إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تفاهة.. رداءة إصلاح التعليم لدى خير الدين و تواصلها حتى عهد قيْس 1/2

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

في خطابه يوم العلم 05/08/ 2022 صرّح الرئيس قيس سعيّد أمام الوزراء وغيرهم من رجال ونساء التعليم والطلبة والتلاميذ المرشحين لنيل جوائز التميز برؤيته للمكانة غير اللائقة للغة الوطنية/العربية لدى المتعلمات والمتعلمين والمجتمع التونسي بصفة عامة. فذكّر الحاضرين كيف أن الخطأ في اللغة العربية لا يُعتبر عيبا عند معظم التونسيات والتونسيين، بينما الخطأ في اللغة الفرنسية لا يكاد يُغتفَر. يحتج الرئيس على استمرار موقف المكيال بمكيالين (التفاهة) بين اللغة الوطنية ولغة المستعمِر لدى أغلبية كبيرة من الشعب التونسي. فكلمات الرئيس تشير إلى أن لغة الضاد هي عنصر أساسي (وليس تافها/رديئا) من الهوية التونسية مثلها مثل الإسلام. ومن ثم، فكتابة عبارة ' مقاصد الإسلام' في الدستور الجديد ودفاع الرئيس عن اللغة العربية في خطابه يبرزان أن الإسلام واللغة العربية هما ركيزتا الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. فتهكم الرئيس على الحاضرين وعلى الشعب التونسي لم يحفزه على إصدار مرسوم أو أكثر يرفع 'الحُقرة' عن اللغة الوطنية. فغياب سلوك رئاسي من هذا القبيل يرسخ االرداءة لدى الشعب التونسي بالنسبة للغته الوطنية. كما صمتت وسائل الإعلام عن إثارة هذا الموضوع مما يوحي أنها تعتبر قضية اللغة أمرا تافها نتيجة للاغتراب اللغوي الذي طبقه خير الدين في المجتمع التونسي منذ أكثر من قرن.

الجهل بالأسباب أو العجز عن مقاومتها

فالرئيس سعيّد لم يُشر ولو باختصار إلى أسباب تعامل التونسيات والتونسيين بذلك السلوك التافه الذي لا يحترم اللغة الوطنية مقارنة باحترامه للغة المستعمر. فالمؤكد أن الرئيس وغيره من المواطنات والمواطنين إما أنهم لا يملكون معرفة كل الأسباب لذلك السلوك اللغوي التي سنذكرها في هذا المقال وإما أنهم يعرفونها كلها أو البعض منها ولكن تكوينهم اللغوي الثقافي المغترب/الرديء يجعلهم عاجزين على كسب رهان علاقة سليمة من التفاهة مع اللغة الوطنية/ العربية. فمن منظور علميْ النفس والاجتماع، أصبح السلوك اللغوي التونسي المنفِّر من استعمال اللغة العربية بطريقة باعتزاز مسلَّمَة من مسلمات الحياة اليومية في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده. وكما يُقال فالتعود على الأشياء 'يُبلِّد الذهن والمدارك العقلية ويزيد من التفاهة' بحيث تضعف أو تغيب روح النقد لواقع الأمور فتقلب السلوكيات رأسا على عقب مثل: يُنتقد من يكتب شيكه البنكي بحروف عربية وفي المقابل، يُشكر من يكتبها باللغة الفرنسية. فلهذا السلوك التونسي الجماعي التافه خلفية تاريخية لا يكاد يبرزها ويناقشها أحد.

خطأ خير الدين في إصلاح التعليم

سعيا لكسب الحداثة الغربية تبنى خير الدين باشا في تونس خطة لإصلاح التعليم في تونس. فرأى أن الانفتاح على الحداثة الغربية يتم بواسطة تعلم لغة الآخر الحديث بطريقتين: 1- مُجرد تعلّم لغته أو 2- تعلم لغته والتدريس بها بعض المواد أو جميعها. زكى خير الدين إدخال التدريس باللغة الفرنسية في النظام التعليمي التونسي. أي أنه تبنى نظام تعلم اللغة الأجنبية رقم (2). فافتتح المدرسة الصادقية في 1875 باعتبارها بوابة مباشرة لكسب رهان الحداثة الغربية. كغيره في العالمين العربي والإسلامي. يبدو أن خير الدين باشا كان مجذوبا كثيرا إلى الحداثة الغربية وجاهلا بمدى التأثيرات السلبية للتدريس باللغات الأجنبية على اللغات الوطنية وعلى هويات أصحابها. على سبيل المثال، يفسر الخوفُ من تلك المخاطر في المجتمعات الأوروبية وغيرها تحاشيَ التدريس المواد باللغات الأجنبية حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل. أي أن نُظم التعليم في تلك المجتمعات تتبنى بصرامة الحجر اللغوي الكامل الذي يُدرّس باللغات الوطنية فقط. فالكثيرون من خريجي المدرسة الصادقية شهادة على تلك المخاطر المتمثلة في ضُعف أو فقدان ولاء الكثيرين من هؤلاء إلى اللغة العربية قبل اللغة الفرنسية وتذبذب أو ضُعف أو نكران انتمائهم إلى الهوية العربية.

"المدرسيّون" تواصل لتفاهة إصلاح خير الدين

وقع تطبيق النموذج الصادقي من التعليم على المدارس الحكومية التونسية بعد الاستقلال. أي أن تلك المدارس تدرّس جميع أو معظم المواد باللغة الفرنسية. فسُمي خريجو هذه المدارس " المدرسيين". فهم مثل الصادقيين يختلفون عن خريجي التعليم الزيتوني الذين يدرسون كل المواد باللغة العربية. وهكذا، أدى إصلاح خير الدين في التعليم إلى انقسام لغوي وثقافي بين المتعلمين التونسيين جعل الصادقيين والمدرسيين يتمتعون بمكانة أفضل من الزيتونيين في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده بسبب تعلمهم للغة الفرنسية والدراسة بها في المدارس والمعاهد والجامعات الوطنية التونسية. وهو وضع لا تقبله الوطنية اللغوية الحقيقية للبلاد التونسية كما نرى ذلك لدى الوطنيات اللغوية في المجتمعات الأوروبية. ونظرا لضُعف أو غياب مفهوم الوطنية اللغوية عند الصادقيين والمدرسيين الذين قادوا مسيرة البلاد بعد الاستقلال ، فإن مفردات حديث الخاصة والعامة لا تكاد تستعمل نعتَ 'وطنية' في حديثها عن اللغة العربية. ويعود هذا أساسا إلى فقدان ما نسميه الحجر اللغوي في إصلاح التعليم الذي دعا إليه خير الدين وتبناه الصادقيون والمدرسيون الذين حكموا البلاد منذ الاستقلال الذين سيطروا على حكم البلاد باحتضان موقف الرداءة نحو اللغة الوطنية.

إتقان العربية لا يعني علاقة سليمة معها

يعتقد معظمُ التونسيين والتونسيات خطأ أن إتقان خريجي المدرسة الصادقية والمدرسيين للغة العربية نحوا وصرفا وتعبيرا يجعلهم يحبونها مثل الفرنسية أو يفضلونها عليها. تفيد السلوكيات اللغوية لهؤلاء أن هذا غير صحيح وبالتالي فهو خطأ مبني على تصور باطل يتمثل في أن مجرد إتقان اللغة/ اللغات يجعل الناس يحبونها كثيرا أو يفضلونها على لغات أخرى. يعود ذلك بالنسبة للصادقيين والمدرسيين إلى عاملين: 1- فقدان تعليمهم للحجر اللغوي و 2- استعمالهم للفرنسية فقط في دراسة المواد في عهد الهيمنة الاستعمارية. لقد أكد ابن خلدون أن المغلوبَ مولع أبدا بالاقتداء بالغالب. ومن ثم، فكذب علميا الادعاء أن مجرد إتقان لغة ما يجعلها المفضَّلة رقم 1 لدى الناس إذ هناك عوامل أخرى تتدخل في الأمر كما رأينا لدى الصادقيين والمدرسيين الذين يغلب عليهم التعامل برداءة مع اللغة العربية.

(يتبع)

تفاهة/رداءة إصلاح التعليم لدى خير الدين وتواصلها حتى عهد قيْس 2/2

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي – عالم الاجتماع

الحجر الصحي والحجر اللغوي

  تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية على الأقل. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية أو تفضيل هذه الأخيرة في الحديث والكتابة. نذكر بهذا الصدد مثالين للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.

2-أما الصادقيون والمدرسيّون فهم فاقدون للحجر اللغوي الأمر الذي أدى إلى علاقة تافهة مع لغتهم الوطنية، كما بيّنا.

الحجر اللغوي والتقدم العلمي

 فالعلاقة السليمة مع اللغة الوطنية تتطلّب استعمالها في كل الميادين بما فيها تدريس العلوم. فمثل هذه السياسة اللغوية لا تخدم تطبيع العلاقة مع اللغة العربية فقط في المجتمع التونسي والمجتمعات العربية الأخرى، وإنما تخدم أيضا نهضة العلم فيها جميعا. ترى نتائج بحوث الكثيرين أن البلدان تحتاج إلى تعليم العلوم باللغة الوطنية أو لغة الأم كي ترسي الأساس الضروري لما يسمى البيئة المنتجة للعلم. أي أن البيئة الاجتماعية المساندة لإنتاج العلم هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولا يقتصر على النخبة فقط. وبالتعبير السوسيولوجي ، يُكتب للعلم بأن يصبح ظاهرة اجتماعية واسعة لمّا ينسجم العلم مع الثقافة العامة للمجتمع ويتفاعل معها أفقيا. ويعني ذلك أن تعزيز العلم في أي بلد يتوقف كثيرا على مدى انفتاح الثقافة العامة على العلم. ووفقا لرؤية علم الاجتماع، فذلك مستحيل ما لم تكن لغة العلم والثقافة العامة لغة واحدة. أليس هذا إنجازا نبيلا للحجر اللغوي؟

السلبيات النفسية والثقافية لغياب الحجر اللغوي

  يشخص مؤلف كتاب العقل العربي 1983 رفاييل بتاي آثار التعليم الثنائي اللغة (استعمال لغتين كوسيلتيْ تدريس) كما هو الحال في نظام التعليم التونسي. فوجد أن التعليم الثنائي اللغة يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج: رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.

انطباعات الأجانب الخاطئة

لاحظتُ أن للأجانب انطباعات خاطئة حول علاقة التونسيين والتونسيات بلغتهم الوطنية/ العربية. فحديث كثير منهم بالفرنسية الجيدة أو الحسنة لمن يعرف الفرنسية يعطي الانطباع أنهم يعرفون أو يُتقنون اللغة العربية ويعتزون بها قبل وأكثر من الفرنسية أو غيرها من اللغات الأخرى لأنها هي لغتهم الوطنية أو الأم وذالك قياسا على علاقة الأجانب بلغتهم الفرنسية. وهو اعتقاد غير صحيح. يختفي هذا الانطباع المزيف بسهولة عن الذين لا يعرفون أصلا اللغة العربية ولا هم محظوظون بلقاء تونسيين وتونسيات كثيرين يعتزون باللغة العربية. إذ إن رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية عند الأجانب تعتبر عيبا لمن لا يعرف ولا يعتز أولا بلغته

رداءة إصلاح خير الدين وراء فساد العلاقة مع العربية

يتحدث منذ عقود المسئولون التونسيون وعامة الشعب عن إصلاح التعليم باقتراح تغييرات متعددة في محتويات برامج التعليم وفي الجدولة الزمنية للمواد المدروسة و و و... واقتُرح أخيرا في الدستور التونسي الجديد (2022) إنشاءُ مجلس وطني للتعليم من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد. لكن لا ذكر في جميع تلك المساعي طيلة تلك العقود للتدريس باللغة الوطنية/العربية كل المواد حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل، أي تبني الحجر اللغوي حيث تكون اللغة الوطنية سيدة الموقف في التدريس كما تفعل المجتمعات الأوروبية وغيرها.فالتدريس باللغة الوطنية تأتي في طليعة قائمة إصلاحات التعليم لأن ذلك أمر أساسي سليم من الرداءة في علاقة المجتمعات والناس بلغاتهم. يفسر فقدان ذلك كيف نجح التدريس بغير اللغة الوطنية لدى الصادقيين والمدرسيين في إفساد تصور هؤلاء و أغلبية التونسيات والتونسيين حول موضوع التدريس باللغة العربية كل المواد بما فيها العلوم والرياضيات وذلك لسبب بسيط يتمثل في شبه معادلة حسابية = كل لغة تصبح قادرة بالكامل على التعبير على كل شيء إن هي استُعملت بالكامل في جميع الميادين.

الحجر اللغوي وحمايته الكبرى

وفي الختام، يساند المفكرون أهمية الحجر اللغوي في حماية حدود وهويات وحدود الشعوب. يجمع أهل الذكر على الأولوية الكبرى بالنسبة لتمسك المجتمعات بلغاتها (علاقة غير رديئة) لأن من يخسر لغته يكتب غيره مسيرة مستقبله. وهذا ما يعبر عنه هؤلاء بقولهم: فشعب بدون لغته الأصلية ما هو إلا نصف أمة. فيجب، إذن، على الأمة حماية لغتها (التحرر من العلاقة التافهة) أكثر من حمايتها لأراضيها إذ اللغة أمتن وأقوى حاجز حام لحدودها من الغابات والجبال والأنهار والبحار.فالمجتمع التونسي اليوم يشكو من أمراض عديدة لكن يصمت الجميع تقريبا عن المرض اللغوي المتمثل في رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية. وهو عند المفكرين أخطر بكثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(*)عالم الاجتماع

 

 

 

 

 

 

تفاهة.. رداءة إصلاح التعليم لدى خير الدين و تواصلها حتى عهد قيْس 1/2

بقلم:الأستاذ الدكتور محمود الذوادي(*)

في خطابه يوم العلم 05/08/ 2022 صرّح الرئيس قيس سعيّد أمام الوزراء وغيرهم من رجال ونساء التعليم والطلبة والتلاميذ المرشحين لنيل جوائز التميز برؤيته للمكانة غير اللائقة للغة الوطنية/العربية لدى المتعلمات والمتعلمين والمجتمع التونسي بصفة عامة. فذكّر الحاضرين كيف أن الخطأ في اللغة العربية لا يُعتبر عيبا عند معظم التونسيات والتونسيين، بينما الخطأ في اللغة الفرنسية لا يكاد يُغتفَر. يحتج الرئيس على استمرار موقف المكيال بمكيالين (التفاهة) بين اللغة الوطنية ولغة المستعمِر لدى أغلبية كبيرة من الشعب التونسي. فكلمات الرئيس تشير إلى أن لغة الضاد هي عنصر أساسي (وليس تافها/رديئا) من الهوية التونسية مثلها مثل الإسلام. ومن ثم، فكتابة عبارة ' مقاصد الإسلام' في الدستور الجديد ودفاع الرئيس عن اللغة العربية في خطابه يبرزان أن الإسلام واللغة العربية هما ركيزتا الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. فتهكم الرئيس على الحاضرين وعلى الشعب التونسي لم يحفزه على إصدار مرسوم أو أكثر يرفع 'الحُقرة' عن اللغة الوطنية. فغياب سلوك رئاسي من هذا القبيل يرسخ االرداءة لدى الشعب التونسي بالنسبة للغته الوطنية. كما صمتت وسائل الإعلام عن إثارة هذا الموضوع مما يوحي أنها تعتبر قضية اللغة أمرا تافها نتيجة للاغتراب اللغوي الذي طبقه خير الدين في المجتمع التونسي منذ أكثر من قرن.

الجهل بالأسباب أو العجز عن مقاومتها

فالرئيس سعيّد لم يُشر ولو باختصار إلى أسباب تعامل التونسيات والتونسيين بذلك السلوك التافه الذي لا يحترم اللغة الوطنية مقارنة باحترامه للغة المستعمر. فالمؤكد أن الرئيس وغيره من المواطنات والمواطنين إما أنهم لا يملكون معرفة كل الأسباب لذلك السلوك اللغوي التي سنذكرها في هذا المقال وإما أنهم يعرفونها كلها أو البعض منها ولكن تكوينهم اللغوي الثقافي المغترب/الرديء يجعلهم عاجزين على كسب رهان علاقة سليمة من التفاهة مع اللغة الوطنية/ العربية. فمن منظور علميْ النفس والاجتماع، أصبح السلوك اللغوي التونسي المنفِّر من استعمال اللغة العربية بطريقة باعتزاز مسلَّمَة من مسلمات الحياة اليومية في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده. وكما يُقال فالتعود على الأشياء 'يُبلِّد الذهن والمدارك العقلية ويزيد من التفاهة' بحيث تضعف أو تغيب روح النقد لواقع الأمور فتقلب السلوكيات رأسا على عقب مثل: يُنتقد من يكتب شيكه البنكي بحروف عربية وفي المقابل، يُشكر من يكتبها باللغة الفرنسية. فلهذا السلوك التونسي الجماعي التافه خلفية تاريخية لا يكاد يبرزها ويناقشها أحد.

خطأ خير الدين في إصلاح التعليم

سعيا لكسب الحداثة الغربية تبنى خير الدين باشا في تونس خطة لإصلاح التعليم في تونس. فرأى أن الانفتاح على الحداثة الغربية يتم بواسطة تعلم لغة الآخر الحديث بطريقتين: 1- مُجرد تعلّم لغته أو 2- تعلم لغته والتدريس بها بعض المواد أو جميعها. زكى خير الدين إدخال التدريس باللغة الفرنسية في النظام التعليمي التونسي. أي أنه تبنى نظام تعلم اللغة الأجنبية رقم (2). فافتتح المدرسة الصادقية في 1875 باعتبارها بوابة مباشرة لكسب رهان الحداثة الغربية. كغيره في العالمين العربي والإسلامي. يبدو أن خير الدين باشا كان مجذوبا كثيرا إلى الحداثة الغربية وجاهلا بمدى التأثيرات السلبية للتدريس باللغات الأجنبية على اللغات الوطنية وعلى هويات أصحابها. على سبيل المثال، يفسر الخوفُ من تلك المخاطر في المجتمعات الأوروبية وغيرها تحاشيَ التدريس المواد باللغات الأجنبية حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل. أي أن نُظم التعليم في تلك المجتمعات تتبنى بصرامة الحجر اللغوي الكامل الذي يُدرّس باللغات الوطنية فقط. فالكثيرون من خريجي المدرسة الصادقية شهادة على تلك المخاطر المتمثلة في ضُعف أو فقدان ولاء الكثيرين من هؤلاء إلى اللغة العربية قبل اللغة الفرنسية وتذبذب أو ضُعف أو نكران انتمائهم إلى الهوية العربية.

"المدرسيّون" تواصل لتفاهة إصلاح خير الدين

وقع تطبيق النموذج الصادقي من التعليم على المدارس الحكومية التونسية بعد الاستقلال. أي أن تلك المدارس تدرّس جميع أو معظم المواد باللغة الفرنسية. فسُمي خريجو هذه المدارس " المدرسيين". فهم مثل الصادقيين يختلفون عن خريجي التعليم الزيتوني الذين يدرسون كل المواد باللغة العربية. وهكذا، أدى إصلاح خير الدين في التعليم إلى انقسام لغوي وثقافي بين المتعلمين التونسيين جعل الصادقيين والمدرسيين يتمتعون بمكانة أفضل من الزيتونيين في المجتمع التونسي قبل الاستقلال وبعده بسبب تعلمهم للغة الفرنسية والدراسة بها في المدارس والمعاهد والجامعات الوطنية التونسية. وهو وضع لا تقبله الوطنية اللغوية الحقيقية للبلاد التونسية كما نرى ذلك لدى الوطنيات اللغوية في المجتمعات الأوروبية. ونظرا لضُعف أو غياب مفهوم الوطنية اللغوية عند الصادقيين والمدرسيين الذين قادوا مسيرة البلاد بعد الاستقلال ، فإن مفردات حديث الخاصة والعامة لا تكاد تستعمل نعتَ 'وطنية' في حديثها عن اللغة العربية. ويعود هذا أساسا إلى فقدان ما نسميه الحجر اللغوي في إصلاح التعليم الذي دعا إليه خير الدين وتبناه الصادقيون والمدرسيون الذين حكموا البلاد منذ الاستقلال الذين سيطروا على حكم البلاد باحتضان موقف الرداءة نحو اللغة الوطنية.

إتقان العربية لا يعني علاقة سليمة معها

يعتقد معظمُ التونسيين والتونسيات خطأ أن إتقان خريجي المدرسة الصادقية والمدرسيين للغة العربية نحوا وصرفا وتعبيرا يجعلهم يحبونها مثل الفرنسية أو يفضلونها عليها. تفيد السلوكيات اللغوية لهؤلاء أن هذا غير صحيح وبالتالي فهو خطأ مبني على تصور باطل يتمثل في أن مجرد إتقان اللغة/ اللغات يجعل الناس يحبونها كثيرا أو يفضلونها على لغات أخرى. يعود ذلك بالنسبة للصادقيين والمدرسيين إلى عاملين: 1- فقدان تعليمهم للحجر اللغوي و 2- استعمالهم للفرنسية فقط في دراسة المواد في عهد الهيمنة الاستعمارية. لقد أكد ابن خلدون أن المغلوبَ مولع أبدا بالاقتداء بالغالب. ومن ثم، فكذب علميا الادعاء أن مجرد إتقان لغة ما يجعلها المفضَّلة رقم 1 لدى الناس إذ هناك عوامل أخرى تتدخل في الأمر كما رأينا لدى الصادقيين والمدرسيين الذين يغلب عليهم التعامل برداءة مع اللغة العربية.

(يتبع)

تفاهة/رداءة إصلاح التعليم لدى خير الدين وتواصلها حتى عهد قيْس 2/2

الأستاذ الدكتور محمود الذوادي – عالم الاجتماع

الحجر الصحي والحجر اللغوي

  تفيد الملاحظات الميدانية بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) والإجراءات اللغوية المتمثلة في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في التدريس في المراحل الثلاث للتعليم : الابتدائية والإعدادية والثانوية على الأقل. يتمثل هذا التشابه في كون أن كلا منهما يؤدي بمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر في تحاشي الإصابة بفيروس الكورونا، من جهة، أو تحاشي تفشي المزج اللغوي بين لغة الأم أو اللغة الوطنية واللغة الأجنبية أو تفضيل هذه الأخيرة في الحديث والكتابة. نذكر بهذا الصدد مثالين للعلاقة السليمة أو غير السليمة التي ينشئها الحجر اللغوي أو فقدانه مع اللغة العربية في المجتمع التونسي بعد الاستقلال:

1-إن خريجي التعليم التونسي في ما يسمى 'شعبة أ ' في مطلع الاستقلال في المجتمع التونسي مثال للآثار الايجابية للحجر اللغوي على العلاقة مع اللغة العربية/الوطنية. لقد درس هؤلاء الخريجون كل المواد باللغة العربية فقط من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية.

2-أما الصادقيون والمدرسيّون فهم فاقدون للحجر اللغوي الأمر الذي أدى إلى علاقة تافهة مع لغتهم الوطنية، كما بيّنا.

الحجر اللغوي والتقدم العلمي

 فالعلاقة السليمة مع اللغة الوطنية تتطلّب استعمالها في كل الميادين بما فيها تدريس العلوم. فمثل هذه السياسة اللغوية لا تخدم تطبيع العلاقة مع اللغة العربية فقط في المجتمع التونسي والمجتمعات العربية الأخرى، وإنما تخدم أيضا نهضة العلم فيها جميعا. ترى نتائج بحوث الكثيرين أن البلدان تحتاج إلى تعليم العلوم باللغة الوطنية أو لغة الأم كي ترسي الأساس الضروري لما يسمى البيئة المنتجة للعلم. أي أن البيئة الاجتماعية المساندة لإنتاج العلم هي تلك التي ينتشر فيها العلم بين عامة الناس ولا يقتصر على النخبة فقط. وبالتعبير السوسيولوجي ، يُكتب للعلم بأن يصبح ظاهرة اجتماعية واسعة لمّا ينسجم العلم مع الثقافة العامة للمجتمع ويتفاعل معها أفقيا. ويعني ذلك أن تعزيز العلم في أي بلد يتوقف كثيرا على مدى انفتاح الثقافة العامة على العلم. ووفقا لرؤية علم الاجتماع، فذلك مستحيل ما لم تكن لغة العلم والثقافة العامة لغة واحدة. أليس هذا إنجازا نبيلا للحجر اللغوي؟

السلبيات النفسية والثقافية لغياب الحجر اللغوي

  يشخص مؤلف كتاب العقل العربي 1983 رفاييل بتاي آثار التعليم الثنائي اللغة (استعمال لغتين كوسيلتيْ تدريس) كما هو الحال في نظام التعليم التونسي. فوجد أن التعليم الثنائي اللغة يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج: رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.

انطباعات الأجانب الخاطئة

لاحظتُ أن للأجانب انطباعات خاطئة حول علاقة التونسيين والتونسيات بلغتهم الوطنية/ العربية. فحديث كثير منهم بالفرنسية الجيدة أو الحسنة لمن يعرف الفرنسية يعطي الانطباع أنهم يعرفون أو يُتقنون اللغة العربية ويعتزون بها قبل وأكثر من الفرنسية أو غيرها من اللغات الأخرى لأنها هي لغتهم الوطنية أو الأم وذالك قياسا على علاقة الأجانب بلغتهم الفرنسية. وهو اعتقاد غير صحيح. يختفي هذا الانطباع المزيف بسهولة عن الذين لا يعرفون أصلا اللغة العربية ولا هم محظوظون بلقاء تونسيين وتونسيات كثيرين يعتزون باللغة العربية. إذ إن رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية عند الأجانب تعتبر عيبا لمن لا يعرف ولا يعتز أولا بلغته

رداءة إصلاح خير الدين وراء فساد العلاقة مع العربية

يتحدث منذ عقود المسئولون التونسيون وعامة الشعب عن إصلاح التعليم باقتراح تغييرات متعددة في محتويات برامج التعليم وفي الجدولة الزمنية للمواد المدروسة و و و... واقتُرح أخيرا في الدستور التونسي الجديد (2022) إنشاءُ مجلس وطني للتعليم من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد. لكن لا ذكر في جميع تلك المساعي طيلة تلك العقود للتدريس باللغة الوطنية/العربية كل المواد حتى نهاية التعليم الثانوي على الأقل، أي تبني الحجر اللغوي حيث تكون اللغة الوطنية سيدة الموقف في التدريس كما تفعل المجتمعات الأوروبية وغيرها.فالتدريس باللغة الوطنية تأتي في طليعة قائمة إصلاحات التعليم لأن ذلك أمر أساسي سليم من الرداءة في علاقة المجتمعات والناس بلغاتهم. يفسر فقدان ذلك كيف نجح التدريس بغير اللغة الوطنية لدى الصادقيين والمدرسيين في إفساد تصور هؤلاء و أغلبية التونسيات والتونسيين حول موضوع التدريس باللغة العربية كل المواد بما فيها العلوم والرياضيات وذلك لسبب بسيط يتمثل في شبه معادلة حسابية = كل لغة تصبح قادرة بالكامل على التعبير على كل شيء إن هي استُعملت بالكامل في جميع الميادين.

الحجر اللغوي وحمايته الكبرى

وفي الختام، يساند المفكرون أهمية الحجر اللغوي في حماية حدود وهويات وحدود الشعوب. يجمع أهل الذكر على الأولوية الكبرى بالنسبة لتمسك المجتمعات بلغاتها (علاقة غير رديئة) لأن من يخسر لغته يكتب غيره مسيرة مستقبله. وهذا ما يعبر عنه هؤلاء بقولهم: فشعب بدون لغته الأصلية ما هو إلا نصف أمة. فيجب، إذن، على الأمة حماية لغتها (التحرر من العلاقة التافهة) أكثر من حمايتها لأراضيها إذ اللغة أمتن وأقوى حاجز حام لحدودها من الغابات والجبال والأنهار والبحار.فالمجتمع التونسي اليوم يشكو من أمراض عديدة لكن يصمت الجميع تقريبا عن المرض اللغوي المتمثل في رداءة العلاقة مع اللغة الوطنية. وهو عند المفكرين أخطر بكثير من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

(*)عالم الاجتماع

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews