد بسحب الوكالة بإمكانية الطّعن في قرار الهيئة المتعلق بقبول العريضة أمّام الدائرة الابتدائية للمحكمة الإدارية ترابيا ... كما منع الدّستور أن تقدّم عرائض سحب الوكالة قبل انقضاء الدّورة النّيابية الأولى أو خلال الأشهر الستة الأخيرة من المدّة النّيابية ..وكذلك اعتبر أن عريضة سحب الوكالة من النّائب لا تقدّم إلا مرّة واحدة طيلة المدّة النّيابية . ... وفي صورة تصويت الأغلبية المطلقة على عريضة سحب الوكالة يفقد النّائب المعني صفة النّائب ويعاين مكتب المجلس النّيابي الشّغور ويعلم الهيئة المستقلّة للانتخابات التي بناء على ذلك تضبط موعدا للانتخابات الجزئية ...
إن ما يرسخ في أذهاننا ونحن نغادر نص الدّستور أنّ النّظام السّياسي التّونسي الجديد بقدر ما تبدو فصوله تكرّس معاني الاستقلالية بين الوظيفتين التّشريعية والتنفيذية بقدر ما تخفي تبعيّة لجميع هذه الوظائف لخدمة السّياسة العامّة للدّولة التي يضبطها رئيس الجمهورية ويسهر الجميع دون استثناء على تنفيذها وحمايتها من أي تجاوزات .