إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ينتظرها الصعود الشاهق أم السقوط المدوي؟.. هل ستعبر تونس للجمهورية الثالثة؟

تونس: الصباح

في انتظار إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج النهائية للاستفتاء في مشروع الدستور الجديد في أجل أقصاه يوم 28 أوت المقبل، وفي انتظار إصدار المشروع المصادق عليه باستفتاء 25 جويلية في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في أجل أقصاه يوم 4 سبتمبر 2022 وذلك في حال تصريح الهيئة بقبوله وعدم إسقاطه، يتواصل الجدل ساخنا في تونس حول هذا المشروع الذي جاء ليؤسس للجمهورية الثالثة، وينهي العمل بدستور الجمهورية الثانية، أي دستور 27 جانفي 2014 الذي صاغه المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في 23 أكتوبر 2011 بصفة مباشرة من الشعب بعد ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي 2011، تلك الثورة التي كانت عطشى للقطع مع منظومة الحكم السابق التي سادت خلال العهدين النوفمبري والبورقيبي والتي أسرعت الخطوة نحو تعليق العمل بدستور الجمهورية الأولى الصادر بتاريخ غرة جوان 1959 عن المجلس القومي التأسيسي الذي سعى إلى القطع مع النظام الملكي.

ولئن لم تتضح ملامح الجمهورية الثالثة بعد أمام السواد الأعظم من التونسيين بمن فيهم الذين شاركوا في حملة الاستفتاء في مشروع الدستور الذي يؤسس لهذه الجمهورية والذين ذهبوا يوم 25 جويلية الجاري إلى مكاتب الاقتراع للتصويت بنعم على هذا المشروع أو بلا، فإن أغلب المختصين في العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الذين منذ اللحظات الأولى لنشر المشروع يوم 30 جوان الماضي في الرائد الرسمي انكبوا على دراسته ووضعوه تحت المجهر وشرحوه بابا بابا وفصلا فصلا وقرؤوا سطوره وقرؤوا ما بين السطور وما خلف السطور، أجمعوا على أن سلبياته أكثر من إيجابياته، واتفقوا على أن مضامينه خطيرة لأنه حسب رأيهم يكرس النظام الرئاسوي الذي يتعارض مع النظام الجمهوري ويضرب مبدأ التوازن بين السلط، ويهدد الحقوق والحريات ويؤسس للنظام القاعدي وللدولة الدينية وينسف استقلالية السلطة القضائية ويشطب الهيئات الدستورية، ولا يقيم أي اهتمام للجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي رغم أن المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد اليوم تقتضي أن تكون المسألة الاقتصادية والاجتماعية في صدارة الأولويات..

ولكن رئيس الجمهورية قيس سعيد الأب الشرعي لهذا الدستور، وذلك بالنظر إلى أن العميد الصادق بلعيد رئيس الهيئة الاستشارية التي كلفت بوضعه تبرأ منه، لم يفوت الفرصة للرد على منتقدي مشروعه وفند كل ما ذهب إليه شراح دستوره واتهمهم بالافتراء بمن فيهم زملاء سابقون له في كليات الحقوق يشهد لهم القاصي والداني بالكفاءة والجدارة والانضباط الأكاديمي..

 وحاول سعيد من خلال المذكرة التفسيرية لمشروع الدستور التي أذن بنشرها على الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية يوم 5 جويلية الجاري الرد على كل الانتقادات التي طالت مشروعه وحرص على طمأنه الشعب التونسي وخاصة الناخبين منهم الذين دعاهم إلى أن يقولوا "نعم حتى لا يصيب الدولة هرم وحتى تتحقق أهداف الثورة وينتهي البؤس والإرهاب والتجويع والظلم والألم"..

ومن خلال قراءة مضامين هذه المذكرة التي جاءت تحت عنوان "للدولة وللحقوق والحريات دستور يحميها وللشعب ثورة يدفع عنها من يعاديها"، يمكن تلمس ملامح الجمهورية الثالثة من وجهة نظر الرئيس سعيد، فهي جمهورية تعبق بروح الثورة وتصحح مسار هذه الثورة، جمهورية لا مكان فيها للفساد السياسي والإفلات من العقاب.. جمهورية لا مساس فيها بالحقوق والحريات.. جمهورية يشارك فيها الشعب في اتخاذ القرار من خلال ممثليه في المجلس الوطني للجهات والأقاليم وفي مجلس نواب الشعب وإذا حاد أي عضو من أعضاء المجلس عن مطالب الشعب فإن الشعب يكون له بالمرصاد ويسحب منه الوكالة..

ولإقناع الشعب برؤيته استذكر الرئيس سعيد من خلال المذكرة التفسيرية لمشروع الدستور ما عانته تونس منذ عقود وآخرها العقد الأخير من محاولات متكررة لضرب وحدة الدولة والتنظم داخل مؤسساتها للانحراف بها عن خدمة المواطنين وفق ما تقتضيه مبادئ تسيير المرافق العمومية وأهمها الحياد والمساواة، ودعا التونسيين إلى أن تذكروا كيف أفلت الكثيرون من المحاسبة وكيف زاد الفساد واختلاق الأزمات بهدف صرف أنظار الشعب عن مطالبه المشروعه التي رفعها في شهر ديسمبر 2010 وما فتئ يرددها منذ ذلك التاريخ.. وذكرهم بما عانوه من تفقير وتنكيل ومغالطات ومناورات وما شاهدوه في البرلمان من قوانين توضع والحال أن من وضعها يعلم بأنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ وقوانين أخرى توضع على المقاس كما وضع دستور 2014 ليجد فيه كل طرف نصيب. وذكرهم بمن أفرغوا خزائن الدولة وسائر المؤسسات والمنشآت العمومية ليزداد الفقراء فقرا وإملاقا ويزداد الذين أفسدوا في كل مكان ثراء خارج أي إطار شرعي ومشروع.. وذكرهم بحسرتهم لما كانوا يشاهدون ما يحدث تحت قبة البرلمان من فضائح وسب وشتم وهتك للأعراض وتبادل للعنف إلى درجة إسالة الدماء وبدعوات بعض أعضاء هذا المجلس إلى حله وبالدعوات الشعبية للمطالبة بحله.. وقال إنه من باب الواجب المقدس فإنه المسؤولية التاريخية اقتضت تجميد عمل المجلس قبل حله لإنقاذ الشعب وإنقاذ مؤسسات الدولة التي كانت على وشك الانهيار. وبين رئيس الجمهورية في تلك المذكرة أنه كان لا بد من التفكير الجدي في وضع دستور جديد ونظرا إلى أن عملية وضع دستور يجب أن تكون ديمقراطية فقد تم الاختيار على تنظيم استشارة وطنية وحوار وطني قبل وضع مشروع دستور جديد يتم عرضه على الشعب على صاحب السيادة.

وتكذيبا لمن اتهموه بالتأسيس لنظام قاعدي واستدلوا في كلامهم بما تضمنه مشروع الدستور من إنشاء لمجلس وطني للجهات والأقاليم أوضح الرئيس سعيد من خلال المذكرة التفسيرية أن الغاية من إنشاء مجلس وطني للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع على قدم المساواة في صنع القرار وفي وضع التشريعات التي تضعها الأغلبية الحقيقية تحت الرقابة المستمرة لصاحب السيادة وهو الشعب..

أما بالنسبة للمتخوفين على الحقوق والحريات فقد أجابهم أنه لا خوف على الحقوق والحريات إذا كانت النصوص القانونية تضعها الأغلبية تحت الرقابة الشعبية سواء داخل المجلس الأول أو المجلس الثاني وذلك فضلا عن رقابة دستورية القوانين من قبل محكمة دستورية تسهر على ضمان علوية الدستور بعيدا عن كل محاولات التوظيف بناء على الولاء لهذا أو لذاك. وأضاف رئيس الجمهورية في المذكرة التفسيرية قائلا " يدعي من دأب على الافتراء والادعاء أن مشروع الدستور ينبئ بعودة الاستبداد لأنه لم يكلف نفسه عناء النظر في كل بنوده وأحكامه بل لم ينظر لا في تركيبة المحكمة الدستورية ولا في إمكانية سحب الوكالة ولا في حق المجلس في مساءلة الحكومة ولا في تجديد حق الترشح لرئاسة الدولة إلا مرة واحدة فما ابعد ما يروجونه عن الحقيقة وما أبعد من يفترون عن الواقع، إن التاريخ لن يعود أبدا إلى الوراء فلا خير في التاريخ إن كان سيعيد نفسه". وفند سعيد ما قيل حول مشروعه من كلام مفاده أنه يهيئ لاختلال التوازن بين السلطات التي سماها هو بالوظائف مشيرا إلى أن التوازن لا يختل بالنصوص وإنما بهيمنة حزب واحد أو تحالف واحد على جميع مؤسسات الدولة وعندما لا تكون هناك رقابة، ولكن المشروع كرس حق المجلس النيابي والمجلس الوطني للجهات والأقاليم في مراقبة الحكومة وكرس حق الشعب في مراقبة أعضاء المجلسين وفي سحب الوكالة منهم، وخلص إلى أن مشروع الدستور هو من روح الثورة التي رفع فيها الشعب التونسي شعاره التاريخي الشعب يريد..

الشعب يريد.. الشعب صاحب السيادة

 وفضلا عما ورد في المذكرة التفسيرية لمشروع الدستور المعروض على الاستفتاء فإن توطئة هذا المشروع وما تضمنته من عبارات رنانة، تجعل القارئ يحلق بأفكاره شاهقا ليرسم في خياله صورة للجمهورية الثالثة، جمهورية صورتها التوطئة كما لو أنها أحلى وأعظم وأرقى ما عرفته البشرية على مدى التاريخ..

فخلافا لما جاء في توطئة دستور الجمهورية الأولى وتوطئة دستور الجمهورية الثانية، فإن توطئة مشروع الدستور الجديد الذي أراد الرئيس سعيد العبور به إلى الجمهورية الثالثة، جاء ليكرس مفهوم سيادة الشعب، وجاء في مطلع الديباجة ما يلي: "نحن الشعب التونسي، صاحب السّيادة، الذي حقّق بداية من يوم 17 من شهر ديسمـبر من سنة 2010، صعودا شاهقا غير مسبوق في التاريخ، ثائرا على الظلم والاســــتــبداد وعلى التجويع والتنكيل في كل مرافق الحياة. نحن الشعب التونسي الذي صبر وصابر لمدة أكثر من عقد من الزمن إثر هذه الثورة المباركة، فلم ينقطع عن رفع مطالبه المشروعة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، ولكنه لم يلق في المقابل سوى شعارات زائفة، ووعودا كاذبة، بل وزاد الفساد استفحالا، وتفاقم الاستيلاء على ثرواتنا الطبيعية والسطو على المال العام دون أي محاسبة. فكان لابد من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثّورة، بل ومن تصحيح مسار التاريخ، وهو ما تمّ يوم 25 من شهر جويلية من سنة 2021، تاريخ ذكرى إعلان الجمهوريّة"..

وحسب ما جاء في التوطئة فإن الدستور الجديد للجمهورية الجديدة جاء ليحقق العدل والحريّة والكرامة والسيادة الكامـلة للدولة والاستقلال الحقيقي، وليؤسس إلى تركيز نظام دستوري جديد يقوم لا فقط على دولة القانون، بل على مجتمع القانون، ليؤسس لديمقراطية سياسية مشفوعة بديمقراطية اقتصادية واجتماعية من خلال تمكين المواطن من حقّه في الاختيار الحرّ، ومن مساءلة من اختاره ومن حقّه في التوزيع العادل للثروات الوطنيّة. فمشروع الدستور وفق ما جاء في التوطئة يؤسس لنظام سياسي يقوم على الفصل بين الوظائف التشريعيـة والتنفيذية والقضائية، وعلى إرساء توازن حقيقي بينها، وليس هذا فقط بل هو يؤكد على أن النظّام الجمهوري هو خير كفيل للمحافظة على سيادة الشّـــعب وتوزيع ثروات البلاد بصفة عادلة على كلّ المواطنين والمواطنات.

ولئن أثار مشروع الدستور مخاوف جل الجامعيين والمثقفين والحقوقيين الذين عبروا عن خشيتهم من أن يؤدي هذا النص الخطير إلى سقوط مدو لتونس وليس إلى علو شاهق كما بشر به الرئيس سعيد فإن أنصار سعيد ومريديه ينتظرون بفراغ الصبر التصريح بالنتائج النهائية للاستفتاء حول مشروع الدستور الذي يتطلعون من خلاله إلى غد أفضل للبلاد والشعب وينتظرون التحرر من أعقال دستور الجمهورية الثانية الذي استبشروا في البداية به خيرا لكنهم أدركوا بمرور الزمن أنه في أغلبه غير قابل للتطبيق.

دستور كتب بالدموع والدماء

رغم الثغرات الكثيرة التي غص بها دستور الجمهورية الثانية أي دستور 27 جانفي 2014 الذي أمضى المجلس الوطني التأسيسي ثلاث سنوات لكتابته، فإنه لا أحد ينكر أنه صيغ فعلا بصفة تشاركية وراعى إلى حد كبير مبدأ الفصل بين السلط وكرس جل الحقوق والحريات الكونية وضمن استقلالية السلطة القضائية واستحدث عدة هيئات دستورية وأرسى أسس السلطة المحلية، ولكن لم يكن الطريق إلى ذلك الدستور سالكا بل كان معبدا بالأشواك، فالطريق إليه كان قاتم السواد.. كسواد قلوب من أطلقوا رصاص الغدر على الجنود البواسل ورجال الأمن الشرفاء ورجال تونس الأبرار وفي مقدمتهم الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.. وسواد أفئدة من أرادوا تحويل الجمهورية التونسية إلى إمارة داعشية..

وجاء دستور 2014 وفق ما ورد في ديباجته ليؤسس لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ويكون فيه حقُّ التنظّمِ القائمِ على التعددية، وحيادُ الإدارة، والحكمُ الرشيد هي أساسَ التنافس السياسي، وتضمن فيه الدولة علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات..

بمناسبة جلسة عامة انعقدت يوم 27 جانفي 2017 بالمجلس الوطني التأسيسي خصصت لختم مشروع الدستور أطلقت النائبة المؤسسة والفنانة سلمى بكار الزغاريد وقالت يومها :"بقدر ما كنت أرغب في دفن دستور غرة جوان 1959 وانتزاعه من روحي ومن عقلي ومن جلدتي، بقدر ما أشعر اليوم وأنا ألمس ورقات دستور 26 جانفي 2014، أنني في أوج السعادة وفي قمة الفرح، وأنني أريد أن أقبّله كثيرا وأضّمه إلى صدري، فأنا أشعر به وكأنه طفل صغير ولد للتو، وأشعر أنني أريد النظر إليه كثيرا والتحديق في ملامحه ومعانقته ووضعه بين أحضاني".. فالدستور حسب قولها وحّد التونسيين، وألّف بين قلوبهم، وأعاد إليهم "تونسهم" التي يعرفونها ويحبونها..

أما حسين العباسي الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل الذي شارك في الحوار الوطني وحصل على جائزة نوبل للسلام فقال يومها إن الصعوبات الكبرى التي عاشتها تونس مرت، وذلك بفضل جهود التونسيين وإصرار المجتمع المدني. وأضاف:"بشيء من الصبر والتعاون خرجنا من الوضعية الصعبة التي كنا عليها".

وكان الفقيد مصطفى الفيلالي وهو أحد المؤسسين لدستور 1959 حل يومها بقصر باردو لحضور الاحتفال وقال إن دستور 2014 متجذر في الشعب الذي قام بثورة ويتطلع إلى مصير فيه قطع مع الماضي. وأن فصله الأول ثبت الأركان الثلاثة للهوية وهي الدين واللغة والتاريخ وأن من حسناته انه لم يجادل فيها، وأنه حاول تحقيق التوازن الصعب والعسير بين السلطات الثلاثة وأعطى السلطة القضائية نصيبها وهو ما أهمله دستور 1959 كما انه اعترف بحق العمل وكان يجب ان ينص على واجب العمل نظرا لحاجة تونس إلى تجذر قيمة العمل وثقافة العمل.

ولعل الحديث عن الجمهورية الثانية ودستورها يستوجب التذكير بالدستور الصغير، الذي تم وضعه بعد تعليق العمل بدستور غرة جانفي 1959 في 15 مارس 2011 إثر هروب الرئيس بن علي إلى السعودية وانتقال السلطة بطريقة سلسلة يوم 14 جانفي 2011 في إطار تفعيل الفصل 56 من دستور من خلال تعيين الوزير الأول محمد الغنوشي رئيسا مؤقتا للبلاد ليتولى المجلس الدستوري في اليوم التالي تعيين فؤاد المبزع رئيسا للبلاد بموجب الفصل 57، ثم تم في 17 جانفي من نفس السنة تكوين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ترأسها عياض بن عاشور والتي أعدت جملة من مقترحات المراسيم وأهمها المرسوم المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي..

وجاء دستور الجمهورية الثانية الذي خير المجلس الوطني التأسيسي الانطلاق في كتابته من ورقة بيضاء ليقطع مع دستور الجمهورية الأولى، دستور غرة جوان 1959 الذي أعده المجلس القومي التأسيسي في أجواء مفعمة بالحماس والفرح بالتخلص من عهود جثم فيها الاستعمار على قلوب التونسيين وعهود وبالقطع مع النظام الملكي. فيكفي أن نقرأ قرار المجلس القومي التأسيسي الصادر على الساعة السادسة مساء من يوم 25 جويلة 1957 والقاضي بإلغاء النظام الملكي إلغاء تاما وإعلان تونس دولة جمهورية وتكليف رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمهام الرئاسة،

بسم الله الرحمان الرحيم

نحن ممثلي الشعب التونسي المجتمعين في مجلس قومي تأسيسي،

نعلـــن،

إن هذا الشعب الذي تخلص من السيطرة الأجنبية بفضل تكتله العتيد وكفاحه ضد الطغيان والاستغلال والتخلف، مصمم:

 على توثيق عرى الوحدة القومية والتمسك بالقيم الإنسانية المشاعة بين الشعوب التي تدين بكرامة الإنسان وبالعدالة والحرية وتعمل للسلم والتقدم والتعاون الدولي الحر،

 وعلى تعلقه بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربية وبالتعاون مع الشعوب الإفريقية في بناء مصير أفضل وبالتضامن مع جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة،

 وعلى إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة تفريق السلط،

ونعلــن،

أن النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولتوفير أسباب الرفاهية بتنمية الاقتصاد واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب وأنجع أداة لرعاية الأسرة وحق المواطنين في العمل والصحة والتعليم،

نحن ممثلي الشعب التونسي الحر صاحب السيادة نرسم على بركة الله هذا الدستور.

سعيدة بوهلال

 

 

 

 

 

 

 

 

ينتظرها الصعود الشاهق أم السقوط المدوي؟.. هل ستعبر تونس للجمهورية الثالثة؟

تونس: الصباح

في انتظار إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج النهائية للاستفتاء في مشروع الدستور الجديد في أجل أقصاه يوم 28 أوت المقبل، وفي انتظار إصدار المشروع المصادق عليه باستفتاء 25 جويلية في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في أجل أقصاه يوم 4 سبتمبر 2022 وذلك في حال تصريح الهيئة بقبوله وعدم إسقاطه، يتواصل الجدل ساخنا في تونس حول هذا المشروع الذي جاء ليؤسس للجمهورية الثالثة، وينهي العمل بدستور الجمهورية الثانية، أي دستور 27 جانفي 2014 الذي صاغه المجلس الوطني التأسيسي المنتخب في 23 أكتوبر 2011 بصفة مباشرة من الشعب بعد ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي 2011، تلك الثورة التي كانت عطشى للقطع مع منظومة الحكم السابق التي سادت خلال العهدين النوفمبري والبورقيبي والتي أسرعت الخطوة نحو تعليق العمل بدستور الجمهورية الأولى الصادر بتاريخ غرة جوان 1959 عن المجلس القومي التأسيسي الذي سعى إلى القطع مع النظام الملكي.

ولئن لم تتضح ملامح الجمهورية الثالثة بعد أمام السواد الأعظم من التونسيين بمن فيهم الذين شاركوا في حملة الاستفتاء في مشروع الدستور الذي يؤسس لهذه الجمهورية والذين ذهبوا يوم 25 جويلية الجاري إلى مكاتب الاقتراع للتصويت بنعم على هذا المشروع أو بلا، فإن أغلب المختصين في العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الذين منذ اللحظات الأولى لنشر المشروع يوم 30 جوان الماضي في الرائد الرسمي انكبوا على دراسته ووضعوه تحت المجهر وشرحوه بابا بابا وفصلا فصلا وقرؤوا سطوره وقرؤوا ما بين السطور وما خلف السطور، أجمعوا على أن سلبياته أكثر من إيجابياته، واتفقوا على أن مضامينه خطيرة لأنه حسب رأيهم يكرس النظام الرئاسوي الذي يتعارض مع النظام الجمهوري ويضرب مبدأ التوازن بين السلط، ويهدد الحقوق والحريات ويؤسس للنظام القاعدي وللدولة الدينية وينسف استقلالية السلطة القضائية ويشطب الهيئات الدستورية، ولا يقيم أي اهتمام للجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي رغم أن المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد اليوم تقتضي أن تكون المسألة الاقتصادية والاجتماعية في صدارة الأولويات..

ولكن رئيس الجمهورية قيس سعيد الأب الشرعي لهذا الدستور، وذلك بالنظر إلى أن العميد الصادق بلعيد رئيس الهيئة الاستشارية التي كلفت بوضعه تبرأ منه، لم يفوت الفرصة للرد على منتقدي مشروعه وفند كل ما ذهب إليه شراح دستوره واتهمهم بالافتراء بمن فيهم زملاء سابقون له في كليات الحقوق يشهد لهم القاصي والداني بالكفاءة والجدارة والانضباط الأكاديمي..

 وحاول سعيد من خلال المذكرة التفسيرية لمشروع الدستور التي أذن بنشرها على الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية يوم 5 جويلية الجاري الرد على كل الانتقادات التي طالت مشروعه وحرص على طمأنه الشعب التونسي وخاصة الناخبين منهم الذين دعاهم إلى أن يقولوا "نعم حتى لا يصيب الدولة هرم وحتى تتحقق أهداف الثورة وينتهي البؤس والإرهاب والتجويع والظلم والألم"..

ومن خلال قراءة مضامين هذه المذكرة التي جاءت تحت عنوان "للدولة وللحقوق والحريات دستور يحميها وللشعب ثورة يدفع عنها من يعاديها"، يمكن تلمس ملامح الجمهورية الثالثة من وجهة نظر الرئيس سعيد، فهي جمهورية تعبق بروح الثورة وتصحح مسار هذه الثورة، جمهورية لا مكان فيها للفساد السياسي والإفلات من العقاب.. جمهورية لا مساس فيها بالحقوق والحريات.. جمهورية يشارك فيها الشعب في اتخاذ القرار من خلال ممثليه في المجلس الوطني للجهات والأقاليم وفي مجلس نواب الشعب وإذا حاد أي عضو من أعضاء المجلس عن مطالب الشعب فإن الشعب يكون له بالمرصاد ويسحب منه الوكالة..

ولإقناع الشعب برؤيته استذكر الرئيس سعيد من خلال المذكرة التفسيرية لمشروع الدستور ما عانته تونس منذ عقود وآخرها العقد الأخير من محاولات متكررة لضرب وحدة الدولة والتنظم داخل مؤسساتها للانحراف بها عن خدمة المواطنين وفق ما تقتضيه مبادئ تسيير المرافق العمومية وأهمها الحياد والمساواة، ودعا التونسيين إلى أن تذكروا كيف أفلت الكثيرون من المحاسبة وكيف زاد الفساد واختلاق الأزمات بهدف صرف أنظار الشعب عن مطالبه المشروعه التي رفعها في شهر ديسمبر 2010 وما فتئ يرددها منذ ذلك التاريخ.. وذكرهم بما عانوه من تفقير وتنكيل ومغالطات ومناورات وما شاهدوه في البرلمان من قوانين توضع والحال أن من وضعها يعلم بأنها لن تجد طريقها إلى التنفيذ وقوانين أخرى توضع على المقاس كما وضع دستور 2014 ليجد فيه كل طرف نصيب. وذكرهم بمن أفرغوا خزائن الدولة وسائر المؤسسات والمنشآت العمومية ليزداد الفقراء فقرا وإملاقا ويزداد الذين أفسدوا في كل مكان ثراء خارج أي إطار شرعي ومشروع.. وذكرهم بحسرتهم لما كانوا يشاهدون ما يحدث تحت قبة البرلمان من فضائح وسب وشتم وهتك للأعراض وتبادل للعنف إلى درجة إسالة الدماء وبدعوات بعض أعضاء هذا المجلس إلى حله وبالدعوات الشعبية للمطالبة بحله.. وقال إنه من باب الواجب المقدس فإنه المسؤولية التاريخية اقتضت تجميد عمل المجلس قبل حله لإنقاذ الشعب وإنقاذ مؤسسات الدولة التي كانت على وشك الانهيار. وبين رئيس الجمهورية في تلك المذكرة أنه كان لا بد من التفكير الجدي في وضع دستور جديد ونظرا إلى أن عملية وضع دستور يجب أن تكون ديمقراطية فقد تم الاختيار على تنظيم استشارة وطنية وحوار وطني قبل وضع مشروع دستور جديد يتم عرضه على الشعب على صاحب السيادة.

وتكذيبا لمن اتهموه بالتأسيس لنظام قاعدي واستدلوا في كلامهم بما تضمنه مشروع الدستور من إنشاء لمجلس وطني للجهات والأقاليم أوضح الرئيس سعيد من خلال المذكرة التفسيرية أن الغاية من إنشاء مجلس وطني للجهات والأقاليم هي مشاركة الجميع على قدم المساواة في صنع القرار وفي وضع التشريعات التي تضعها الأغلبية الحقيقية تحت الرقابة المستمرة لصاحب السيادة وهو الشعب..

أما بالنسبة للمتخوفين على الحقوق والحريات فقد أجابهم أنه لا خوف على الحقوق والحريات إذا كانت النصوص القانونية تضعها الأغلبية تحت الرقابة الشعبية سواء داخل المجلس الأول أو المجلس الثاني وذلك فضلا عن رقابة دستورية القوانين من قبل محكمة دستورية تسهر على ضمان علوية الدستور بعيدا عن كل محاولات التوظيف بناء على الولاء لهذا أو لذاك. وأضاف رئيس الجمهورية في المذكرة التفسيرية قائلا " يدعي من دأب على الافتراء والادعاء أن مشروع الدستور ينبئ بعودة الاستبداد لأنه لم يكلف نفسه عناء النظر في كل بنوده وأحكامه بل لم ينظر لا في تركيبة المحكمة الدستورية ولا في إمكانية سحب الوكالة ولا في حق المجلس في مساءلة الحكومة ولا في تجديد حق الترشح لرئاسة الدولة إلا مرة واحدة فما ابعد ما يروجونه عن الحقيقة وما أبعد من يفترون عن الواقع، إن التاريخ لن يعود أبدا إلى الوراء فلا خير في التاريخ إن كان سيعيد نفسه". وفند سعيد ما قيل حول مشروعه من كلام مفاده أنه يهيئ لاختلال التوازن بين السلطات التي سماها هو بالوظائف مشيرا إلى أن التوازن لا يختل بالنصوص وإنما بهيمنة حزب واحد أو تحالف واحد على جميع مؤسسات الدولة وعندما لا تكون هناك رقابة، ولكن المشروع كرس حق المجلس النيابي والمجلس الوطني للجهات والأقاليم في مراقبة الحكومة وكرس حق الشعب في مراقبة أعضاء المجلسين وفي سحب الوكالة منهم، وخلص إلى أن مشروع الدستور هو من روح الثورة التي رفع فيها الشعب التونسي شعاره التاريخي الشعب يريد..

الشعب يريد.. الشعب صاحب السيادة

 وفضلا عما ورد في المذكرة التفسيرية لمشروع الدستور المعروض على الاستفتاء فإن توطئة هذا المشروع وما تضمنته من عبارات رنانة، تجعل القارئ يحلق بأفكاره شاهقا ليرسم في خياله صورة للجمهورية الثالثة، جمهورية صورتها التوطئة كما لو أنها أحلى وأعظم وأرقى ما عرفته البشرية على مدى التاريخ..

فخلافا لما جاء في توطئة دستور الجمهورية الأولى وتوطئة دستور الجمهورية الثانية، فإن توطئة مشروع الدستور الجديد الذي أراد الرئيس سعيد العبور به إلى الجمهورية الثالثة، جاء ليكرس مفهوم سيادة الشعب، وجاء في مطلع الديباجة ما يلي: "نحن الشعب التونسي، صاحب السّيادة، الذي حقّق بداية من يوم 17 من شهر ديسمـبر من سنة 2010، صعودا شاهقا غير مسبوق في التاريخ، ثائرا على الظلم والاســــتــبداد وعلى التجويع والتنكيل في كل مرافق الحياة. نحن الشعب التونسي الذي صبر وصابر لمدة أكثر من عقد من الزمن إثر هذه الثورة المباركة، فلم ينقطع عن رفع مطالبه المشروعة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، ولكنه لم يلق في المقابل سوى شعارات زائفة، ووعودا كاذبة، بل وزاد الفساد استفحالا، وتفاقم الاستيلاء على ثرواتنا الطبيعية والسطو على المال العام دون أي محاسبة. فكان لابد من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثّورة، بل ومن تصحيح مسار التاريخ، وهو ما تمّ يوم 25 من شهر جويلية من سنة 2021، تاريخ ذكرى إعلان الجمهوريّة"..

وحسب ما جاء في التوطئة فإن الدستور الجديد للجمهورية الجديدة جاء ليحقق العدل والحريّة والكرامة والسيادة الكامـلة للدولة والاستقلال الحقيقي، وليؤسس إلى تركيز نظام دستوري جديد يقوم لا فقط على دولة القانون، بل على مجتمع القانون، ليؤسس لديمقراطية سياسية مشفوعة بديمقراطية اقتصادية واجتماعية من خلال تمكين المواطن من حقّه في الاختيار الحرّ، ومن مساءلة من اختاره ومن حقّه في التوزيع العادل للثروات الوطنيّة. فمشروع الدستور وفق ما جاء في التوطئة يؤسس لنظام سياسي يقوم على الفصل بين الوظائف التشريعيـة والتنفيذية والقضائية، وعلى إرساء توازن حقيقي بينها، وليس هذا فقط بل هو يؤكد على أن النظّام الجمهوري هو خير كفيل للمحافظة على سيادة الشّـــعب وتوزيع ثروات البلاد بصفة عادلة على كلّ المواطنين والمواطنات.

ولئن أثار مشروع الدستور مخاوف جل الجامعيين والمثقفين والحقوقيين الذين عبروا عن خشيتهم من أن يؤدي هذا النص الخطير إلى سقوط مدو لتونس وليس إلى علو شاهق كما بشر به الرئيس سعيد فإن أنصار سعيد ومريديه ينتظرون بفراغ الصبر التصريح بالنتائج النهائية للاستفتاء حول مشروع الدستور الذي يتطلعون من خلاله إلى غد أفضل للبلاد والشعب وينتظرون التحرر من أعقال دستور الجمهورية الثانية الذي استبشروا في البداية به خيرا لكنهم أدركوا بمرور الزمن أنه في أغلبه غير قابل للتطبيق.

دستور كتب بالدموع والدماء

رغم الثغرات الكثيرة التي غص بها دستور الجمهورية الثانية أي دستور 27 جانفي 2014 الذي أمضى المجلس الوطني التأسيسي ثلاث سنوات لكتابته، فإنه لا أحد ينكر أنه صيغ فعلا بصفة تشاركية وراعى إلى حد كبير مبدأ الفصل بين السلط وكرس جل الحقوق والحريات الكونية وضمن استقلالية السلطة القضائية واستحدث عدة هيئات دستورية وأرسى أسس السلطة المحلية، ولكن لم يكن الطريق إلى ذلك الدستور سالكا بل كان معبدا بالأشواك، فالطريق إليه كان قاتم السواد.. كسواد قلوب من أطلقوا رصاص الغدر على الجنود البواسل ورجال الأمن الشرفاء ورجال تونس الأبرار وفي مقدمتهم الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.. وسواد أفئدة من أرادوا تحويل الجمهورية التونسية إلى إمارة داعشية..

وجاء دستور 2014 وفق ما ورد في ديباجته ليؤسس لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها، ويكون فيه حقُّ التنظّمِ القائمِ على التعددية، وحيادُ الإدارة، والحكمُ الرشيد هي أساسَ التنافس السياسي، وتضمن فيه الدولة علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان واستقلالية القضاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات..

بمناسبة جلسة عامة انعقدت يوم 27 جانفي 2017 بالمجلس الوطني التأسيسي خصصت لختم مشروع الدستور أطلقت النائبة المؤسسة والفنانة سلمى بكار الزغاريد وقالت يومها :"بقدر ما كنت أرغب في دفن دستور غرة جوان 1959 وانتزاعه من روحي ومن عقلي ومن جلدتي، بقدر ما أشعر اليوم وأنا ألمس ورقات دستور 26 جانفي 2014، أنني في أوج السعادة وفي قمة الفرح، وأنني أريد أن أقبّله كثيرا وأضّمه إلى صدري، فأنا أشعر به وكأنه طفل صغير ولد للتو، وأشعر أنني أريد النظر إليه كثيرا والتحديق في ملامحه ومعانقته ووضعه بين أحضاني".. فالدستور حسب قولها وحّد التونسيين، وألّف بين قلوبهم، وأعاد إليهم "تونسهم" التي يعرفونها ويحبونها..

أما حسين العباسي الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل الذي شارك في الحوار الوطني وحصل على جائزة نوبل للسلام فقال يومها إن الصعوبات الكبرى التي عاشتها تونس مرت، وذلك بفضل جهود التونسيين وإصرار المجتمع المدني. وأضاف:"بشيء من الصبر والتعاون خرجنا من الوضعية الصعبة التي كنا عليها".

وكان الفقيد مصطفى الفيلالي وهو أحد المؤسسين لدستور 1959 حل يومها بقصر باردو لحضور الاحتفال وقال إن دستور 2014 متجذر في الشعب الذي قام بثورة ويتطلع إلى مصير فيه قطع مع الماضي. وأن فصله الأول ثبت الأركان الثلاثة للهوية وهي الدين واللغة والتاريخ وأن من حسناته انه لم يجادل فيها، وأنه حاول تحقيق التوازن الصعب والعسير بين السلطات الثلاثة وأعطى السلطة القضائية نصيبها وهو ما أهمله دستور 1959 كما انه اعترف بحق العمل وكان يجب ان ينص على واجب العمل نظرا لحاجة تونس إلى تجذر قيمة العمل وثقافة العمل.

ولعل الحديث عن الجمهورية الثانية ودستورها يستوجب التذكير بالدستور الصغير، الذي تم وضعه بعد تعليق العمل بدستور غرة جانفي 1959 في 15 مارس 2011 إثر هروب الرئيس بن علي إلى السعودية وانتقال السلطة بطريقة سلسلة يوم 14 جانفي 2011 في إطار تفعيل الفصل 56 من دستور من خلال تعيين الوزير الأول محمد الغنوشي رئيسا مؤقتا للبلاد ليتولى المجلس الدستوري في اليوم التالي تعيين فؤاد المبزع رئيسا للبلاد بموجب الفصل 57، ثم تم في 17 جانفي من نفس السنة تكوين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ترأسها عياض بن عاشور والتي أعدت جملة من مقترحات المراسيم وأهمها المرسوم المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي..

وجاء دستور الجمهورية الثانية الذي خير المجلس الوطني التأسيسي الانطلاق في كتابته من ورقة بيضاء ليقطع مع دستور الجمهورية الأولى، دستور غرة جوان 1959 الذي أعده المجلس القومي التأسيسي في أجواء مفعمة بالحماس والفرح بالتخلص من عهود جثم فيها الاستعمار على قلوب التونسيين وعهود وبالقطع مع النظام الملكي. فيكفي أن نقرأ قرار المجلس القومي التأسيسي الصادر على الساعة السادسة مساء من يوم 25 جويلة 1957 والقاضي بإلغاء النظام الملكي إلغاء تاما وإعلان تونس دولة جمهورية وتكليف رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة بمهام الرئاسة،

بسم الله الرحمان الرحيم

نحن ممثلي الشعب التونسي المجتمعين في مجلس قومي تأسيسي،

نعلـــن،

إن هذا الشعب الذي تخلص من السيطرة الأجنبية بفضل تكتله العتيد وكفاحه ضد الطغيان والاستغلال والتخلف، مصمم:

 على توثيق عرى الوحدة القومية والتمسك بالقيم الإنسانية المشاعة بين الشعوب التي تدين بكرامة الإنسان وبالعدالة والحرية وتعمل للسلم والتقدم والتعاون الدولي الحر،

 وعلى تعلقه بتعاليم الإسلام وبوحدة المغرب الكبير وبانتمائه للأسرة العربية وبالتعاون مع الشعوب الإفريقية في بناء مصير أفضل وبالتضامن مع جميع الشعوب المناضلة من أجل الحرية والعدالة،

 وعلى إقامة ديمقراطية أساسها سيادة الشعب وقوامها نظام سياسي مستقر يرتكز على قاعدة تفريق السلط،

ونعلــن،

أن النظام الجمهوري خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولتوفير أسباب الرفاهية بتنمية الاقتصاد واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب وأنجع أداة لرعاية الأسرة وحق المواطنين في العمل والصحة والتعليم،

نحن ممثلي الشعب التونسي الحر صاحب السيادة نرسم على بركة الله هذا الدستور.

سعيدة بوهلال

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews