إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح: الفرص المهدورة

بقلم:منير الشرفي

الوضع الاستثنائي الذي قرره الرئيس قيس سعيّد في 25 جويلية 2021، كان الرأي العام ينتظر منه الكثير للقطع مع التجارب الفاشلة الماضية بما فيها من إرهاب وعنف وإنهاك للاقتصاد الوطني وإفلاس للخزينة العمومية وانتشار للفساد وما إلى ذلك من إنهاك للدولة وللشعب. والدخول في مرحلة جديدة عبر مسار تصحيحي يُؤسس لدولة القانون والمؤسسات تُحترم فيها المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وقيم الجمهورية وتُرسي دعائم الدولة المدنية الحديثة، كان يتطلّب العديد من الإجراءات الحاسمة والحازمة، نحاول هنا سرد أهمّها:

أولا: فتح ملف الإرهاب والاغتيالات السياسية ومحاسبة المسؤولين عن الإرهاب الذي تغلغل في البلاد طيلة العشرية الماضية، مع القطع نهائيا مع أسبابه ومخلفاته ومختلف مظاهره. لكننا لم نشاهد شيئا من ذلك طيلة السنة الماضية في فترة "الإجراءات الاستثنائية"، بل أن الجمعيات المشبوهة والداعية للعنف والداعمة للإرهاب، وعلى رأسها وكر القرضاوي سيّء الذكر، ما زالت تنعم بالوجود القانوني. وهو ما يجعلنا نتساءل هل أن حركة 25 جويلية 2021 أتت لإنهاء هيمنة الإسلام السياسي المتطرف، أم لمجرّد الحد من هيمنة حزب بعينه، مع الإبقاء عليه حتى يسترجع أنفاسه ويعود بثوب جديد أقوى ممّا كان عليه، أم لانتزاع زعامة الإسلام السياسي من طرف مُعيّن لإهدائها إلى طرف آخر؟

ثانيا: كان من المفروض الشروع منذ الأسبوع الأول من الفترة الانتقالية في فتح حوار وطني حقيقي وعميق يتمّ فيه تشريك كافة القوى الوطنية من أحزاب ومنظمات وجمعيات وشخصيات مُؤثّرة، دون تشريك من ساهم في انهيار الدولة من الذين شاركوا في السلطة في العشرية الماضية. لكن ما حدث هو صمّ الآذان عن كل رأي مخالف لرأي قرطاج، إلى أن انتظم ما يحلو لرئيس الجمهورية تسميته ب"الحوار الوطني"، بعد أحد عشر شهرا من الانتظار، وهو حوار شكلي دُعيت إليه أربعون شخصية، جلّهم من مُؤيّدي الرئيس، طُلب منهم القيام في وقت قياسي بصياغة دستور جديد للبلاد، أُلقي به في سلة المهملات، وتمّ تعويضه بنصّ لا علاقة له بالحوار الوطني ولا بالدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.

ثالثا: تركت السلطة التي كانت قائمة في العشرية السابقة وضعا اقتصاديا كارثيّا. وكان من الضروري القيام بدعوة عاجلة لنساء تونس ورجالهاالأخصّائيين في الشؤون الاقتصادية والمالية لدراسة الوضع العام في هذا المجال وتشخيص المشاكل العميقة للحالة ووضع خطّة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخانقة بشكل جذري وعاجل. لكن ذلك لم يحصل بسبب قلّة الوعي بعمق الأزمة وخطورتها، وكان التعامل مع الوضع الكارثي بشكل سطحي غريب وكأنه مسألة ثانوية طغت عليها المسائل السياسية والشخصية الضيقة. فكان أن تعمّقت الأزمة خلال السنة الماضية واشتعلت الأسعار وقلّت المواد الأساسيّة في الأسواق وازداد الفقراء فقرا، والتحقت بهم الطبقة الوسطى، وتعمّقت خسائر المنشآت العموميةوأُغلقت مئات الشركات والمنشآت الصناعية الخاصّة، ممّا حدا بنخبتنا إلى الهجرة حيث يجدون من يُقدّر كفاءاتهم حق قدرها، وتعدّدت قوارب الموت لترمي بالعاطلين عن العمل في أفواه قروش أعماق البحار.

رابعا: كانت العشرية الماضية لا تكترث بالقدر المطلوب بالمعارضة وبما يُمكنها من تقديم إضافات نوعيّة واقتراحات مفيدة. وكان لزاما على الدولة بعد غلق باب تلك العشرية أن تفتح آذانها وأعينها على ما يُمكن أن تُقدّمه الأحزاب والمنظمات وجمعيات المجتمع المدني. لكن سياسة ما بعد 25 جويلية 2021 لا تُؤمن "بالوسائط"، علما بأن تلك "الوسائط" هي الركائز الأساسية للديمقراطية، وعدم الإنصات إليها وتشريكها في اتّخاذ القرارات الهامة في تسيير شؤون البلاد هو من باب التسلّط ويفتح الطريق أمام الحكم الفردي والنظام الكلياني.

خامسا: بعد أن رمى الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة ببلادنا بين أحضان تركيا وقطر اللتين كانت إعاناتهما تُصرف في حسابات خاصّة، حزبية أو شخصيّة، كان على الدولة، بعد إبعاده، أن يُحسّن علاقات تونس الخارجية مع الدول الأجنبية والتجمعات الإقليمية والمنظمات الدولية والمؤسسات المالية. والوضع المالي الحرج جدّا لبلادنا يُحتّم علينا، مع الأسف، أن نُقيم علاقات تأخذ في الاعتبار المصلحة العليا للشعب، كما هو الحال لجلّ العلاقات الدولية التي تقوم بالأساس على المصالح. لكن ما دأبنا عليه في السنة الماضية هو الاستهزاء بالدول القوية وبالمنظمات الدولية وبالمؤسسات المالية لا لشيء إلّا لأنها تنتقد في سياساتنا ما يستحقّ الانتقاد. وعوض أن نُراجع أنفسنا،ها نحن نعاني من الجوع ونمدّ أيدينا للتسوّل، ونخسر في الآن ذاته كل إمكانيات التعاون الاقتصادي مع الخارج وامكانيات جلب الاستثمار الأجنبي. بل أن المستثمرين الأجانب أصبحنا نسمع عن مغادرتهم لبلادنا أفواجا.

هذه بعض الفرص المهدورة، وعديدة هي الفرص الأخرى المهدورة، جعلت بلادنا مثل السفينة التائهة في أعماق البحار تعبث بها الأمواج العاتية. وخوفي كل الخوف أن تتغلّب تلك الأمواج على ربّانها الذي يُصرّ على قيادتها بمفرده. هذه السفينة التي تضمّنا جميعا لا يُمكن انقاذها إلّا باتّحاد ركّابها وباتّخاذهم للقرار الحاسم في توجيهها معا في اتّجاه بر الأمان، الاتّجاه الذي يُقرّونه معا.

 

منتدى الصباح: الفرص المهدورة

بقلم:منير الشرفي

الوضع الاستثنائي الذي قرره الرئيس قيس سعيّد في 25 جويلية 2021، كان الرأي العام ينتظر منه الكثير للقطع مع التجارب الفاشلة الماضية بما فيها من إرهاب وعنف وإنهاك للاقتصاد الوطني وإفلاس للخزينة العمومية وانتشار للفساد وما إلى ذلك من إنهاك للدولة وللشعب. والدخول في مرحلة جديدة عبر مسار تصحيحي يُؤسس لدولة القانون والمؤسسات تُحترم فيها المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وقيم الجمهورية وتُرسي دعائم الدولة المدنية الحديثة، كان يتطلّب العديد من الإجراءات الحاسمة والحازمة، نحاول هنا سرد أهمّها:

أولا: فتح ملف الإرهاب والاغتيالات السياسية ومحاسبة المسؤولين عن الإرهاب الذي تغلغل في البلاد طيلة العشرية الماضية، مع القطع نهائيا مع أسبابه ومخلفاته ومختلف مظاهره. لكننا لم نشاهد شيئا من ذلك طيلة السنة الماضية في فترة "الإجراءات الاستثنائية"، بل أن الجمعيات المشبوهة والداعية للعنف والداعمة للإرهاب، وعلى رأسها وكر القرضاوي سيّء الذكر، ما زالت تنعم بالوجود القانوني. وهو ما يجعلنا نتساءل هل أن حركة 25 جويلية 2021 أتت لإنهاء هيمنة الإسلام السياسي المتطرف، أم لمجرّد الحد من هيمنة حزب بعينه، مع الإبقاء عليه حتى يسترجع أنفاسه ويعود بثوب جديد أقوى ممّا كان عليه، أم لانتزاع زعامة الإسلام السياسي من طرف مُعيّن لإهدائها إلى طرف آخر؟

ثانيا: كان من المفروض الشروع منذ الأسبوع الأول من الفترة الانتقالية في فتح حوار وطني حقيقي وعميق يتمّ فيه تشريك كافة القوى الوطنية من أحزاب ومنظمات وجمعيات وشخصيات مُؤثّرة، دون تشريك من ساهم في انهيار الدولة من الذين شاركوا في السلطة في العشرية الماضية. لكن ما حدث هو صمّ الآذان عن كل رأي مخالف لرأي قرطاج، إلى أن انتظم ما يحلو لرئيس الجمهورية تسميته ب"الحوار الوطني"، بعد أحد عشر شهرا من الانتظار، وهو حوار شكلي دُعيت إليه أربعون شخصية، جلّهم من مُؤيّدي الرئيس، طُلب منهم القيام في وقت قياسي بصياغة دستور جديد للبلاد، أُلقي به في سلة المهملات، وتمّ تعويضه بنصّ لا علاقة له بالحوار الوطني ولا بالدولة المدنية الديمقراطية المنشودة.

ثالثا: تركت السلطة التي كانت قائمة في العشرية السابقة وضعا اقتصاديا كارثيّا. وكان من الضروري القيام بدعوة عاجلة لنساء تونس ورجالهاالأخصّائيين في الشؤون الاقتصادية والمالية لدراسة الوضع العام في هذا المجال وتشخيص المشاكل العميقة للحالة ووضع خطّة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخانقة بشكل جذري وعاجل. لكن ذلك لم يحصل بسبب قلّة الوعي بعمق الأزمة وخطورتها، وكان التعامل مع الوضع الكارثي بشكل سطحي غريب وكأنه مسألة ثانوية طغت عليها المسائل السياسية والشخصية الضيقة. فكان أن تعمّقت الأزمة خلال السنة الماضية واشتعلت الأسعار وقلّت المواد الأساسيّة في الأسواق وازداد الفقراء فقرا، والتحقت بهم الطبقة الوسطى، وتعمّقت خسائر المنشآت العموميةوأُغلقت مئات الشركات والمنشآت الصناعية الخاصّة، ممّا حدا بنخبتنا إلى الهجرة حيث يجدون من يُقدّر كفاءاتهم حق قدرها، وتعدّدت قوارب الموت لترمي بالعاطلين عن العمل في أفواه قروش أعماق البحار.

رابعا: كانت العشرية الماضية لا تكترث بالقدر المطلوب بالمعارضة وبما يُمكنها من تقديم إضافات نوعيّة واقتراحات مفيدة. وكان لزاما على الدولة بعد غلق باب تلك العشرية أن تفتح آذانها وأعينها على ما يُمكن أن تُقدّمه الأحزاب والمنظمات وجمعيات المجتمع المدني. لكن سياسة ما بعد 25 جويلية 2021 لا تُؤمن "بالوسائط"، علما بأن تلك "الوسائط" هي الركائز الأساسية للديمقراطية، وعدم الإنصات إليها وتشريكها في اتّخاذ القرارات الهامة في تسيير شؤون البلاد هو من باب التسلّط ويفتح الطريق أمام الحكم الفردي والنظام الكلياني.

خامسا: بعد أن رمى الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة ببلادنا بين أحضان تركيا وقطر اللتين كانت إعاناتهما تُصرف في حسابات خاصّة، حزبية أو شخصيّة، كان على الدولة، بعد إبعاده، أن يُحسّن علاقات تونس الخارجية مع الدول الأجنبية والتجمعات الإقليمية والمنظمات الدولية والمؤسسات المالية. والوضع المالي الحرج جدّا لبلادنا يُحتّم علينا، مع الأسف، أن نُقيم علاقات تأخذ في الاعتبار المصلحة العليا للشعب، كما هو الحال لجلّ العلاقات الدولية التي تقوم بالأساس على المصالح. لكن ما دأبنا عليه في السنة الماضية هو الاستهزاء بالدول القوية وبالمنظمات الدولية وبالمؤسسات المالية لا لشيء إلّا لأنها تنتقد في سياساتنا ما يستحقّ الانتقاد. وعوض أن نُراجع أنفسنا،ها نحن نعاني من الجوع ونمدّ أيدينا للتسوّل، ونخسر في الآن ذاته كل إمكانيات التعاون الاقتصادي مع الخارج وامكانيات جلب الاستثمار الأجنبي. بل أن المستثمرين الأجانب أصبحنا نسمع عن مغادرتهم لبلادنا أفواجا.

هذه بعض الفرص المهدورة، وعديدة هي الفرص الأخرى المهدورة، جعلت بلادنا مثل السفينة التائهة في أعماق البحار تعبث بها الأمواج العاتية. وخوفي كل الخوف أن تتغلّب تلك الأمواج على ربّانها الذي يُصرّ على قيادتها بمفرده. هذه السفينة التي تضمّنا جميعا لا يُمكن انقاذها إلّا باتّحاد ركّابها وباتّخاذهم للقرار الحاسم في توجيهها معا في اتّجاه بر الأمان، الاتّجاه الذي يُقرّونه معا.

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews