إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تفاهة.. رداءة إصلاح التعليم لدى خير الدين وتواصلها حتى عهد قيْس 2/2

 

 

بقلم: الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

الحجر الصحي والحجر اللغوي                                                                               

  تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية على الأقل. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك  الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية أو تفضيل هذه الأخيرة في الحديث  والكتابة. نذكر بهذا الصدد  مثالين  للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه  مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:                           

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية  للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.

2-أما الصادقيون والمدرسيّون فهم فاقدون للحجر اللغوي الأمر الذي أدى إلى علاقة تافهة مع لغتهم الوطنية، كما بيّنا.

الحجر اللغوي والتقدم العلمي                                                                                  

 فالعلاقة السليمة مع اللغة الوطنية تتطلّب استعمالها في كل الميادين بما فيها تدريس العلوم. فمثل هذه السياسة اللغوية لا تخدم تطبيع العلاقة مع اللغة العربية فقط في المجتمع التونسي والمجتمعات العربية الأخرى، وإنما تخدم أيضا نهضة العلم فيها جميعا. ترى نتائج بحوث الكثيرين أن البلدان تحتاج إلى تعليم العلوم باللغة الوطنية أو لغة الأم كي ترسي الأساس الضروري لما يسمى البيئة المنتجة للعلم. أي أن البيئة الاجتماعية المساندة لإنتاج العلم هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولا يقتصر على النخبة فقط. وبالتعبير السوسيولوجي ، يُكتب للعلم بأن يصبح ظاهرة اجتماعية واسعة لمّا ينسجم العلم مع الثقافة العامة للمجتمع ويتفاعل معها أفقيا. ويعني ذلك أن تعزيز العلم في أي بلد يتوقف كثيرا على مدى انفتاح الثقافة العامة على العلم. ووفقا لرؤية علم الاجتماع، فذلك مستحيل ما لم تكن لغة العلم والثقافة العامة لغة واحدة. أليس هذا إنجازا نبيلا للحجر اللغوي؟

السلبيات النفسية والثقافية لغياب الحجر اللغوي                                                            

  يشخص مؤلف  كتاب العقل العربي 1983 رفاييل بتاي آثار التعليم الثنائي اللغة (استعمال لغتين  كوسيلتيْ تدريس) كما هو الحال في نظام التعليم التونسي. فوجد أن التعليم الثنائي اللغة  يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج: رغبتهم  كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية  4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.

انطباعات الأجانب الخاطئة                                                                                   

لاحظتُ أن للأجانب انطباعات خاطئة حول علاقة التونسيين والتونسيات بلغتهم الوطنية/ العربية. فحديث  كثير منهم بالفرنسية الجيدة أو الحسنة لمن يعرف الفرنسية يعطي الانطباع أنهم يعرفون أو يُتقنون اللغة العربية ويعتزون  بها  قبل وأكثر من الفرنسية أو غيرها من اللغات الأخرى لأنها هي لغتهم الوطنية أو الأم وذالك قياسا على علاقة الأجانب بلغتهم الفرنسية. وهو اعتقاد غير صحيح. يختفي هذا الانطباع المزيف بسهولة عن الذين لا يعرفون أصلا اللغة العربية ولا هم محظوظون بلقاء تونسيين وتونسيات كثيرين يعتزون باللغة العربية. إذ إن رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية عند الأجانب تعتبر عيبا لمن لا يعرف ولا يعتز أولا بلغته

 رداءة إصلاح خير الدين وراء فساد العلاقة مع العربية                                                     

يتحدث منذ عقود المسئولون التونسيون وعامة الشعب عن إصلاح التعليم باقتراح تغييرات متعددة في محتويات برامج التعليم وفي الجدولة الزمنية للمواد المدروسة و و و...       واقتُرح أخيرا في الدستور التونسي الجديد (2022) إنشاءُ مجلس وطني للتعليم من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد. لكن لا ذكر في جميع تلك المساعي طيلة تلك العقود للتدريس باللغة الوطنية/العربية كل المواد حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل، أي تبني الحجر اللغوي حيث تكون اللغة الوطنية سيدة الموقف في التدريس كما تفعل المجتمعات الأوروبية وغيرها.فالتدريس باللغة الوطنية تأتي في طليعة قائمة إصلاحات التعليم لأن ذلك أمر أساسي سليم من الرداءة في علاقة  المجتمعات والناس بلغاتهم. يفسر فقدان ذلك كيف نجح التدريس بغير اللغة الوطنية لدى الصادقيين والمدرسيين  في إفساد تصور هؤلاء و أغلبية التونسيات والتونسيين حول موضوع التدريس باللغة العربية كل المواد بما فيها العلوم والرياضيات وذلك لسبب بسيط يتمثل في شبه معادلة حسابية = كل لغة تصبح قادرة بالكامل على التعبير على كل شيء إن هي استُعملت بالكامل  في جميع الميادين.

الحجر اللغوي وحمايته الكبرى                                                                               

وفي الختام، يساند المفكرون أهمية الحجر اللغوي في حماية حدود وهويات وحدود الشعوب. يجمع أهل الذكر على الأولوية الكبرى بالنسبة لتمسك المجتمعات بلغاتها (علاقة غير رديئة) لأن من يخسر لغته يكتب غيره مسيرة مستقبله. وهذا ما يعبر عنه هؤلاء بقولهم: فشعب بدون لغته الأصلية ما هو إلا نصف أمة. فيجب، إذن، على الأمة حماية لغتها (التحرر من العلاقة التافهة) أكثر من حمايتها لأراضيها إذ اللغة أمتن وأقوى حاجز حام لحدودها من الغابات والجبال والأنهار والبحار.فالمجتمع التونسي اليوم يشكو من أمراض عديدة لكن يصمت الجميع تقريبا عن المرض اللغوي المتمثل في رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية. وهو عند المفكرين أخطر بكثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(انتهى)

(*)عالم الاجتماع                                   

تفاهة.. رداءة إصلاح التعليم لدى خير الدين وتواصلها حتى عهد قيْس 2/2

 

 

بقلم: الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

الحجر الصحي والحجر اللغوي                                                                               

  تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية على الأقل. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك  الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية أو تفضيل هذه الأخيرة في الحديث  والكتابة. نذكر بهذا الصدد  مثالين  للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه  مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:                           

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية  للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.

2-أما الصادقيون والمدرسيّون فهم فاقدون للحجر اللغوي الأمر الذي أدى إلى علاقة تافهة مع لغتهم الوطنية، كما بيّنا.

الحجر اللغوي والتقدم العلمي                                                                                  

 فالعلاقة السليمة مع اللغة الوطنية تتطلّب استعمالها في كل الميادين بما فيها تدريس العلوم. فمثل هذه السياسة اللغوية لا تخدم تطبيع العلاقة مع اللغة العربية فقط في المجتمع التونسي والمجتمعات العربية الأخرى، وإنما تخدم أيضا نهضة العلم فيها جميعا. ترى نتائج بحوث الكثيرين أن البلدان تحتاج إلى تعليم العلوم باللغة الوطنية أو لغة الأم كي ترسي الأساس الضروري لما يسمى البيئة المنتجة للعلم. أي أن البيئة الاجتماعية المساندة لإنتاج العلم هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولا يقتصر على النخبة فقط. وبالتعبير السوسيولوجي ، يُكتب للعلم بأن يصبح ظاهرة اجتماعية واسعة لمّا ينسجم العلم مع الثقافة العامة للمجتمع ويتفاعل معها أفقيا. ويعني ذلك أن تعزيز العلم في أي بلد يتوقف كثيرا على مدى انفتاح الثقافة العامة على العلم. ووفقا لرؤية علم الاجتماع، فذلك مستحيل ما لم تكن لغة العلم والثقافة العامة لغة واحدة. أليس هذا إنجازا نبيلا للحجر اللغوي؟

السلبيات النفسية والثقافية لغياب الحجر اللغوي                                                            

  يشخص مؤلف  كتاب العقل العربي 1983 رفاييل بتاي آثار التعليم الثنائي اللغة (استعمال لغتين  كوسيلتيْ تدريس) كما هو الحال في نظام التعليم التونسي. فوجد أن التعليم الثنائي اللغة  يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج: رغبتهم  كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية  4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.

انطباعات الأجانب الخاطئة                                                                                   

لاحظتُ أن للأجانب انطباعات خاطئة حول علاقة التونسيين والتونسيات بلغتهم الوطنية/ العربية. فحديث  كثير منهم بالفرنسية الجيدة أو الحسنة لمن يعرف الفرنسية يعطي الانطباع أنهم يعرفون أو يُتقنون اللغة العربية ويعتزون  بها  قبل وأكثر من الفرنسية أو غيرها من اللغات الأخرى لأنها هي لغتهم الوطنية أو الأم وذالك قياسا على علاقة الأجانب بلغتهم الفرنسية. وهو اعتقاد غير صحيح. يختفي هذا الانطباع المزيف بسهولة عن الذين لا يعرفون أصلا اللغة العربية ولا هم محظوظون بلقاء تونسيين وتونسيات كثيرين يعتزون باللغة العربية. إذ إن رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية عند الأجانب تعتبر عيبا لمن لا يعرف ولا يعتز أولا بلغته

 رداءة إصلاح خير الدين وراء فساد العلاقة مع العربية                                                     

يتحدث منذ عقود المسئولون التونسيون وعامة الشعب عن إصلاح التعليم باقتراح تغييرات متعددة في محتويات برامج التعليم وفي الجدولة الزمنية للمواد المدروسة و و و...       واقتُرح أخيرا في الدستور التونسي الجديد (2022) إنشاءُ مجلس وطني للتعليم من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد. لكن لا ذكر في جميع تلك المساعي طيلة تلك العقود للتدريس باللغة الوطنية/العربية كل المواد حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل، أي تبني الحجر اللغوي حيث تكون اللغة الوطنية سيدة الموقف في التدريس كما تفعل المجتمعات الأوروبية وغيرها.فالتدريس باللغة الوطنية تأتي في طليعة قائمة إصلاحات التعليم لأن ذلك أمر أساسي سليم من الرداءة في علاقة  المجتمعات والناس بلغاتهم. يفسر فقدان ذلك كيف نجح التدريس بغير اللغة الوطنية لدى الصادقيين والمدرسيين  في إفساد تصور هؤلاء و أغلبية التونسيات والتونسيين حول موضوع التدريس باللغة العربية كل المواد بما فيها العلوم والرياضيات وذلك لسبب بسيط يتمثل في شبه معادلة حسابية = كل لغة تصبح قادرة بالكامل على التعبير على كل شيء إن هي استُعملت بالكامل  في جميع الميادين.

الحجر اللغوي وحمايته الكبرى                                                                               

وفي الختام، يساند المفكرون أهمية الحجر اللغوي في حماية حدود وهويات وحدود الشعوب. يجمع أهل الذكر على الأولوية الكبرى بالنسبة لتمسك المجتمعات بلغاتها (علاقة غير رديئة) لأن من يخسر لغته يكتب غيره مسيرة مستقبله. وهذا ما يعبر عنه هؤلاء بقولهم: فشعب بدون لغته الأصلية ما هو إلا نصف أمة. فيجب، إذن، على الأمة حماية لغتها (التحرر من العلاقة التافهة) أكثر من حمايتها لأراضيها إذ اللغة أمتن وأقوى حاجز حام لحدودها من الغابات والجبال والأنهار والبحار.فالمجتمع التونسي اليوم يشكو من أمراض عديدة لكن يصمت الجميع تقريبا عن المرض اللغوي المتمثل في رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية. وهو عند المفكرين أخطر بكثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(انتهى)

(*)عالم الاجتماع                                   

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews