إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: فلننتبه إلى ما يُدسّ في وريقة اليوميّة

بقلم:مصدّق الشّريف

كثيرة هي الأشياء التي أزيحت عنها مكانتها في حياتنا اليوميّة فلم تعد تحمل الاهتمام نفسه ولا الأولويّة ذاتها كالسّاعة اليدوية أو السّاعة الحائطيّة أو المنبّه. فالهاتف الجوّال يخبرك عن التّاريخ بالسّنة والشّهر واليوم والسّاعة والدّقيقة والثّانية. ولو نظرنا إلى ما حولنا لوجدنا أنّ التقدّم العلمي والزّحف التكنولوجي قد تجاوزا وسائل كثيرة كنّا نستعملها في نشاطنا اليوميّ. بقي أنّ بعضها لم ينقرض تماما وظلّت علاقتنا الحميميّة بها متأصّلة في كياننا فلم نقطع الصّلة بها نهائيّا.

ولعلّ الكثير منّا لا يزال حريصا على شراء اليومية الحائطيّة في مفتتح كلّ عام ميلاديّ جديد ليعلّقها في أحد أماكن بيته أو في مقرّ عمله ولو أنّه في غنى كبير عنها. وعادة ما نستهلّ يومنا بقراءة ما جاء في أعلى قفاء ورقة اليوميّة من معلومات تطال شتّى الميادين ونهتمّ بما في أسفلها من نكت وكاريكاتور. وقد لاحظنا أنّ هذه الوريقة التي يقرؤها العديد من النّاس لاسيّما بعض أفراد العائلة الواحدة أصبحت تُحرّر في كثير من الأحيان بالعاميّة لا باللّغة العربيّة الفصحى. وتحمل في طيّات ما يُكتب فيها وما يُرسم ما ينمّ عن انعدام الذوق وقلّة الأدب والحياء. وكثيرا ما يجنح محتواها إلى تبخيس ذهن القارئ وتغذية سلوك الاستهزاء والسّخرية سواء من المربّي تجاه تلميذه أو من التلميذ تجاه مربيّه. ولنا أن نضرب على ما نقول المثال التالي:

"سأل الأستاذ التلميذ: ماذا تختار؟ العقل أم المال؟

أجاب التلميذ: المال.

ابتسم الأستاذ وقال: أنا أختار العقل.

ردّ التلميذ: والله يا أستاذ كلّ منّا يختار ما ينقصهǃ"

ويُصرّ ما يُطبع على ورقة اليوميّة على إنماء الموروث المبنيّ على كره الكنّة لحماتها أو الحماة لزوج ابنتها والتباغض بين الزوجين وحصر كنه العلاقة في ما بينهما أو بينهما وبين الأبناء في المادّة. وقد قرأتُ بتاريخ الجمعة 5 أوت 2022 في قفا ورقة اليوميّة الحوار التالي:

"الصّديقة: صحيح أنّ زوجك صدمه قطار؟

الزّوجة: نعم.. لكن الحمد لله وجدنا مرتّبه كلّه كاملا في جيبهǃ"

ولا يسلم الطّبيب والمريض من هكذا ترذيل. وعادة ما يُؤتى بالمريض على أنّ مداركه العقليّة مختلّة أو منعدمة. ومن الأمثلة على ذلك:

"الطبيب متأملا تحليل الدم: عندك سكّر في الدّم.

المريض: شكرا يا دكتور والله أنت الي عسلǃ "

ومن ناحية أخرى، كثيرا ما تمدّنا وريقة اليوميّة بمعلومات تاريخية أو بمواقف وأحاديث تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لبعض الصّحابة والتابعين بعيدة عن النّظر والتحقيق ولا تزيد عن الإخبار. ولا تخلو مضامينها في أحيان كثيرة من سفاسف تصل إلى مستوى السّذاجة فتعمق الفكر الخرافي وترسّخ المعتقدات البالية التي تجاوزها العلم وأثبت مدى تخلّفها. وبذلك تشدّ القارئ إلى الفكر الرّجعي وتصنع منه كائنا متخلّيا عن إعمال عقله وإنارة فكره وتقنعه بالعيش عيش الحفر بعد أن ردّ ما يدور حوله كلّه من أحداث ومظاهر طبيعيّة واجتماعية إلى القضاء والقدر حتّى يُصبح مسلوب الإرادة والعزيمة.

وفي رأينا أنّ على كلّ إدارة مسؤولة عن إصدار اليوميّة السنوية أن تراجع ما تكتب وما تختار من رسوم كاريكاتورية قبل أن تنشرها للحرفاء. وعليها أيضا من باب المسؤولية والمشاركة في الدّور التربويّ الطلائعيّ أن تتثبّت في مضامين ما سيطّلع عليه الكبير والصّغير من القرّاء وخاصّة منهم الناشئة لأنها على هذه الحال تسهم، بوعي أو من دون وعي، إسهاما لا يُستهان به في انحطاط الذّوق العام بضرب كرامة المربّي ومصداقيّته وإرباك التلميذ وتدمير ثقة المريض بنفسه وفي تعميق موروث شعبيّ يصوّر العلاقات الأسريّة مجبولة على الكراهيّة والتباغض وعبادة المادّة والانقياد وراء الشعوذة والنّشأة على النّقل دون إعمال العقل. وفي اعتقادنا أنّ دور وريقة اليوميّة لا يقلّ أهميّة عن دور المكتبة المدرسيّة. وفي هذا السيّاق يذهب الأستاذ إبراهيم بن صالح المتفقّد العام للتّربية في مؤلّفه "المدرسة التونسيّة من الأزمة إلى إعادة التّأسيس" بالقول إلى أنّ "أكبر تحدّ تواجهه المكتبة المدرسيّة وكان غائبا غيابا فادحا في ذهن القائمين على شؤون التربية والتعليم هو الوعي بقيمة المكتبة المدرسيّة مؤسّسة ثقافيّة لا يقف دورها عند حدود التكميل التربوي والإدماج المدرسي كما تذهب إلى ذلك توصيات (إفلا IFLA) على قيمتها، وإنّما تتجاوزها إلى الرسالة الثقافيّة في الوسط المدرسي عندما نفهم الثقافة على أنّها العناية والصيانة والاحتفاظ والتشذيب والتهذيب (أراندت) وأنّها الكسب التاريخي والإنساني الكفيل بإخراج الفرد من خصاله الطبيعيّة البدائيّة إلى الخصال المدنيّة وهي الوسيلة الضامنة لأنسنة الإنسان حتى لا يظلّ "ذئبا لأخيه الإنسان" (روسو-هوبس) – ونحن في سياق مقاومة الإرهاب ليس من سبيل لنا إلى التغلّب عليه بغير الثقافة أوّلا والثقافة دائما – ومن هنا فإنّني لا أستطيع أن أقصر وظيفة المكتبة المدرسيّة على ما هو مسطّر معروف من مهام بل أعدّها قلعة مقاومة للعنف وشتى صنوف الانحراف ولا أعتبر القائم على المكتبة المدرسية مجرّد عون فنّي يساعد في الحصول على كتاب أو يرشد إلى وثيقة أو يعاون على إنجاز مشروع أو صاحب مفتاح يفتح به أو يغلق مخزن كتب يسمّيه بعضهم مكتبة مدرسية وإنّما حافظ أو حافظة المكتبة المدرسية هو معلّم ومفكّر ومدبّر وهو صاحب رأي ونظر بل هو قائد من قواد معركة ثقافة كبرى هي ثقافة السلم والمواطنة والحسّ المدني الرهيف والعيش المشترك والاختلاف المثمر ضدّ ثقافة التعصب والهوية الاقصائية وثقافة الأنوية المريضة والمطلقات الوهمية يسهر على بثّ ثقافة المواطنة والمسالمة في كلّ من يرتاد هذا الفضاء". (1)

قال المتنبّي: لَا تَحْقَرَنَّ صَغِيْرًا فِيْ مُخَاصَمَةٍ *** إِنَّ البَعُوْضَةَ تُدْمِيْ مُقْلَةَ الأَسَدِ. فلننتبه إلى ما يُدسّ في وريقة اليوميّةǃ

إبراهيم بن صالح، المدرسة التونسيّة من الأزمة إلى إعادة التأسيس، مكتبة علاء الدين، صفاقس-تونس، الطبعة الأولى، 2022، ص. 270-271.

 

منتدى الصباح: فلننتبه إلى ما يُدسّ في وريقة اليوميّة

بقلم:مصدّق الشّريف

كثيرة هي الأشياء التي أزيحت عنها مكانتها في حياتنا اليوميّة فلم تعد تحمل الاهتمام نفسه ولا الأولويّة ذاتها كالسّاعة اليدوية أو السّاعة الحائطيّة أو المنبّه. فالهاتف الجوّال يخبرك عن التّاريخ بالسّنة والشّهر واليوم والسّاعة والدّقيقة والثّانية. ولو نظرنا إلى ما حولنا لوجدنا أنّ التقدّم العلمي والزّحف التكنولوجي قد تجاوزا وسائل كثيرة كنّا نستعملها في نشاطنا اليوميّ. بقي أنّ بعضها لم ينقرض تماما وظلّت علاقتنا الحميميّة بها متأصّلة في كياننا فلم نقطع الصّلة بها نهائيّا.

ولعلّ الكثير منّا لا يزال حريصا على شراء اليومية الحائطيّة في مفتتح كلّ عام ميلاديّ جديد ليعلّقها في أحد أماكن بيته أو في مقرّ عمله ولو أنّه في غنى كبير عنها. وعادة ما نستهلّ يومنا بقراءة ما جاء في أعلى قفاء ورقة اليوميّة من معلومات تطال شتّى الميادين ونهتمّ بما في أسفلها من نكت وكاريكاتور. وقد لاحظنا أنّ هذه الوريقة التي يقرؤها العديد من النّاس لاسيّما بعض أفراد العائلة الواحدة أصبحت تُحرّر في كثير من الأحيان بالعاميّة لا باللّغة العربيّة الفصحى. وتحمل في طيّات ما يُكتب فيها وما يُرسم ما ينمّ عن انعدام الذوق وقلّة الأدب والحياء. وكثيرا ما يجنح محتواها إلى تبخيس ذهن القارئ وتغذية سلوك الاستهزاء والسّخرية سواء من المربّي تجاه تلميذه أو من التلميذ تجاه مربيّه. ولنا أن نضرب على ما نقول المثال التالي:

"سأل الأستاذ التلميذ: ماذا تختار؟ العقل أم المال؟

أجاب التلميذ: المال.

ابتسم الأستاذ وقال: أنا أختار العقل.

ردّ التلميذ: والله يا أستاذ كلّ منّا يختار ما ينقصهǃ"

ويُصرّ ما يُطبع على ورقة اليوميّة على إنماء الموروث المبنيّ على كره الكنّة لحماتها أو الحماة لزوج ابنتها والتباغض بين الزوجين وحصر كنه العلاقة في ما بينهما أو بينهما وبين الأبناء في المادّة. وقد قرأتُ بتاريخ الجمعة 5 أوت 2022 في قفا ورقة اليوميّة الحوار التالي:

"الصّديقة: صحيح أنّ زوجك صدمه قطار؟

الزّوجة: نعم.. لكن الحمد لله وجدنا مرتّبه كلّه كاملا في جيبهǃ"

ولا يسلم الطّبيب والمريض من هكذا ترذيل. وعادة ما يُؤتى بالمريض على أنّ مداركه العقليّة مختلّة أو منعدمة. ومن الأمثلة على ذلك:

"الطبيب متأملا تحليل الدم: عندك سكّر في الدّم.

المريض: شكرا يا دكتور والله أنت الي عسلǃ "

ومن ناحية أخرى، كثيرا ما تمدّنا وريقة اليوميّة بمعلومات تاريخية أو بمواقف وأحاديث تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لبعض الصّحابة والتابعين بعيدة عن النّظر والتحقيق ولا تزيد عن الإخبار. ولا تخلو مضامينها في أحيان كثيرة من سفاسف تصل إلى مستوى السّذاجة فتعمق الفكر الخرافي وترسّخ المعتقدات البالية التي تجاوزها العلم وأثبت مدى تخلّفها. وبذلك تشدّ القارئ إلى الفكر الرّجعي وتصنع منه كائنا متخلّيا عن إعمال عقله وإنارة فكره وتقنعه بالعيش عيش الحفر بعد أن ردّ ما يدور حوله كلّه من أحداث ومظاهر طبيعيّة واجتماعية إلى القضاء والقدر حتّى يُصبح مسلوب الإرادة والعزيمة.

وفي رأينا أنّ على كلّ إدارة مسؤولة عن إصدار اليوميّة السنوية أن تراجع ما تكتب وما تختار من رسوم كاريكاتورية قبل أن تنشرها للحرفاء. وعليها أيضا من باب المسؤولية والمشاركة في الدّور التربويّ الطلائعيّ أن تتثبّت في مضامين ما سيطّلع عليه الكبير والصّغير من القرّاء وخاصّة منهم الناشئة لأنها على هذه الحال تسهم، بوعي أو من دون وعي، إسهاما لا يُستهان به في انحطاط الذّوق العام بضرب كرامة المربّي ومصداقيّته وإرباك التلميذ وتدمير ثقة المريض بنفسه وفي تعميق موروث شعبيّ يصوّر العلاقات الأسريّة مجبولة على الكراهيّة والتباغض وعبادة المادّة والانقياد وراء الشعوذة والنّشأة على النّقل دون إعمال العقل. وفي اعتقادنا أنّ دور وريقة اليوميّة لا يقلّ أهميّة عن دور المكتبة المدرسيّة. وفي هذا السيّاق يذهب الأستاذ إبراهيم بن صالح المتفقّد العام للتّربية في مؤلّفه "المدرسة التونسيّة من الأزمة إلى إعادة التّأسيس" بالقول إلى أنّ "أكبر تحدّ تواجهه المكتبة المدرسيّة وكان غائبا غيابا فادحا في ذهن القائمين على شؤون التربية والتعليم هو الوعي بقيمة المكتبة المدرسيّة مؤسّسة ثقافيّة لا يقف دورها عند حدود التكميل التربوي والإدماج المدرسي كما تذهب إلى ذلك توصيات (إفلا IFLA) على قيمتها، وإنّما تتجاوزها إلى الرسالة الثقافيّة في الوسط المدرسي عندما نفهم الثقافة على أنّها العناية والصيانة والاحتفاظ والتشذيب والتهذيب (أراندت) وأنّها الكسب التاريخي والإنساني الكفيل بإخراج الفرد من خصاله الطبيعيّة البدائيّة إلى الخصال المدنيّة وهي الوسيلة الضامنة لأنسنة الإنسان حتى لا يظلّ "ذئبا لأخيه الإنسان" (روسو-هوبس) – ونحن في سياق مقاومة الإرهاب ليس من سبيل لنا إلى التغلّب عليه بغير الثقافة أوّلا والثقافة دائما – ومن هنا فإنّني لا أستطيع أن أقصر وظيفة المكتبة المدرسيّة على ما هو مسطّر معروف من مهام بل أعدّها قلعة مقاومة للعنف وشتى صنوف الانحراف ولا أعتبر القائم على المكتبة المدرسية مجرّد عون فنّي يساعد في الحصول على كتاب أو يرشد إلى وثيقة أو يعاون على إنجاز مشروع أو صاحب مفتاح يفتح به أو يغلق مخزن كتب يسمّيه بعضهم مكتبة مدرسية وإنّما حافظ أو حافظة المكتبة المدرسية هو معلّم ومفكّر ومدبّر وهو صاحب رأي ونظر بل هو قائد من قواد معركة ثقافة كبرى هي ثقافة السلم والمواطنة والحسّ المدني الرهيف والعيش المشترك والاختلاف المثمر ضدّ ثقافة التعصب والهوية الاقصائية وثقافة الأنوية المريضة والمطلقات الوهمية يسهر على بثّ ثقافة المواطنة والمسالمة في كلّ من يرتاد هذا الفضاء". (1)

قال المتنبّي: لَا تَحْقَرَنَّ صَغِيْرًا فِيْ مُخَاصَمَةٍ *** إِنَّ البَعُوْضَةَ تُدْمِيْ مُقْلَةَ الأَسَدِ. فلننتبه إلى ما يُدسّ في وريقة اليوميّةǃ

إبراهيم بن صالح، المدرسة التونسيّة من الأزمة إلى إعادة التأسيس، مكتبة علاء الدين، صفاقس-تونس، الطبعة الأولى، 2022، ص. 270-271.

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews