إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

المحكمة الابتدائية بتونس تكيّف إعفاء قاض بأنّه اعتداء مادّي

بقلم:  إبراهيم البَرتاجي(*)              

    يحقّ للمواطن، وللمواطن المظلوم بشكل خاصّ، أن يكون فخورا بقضاة بلاده الّذين نراهم، في غالبيتهم السّاحقة، لا يدّخرون وسعا لإقامة العدل وإيصال الحقوق إلى أصحابها، بالرّغم من ظروف العمل الّتي أقلّ ما يقال فيها أنّها ليست مريحة. فيوما بعد يوم، نتأكّد أنّ السّلطة القضائية، بأجنحتها المختلفة وفي مقدّمتها القضاء العدلي، هي المجسّم الأول لهيبة الدّولة ووطنيتها وحرصها على رعاية مواطنيها. هذا ما يجول بالخاطر عند الاطّلاع على الحكم الاستعجالي الصّادر عن المحكمة الابتدائية بتونس في 22 أوت 2022 والّذي كيّفت فيه المحكمة، بجرأة موزونة، إعفاء قاض بأنّه اعتداء مادّي ينبغي أن يوضع حدّ له فورا.

    تعلّق الأمر بقاض ممّن شملهم الإعفاء بمقتضى أمر 1 جوان 2022. وقد صدر هذا الأمر يوم تنقيح مرسوم 12 فيفري 2022 المتعلّق بإحداث المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء، وهو تنقيح تمّ بهدف فتح الباب واسعا أمام رئيس الجمهورية لإعفاء القضاة متى عنّ له ذلك. فمنذ هذا التّنقيح، أصبح الفصل 20 من المرسوم المذكور ينصّ على ما يلي: " لرئيس الجمهورية، في صورة التّأكّد أو المساس بالأمن العامّ أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كلّ قاض تعلّق به ما من شأنه أن يمسّ من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره. " وكان أن أدّى هذا التّطبيق الأوّل لمرسوم 12 فيفري 2022 بعد تنقيحه إلى إعفاء 57 قاضيا تحصّل 48 منهم، بتاريخ 9 أوت 2022، على قرارات في إيقاف التّنفيذ من طرف المحكمة الإدارية (انظر الشّروق، 15 أوت 2022، ص 11).

    التجأ هذا القاضي إلى القضاء الاستعجالي المدني طالبا منه التّصريح بأنّ  أمر الإعفاء هو قرار معدوم وهو بمثابة الاعتداء المادّي الّذي لا يمتّ للوظيفة الإدارية بصلة ولا يمكن أن يترتّب عنه أيّ أثر قانوني، ممّا يتعيّن معه إلزام الإدارة بإرجاع المدّعي إلى سالف عمله كما كان الأمر قبل قرار الإعفاء. وقدّم الطّاعن في هذا الشّأن، عن طريق محاميه، عريضة ثريّة تفوح منها رائحة العمل الجدّي والبحث المعمّق. اهتمّت المحكمة في هذا الحكم بثلاث مسائل وهي مسألة تحصين العمل المشتكى منه من كلّ طعن ومسألة الاختصاص القضائي وأخيرا مسألة أحقّية الطّالب في الحماية القضائية.

مسألة التّحصين من الطّعن

    كانت المحكمة مدعوّة بداية إلى الإجابة على دفع أوّلي يتعلّق بحقيقة تحصين أمر الإعفاء من كلّ طعن. ذلك أنّ الفصل 20 من مرسوم 12 فيفري 2022 بعد تنقيحه في 1 جوان 2022 نصّ على أنّه  تُثار الدعوى العمومية ضدّ كلّ قاض يتمّ إعفاؤه، ثمّ أضاف أنّه " لا يمكن الطّعن في الأمر الرّئاسي المتعلّق بإعفاء قاض إلّا بعد صدور حكم جزائي باتّ في الأفعال المنسوبة إليه. " لم تتوقّف المحكمة طويلا عند هذا الدّفع، فعندما يتجاوز النّصّ كلّ حدود المعقولية، يكون من السّهل على القاضي إيجاد السّبيل لعدم تطبيقه. وقد سارت المحكمة الإدارية في هذا النّهج عندما قبلت النّظر في قضايا توقيف التّنفيذ المذكورة أعلاه.

    وفي هذا الشّأن، اعتمدت المحكمة الابتدائية في الحكم الماثل تمشّيا مقنعا بالاستناد إلى عنصرين. أوّلهما هو أنّ " الطّلب الحالي لا يشكّل طعنا في قرار إداري أو البتّ في مشروعيته وإنّما تعلّق بطلب التّدخّل العاجل لاتّخاذ تدابير وقتية لحفظ الحقوق والحدّ من الضّرر اللّاحق بالطّالب ". ولا شكّ أنّ مثل هذا التّدخّل هو من صميم عمل القاضي الاستعجالي الّذي أضحى من الرّكائز الأساسية لدولة القانون. أمّا العنصر الثّاني فمأتاه ما جاء في الفصل 108 من دستور 27 جانفي 2014 من أنّ حقّ التّقاضي وحقّ الدّفاع مضمونان. وكأنّ القاضي الاستعجالي يعتبر أنّ التّحصين الوارد بالفصل 20 المذكور سابقا مخالف للدّستور، لكنّه لم يصرّح بذلك وربّما قام بذلك لو كان قاضي أصل. ذلك أنّه في غياب قضاء دستوري، تعود رقابة دستورية مختلف النّصوص القانونية للقضاء العادي.

مسألة الاختصاص القضائي

    لم تكتف الإدارة بإثارة مسألة التّحصين، بل أثارت كذلك مسألة الاختصاص القضائي مدّعية انّه، بكلّ صفة، لا يمكن رفع مثل هذه القضايا إلّا أمام المحكمة الإدارية. ونستحضر هنا الفصل 3 من القانون الأساسي المؤرّخ في 3 جوان 1996 والمتعلّق بتنازع الاختصاص الّذي جاء فيه أنّه " ليس للمحاكم العدلية أن تنظر في المطالب الرّامية إلى إلغاء المقرّرات الإدارية ". لكن بما أنّه، حسب المحكمة، لا يمثّل الطّلب المقدّم طلب إلغاء، لا يمكن محاجّتها بما جاء في هذا الفصل. وكان بالإمكان الوصول إلى نفس النّتيجة بالقول هو طلب إلغاء، لكنّه يتعلّق بقرار معدوم ولا بقرار إداري حقيقي، ممّا لا يحول دون أن يتمّ النّظر فيه من طرف القاضي العدلي.

    وفي خصوص هذا الدّفع بعدم الاختصاص الحكمي، صرّحت المحكمة بما يفيد أنّه مرفوض شكلا، باعتبار أنّه قُدّم دون احترام الشّروط المضمّنة بالفصل 7 من قانون تنازع الاختصاص. لكن في الحقيقة، يجوز التّعامل مع هذا الدّفع كدفع عادي بعدم الاختصاص يجيب عنه القاضي المتعهّد بالقضية ولا يؤدّي إلى إحالة الملفّ إلى مجلس تنازع الاختصاص. وتؤكّد المحكمة في هذا الشّأن أنّ الأمر لا يتعلّق بالحكم على قرار إداري وذلك بقولها أنّ " الطّلب الحالي لم يرم للمسّ بقرار إداري أو البتّ في مدى مشروعيته وإنّما تعلّق بطلب التّدخّل المعجّل لإقرار وسيلة حمائية بهدف الحدّ من آثار محفوفة بالخطر والتّفاقم المحدق ". وأضافت ما يفيد أنّ القاضي الاستعجالي المدني مؤهّل أكثر من زميله الإداري للنّظر في مثل هذه المطالب. لكن لابدّ من الإشارة هنا أنّه، منذ تنقيح قانون المحكمة الإدارية في 3 جوان 1996، قطعت هذه المحكمة أشواطا في ميدان القضاء الاستعجالي بما في ذلك في خصوص حماية الحقوق والحرّيات. ونذكر هنا على سبيل المثال الحكم الاستعجالي الماجري الصّادر عن الدّائرة الابتدائية الخامسة في 3 جوان 2021، والمتعلّق بمواطن طُبّق في شأنه الإجراء الحدودي S 17 ومُنع من السّفر. وقد استندت فيه المحكمة إلى الفصل 24 من دستور 2014 وقضت بالإذن استعجاليا لوزير الداخلية برفع الإجراء الحدودي المسلّط على المدّعي.

    وفي نهاية الأمر، بنظرها في أصل الطّلب، تكون المحكمة قد أقرّت اختصاصها، وذلك عندما بيّنت أنّ الأمر يتعلّق باعتداء مادّي ((Voie de fait، تسلّط على المدّعي ويتعيّن على القاضي الاستعجالي أن يتصدّى له. وأوّل ما يشدّ الانتباه في هذا التّمشّي هو البعد الأكاديمي والبيداغوجي الّذي طبع حكم المحكمة الّذي وإن كان حكما استعجاليا، فإنّه لم يقع إعداده بتسرّع، بل بعد اطّلاع واسع على الفقه وفقه القضاء في تونس وخارجها. فكان درسا امتدّ عل 16 صفحة ينير سبيل كلّ من يريد التّعرّف عل النّظام القضائي لتصرّفات الإدارة عندما تخرج كلّيا عن خدمة الصّالح العامّ وتتعسّف على الحقوق والحرّيات.

    بيّنت المحكمة أنّ الاعتداء المادّي هو العمل الّذي تأتيه الإدارة في تنكّر تامّ لمقوّمات الشّرعية ودون إمكانية ربطه بمتطلّبات الصّالح العامّ مع إلحاق ضرر بحقوق المواطن وحرّياته الأساسية. في هذه الحالة، تفقد الإدارة كلّ امتياز قضائي ممّا يجوز معه مقاضاتها كمتقاض عادي أمام القضاء العدلي. والملاحظ أنّه طوال الحكم لم تكيّف المحكمة قرار الإعفاء بأنّه قرار معدوم، وتفسير ذلك، في اعتقادنا، هو خوفها من اتّهامها بأنّها نظرت في قرار إداري دون وجه حقّ. لكنّه خوف مبالغ فيه، إذ يجوز تكييف العمل الصّادر عن الإدارة بأنّه قرار معدوم واعتداء مادّي في نفس الوقت. فهنالك تقاطع بين الصّنفين، إذ أنّ القرار المعدوم يمثّل اعتداء مادّيا إذا نتج عنه انتهاك للحقوق والحرّيات الأساسية، أي، بلغة أخرى، يمكن أن يتجسّم الاعتداء المادّي في قرار صادر عن الإدارة، يكون بالضّرورة من صنف القرارات المعدومة.

    وبالرّجوع إلى التّعليل المستفيض الّذي تميّز به هذا الحكم، لا يمكن إلّا أن نكون مقتنعين بالتّكييف الّذي أضفته المحكمة على تصرّف الإدارة، عندما اعتبرت أن إعفاء المدّعي بشكل تعسّفي وحرمانه تبعا لذلك من ممارسة حقّه في العمل لا يمكن أن يمثّل عملا إداريا يهدف لخدمة الصّالح العامّ، ممّا يجعل هذا العمل منتميا لصنف الاعتداءات المادّية. وعسى أن تتّبع المحكمة الإدارية نفس هذا النّهج كلّما تعلّق الأمر باعتداء صارخ على الحقوق والحرّيات الأساسية، كما هو الشّأن عندما يتمّ منع شخص من السّفر تبعا لتطبيق الإجراء الحدودي S 17. صحيح أنّ هذه المحكمة دأبت على التّصدّي لاعتماد هذا الإجراء سواء في إطار القضاء الاستعجالي كما هو الشّأن في حكم الماجري المذكور سابقا أو في إطار قضاء الإلغاء كما هو الشّأن في الحكم الابتدائي السّعيدي الصّادر في 3 ماي 2019، لكن لم يصل الأمر إلى الحديث عن القرار المعدوم أو عن الاعتداء المادّي، بالرّغم من أنّ التّعليل يوحي بذلك وبالرّغم من أنّ نظرية القرار المعدوم معتمدة من طرف هذه المحكمة منذ أمد بعيد (انظر الشّروق، 27 ماي 2022، ص 7).

مسألة أحقّية الطّالب في الحماية القضائية

    بعد حلّ مشكل التّحصين ومشكل الاختصاص، حدّدت المحكمة الإطار المناسب للمطلب الرّاهن وهو الفصل 201 من مجلّة المرافعات المدنية والتّجارية الّذي ينصّ على أنّه " يقع النّظر استعجاليا وبصفة مؤقّتة في جميع الحالات المتأكّدة بدون مساس بالأصل. " ولم يكن من العسير على المحكمة الإقرار بأنّ الأمر على درجة كبيرة من التّأكّد وذلك بالاستناد إلى عنصرين. يتمثّل أوّلهما في جسامة الخرق الحاصل للشّرعية المجسّمة خاصّة في الفصل 107 من دستور 2014 وجملة الضّمانات الّتي أقرّها للقضاة من خلال، خاصّة، تدخّل المجلس الأعلى للقضاء في خصوص كلّ ما يهمّ المسار المهني للقضاة. وقد جاء في حكمها ما يلي : " وحيث...أنّ تأديب القضاة وعزلهم أو إعفاءهم يرجع لجهة واحدة مختصّة حصريا في ذلك وهي المجلس الأعلى للقضاء وبقيام رئيس الجمهورية إصدار أمر في إعفاء القضاة دون المرور بالمجلس الأعلى للقضاء صاحب الاختصاص بما يجعل من التّصرّف المذكور يحمل من جسامة الخروقات ما يجعلها إعتداء مادّيا".

    أمّا العنصر الثّاني فيتمثّل في خطورة ما تعرّض له الطّالب، إذ وجد نفسه، بين عشيّة وضحاها، محروما من حقّه في العمل ودون مورد رزق، فضلا عن التّشويه الخطير الّذي لحق شرفه وسمعته، كلّ ذلك دون أن يعلم بالأسباب الموضوعية الّتي أدّت إلى اتّخاذ مثل هذا القرار الخطير والمُهين. وقد بيّنت المحكمة في هذا الشّأن أنّ إعفاء الطّالب بالشّكل الّذي تمّ به " من شأنه أن يشكّل اعتداء جسيما على حرمة الطّالب كفرد وسمعته كقاض وحقّه في العمل كما أنّ حرمانه من الأجر كمصدر للدّخل من شأنه الإضرار به مادّيا ويمسّ باستقرار الوضعيات والحقوق المكتسبة وهو ما يؤسّس لعنصر التّأكّد. "

    وتبعا لما سبق، أنصفت المحكمة المدّعي وذلك بأن قضت استعجاليا بإرجاعه إلى سالف عمله إلى أن يتمّ النّظر في وضعيته من طرف المجلس الأعلى للقضاء، علما وأنّ هذا النّظر يمكن أن يكون مسبوقا بتدخّل القاضي الجزائي. وتكون بذلك القاضية صاحبة الحكم محلّ التّعليق دخلت التّاريخ القضائي من الباب الواسع وكتبت صفحة في السّجلّ الذّهبي لدولة القانون، كما فعل زميلها الإداري عندما أصدر قرارات توقيف التّنفيذ المشار إليها أعلاها. وعسى أن تمثّل مثل هذه الأحكام دعوة للسّلطة التّنفيذية لترشيد ممارسة اختصاص الإعفاء والتّعيين، إذ الخوف كلّ الخوف من أن تمثّل هذه الممارسة الجانب الأوفر من الوظيفة الموكولة للسّلطة التّنفيذية.

                                                                       

 (*) أستاذ تعليم عال في القانون العامّ

المحكمة الابتدائية بتونس تكيّف إعفاء قاض بأنّه اعتداء مادّي

بقلم:  إبراهيم البَرتاجي(*)              

    يحقّ للمواطن، وللمواطن المظلوم بشكل خاصّ، أن يكون فخورا بقضاة بلاده الّذين نراهم، في غالبيتهم السّاحقة، لا يدّخرون وسعا لإقامة العدل وإيصال الحقوق إلى أصحابها، بالرّغم من ظروف العمل الّتي أقلّ ما يقال فيها أنّها ليست مريحة. فيوما بعد يوم، نتأكّد أنّ السّلطة القضائية، بأجنحتها المختلفة وفي مقدّمتها القضاء العدلي، هي المجسّم الأول لهيبة الدّولة ووطنيتها وحرصها على رعاية مواطنيها. هذا ما يجول بالخاطر عند الاطّلاع على الحكم الاستعجالي الصّادر عن المحكمة الابتدائية بتونس في 22 أوت 2022 والّذي كيّفت فيه المحكمة، بجرأة موزونة، إعفاء قاض بأنّه اعتداء مادّي ينبغي أن يوضع حدّ له فورا.

    تعلّق الأمر بقاض ممّن شملهم الإعفاء بمقتضى أمر 1 جوان 2022. وقد صدر هذا الأمر يوم تنقيح مرسوم 12 فيفري 2022 المتعلّق بإحداث المجلس الأعلى المؤقّت للقضاء، وهو تنقيح تمّ بهدف فتح الباب واسعا أمام رئيس الجمهورية لإعفاء القضاة متى عنّ له ذلك. فمنذ هذا التّنقيح، أصبح الفصل 20 من المرسوم المذكور ينصّ على ما يلي: " لرئيس الجمهورية، في صورة التّأكّد أو المساس بالأمن العامّ أو بالمصلحة العليا للبلاد، وبناء على تقرير معلّل من الجهات المخوّلة، إصدار أمر رئاسي يقضي بإعفاء كلّ قاض تعلّق به ما من شأنه أن يمسّ من سمعة القضاء أو استقلاليته أو حسن سيره. " وكان أن أدّى هذا التّطبيق الأوّل لمرسوم 12 فيفري 2022 بعد تنقيحه إلى إعفاء 57 قاضيا تحصّل 48 منهم، بتاريخ 9 أوت 2022، على قرارات في إيقاف التّنفيذ من طرف المحكمة الإدارية (انظر الشّروق، 15 أوت 2022، ص 11).

    التجأ هذا القاضي إلى القضاء الاستعجالي المدني طالبا منه التّصريح بأنّ  أمر الإعفاء هو قرار معدوم وهو بمثابة الاعتداء المادّي الّذي لا يمتّ للوظيفة الإدارية بصلة ولا يمكن أن يترتّب عنه أيّ أثر قانوني، ممّا يتعيّن معه إلزام الإدارة بإرجاع المدّعي إلى سالف عمله كما كان الأمر قبل قرار الإعفاء. وقدّم الطّاعن في هذا الشّأن، عن طريق محاميه، عريضة ثريّة تفوح منها رائحة العمل الجدّي والبحث المعمّق. اهتمّت المحكمة في هذا الحكم بثلاث مسائل وهي مسألة تحصين العمل المشتكى منه من كلّ طعن ومسألة الاختصاص القضائي وأخيرا مسألة أحقّية الطّالب في الحماية القضائية.

مسألة التّحصين من الطّعن

    كانت المحكمة مدعوّة بداية إلى الإجابة على دفع أوّلي يتعلّق بحقيقة تحصين أمر الإعفاء من كلّ طعن. ذلك أنّ الفصل 20 من مرسوم 12 فيفري 2022 بعد تنقيحه في 1 جوان 2022 نصّ على أنّه  تُثار الدعوى العمومية ضدّ كلّ قاض يتمّ إعفاؤه، ثمّ أضاف أنّه " لا يمكن الطّعن في الأمر الرّئاسي المتعلّق بإعفاء قاض إلّا بعد صدور حكم جزائي باتّ في الأفعال المنسوبة إليه. " لم تتوقّف المحكمة طويلا عند هذا الدّفع، فعندما يتجاوز النّصّ كلّ حدود المعقولية، يكون من السّهل على القاضي إيجاد السّبيل لعدم تطبيقه. وقد سارت المحكمة الإدارية في هذا النّهج عندما قبلت النّظر في قضايا توقيف التّنفيذ المذكورة أعلاه.

    وفي هذا الشّأن، اعتمدت المحكمة الابتدائية في الحكم الماثل تمشّيا مقنعا بالاستناد إلى عنصرين. أوّلهما هو أنّ " الطّلب الحالي لا يشكّل طعنا في قرار إداري أو البتّ في مشروعيته وإنّما تعلّق بطلب التّدخّل العاجل لاتّخاذ تدابير وقتية لحفظ الحقوق والحدّ من الضّرر اللّاحق بالطّالب ". ولا شكّ أنّ مثل هذا التّدخّل هو من صميم عمل القاضي الاستعجالي الّذي أضحى من الرّكائز الأساسية لدولة القانون. أمّا العنصر الثّاني فمأتاه ما جاء في الفصل 108 من دستور 27 جانفي 2014 من أنّ حقّ التّقاضي وحقّ الدّفاع مضمونان. وكأنّ القاضي الاستعجالي يعتبر أنّ التّحصين الوارد بالفصل 20 المذكور سابقا مخالف للدّستور، لكنّه لم يصرّح بذلك وربّما قام بذلك لو كان قاضي أصل. ذلك أنّه في غياب قضاء دستوري، تعود رقابة دستورية مختلف النّصوص القانونية للقضاء العادي.

مسألة الاختصاص القضائي

    لم تكتف الإدارة بإثارة مسألة التّحصين، بل أثارت كذلك مسألة الاختصاص القضائي مدّعية انّه، بكلّ صفة، لا يمكن رفع مثل هذه القضايا إلّا أمام المحكمة الإدارية. ونستحضر هنا الفصل 3 من القانون الأساسي المؤرّخ في 3 جوان 1996 والمتعلّق بتنازع الاختصاص الّذي جاء فيه أنّه " ليس للمحاكم العدلية أن تنظر في المطالب الرّامية إلى إلغاء المقرّرات الإدارية ". لكن بما أنّه، حسب المحكمة، لا يمثّل الطّلب المقدّم طلب إلغاء، لا يمكن محاجّتها بما جاء في هذا الفصل. وكان بالإمكان الوصول إلى نفس النّتيجة بالقول هو طلب إلغاء، لكنّه يتعلّق بقرار معدوم ولا بقرار إداري حقيقي، ممّا لا يحول دون أن يتمّ النّظر فيه من طرف القاضي العدلي.

    وفي خصوص هذا الدّفع بعدم الاختصاص الحكمي، صرّحت المحكمة بما يفيد أنّه مرفوض شكلا، باعتبار أنّه قُدّم دون احترام الشّروط المضمّنة بالفصل 7 من قانون تنازع الاختصاص. لكن في الحقيقة، يجوز التّعامل مع هذا الدّفع كدفع عادي بعدم الاختصاص يجيب عنه القاضي المتعهّد بالقضية ولا يؤدّي إلى إحالة الملفّ إلى مجلس تنازع الاختصاص. وتؤكّد المحكمة في هذا الشّأن أنّ الأمر لا يتعلّق بالحكم على قرار إداري وذلك بقولها أنّ " الطّلب الحالي لم يرم للمسّ بقرار إداري أو البتّ في مدى مشروعيته وإنّما تعلّق بطلب التّدخّل المعجّل لإقرار وسيلة حمائية بهدف الحدّ من آثار محفوفة بالخطر والتّفاقم المحدق ". وأضافت ما يفيد أنّ القاضي الاستعجالي المدني مؤهّل أكثر من زميله الإداري للنّظر في مثل هذه المطالب. لكن لابدّ من الإشارة هنا أنّه، منذ تنقيح قانون المحكمة الإدارية في 3 جوان 1996، قطعت هذه المحكمة أشواطا في ميدان القضاء الاستعجالي بما في ذلك في خصوص حماية الحقوق والحرّيات. ونذكر هنا على سبيل المثال الحكم الاستعجالي الماجري الصّادر عن الدّائرة الابتدائية الخامسة في 3 جوان 2021، والمتعلّق بمواطن طُبّق في شأنه الإجراء الحدودي S 17 ومُنع من السّفر. وقد استندت فيه المحكمة إلى الفصل 24 من دستور 2014 وقضت بالإذن استعجاليا لوزير الداخلية برفع الإجراء الحدودي المسلّط على المدّعي.

    وفي نهاية الأمر، بنظرها في أصل الطّلب، تكون المحكمة قد أقرّت اختصاصها، وذلك عندما بيّنت أنّ الأمر يتعلّق باعتداء مادّي ((Voie de fait، تسلّط على المدّعي ويتعيّن على القاضي الاستعجالي أن يتصدّى له. وأوّل ما يشدّ الانتباه في هذا التّمشّي هو البعد الأكاديمي والبيداغوجي الّذي طبع حكم المحكمة الّذي وإن كان حكما استعجاليا، فإنّه لم يقع إعداده بتسرّع، بل بعد اطّلاع واسع على الفقه وفقه القضاء في تونس وخارجها. فكان درسا امتدّ عل 16 صفحة ينير سبيل كلّ من يريد التّعرّف عل النّظام القضائي لتصرّفات الإدارة عندما تخرج كلّيا عن خدمة الصّالح العامّ وتتعسّف على الحقوق والحرّيات.

    بيّنت المحكمة أنّ الاعتداء المادّي هو العمل الّذي تأتيه الإدارة في تنكّر تامّ لمقوّمات الشّرعية ودون إمكانية ربطه بمتطلّبات الصّالح العامّ مع إلحاق ضرر بحقوق المواطن وحرّياته الأساسية. في هذه الحالة، تفقد الإدارة كلّ امتياز قضائي ممّا يجوز معه مقاضاتها كمتقاض عادي أمام القضاء العدلي. والملاحظ أنّه طوال الحكم لم تكيّف المحكمة قرار الإعفاء بأنّه قرار معدوم، وتفسير ذلك، في اعتقادنا، هو خوفها من اتّهامها بأنّها نظرت في قرار إداري دون وجه حقّ. لكنّه خوف مبالغ فيه، إذ يجوز تكييف العمل الصّادر عن الإدارة بأنّه قرار معدوم واعتداء مادّي في نفس الوقت. فهنالك تقاطع بين الصّنفين، إذ أنّ القرار المعدوم يمثّل اعتداء مادّيا إذا نتج عنه انتهاك للحقوق والحرّيات الأساسية، أي، بلغة أخرى، يمكن أن يتجسّم الاعتداء المادّي في قرار صادر عن الإدارة، يكون بالضّرورة من صنف القرارات المعدومة.

    وبالرّجوع إلى التّعليل المستفيض الّذي تميّز به هذا الحكم، لا يمكن إلّا أن نكون مقتنعين بالتّكييف الّذي أضفته المحكمة على تصرّف الإدارة، عندما اعتبرت أن إعفاء المدّعي بشكل تعسّفي وحرمانه تبعا لذلك من ممارسة حقّه في العمل لا يمكن أن يمثّل عملا إداريا يهدف لخدمة الصّالح العامّ، ممّا يجعل هذا العمل منتميا لصنف الاعتداءات المادّية. وعسى أن تتّبع المحكمة الإدارية نفس هذا النّهج كلّما تعلّق الأمر باعتداء صارخ على الحقوق والحرّيات الأساسية، كما هو الشّأن عندما يتمّ منع شخص من السّفر تبعا لتطبيق الإجراء الحدودي S 17. صحيح أنّ هذه المحكمة دأبت على التّصدّي لاعتماد هذا الإجراء سواء في إطار القضاء الاستعجالي كما هو الشّأن في حكم الماجري المذكور سابقا أو في إطار قضاء الإلغاء كما هو الشّأن في الحكم الابتدائي السّعيدي الصّادر في 3 ماي 2019، لكن لم يصل الأمر إلى الحديث عن القرار المعدوم أو عن الاعتداء المادّي، بالرّغم من أنّ التّعليل يوحي بذلك وبالرّغم من أنّ نظرية القرار المعدوم معتمدة من طرف هذه المحكمة منذ أمد بعيد (انظر الشّروق، 27 ماي 2022، ص 7).

مسألة أحقّية الطّالب في الحماية القضائية

    بعد حلّ مشكل التّحصين ومشكل الاختصاص، حدّدت المحكمة الإطار المناسب للمطلب الرّاهن وهو الفصل 201 من مجلّة المرافعات المدنية والتّجارية الّذي ينصّ على أنّه " يقع النّظر استعجاليا وبصفة مؤقّتة في جميع الحالات المتأكّدة بدون مساس بالأصل. " ولم يكن من العسير على المحكمة الإقرار بأنّ الأمر على درجة كبيرة من التّأكّد وذلك بالاستناد إلى عنصرين. يتمثّل أوّلهما في جسامة الخرق الحاصل للشّرعية المجسّمة خاصّة في الفصل 107 من دستور 2014 وجملة الضّمانات الّتي أقرّها للقضاة من خلال، خاصّة، تدخّل المجلس الأعلى للقضاء في خصوص كلّ ما يهمّ المسار المهني للقضاة. وقد جاء في حكمها ما يلي : " وحيث...أنّ تأديب القضاة وعزلهم أو إعفاءهم يرجع لجهة واحدة مختصّة حصريا في ذلك وهي المجلس الأعلى للقضاء وبقيام رئيس الجمهورية إصدار أمر في إعفاء القضاة دون المرور بالمجلس الأعلى للقضاء صاحب الاختصاص بما يجعل من التّصرّف المذكور يحمل من جسامة الخروقات ما يجعلها إعتداء مادّيا".

    أمّا العنصر الثّاني فيتمثّل في خطورة ما تعرّض له الطّالب، إذ وجد نفسه، بين عشيّة وضحاها، محروما من حقّه في العمل ودون مورد رزق، فضلا عن التّشويه الخطير الّذي لحق شرفه وسمعته، كلّ ذلك دون أن يعلم بالأسباب الموضوعية الّتي أدّت إلى اتّخاذ مثل هذا القرار الخطير والمُهين. وقد بيّنت المحكمة في هذا الشّأن أنّ إعفاء الطّالب بالشّكل الّذي تمّ به " من شأنه أن يشكّل اعتداء جسيما على حرمة الطّالب كفرد وسمعته كقاض وحقّه في العمل كما أنّ حرمانه من الأجر كمصدر للدّخل من شأنه الإضرار به مادّيا ويمسّ باستقرار الوضعيات والحقوق المكتسبة وهو ما يؤسّس لعنصر التّأكّد. "

    وتبعا لما سبق، أنصفت المحكمة المدّعي وذلك بأن قضت استعجاليا بإرجاعه إلى سالف عمله إلى أن يتمّ النّظر في وضعيته من طرف المجلس الأعلى للقضاء، علما وأنّ هذا النّظر يمكن أن يكون مسبوقا بتدخّل القاضي الجزائي. وتكون بذلك القاضية صاحبة الحكم محلّ التّعليق دخلت التّاريخ القضائي من الباب الواسع وكتبت صفحة في السّجلّ الذّهبي لدولة القانون، كما فعل زميلها الإداري عندما أصدر قرارات توقيف التّنفيذ المشار إليها أعلاها. وعسى أن تمثّل مثل هذه الأحكام دعوة للسّلطة التّنفيذية لترشيد ممارسة اختصاص الإعفاء والتّعيين، إذ الخوف كلّ الخوف من أن تمثّل هذه الممارسة الجانب الأوفر من الوظيفة الموكولة للسّلطة التّنفيذية.

                                                                       

 (*) أستاذ تعليم عال في القانون العامّ

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews