إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي.. بين قاضي البصرة وقضاتنا: لله في خلقه شؤون

على إثر صدور قرار المحكمة الإدارية بتوقيف التنفيذ لقرار الإعفاء في حق ثمانية وأربعين قاضيا، أقيمت أجواء احتفالية نظمها العديد من القضاة والقاضيات امتزج فيها الرقص بالغناء. وقد تداولت وسائل التواصل الاجتماعي شريط فيديو كان فيه القضاة والقاضيات في حلّ من كل الرّسميات وما يحاطون به من قداسة في أروقة المحكمة وقاعاتها. وهي لعمري أجواء تدخل في إطار الحرية الشخصية وليس من حق أيّ كان، في اعتقادنا، أن يلقي عليها الأحكام والصفات.

ومن ناحيتنا، ارتأينا بمناسبة الحديث عن عالم القضاة وأجوائهم أن نعود إلى أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (775-868 م) وحكايته مع قاضي البصرة والذباب. وقد تجاوزت أصداء هذه الحكاية مدينة البصرة وسارت بها الركبان عبر الأمصار والأزمان إلى يوم الناس هذا. ولعلّ في المقارنة بين قاضي البصرة وقضاتنا إمتاعا ومؤانسة.

" عبد الله بن سُوَّار وإلحاح الذّباب"

كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سُوَّار، لم ير الناس حاكماً قطّ ولا زِمِّيتاً ولا ركيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه، وملك من حركته، مثل الذي ضبط وملك، كان يصلي الغداة في منزله وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتكئ، فلا يزال منتصباً لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت ولا يحل حبوته، ولا يحل رجلاً عن رجل، ولا يعتمد على أحد شِقَّيه حتى كأنه بناء مبني، أو صخرة منصوبة، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثم يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى محلّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءه العهود والشروط والوثائق، ثم يصلي العشاء الأخير وينصرف.

فالحق يقال: لم يقم في طول تلك المدة والولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب، كذلك كان شأنه في طول الأيام وفي قصارها، وفى صيفها وفى شتائها، وكان مع ذلك لا يحرك يده، ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة.

فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق عينه، فرام الصبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرك أرنبته، أو يغضّن وجهه أو يذبّ بإصبعه، فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه أحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحَّى ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرّته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد في شده الحركة، وفي فتح العين، وفى تتابع الفتح الإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بُدًّا من أن يذب عن عينه بيده، ففعل وعيون القوم إليه ترمقه وكأنهم لا يرونه، فتنحى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمّه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه، فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب، قال: وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله -عز وجل- أن يعّرفه من ضعفه ما كان عنه مستوراً، وقد علمت أنّي عند الناس من أزْمَتِ الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خَلقه، ثم تلا قول الله تعالى: "وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذون منه ضعف الطالب والمطلوب".

وكان بيّن اللسان، قليل فضول الكلام، وكان مهيبا في أصحابه، وكان أحدّ من لم يطعن عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمَنالة" (1).

أعرف جيدا يا أبا عثمان أنّ زمانك غير زماننا وأنّ أرضك غير أرضنا وأنّ سماءك غير سمائنا. ولكن ما عسى قاضي البصرة هذا الذي تحدثت عنه يقول لو يرى زملاءه في تونس وقد لعبت بهم وبهنّ الشمول منتشين يهزهم ويهزهنّ الدّلال كالغصن مع النسيم مائلا خلال حفل ساهر ولسان كلّ واحد وواحدة منهنّ يقول: "أنا معزول السّجع من غير جرم ولا سبب" (2).

-------

(1) الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الكتاب الأول، الجزء الثالث، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ص343-346.

(2) عبد الوهاب عزام، بين القاهرة وطوس، مجلة الرسالة، 11 فيفري 1935، عدد 84.

مصدّق الشّريف

 

 

 

 

رأي..  بين قاضي البصرة وقضاتنا: لله في خلقه شؤون

على إثر صدور قرار المحكمة الإدارية بتوقيف التنفيذ لقرار الإعفاء في حق ثمانية وأربعين قاضيا، أقيمت أجواء احتفالية نظمها العديد من القضاة والقاضيات امتزج فيها الرقص بالغناء. وقد تداولت وسائل التواصل الاجتماعي شريط فيديو كان فيه القضاة والقاضيات في حلّ من كل الرّسميات وما يحاطون به من قداسة في أروقة المحكمة وقاعاتها. وهي لعمري أجواء تدخل في إطار الحرية الشخصية وليس من حق أيّ كان، في اعتقادنا، أن يلقي عليها الأحكام والصفات.

ومن ناحيتنا، ارتأينا بمناسبة الحديث عن عالم القضاة وأجوائهم أن نعود إلى أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (775-868 م) وحكايته مع قاضي البصرة والذباب. وقد تجاوزت أصداء هذه الحكاية مدينة البصرة وسارت بها الركبان عبر الأمصار والأزمان إلى يوم الناس هذا. ولعلّ في المقارنة بين قاضي البصرة وقضاتنا إمتاعا ومؤانسة.

" عبد الله بن سُوَّار وإلحاح الذّباب"

كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سُوَّار، لم ير الناس حاكماً قطّ ولا زِمِّيتاً ولا ركيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه، وملك من حركته، مثل الذي ضبط وملك، كان يصلي الغداة في منزله وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتكئ، فلا يزال منتصباً لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت ولا يحل حبوته، ولا يحل رجلاً عن رجل، ولا يعتمد على أحد شِقَّيه حتى كأنه بناء مبني، أو صخرة منصوبة، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثم يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى محلّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءه العهود والشروط والوثائق، ثم يصلي العشاء الأخير وينصرف.

فالحق يقال: لم يقم في طول تلك المدة والولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب، كذلك كان شأنه في طول الأيام وفي قصارها، وفى صيفها وفى شتائها، وكان مع ذلك لا يحرك يده، ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة.

فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق عينه، فرام الصبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرك أرنبته، أو يغضّن وجهه أو يذبّ بإصبعه، فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه أحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحَّى ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرّته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد في شده الحركة، وفي فتح العين، وفى تتابع الفتح الإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بُدًّا من أن يذب عن عينه بيده، ففعل وعيون القوم إليه ترمقه وكأنهم لا يرونه، فتنحى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمّه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن فعله كله بعين من حضره من أمنائه وجلسائه، فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب، قال: وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله -عز وجل- أن يعّرفه من ضعفه ما كان عنه مستوراً، وقد علمت أنّي عند الناس من أزْمَتِ الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خَلقه، ثم تلا قول الله تعالى: "وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذون منه ضعف الطالب والمطلوب".

وكان بيّن اللسان، قليل فضول الكلام، وكان مهيبا في أصحابه، وكان أحدّ من لم يطعن عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمَنالة" (1).

أعرف جيدا يا أبا عثمان أنّ زمانك غير زماننا وأنّ أرضك غير أرضنا وأنّ سماءك غير سمائنا. ولكن ما عسى قاضي البصرة هذا الذي تحدثت عنه يقول لو يرى زملاءه في تونس وقد لعبت بهم وبهنّ الشمول منتشين يهزهم ويهزهنّ الدّلال كالغصن مع النسيم مائلا خلال حفل ساهر ولسان كلّ واحد وواحدة منهنّ يقول: "أنا معزول السّجع من غير جرم ولا سبب" (2).

-------

(1) الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الكتاب الأول، الجزء الثالث، شركة مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، ص343-346.

(2) عبد الوهاب عزام، بين القاهرة وطوس، مجلة الرسالة، 11 فيفري 1935، عدد 84.

مصدّق الشّريف

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews