إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي.. رهانات التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين في تونس

الأستاذ الدكتور: مراد بهلول *

يعد ضمان جودة تكوين المدرسين في تونس من أهم رهانات تطوير أداء المنظومة التربوية واستنقاذها من مرحلة الوهن والعجز الذي أصاب اغلب مكوناتها. وفي الحقيقة تعتبر مسالة كفاءة وتأهيل المدرسين من القضايا الجوهرية لأغلب النظم التربوية. فمنذ 20 و 21 جوان من سنة2005 نظمت المفوضية الأوروبية، في بروكسل، مؤتمرًا أوروبيًا يهدف إلى تسليط الضوء على المبادئ الأوروبية والدولية والمعايير المشتركة بشأن كفاءة وتأهيل المعلمين. وتم في خاتمة هذا المؤتمر اعتماد وثيقة سميت بوثيقة المبادئ الأوروبية المشتركة لتدريب الكفاءات وتأهيل المعلمين. ومن أهم المبادئ التي ركزت عليها هذه الوثيقة ما يلي :

- اعتبار مهنة التدريس مهنة موجهة نحو معايير الجودة في مجال التكوين الأساسي ويتم الإشراف عليها من خلال مؤسسات التعليم العالي.

- اعتبار مهنة التدريس من المهن التي تشهد تطورا مستمرا مما يستوجب إدماجها بسياقات التعلم مدى الحياة والتطوير المهني المستمر. لذلك لا بد من بعث مؤسسات عالية الجودة تشتغل على تطوير أنظمة التكوين المستمر للمدرسين ولكل الفاعلين التربويين.

- تقوم مهنة التدريس على علاقات شراكة المدرسة مع الهياكل الخارجية (الصناعة، الصحة الاقتصاد والبيئة إلخ....). ولذلك لا بد من تطوير مستوى انفتاح المدرسة على المحيط وقضاياه في مستوى تكوين المدرسين.

إذا ما استقرأنا الواقع التونسي نلاحظ أن أغلب التمثلات الاجتماعية المتقاسمة بين الكثيرين تختزل كفاءة التدريس في مدى سيطرة المدرس على المحتويات المعرفية التي سيتم نقلها للتلاميذ ومستوى الكاريزما الشخصية التي يتمتع بها والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تكون موضوعًا للتدريب والتكوين. إضافة لذلك لطالما تبين لنا هذه التمثلات الاجتماعية للتدريس أنّ التكوين البيداغوجي والمهني لا يهم في أقصى الحالات إلا معلمي الابتدائي كما لو كان الأطفال الصغار هم فقط من يحتاجون في مساراتهم التعلمية إلى البيداغوجيا والتعلمية وأنه مع تقدم العمر والمسار الدراسي يصبح المتعلمون ( في الثانوي وخاصة في التعليم العالي) لا حاجة لهم بالبيداغوحيا لقدرتهم الطبيعية للنفاذ للمعرفة التي يمكن أن تفرض نفسها في النهاية بحكم ما هي عليه من بلورة نقدية وشرعية ابستمولوجية. إن وزن هذه العقليات كبير في الوسط التربوي والاجتماعي والثقافي التونسي. لذلك اعتقد أنّ هذه التمثلات لا تزال تسيطر على الكثيرين. ويبدو أنه سيستغرق الكثير من الوقت الإقناع بأن التدريس يعتبر من أعقد المهن البشرية وهو مقبل على تحولات جوهرية مستقبلية نتيجة التطور المعرفي المتسارع والثورات الرقمية والصناعية والتكنولوجية وظهور عصر العمل عن بعد والتعليم عن بعد وأنظمة الجودة qualité والتسيير management والاعتماد accréditation وهندسات التكوين ومقاربات المحتويات والمواد والمناهج وتغير صلة التلاميذ بالمعرفة وزمن التعلم وأنساقه وظهور أشكال أخرى من الخيارات الإستراتيجية الوطنية المتعلقة بالإنصاف والتعليم الشامل والتعلم مدى الحياة والاستثمار في التربية والتعليم باعتبارهما مجالات حيوية وربط التعليم بمهارات الحياة والتربية على... وقضايا الإنسان المعاصر والمجتمع مثل الصحة والمواطنة والنوع الاجتماعي والبيئة والطاقات المتجددة والتربية الدامجة و الحماية من كل اشكال التعصب والانغلاق والعنف الى غير ذلك من القضايا الراهنة. يستدعي ذلك في الحقيقة القطع مع أنظمة تكوين بالية ومستهلكة وبلورة منظومة تكوينية ومسارات تمهنية على مستوى عالي تستجيب للرهانات المستقبلية للتربية والتعليم في تونس وفي العالم.

في هذا الإطار اندرج إحداث الإجازة الوطنيّة للتّربيّة والتّعليم سنة 2016 المخصّصة لتكوين طلبة وإعدادهم ليكونوا مدرّسين في التّعليم الابتدائيّ. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإجازة هي إحدى مخرجات الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية الذي انطلق مساره سنة 2015. وبناء على ذلك تمّت بلورة براديغم تكوينيّ بالشراكة بين وزارة التّربية ووزارة التّعليم العالي. وقد ضبط هذا البراديغم بوضوح وحدات التّكوين المدرًّسة ومداها الزّمنيّ وأساليب تقييمها ومعايير الإشهاد فيها. وتمّ تحديد أربعة محاور مهنيّة لتحقيق تمفصل التّكوين الأساسي مع الميداني. وهي محاور تتطابق مع ملامح المدرّس المنتظر وتتلخّص في :

- مدرّس متعلّم متملّك لمعارف المواد وما يوجد بينها من تقاطعات أفقيّة.

- مدرس يتمتع بكفايات تواصلية وكفايات وجدانيّة وعلائقيّة.

- مدرس يتملك معارف وكفايات بيداغوجيّة ونفسية -تربوية.

- مدرس يتملك معارف وكفايات ديداكتيكيّة وقادر على بناء تعلّمية الموّاد.

وقد تمّ إدراج هذا التّكوين الأساسيّ للمدرّسين في تونس، مثل عديد البلدان الأوروبيّة ضمن منظومة التّعليم العالي انخراطا مع المسار العالمي لتمهين التّكوين. وقد ثبتت نجاعة هذا الرّبط وفوائده من عدّة وجوه منها :

- انتداب مدرّسين ذوي مستويات جامعيّة عاليّة.

- توسيع الحقول المعرفيّة للمدرسين.

- تطوير الفكر النقديّ والتأملي للمدرسين.

- التّدرّب على منهجيّات البحث التّربويّ والقدرة على الأشكلة والتحليل والنمذجة العلمية للظواهر التربوية.

لذلك تنتظم هذه الإجازة وفق مسار تكويني يجمع بين البعد الأكاديمي والميداني. إذ تنطلق التربصات الميدانية السداسيّة بداية من السداسي الثالث وتتواصل إلى نهاية التكوين الأساسي في ترابط مع التكوين الأكاديمي الجامعي. وتمثل هذه التربصات لحظات بناء كفايات مهنية وإرساء تدريجي لنظام إدماج المعارف الأكاديمية في سياقات الممارسات المهنية ضمن مسار تفاعل بين المكونين الجامعيين والمتفقدين ومؤطّري التربصات والمؤسسات والمدرسين المشاركين في التأطير.

إن لهذه التربصات الميدانية المتمحورة حول تمشي تحليل الممارسات مهمات أساسية هي:

- تنمية الوعي الذاتي والتأمّل لدى الطالب المتربّص بمسار انتاج ممارساته التعليميّة –التعلّمية وسياقها، بدل تأسيسها على استنساخ أو محاكاة دروس شاهدة.

- تنمية وبناء الكفايات المهنية والمعارف المعبأة في وضعيات العمل والانخراط في مسار تطوّر مهني ذاتي في علاقة بالإطار المرجعي لكفايات المدرسين.

- التركيز على تمشّ تحليليّ يعي الوظائف العلائقية والبيداغوجية والتعلّمية المكوّنة لممارسات المدرّس بما يطوّر كفايات الطّالب التأمّليّة.

لكل هذه الأسباب اعتبر أن الإجازة الوطنية في التربية والتعليم من المكاسب الوطنية الهامة التي ينبغي المحافظة عليها وتطويرها. والعمل على المراجعة الدورية والتحيين المتواصل للمضامين المعرفية لهذه الإجازة الوطنية للتربية والتعليم وانتداب كفاءات جامعية عالية في مجال المعارف الأكاديمية والمعارف المهنية التي تدرس في هذه الإجازة والتشجيع على البحوث الميدانية والأكاديمية التربوية ذات المردودية والجودة العالية.

*جامعة صفاقس

 

رأي.. رهانات التكوين الأساسي والمستمر للمدرسين في تونس

الأستاذ الدكتور: مراد بهلول *

يعد ضمان جودة تكوين المدرسين في تونس من أهم رهانات تطوير أداء المنظومة التربوية واستنقاذها من مرحلة الوهن والعجز الذي أصاب اغلب مكوناتها. وفي الحقيقة تعتبر مسالة كفاءة وتأهيل المدرسين من القضايا الجوهرية لأغلب النظم التربوية. فمنذ 20 و 21 جوان من سنة2005 نظمت المفوضية الأوروبية، في بروكسل، مؤتمرًا أوروبيًا يهدف إلى تسليط الضوء على المبادئ الأوروبية والدولية والمعايير المشتركة بشأن كفاءة وتأهيل المعلمين. وتم في خاتمة هذا المؤتمر اعتماد وثيقة سميت بوثيقة المبادئ الأوروبية المشتركة لتدريب الكفاءات وتأهيل المعلمين. ومن أهم المبادئ التي ركزت عليها هذه الوثيقة ما يلي :

- اعتبار مهنة التدريس مهنة موجهة نحو معايير الجودة في مجال التكوين الأساسي ويتم الإشراف عليها من خلال مؤسسات التعليم العالي.

- اعتبار مهنة التدريس من المهن التي تشهد تطورا مستمرا مما يستوجب إدماجها بسياقات التعلم مدى الحياة والتطوير المهني المستمر. لذلك لا بد من بعث مؤسسات عالية الجودة تشتغل على تطوير أنظمة التكوين المستمر للمدرسين ولكل الفاعلين التربويين.

- تقوم مهنة التدريس على علاقات شراكة المدرسة مع الهياكل الخارجية (الصناعة، الصحة الاقتصاد والبيئة إلخ....). ولذلك لا بد من تطوير مستوى انفتاح المدرسة على المحيط وقضاياه في مستوى تكوين المدرسين.

إذا ما استقرأنا الواقع التونسي نلاحظ أن أغلب التمثلات الاجتماعية المتقاسمة بين الكثيرين تختزل كفاءة التدريس في مدى سيطرة المدرس على المحتويات المعرفية التي سيتم نقلها للتلاميذ ومستوى الكاريزما الشخصية التي يتمتع بها والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تكون موضوعًا للتدريب والتكوين. إضافة لذلك لطالما تبين لنا هذه التمثلات الاجتماعية للتدريس أنّ التكوين البيداغوجي والمهني لا يهم في أقصى الحالات إلا معلمي الابتدائي كما لو كان الأطفال الصغار هم فقط من يحتاجون في مساراتهم التعلمية إلى البيداغوجيا والتعلمية وأنه مع تقدم العمر والمسار الدراسي يصبح المتعلمون ( في الثانوي وخاصة في التعليم العالي) لا حاجة لهم بالبيداغوحيا لقدرتهم الطبيعية للنفاذ للمعرفة التي يمكن أن تفرض نفسها في النهاية بحكم ما هي عليه من بلورة نقدية وشرعية ابستمولوجية. إن وزن هذه العقليات كبير في الوسط التربوي والاجتماعي والثقافي التونسي. لذلك اعتقد أنّ هذه التمثلات لا تزال تسيطر على الكثيرين. ويبدو أنه سيستغرق الكثير من الوقت الإقناع بأن التدريس يعتبر من أعقد المهن البشرية وهو مقبل على تحولات جوهرية مستقبلية نتيجة التطور المعرفي المتسارع والثورات الرقمية والصناعية والتكنولوجية وظهور عصر العمل عن بعد والتعليم عن بعد وأنظمة الجودة qualité والتسيير management والاعتماد accréditation وهندسات التكوين ومقاربات المحتويات والمواد والمناهج وتغير صلة التلاميذ بالمعرفة وزمن التعلم وأنساقه وظهور أشكال أخرى من الخيارات الإستراتيجية الوطنية المتعلقة بالإنصاف والتعليم الشامل والتعلم مدى الحياة والاستثمار في التربية والتعليم باعتبارهما مجالات حيوية وربط التعليم بمهارات الحياة والتربية على... وقضايا الإنسان المعاصر والمجتمع مثل الصحة والمواطنة والنوع الاجتماعي والبيئة والطاقات المتجددة والتربية الدامجة و الحماية من كل اشكال التعصب والانغلاق والعنف الى غير ذلك من القضايا الراهنة. يستدعي ذلك في الحقيقة القطع مع أنظمة تكوين بالية ومستهلكة وبلورة منظومة تكوينية ومسارات تمهنية على مستوى عالي تستجيب للرهانات المستقبلية للتربية والتعليم في تونس وفي العالم.

في هذا الإطار اندرج إحداث الإجازة الوطنيّة للتّربيّة والتّعليم سنة 2016 المخصّصة لتكوين طلبة وإعدادهم ليكونوا مدرّسين في التّعليم الابتدائيّ. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الإجازة هي إحدى مخرجات الحوار الوطني حول إصلاح المنظومة التربوية الذي انطلق مساره سنة 2015. وبناء على ذلك تمّت بلورة براديغم تكوينيّ بالشراكة بين وزارة التّربية ووزارة التّعليم العالي. وقد ضبط هذا البراديغم بوضوح وحدات التّكوين المدرًّسة ومداها الزّمنيّ وأساليب تقييمها ومعايير الإشهاد فيها. وتمّ تحديد أربعة محاور مهنيّة لتحقيق تمفصل التّكوين الأساسي مع الميداني. وهي محاور تتطابق مع ملامح المدرّس المنتظر وتتلخّص في :

- مدرّس متعلّم متملّك لمعارف المواد وما يوجد بينها من تقاطعات أفقيّة.

- مدرس يتمتع بكفايات تواصلية وكفايات وجدانيّة وعلائقيّة.

- مدرس يتملك معارف وكفايات بيداغوجيّة ونفسية -تربوية.

- مدرس يتملك معارف وكفايات ديداكتيكيّة وقادر على بناء تعلّمية الموّاد.

وقد تمّ إدراج هذا التّكوين الأساسيّ للمدرّسين في تونس، مثل عديد البلدان الأوروبيّة ضمن منظومة التّعليم العالي انخراطا مع المسار العالمي لتمهين التّكوين. وقد ثبتت نجاعة هذا الرّبط وفوائده من عدّة وجوه منها :

- انتداب مدرّسين ذوي مستويات جامعيّة عاليّة.

- توسيع الحقول المعرفيّة للمدرسين.

- تطوير الفكر النقديّ والتأملي للمدرسين.

- التّدرّب على منهجيّات البحث التّربويّ والقدرة على الأشكلة والتحليل والنمذجة العلمية للظواهر التربوية.

لذلك تنتظم هذه الإجازة وفق مسار تكويني يجمع بين البعد الأكاديمي والميداني. إذ تنطلق التربصات الميدانية السداسيّة بداية من السداسي الثالث وتتواصل إلى نهاية التكوين الأساسي في ترابط مع التكوين الأكاديمي الجامعي. وتمثل هذه التربصات لحظات بناء كفايات مهنية وإرساء تدريجي لنظام إدماج المعارف الأكاديمية في سياقات الممارسات المهنية ضمن مسار تفاعل بين المكونين الجامعيين والمتفقدين ومؤطّري التربصات والمؤسسات والمدرسين المشاركين في التأطير.

إن لهذه التربصات الميدانية المتمحورة حول تمشي تحليل الممارسات مهمات أساسية هي:

- تنمية الوعي الذاتي والتأمّل لدى الطالب المتربّص بمسار انتاج ممارساته التعليميّة –التعلّمية وسياقها، بدل تأسيسها على استنساخ أو محاكاة دروس شاهدة.

- تنمية وبناء الكفايات المهنية والمعارف المعبأة في وضعيات العمل والانخراط في مسار تطوّر مهني ذاتي في علاقة بالإطار المرجعي لكفايات المدرسين.

- التركيز على تمشّ تحليليّ يعي الوظائف العلائقية والبيداغوجية والتعلّمية المكوّنة لممارسات المدرّس بما يطوّر كفايات الطّالب التأمّليّة.

لكل هذه الأسباب اعتبر أن الإجازة الوطنية في التربية والتعليم من المكاسب الوطنية الهامة التي ينبغي المحافظة عليها وتطويرها. والعمل على المراجعة الدورية والتحيين المتواصل للمضامين المعرفية لهذه الإجازة الوطنية للتربية والتعليم وانتداب كفاءات جامعية عالية في مجال المعارف الأكاديمية والمعارف المهنية التي تدرس في هذه الإجازة والتشجيع على البحوث الميدانية والأكاديمية التربوية ذات المردودية والجودة العالية.

*جامعة صفاقس

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews