إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

نُذُرُ حرب تُخيم على طرابلس وأملٌ ضئيلٌ في نزع فتيلها

 

 

بقلم:رشيد خشانة

عندما تُصدر الادارة الأمريكية، عبر وزارة الخارجية، بيانا تُعرب فيه عن "قلقها الشديد" جراء التهديدات الجديدة باندلاع اشتباكات عنيفة في طرابلس، فذلك مؤشرٌ مهمٌ على أن الخطر جديٌ ووشيك، خاصة أن بيان الرئيس بايدن دعا إلى "وقف التصعيد الفوري من قبل جميع الأطراف". ويُعزى هذا التحذير الأمريكي إلى مصدرين أساسيين أولهما التداعيات الاقليمية المحتملة لاستمرار الأزمة في ليبيا، أما الثاني فمُرتبط بتطورات عالم الطاقة.

من هنا نلاحظ في الموقف الأمريكي كلمات تتردد، لها دلالات خاصة في السياق الراهن، من قبيل "تعمُق الانقسامات الداخلية" أو "المأزق المؤسسي يُهدد بانحراف عنيف" أو ضرورة "نزع فتيل الأزمة"... ومدلول هذه العبارات، المتقاربة في معانيها، أن التقارير الأمريكية تؤكد أن العاصمة طرابلس على قاب قوسين من عاصفة شديدة، تُشبه ربما هجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على الأحياء الجنوبية لطرابلس في عام 2019. وتعززت هذه المخاوف بإعلان الهيئة الطرابلسية، أن أي عمل عسكري يهدد طرابلس يضعُ أصحابه تحت طائلة القانون الوطني والدولي. وعبرت الهيئة عن رفضها "جعل طرابلس ساحة اقتتال من أجل السلطة"، مُتوعدة أي طرف يهدد بعمل عسكري أو يُنفذه داخل طرابلس، بأنه سيكون تحت طائلة القانون الوطني والدولي، جراء ارتكابه جُرم الخيانة العظمى، التي يحاسب عليها القانون الليبي، وفق بيان الهيئة الطرابلسية.

كما طالبت الهيئة بإجراء انتخابات تشريعية في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، واختيار حكومة تكنوقراط وطنية، بعيداً عن منطق المحاصصة، "تُراعي حرمة الدم والعرض، وتحافظ على ما تبقى من لُحمة وطنية ومقدرات الوطن".

محاولات أمريكية بلا جدوى

 وفي مسار مُواز يتعلق بملف النفط والغاز، حاول الأمريكيون إقناع السعودية بزيادة الانتاج النفطي، لكن بلا جدوى. ومن هنا تبدو الحاجة الملحة للأمريكيين للترفيع من إنتاج النفط الليبي، الذي لا يتجاوز حاليا 700 ألف برميل يوميا، إلى 2 مليوني برميل. لكن ذلك يتطلب حدا أدنى من استتباب الأمن والاستقرار في البلد. غير أن محللين رأوا أن تلك الحركة كانت جزءا من الانفراج المُسجل في العلاقات بين القوى الخارجية المُتداخلة في الملف الليبي، ومنها الإمارات وتركيا ومصر وإلى حد ما روسيا وفرنسا.

وتندرج في هذا الاطار تنحية رئيس مؤسسة النفط الليبية مصطفى صنع الله، وتسمية المصرفي فرحات بن قدارة، المُقرب من الامارات، في مكانه، مع ما أثاره ذلك التغيير من جدل حول مدى انسجامه مع النظام الأساسي للمؤسسة.

ومع أن الدول المذكورة لا تبدو على قناعة بقدرة الأمم المتحدة على رعاية الحل النهائي في ليبيا، خاصة في ظل تأخُر تعيين ممثل خاص جديد للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، من أجل استئناف جهود الوساطة بين الفرقاء، فإن تلك الدول مازالت متشبثة بضرورة إجراء الانتخابات، بوصفها الحل السلمي الوحيد للصراع في ليبيا. وعلى خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن المليوني برميل المحتملين، اللذين يمكن أن تنتجهما ليبيا في اليوم، لهما وزن كبير في العلاقات بين السلطات الليبية، أيا كان الحاكم في طرابلس، والشركاء الخارجيين، وفي مقدمتهم إيطاليا.

تنازلات مُجحفة

وفي القلب من العلاقات الثنائية مع روما توجد مصفاة راس لانوف (شمال شرق) التي تحتل موقعا مركزيا في السجال بين الليبيين والإيطاليين، إذ أن هذه المصفاة التي تعتبر الأكبر في ليبيا، والتي تؤمن 60 في المائة من طاقة تكرير النفط في البلد، دخلت الانتاج عام 1984، ثم أبرم المسؤولون عنها في 2009 عقدا مع مجموعة "تراستا" الإماراتية لتطويرها، لكن الشركة الإماراتية رفضت إعادة تشغيلها، ما لم يوافق الجانب الليبي على تنازلات تؤدي إلى خسارة أكثر من 240 مليون دولار سنويا. كما حركت الشركة الإماراتية ثماني قضايا أمام التحكيم الدولي، في ليبيا وفرنسا وبريطانيا، طلبت بموجبها تعويضات بمليارات الدولارات. واستمرت في تعطيل المصفاة ومُجمع راس لانوف البتروكيميائي عن التشغيل إلى اليوم، مُسببة خسائر لليبيا تُقدر بمليارات الدولارات.

تغييرات جيوستراتيجية

يُعتبر ملف النفط عنوانا للتغييرات الجيوستراتيجية الكبرى الجارية في المنطقة، ومنها محاولات إيطاليا الاستغناء تماما عن الغاز الروسي، والاستعاضة عنه بالغاز الليبي والجزائري. وفي هذا الاتجاه أعرب الرئيس التنفيذي لمجموعة "إيني" الإيطالية، كلاوديو ديسكالزي، لدى استقباله وفدا ليبيا في روما أخيرا، عن استعداد حكومته لإطلاق مرحلة جديدة من الاستثمارات، ترمي إلى زيادة إنتاج الغاز، وتكثيف النشاط الاستكشافي، والاستفادة من التسهيلات والمعدات المتوافرة، في تلبية الطلب على الغاز في السوقين المحلية والأوروبية. كما أدى ديسكالزي زيارة للجزائر عبر خلالها عن رغبة روما في زيادة وارداتها من الغاز الجزائري. وتوقع ديسكالزي، أن استغناء إيطاليا عن الغاز الروسي بالكامل سيستغرق عاما ونصف العام. وتُزود روسيا إيطاليا حالياً بـ45 في المئة من حاجتها إلى الغاز الطبيعي.

وتأكيدا لهذه "الاستدارة الطاقية" المرتقبة، أعلن وزير التحول البيئي الإيطالي روبرتو سينغولاني، عن قرب توقيع بلده أولى صفقاتها للحصول على مزيد من الغاز من ليبيا ومزودين آخرين، لكي يحل في الأسابيع المقبلة، محل التدفقات الروسية. إلا أن ليبيا لا تلبي حاليا سوى 2.5 في المئة فقط من حاجات الغاز الإيطالية، التي يأتي معظمها من روسيا ثم الجزائر وقطر.

خطأٌ جيوسياسيٌ

في هذا السياق اعترف رئيس الوزراء الايطالي المستقيل ماريو دراغي أن اعتماد أوروبا الكبير على الغاز الروسي ينال من استقلالها الطاقي، ويمثل خطأً جيوسياسياً تم ارتكابه على مدار العشرين عاماً الماضية. أما وزير حماية البيئة سينغولاني فاعتبر أن أوروبا أنفقت مالا كثيرا على استيراد الغاز الطبيعي من روسيا. وقدر تلك الأموال بما يقرب من مليار يورو يومياً، مُضيفا "في النهاية، نحن نمول الحرب (في أوكرانيا) بشكل غير مباشر".

وفي خط متزامن أعلن الرئيس التنفيذي لمجموعة "توتال إنرجي" الفرنسية باتريك بوياني، استعداد المجموعة لإطلاق استثمارات جديدة في ليبيا بُغية زيادة إنتاجها من النفط والغاز، ومن ثم زيادة قدراتها على تزويد السوقين المحلي والأوروبي. وفي هذا الإطار اجتمع الخميس الماضي رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة مع الرئيس التنفيذي لـ"توتال إنرجي" باتريك بوياني، في باريس. والأرجح أن الاجتماع تطرق إلى إطلاق استثمارات جديدة للمجموعة في ليبيا من أجل زيادة تزويد السوقين المحلي والأوروبي بالنفط والغاز.

إلا أن زيادة الانتاج الليبي وما يترتب عنها من ارتفاع في الايرادات لا يكفي لتحسين مستوى عيش الليبيين والحد من ارتفاع الأسعار. وبحسب إيريك بورغن، أحد المديرين البارزين في البنك الدولي، تراجع الناتج الإجمالي في ليبيا، مقارنة بحصة الفرد الواحد، إلى النصف مقارنة بعام 2010، ما سيترك أثرا كبيرا على السكان وأفراد المجتمع. وقال بورغن، متحدثا في "منتدى شركاء التنمية"، الذي نظمته وزارة المالية في حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، إن الاقتصاد الليبي شهد تحسنا ملحوظا منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في جنيف عام 2020، وخاصة العام الماضي، بالتزامن مع معاودة إنتاج النفط وفتح الموانئ للتصدير. وأكد أن الناتج الاقتصادي الليبي أصبح آخذا في الزيادة، بالرغم من تحذيره في الوقت نفسه، من ارتفاع التضخم بنسبة تقدر بحوالي 7 في المئة. ويمكن الاشارة هنا إلى الأوضاع الاجتماعية الصعبة في ليبيا نتيجة الزيادة في الأسعار. وبحسب الخبراء الاقتصاديين زادت أسعار المواد الغذائية بنسبة 22 في المئة، نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، كما ساهمت أزمة الكهرباء والمياه في رفع نسبة التضخم.

المدنيون هم الضحايا

من هنا فإن أي تدهور للوضع الأمني سيُسبب ردود أفعال غاضبة من المدنيين، الذين ذاقوا الأمرين من القتال بين قوات اللواء خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني، قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في خريف 2020. وتسببت تلك المعارك في نزوح أعداد كبيرة من سكان الضواحي الجنوبية لطرابلس، التي شهدت أعنف المعارك في 2019. ومع تعطُل المسار الدستوري وإخفاق محاولات رأب الصدع بين الفريقين المتصارعين، أبدت الأمم المتحدة مخاوف كبيرة من تجدُد القتال. وفي محاولة لتهدئة الأجواء ترأس رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بصفته (أي المجلس) القائد الأعلى للجيش، اجتماعا طارئا حضره كلٌ من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الأركان العامة الفريق أول محمد الحداد، ورئيس جهاز المخابرات ووزير الداخلية ورؤساء الأركان النوعية، إلى جانب رئيس جهاز الأمن الداخلي، وفق بيان صادر عن المجلس.

استفاقة أخيرة؟

 وأشارت أكثر التوقعات تشاؤما إلى سيناريو مفاده "أن الصدام آت ما لم تُدرك الفرقاء استفاقةً أخيرة"، وهي استفاقة تبدو مستبعدة في ضوء بيانات باشاغا المتتالية خلال اليومين الأخيرين، على ما جاء في بوابة "ليبيا المستقبل". والأرجح أن القوى الاقليمية، وخاصة مصر التي تدعم باشاغا، ستغض الطرف عن النار التي قد يُشعلها هذا الأخير، في العاصمة طرابلس. كما يُرجح أن تقف الجزائر إلى جانب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، التي قال الرئيس عبد المجيد تبون إنها الحكومة الوحيدة التي تحظى بالشرعية، والتي تعترف بها الجزائر. أكثر من ذلك سبق للرئيس الجزائري أن أعلن أن "طرابلس خطٌ أحمرُ"، ما يعني أن الجزائر لن تبقى مكتوفة اليدين لو اجتاحت جماعات مسلحة تابعة لباشاغا العاصمة طرابلس، من أجل إخراج حكومة الدبيبة منها، والحلول محلها. والأرجح أن تبون تطرق للملف الليبي في محادثاته مع الرئيس الزائر إيمانويل ماكرون في الجزائر. غير أن هذا الملف سيبقى أحد عناوين الخلاف بين باريس والجزائر، منذ التدخل العسكري للحلف الأطلسي في ليبيا عام 2011، بقيادة فرنسا وبريطانيا. والمؤكد أن الجزائر لن تقبل بتهميشها في أي اتفاق سلام مقبل في ليبيا، مثلما تم استبعادها من اجتماعات الصخيرات، ولاحقا من تفاهمات بوزنيقة في المغرب. والمُلاحظ أن الجزائر كانت مشغولة في تلك الفترة بمجابهة الحركة الاجتماعية الواسعة للمطالبة بتنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ثم بالانتخابات التي أعقبتها. فهل أن سيناريو التدخل الجزائري سيجعل باشاغا ورُعاة معركته، يجنحون إلى الحلول السلمية؟

 

نُذُرُ حرب تُخيم على طرابلس وأملٌ ضئيلٌ في نزع فتيلها

 

 

بقلم:رشيد خشانة

عندما تُصدر الادارة الأمريكية، عبر وزارة الخارجية، بيانا تُعرب فيه عن "قلقها الشديد" جراء التهديدات الجديدة باندلاع اشتباكات عنيفة في طرابلس، فذلك مؤشرٌ مهمٌ على أن الخطر جديٌ ووشيك، خاصة أن بيان الرئيس بايدن دعا إلى "وقف التصعيد الفوري من قبل جميع الأطراف". ويُعزى هذا التحذير الأمريكي إلى مصدرين أساسيين أولهما التداعيات الاقليمية المحتملة لاستمرار الأزمة في ليبيا، أما الثاني فمُرتبط بتطورات عالم الطاقة.

من هنا نلاحظ في الموقف الأمريكي كلمات تتردد، لها دلالات خاصة في السياق الراهن، من قبيل "تعمُق الانقسامات الداخلية" أو "المأزق المؤسسي يُهدد بانحراف عنيف" أو ضرورة "نزع فتيل الأزمة"... ومدلول هذه العبارات، المتقاربة في معانيها، أن التقارير الأمريكية تؤكد أن العاصمة طرابلس على قاب قوسين من عاصفة شديدة، تُشبه ربما هجوم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على الأحياء الجنوبية لطرابلس في عام 2019. وتعززت هذه المخاوف بإعلان الهيئة الطرابلسية، أن أي عمل عسكري يهدد طرابلس يضعُ أصحابه تحت طائلة القانون الوطني والدولي. وعبرت الهيئة عن رفضها "جعل طرابلس ساحة اقتتال من أجل السلطة"، مُتوعدة أي طرف يهدد بعمل عسكري أو يُنفذه داخل طرابلس، بأنه سيكون تحت طائلة القانون الوطني والدولي، جراء ارتكابه جُرم الخيانة العظمى، التي يحاسب عليها القانون الليبي، وفق بيان الهيئة الطرابلسية.

كما طالبت الهيئة بإجراء انتخابات تشريعية في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، واختيار حكومة تكنوقراط وطنية، بعيداً عن منطق المحاصصة، "تُراعي حرمة الدم والعرض، وتحافظ على ما تبقى من لُحمة وطنية ومقدرات الوطن".

محاولات أمريكية بلا جدوى

 وفي مسار مُواز يتعلق بملف النفط والغاز، حاول الأمريكيون إقناع السعودية بزيادة الانتاج النفطي، لكن بلا جدوى. ومن هنا تبدو الحاجة الملحة للأمريكيين للترفيع من إنتاج النفط الليبي، الذي لا يتجاوز حاليا 700 ألف برميل يوميا، إلى 2 مليوني برميل. لكن ذلك يتطلب حدا أدنى من استتباب الأمن والاستقرار في البلد. غير أن محللين رأوا أن تلك الحركة كانت جزءا من الانفراج المُسجل في العلاقات بين القوى الخارجية المُتداخلة في الملف الليبي، ومنها الإمارات وتركيا ومصر وإلى حد ما روسيا وفرنسا.

وتندرج في هذا الاطار تنحية رئيس مؤسسة النفط الليبية مصطفى صنع الله، وتسمية المصرفي فرحات بن قدارة، المُقرب من الامارات، في مكانه، مع ما أثاره ذلك التغيير من جدل حول مدى انسجامه مع النظام الأساسي للمؤسسة.

ومع أن الدول المذكورة لا تبدو على قناعة بقدرة الأمم المتحدة على رعاية الحل النهائي في ليبيا، خاصة في ظل تأخُر تعيين ممثل خاص جديد للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، من أجل استئناف جهود الوساطة بين الفرقاء، فإن تلك الدول مازالت متشبثة بضرورة إجراء الانتخابات، بوصفها الحل السلمي الوحيد للصراع في ليبيا. وعلى خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن المليوني برميل المحتملين، اللذين يمكن أن تنتجهما ليبيا في اليوم، لهما وزن كبير في العلاقات بين السلطات الليبية، أيا كان الحاكم في طرابلس، والشركاء الخارجيين، وفي مقدمتهم إيطاليا.

تنازلات مُجحفة

وفي القلب من العلاقات الثنائية مع روما توجد مصفاة راس لانوف (شمال شرق) التي تحتل موقعا مركزيا في السجال بين الليبيين والإيطاليين، إذ أن هذه المصفاة التي تعتبر الأكبر في ليبيا، والتي تؤمن 60 في المائة من طاقة تكرير النفط في البلد، دخلت الانتاج عام 1984، ثم أبرم المسؤولون عنها في 2009 عقدا مع مجموعة "تراستا" الإماراتية لتطويرها، لكن الشركة الإماراتية رفضت إعادة تشغيلها، ما لم يوافق الجانب الليبي على تنازلات تؤدي إلى خسارة أكثر من 240 مليون دولار سنويا. كما حركت الشركة الإماراتية ثماني قضايا أمام التحكيم الدولي، في ليبيا وفرنسا وبريطانيا، طلبت بموجبها تعويضات بمليارات الدولارات. واستمرت في تعطيل المصفاة ومُجمع راس لانوف البتروكيميائي عن التشغيل إلى اليوم، مُسببة خسائر لليبيا تُقدر بمليارات الدولارات.

تغييرات جيوستراتيجية

يُعتبر ملف النفط عنوانا للتغييرات الجيوستراتيجية الكبرى الجارية في المنطقة، ومنها محاولات إيطاليا الاستغناء تماما عن الغاز الروسي، والاستعاضة عنه بالغاز الليبي والجزائري. وفي هذا الاتجاه أعرب الرئيس التنفيذي لمجموعة "إيني" الإيطالية، كلاوديو ديسكالزي، لدى استقباله وفدا ليبيا في روما أخيرا، عن استعداد حكومته لإطلاق مرحلة جديدة من الاستثمارات، ترمي إلى زيادة إنتاج الغاز، وتكثيف النشاط الاستكشافي، والاستفادة من التسهيلات والمعدات المتوافرة، في تلبية الطلب على الغاز في السوقين المحلية والأوروبية. كما أدى ديسكالزي زيارة للجزائر عبر خلالها عن رغبة روما في زيادة وارداتها من الغاز الجزائري. وتوقع ديسكالزي، أن استغناء إيطاليا عن الغاز الروسي بالكامل سيستغرق عاما ونصف العام. وتُزود روسيا إيطاليا حالياً بـ45 في المئة من حاجتها إلى الغاز الطبيعي.

وتأكيدا لهذه "الاستدارة الطاقية" المرتقبة، أعلن وزير التحول البيئي الإيطالي روبرتو سينغولاني، عن قرب توقيع بلده أولى صفقاتها للحصول على مزيد من الغاز من ليبيا ومزودين آخرين، لكي يحل في الأسابيع المقبلة، محل التدفقات الروسية. إلا أن ليبيا لا تلبي حاليا سوى 2.5 في المئة فقط من حاجات الغاز الإيطالية، التي يأتي معظمها من روسيا ثم الجزائر وقطر.

خطأٌ جيوسياسيٌ

في هذا السياق اعترف رئيس الوزراء الايطالي المستقيل ماريو دراغي أن اعتماد أوروبا الكبير على الغاز الروسي ينال من استقلالها الطاقي، ويمثل خطأً جيوسياسياً تم ارتكابه على مدار العشرين عاماً الماضية. أما وزير حماية البيئة سينغولاني فاعتبر أن أوروبا أنفقت مالا كثيرا على استيراد الغاز الطبيعي من روسيا. وقدر تلك الأموال بما يقرب من مليار يورو يومياً، مُضيفا "في النهاية، نحن نمول الحرب (في أوكرانيا) بشكل غير مباشر".

وفي خط متزامن أعلن الرئيس التنفيذي لمجموعة "توتال إنرجي" الفرنسية باتريك بوياني، استعداد المجموعة لإطلاق استثمارات جديدة في ليبيا بُغية زيادة إنتاجها من النفط والغاز، ومن ثم زيادة قدراتها على تزويد السوقين المحلي والأوروبي. وفي هذا الإطار اجتمع الخميس الماضي رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة مع الرئيس التنفيذي لـ"توتال إنرجي" باتريك بوياني، في باريس. والأرجح أن الاجتماع تطرق إلى إطلاق استثمارات جديدة للمجموعة في ليبيا من أجل زيادة تزويد السوقين المحلي والأوروبي بالنفط والغاز.

إلا أن زيادة الانتاج الليبي وما يترتب عنها من ارتفاع في الايرادات لا يكفي لتحسين مستوى عيش الليبيين والحد من ارتفاع الأسعار. وبحسب إيريك بورغن، أحد المديرين البارزين في البنك الدولي، تراجع الناتج الإجمالي في ليبيا، مقارنة بحصة الفرد الواحد، إلى النصف مقارنة بعام 2010، ما سيترك أثرا كبيرا على السكان وأفراد المجتمع. وقال بورغن، متحدثا في "منتدى شركاء التنمية"، الذي نظمته وزارة المالية في حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس، إن الاقتصاد الليبي شهد تحسنا ملحوظا منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في جنيف عام 2020، وخاصة العام الماضي، بالتزامن مع معاودة إنتاج النفط وفتح الموانئ للتصدير. وأكد أن الناتج الاقتصادي الليبي أصبح آخذا في الزيادة، بالرغم من تحذيره في الوقت نفسه، من ارتفاع التضخم بنسبة تقدر بحوالي 7 في المئة. ويمكن الاشارة هنا إلى الأوضاع الاجتماعية الصعبة في ليبيا نتيجة الزيادة في الأسعار. وبحسب الخبراء الاقتصاديين زادت أسعار المواد الغذائية بنسبة 22 في المئة، نتيجة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، كما ساهمت أزمة الكهرباء والمياه في رفع نسبة التضخم.

المدنيون هم الضحايا

من هنا فإن أي تدهور للوضع الأمني سيُسبب ردود أفعال غاضبة من المدنيين، الذين ذاقوا الأمرين من القتال بين قوات اللواء خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني، قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في خريف 2020. وتسببت تلك المعارك في نزوح أعداد كبيرة من سكان الضواحي الجنوبية لطرابلس، التي شهدت أعنف المعارك في 2019. ومع تعطُل المسار الدستوري وإخفاق محاولات رأب الصدع بين الفريقين المتصارعين، أبدت الأمم المتحدة مخاوف كبيرة من تجدُد القتال. وفي محاولة لتهدئة الأجواء ترأس رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بصفته (أي المجلس) القائد الأعلى للجيش، اجتماعا طارئا حضره كلٌ من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الأركان العامة الفريق أول محمد الحداد، ورئيس جهاز المخابرات ووزير الداخلية ورؤساء الأركان النوعية، إلى جانب رئيس جهاز الأمن الداخلي، وفق بيان صادر عن المجلس.

استفاقة أخيرة؟

 وأشارت أكثر التوقعات تشاؤما إلى سيناريو مفاده "أن الصدام آت ما لم تُدرك الفرقاء استفاقةً أخيرة"، وهي استفاقة تبدو مستبعدة في ضوء بيانات باشاغا المتتالية خلال اليومين الأخيرين، على ما جاء في بوابة "ليبيا المستقبل". والأرجح أن القوى الاقليمية، وخاصة مصر التي تدعم باشاغا، ستغض الطرف عن النار التي قد يُشعلها هذا الأخير، في العاصمة طرابلس. كما يُرجح أن تقف الجزائر إلى جانب رئيس حكومة الوحدة الوطنية، التي قال الرئيس عبد المجيد تبون إنها الحكومة الوحيدة التي تحظى بالشرعية، والتي تعترف بها الجزائر. أكثر من ذلك سبق للرئيس الجزائري أن أعلن أن "طرابلس خطٌ أحمرُ"، ما يعني أن الجزائر لن تبقى مكتوفة اليدين لو اجتاحت جماعات مسلحة تابعة لباشاغا العاصمة طرابلس، من أجل إخراج حكومة الدبيبة منها، والحلول محلها. والأرجح أن تبون تطرق للملف الليبي في محادثاته مع الرئيس الزائر إيمانويل ماكرون في الجزائر. غير أن هذا الملف سيبقى أحد عناوين الخلاف بين باريس والجزائر، منذ التدخل العسكري للحلف الأطلسي في ليبيا عام 2011، بقيادة فرنسا وبريطانيا. والمؤكد أن الجزائر لن تقبل بتهميشها في أي اتفاق سلام مقبل في ليبيا، مثلما تم استبعادها من اجتماعات الصخيرات، ولاحقا من تفاهمات بوزنيقة في المغرب. والمُلاحظ أن الجزائر كانت مشغولة في تلك الفترة بمجابهة الحركة الاجتماعية الواسعة للمطالبة بتنحية الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ثم بالانتخابات التي أعقبتها. فهل أن سيناريو التدخل الجزائري سيجعل باشاغا ورُعاة معركته، يجنحون إلى الحلول السلمية؟

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews