يتعرض الدستور التونسي الجديد إلى تقييمات سلبية وإيجابية من طرف الخاصة والعامة. فالنخب المثقفة ذات التبعية الفكرية للغرب تبنت في تقييمها لشكل ومضمون الدستور الفكر الغربي. فجاء الاستشهاد خاصة بفكر روسو ومونتسكيو في الطليعة. واتبع الرئيس قيس سعيد أيضا هذا التوجه في حديثه عن نظام الحكم الذي يطرحه الدستور للاستفتاء في 25/07/.2022. فغاب فكر ابن خلدون بالكامل عن تحليلات هؤلاء لنظام الحكم في المجتمعات العربية الإسلامية والحال أن أطول أبواب المقدمة الستة هو الباب الثالث بعنوان: في الدول العامة والمُلْك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتمِّمات. فالدارسون الحقيقيون لفصول هذا الباب اكتشفوا أن صاحب المقدمة يحتضن نظرية سياسية للمجتمعات العربية الإسلامية. فهذا الاغتراب الفكري لدى معظم تلك النخب
النخب التونسية والاغتراب اللغوي
يتواجد مع الاستلاب الفكري اغتراب لغوي بين تلك النخب والذي يتمثل في ميل تلك النخب إلى استعمال الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية. في مقابلة هذه الأيام مع الدكتور مصطفى عمر التير عالم الاجتماع الليبي المشهور ذكر لي أن علماء الاجتماع التونسيين والجزائريين والمغاربة طالما يستعملون الفرنسية بدلا عن العربية في ندوات شارك فيها في بلدان هؤلاء مما اضطُر إلى ترجمة المداخلات إلى الليبيين المشاركين. يُعتبر هذا عيبا عند الأستاذ التير أن لا يستعمل الجميع فوق أرضهم اللغة العربية/الوطنية لكل المجتمعات المغاربية. في المقابل ، ينظر الجامعيون والمثقفون المغاربيون إلى استعمال الفرنسية أمرا عاديا ومفضَّلا على استعمال العربية. يفسر مفهومُنا الجديد للحجر اللغوي ذلك السلوك اللغوي الفاقد للوطنية.
الحجر اللغوي مفتاح سلامة العلاقة مع اللغة
يتمثل مفهوم الحجر اللغوي في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في كل شيء بما فيه التدريس ابتداء من حاضنات صغار الأطفال وفي المراحل الثلاث للتعليم: الابتدائية والإعدادية والثانوية. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) تحمي الفرد كثيرا من الإصابة بالكورونا. وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة كما هو الحال في السلوك اللغوي للأغلبية الساحقة في المجتمع التونسي. وهكذا، فتأسيس خير الدين باشا للمدرسة الصادقية يشير إلى جهل بعلم اللغات وتفاعلها وتقليد أعمى للغرب. فهذه المدرسة درست بالفرنسية جميع المواد. فخريجوها يتقنون العربية لكن نفسيا يفضل معظمهم استعمال الفرنسية بسبب فقدانهم للحجر اللغوي. ومنه، فسلامة صحة الفرد وسلامة لغته هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. ومن ثم، فمن الكذب العلمي إنكار أن صداقة خريجي المدرسة الصادقية والمدارس التونسية بعد الاستقلال للغة العربية/الوطنية ضعيفة أو غير سليمة. مثلا، ألا يكتب معظم التونسيات والتونسيين شيكاتهم البنكية باللغة الفرنسية ؟
مضاعفات التبعية الفكرية واللغوي على النخب
يرى الكثيرون من النخب التونسية أن في الاستلاب الفكري والاغتراب اللغوي خيرا كثيرا رغم أن ذلك يمثل تبعية للغرب ذات وجهين : فكري ولغوي. والتبعية على هذين المستويين تحرم تلك النخب من الوطنية الفكرية واللغوية وبالتالي من القدرة على إنتاج فكر ذاتي أصيل يتمثل في مقولات ونظريات ومفاهيم مستلة من الواقع. على سبيل المثال، ماذا قدمت النخب التونسية في علم الاجتماع منذ الاستقلال من مقولات ونظريات ومفاهيم وليدة الواقع الاجتماعي التونسي؟ نظرا لغياب رصيد فكري من ذلك القبيل لدى علماء الاجتماع التونسيين، فإن مصداقيتهم كنخب فكرية تكون واهية وضعيفة في ميزان التألق الفكري الذي يؤدي إليه البحث والغوص كما عبر ابن خلدون عن ذلك في حديثه عن اكتشافه لعلم العمران البشري قائلا:" واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص" . وبعبارة أخرى، فالتبعية المزدوجة هي مصدر للكسل الذهني وللإعاقة الفكرية التي تحرم أصحابها من ابتكار النظريات والمفاهيم وغيرها المستلة من مجتمعاتها التي طالما تكون مؤهلة أكثر من واردات التبعية في الفهم والتفسير للظواهر في تلك المجتمعات. يجوز القول موضوعيا إن النخب التونسية لا تتمتع بالأصالة على جبهتين: 1- فقدانهم للتأصل فكريا ولغويا في التراث العربي الإسلامي و2- غياب إنشاء نظريات ومفاهيم من صنع تلك النخب.
صمت النخب عن الفكر السياسي الخلدوني
كما رأينا في مطلع هذا المقال، فالنخب الفكرية التونسية تستعمل الفكر الغربي في تحليل الوضع السياسي التونسي اليوم. ويعود ذلك في المقام الأول إلى استلاب فكري واغتراب لغوي لدى تلك النخب كما شرحنا ذلك. يناهض ابن خلدون بقوة انتشار فيروس الاستلاب الفكري بين المثقفين المسلمين، ومن ثم، يدعو بصوت عال إلى ضرورة محافظة المسلمين على حصانتهم في مربط فرس الثقافة الإسلامية وبالتالي كسب رهان المناعة الثقافية والفكرية الأصيلة. يكفي ذكر تحذير ابن خلدون من مخاطر معرفة ثقافة الآخر وفكره قبل تحصين الذات أولا في ثقافتها وفكرها. ففي الفصل الحادي والثلاثين من الباب السادس للمقدمة يتحدث ابن خلدون عن الفلسفة اليونانية التي كانت ذات أثر كبير على فكر الكثير من فلاسفة المسلمين ومفكريهم فيقول :" فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها ، وليكن من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه ، ولا يُكِبَّنَّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقَلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها...".
من المتوقع أن ينزعج ابن خلدون في قبره عندما يعلم أن معظم الأساتذة العرب المدرِّسين و الطلبة خريجي الجامعات العربية في الفلسفة لا يكادون يعرفون شيئا عن علوم الملة. وسوف تزداد حسرتُه حزنا عندما نخبره أن تلاميذ شهادة الباكالوريا في موطن ميلاده (تونس) لا يكادون يتعلمون شيئا عن الفلسفة الإسلامية ناهيك عن علوم الملة. بينما هم يدرسون مادة الفلسفة الغربية ساعات عديدة في الأسبوع . فالجميع عند ابن خلدون لا يستطيعون أن يسلموا من معاطب هذا الوضع الفكري الثقافي بسبب خلوهم من تراث علوم الملة. وهكذا يُستنتج من مقولة صاحب المقدمة ان التلاقح الفكري الايجابي بين مثقفي ومتعلمي الثقافات المتنوعة لا يحصل إلا بشرط امتلاء الإنسان في المقام الأول من لغتة (عبر الحجر اللغوي) وفكر ثقافة مجتمعه وحضارته. وتلك هي أبجدية التحاور الحكيم مع الآخر التي لا يملكها حقا معظمُ المثقفين التونسيين.
عيوب وخصال الحكام والرعية في العدسة الخلدونية
كما أشرنا سابقا، فالباب الثالث من مقدمة ابن خلدون يحتضن بحرفية فكرية نظرية سياسية متكاملة الأبعاد. نقتصر هنا على ذكر تشخيص صاحب المقدمة للتفاعل بين الحكام والمحكومين في المجتمعات العربية الإسلامية وما ينجر عنه من عيوب وخصال بين الطرفين. يصلح هذا النص الخلدوني للاستعمال في تحليل الوضع السياسي التونسي قبل الاستفتاء على الدستور الجديد :
"اعلم أن مصالح الرعيّة في السلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع عمله أو جودة خطِّه أو ثقوب ذهنه، وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم. إن المُلك والسلطان من ا لأمور الإضافية وهي نسبة من منتسبين. فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم. فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان. والصفة التي له من حيث إضافته لهم هي التي تسمى المَلَكَة وهو كونه يملكهم. فإذا هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه، فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم وإن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضررا عليهم وإهلاكا لهم. ويعود حسن الملكة إلى الرفق. فإن المُلك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوفُ والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم ، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك. فتفسد الدولة ويخرُب السياجُ. وإن دام أمره عليهم وقهرُه، فسُدت العصبية لما قلناه أولا، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رقيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأُشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه ، فاستقام الآمرُ من كل جانب".
(*)عالم الاجتماع
بقلم: د. محمود الذوادي(*)
الاستلاب الفكري لدى النخب التونسية
يتعرض الدستور التونسي الجديد إلى تقييمات سلبية وإيجابية من طرف الخاصة والعامة. فالنخب المثقفة ذات التبعية الفكرية للغرب تبنت في تقييمها لشكل ومضمون الدستور الفكر الغربي. فجاء الاستشهاد خاصة بفكر روسو ومونتسكيو في الطليعة. واتبع الرئيس قيس سعيد أيضا هذا التوجه في حديثه عن نظام الحكم الذي يطرحه الدستور للاستفتاء في 25/07/.2022. فغاب فكر ابن خلدون بالكامل عن تحليلات هؤلاء لنظام الحكم في المجتمعات العربية الإسلامية والحال أن أطول أبواب المقدمة الستة هو الباب الثالث بعنوان: في الدول العامة والمُلْك والخلافة والمراتب السلطانية وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتمِّمات. فالدارسون الحقيقيون لفصول هذا الباب اكتشفوا أن صاحب المقدمة يحتضن نظرية سياسية للمجتمعات العربية الإسلامية. فهذا الاغتراب الفكري لدى معظم تلك النخب
النخب التونسية والاغتراب اللغوي
يتواجد مع الاستلاب الفكري اغتراب لغوي بين تلك النخب والذي يتمثل في ميل تلك النخب إلى استعمال الفرنسية عوضا عن اللغة العربية/الوطنية. في مقابلة هذه الأيام مع الدكتور مصطفى عمر التير عالم الاجتماع الليبي المشهور ذكر لي أن علماء الاجتماع التونسيين والجزائريين والمغاربة طالما يستعملون الفرنسية بدلا عن العربية في ندوات شارك فيها في بلدان هؤلاء مما اضطُر إلى ترجمة المداخلات إلى الليبيين المشاركين. يُعتبر هذا عيبا عند الأستاذ التير أن لا يستعمل الجميع فوق أرضهم اللغة العربية/الوطنية لكل المجتمعات المغاربية. في المقابل ، ينظر الجامعيون والمثقفون المغاربيون إلى استعمال الفرنسية أمرا عاديا ومفضَّلا على استعمال العربية. يفسر مفهومُنا الجديد للحجر اللغوي ذلك السلوك اللغوي الفاقد للوطنية.
الحجر اللغوي مفتاح سلامة العلاقة مع اللغة
يتمثل مفهوم الحجر اللغوي في استعمال اللغة الأم أو الوطنية فقط في كل شيء بما فيه التدريس ابتداء من حاضنات صغار الأطفال وفي المراحل الثلاث للتعليم: الابتدائية والإعدادية والثانوية. يتشابه الحجر اللغوي مع الحجر الصحي في تأثيرات كل منهما بقوة على المحجور (الصحة أو اللغة). فالإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشي فيروس جائحة الكورونا (الابتعاد الاجتماعي ولباس الكمامات وغسل اليدين والعزل المنزلي...) تحمي الفرد كثيرا من الإصابة بالكورونا. وبالمثل يحمي الحجر اللغوي لغات الأم أو اللغات الوطنية من تفشي فيروس انتشار استعمال اللغات الأجنبية في الحديث والكتابة كما هو الحال في السلوك اللغوي للأغلبية الساحقة في المجتمع التونسي. وهكذا، فتأسيس خير الدين باشا للمدرسة الصادقية يشير إلى جهل بعلم اللغات وتفاعلها وتقليد أعمى للغرب. فهذه المدرسة درست بالفرنسية جميع المواد. فخريجوها يتقنون العربية لكن نفسيا يفضل معظمهم استعمال الفرنسية بسبب فقدانهم للحجر اللغوي. ومنه، فسلامة صحة الفرد وسلامة لغته هما حصيلة لهذين النوعين من الحجر. ومن ثم، فمن الكذب العلمي إنكار أن صداقة خريجي المدرسة الصادقية والمدارس التونسية بعد الاستقلال للغة العربية/الوطنية ضعيفة أو غير سليمة. مثلا، ألا يكتب معظم التونسيات والتونسيين شيكاتهم البنكية باللغة الفرنسية ؟
مضاعفات التبعية الفكرية واللغوي على النخب
يرى الكثيرون من النخب التونسية أن في الاستلاب الفكري والاغتراب اللغوي خيرا كثيرا رغم أن ذلك يمثل تبعية للغرب ذات وجهين : فكري ولغوي. والتبعية على هذين المستويين تحرم تلك النخب من الوطنية الفكرية واللغوية وبالتالي من القدرة على إنتاج فكر ذاتي أصيل يتمثل في مقولات ونظريات ومفاهيم مستلة من الواقع. على سبيل المثال، ماذا قدمت النخب التونسية في علم الاجتماع منذ الاستقلال من مقولات ونظريات ومفاهيم وليدة الواقع الاجتماعي التونسي؟ نظرا لغياب رصيد فكري من ذلك القبيل لدى علماء الاجتماع التونسيين، فإن مصداقيتهم كنخب فكرية تكون واهية وضعيفة في ميزان التألق الفكري الذي يؤدي إليه البحث والغوص كما عبر ابن خلدون عن ذلك في حديثه عن اكتشافه لعلم العمران البشري قائلا:" واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص" . وبعبارة أخرى، فالتبعية المزدوجة هي مصدر للكسل الذهني وللإعاقة الفكرية التي تحرم أصحابها من ابتكار النظريات والمفاهيم وغيرها المستلة من مجتمعاتها التي طالما تكون مؤهلة أكثر من واردات التبعية في الفهم والتفسير للظواهر في تلك المجتمعات. يجوز القول موضوعيا إن النخب التونسية لا تتمتع بالأصالة على جبهتين: 1- فقدانهم للتأصل فكريا ولغويا في التراث العربي الإسلامي و2- غياب إنشاء نظريات ومفاهيم من صنع تلك النخب.
صمت النخب عن الفكر السياسي الخلدوني
كما رأينا في مطلع هذا المقال، فالنخب الفكرية التونسية تستعمل الفكر الغربي في تحليل الوضع السياسي التونسي اليوم. ويعود ذلك في المقام الأول إلى استلاب فكري واغتراب لغوي لدى تلك النخب كما شرحنا ذلك. يناهض ابن خلدون بقوة انتشار فيروس الاستلاب الفكري بين المثقفين المسلمين، ومن ثم، يدعو بصوت عال إلى ضرورة محافظة المسلمين على حصانتهم في مربط فرس الثقافة الإسلامية وبالتالي كسب رهان المناعة الثقافية والفكرية الأصيلة. يكفي ذكر تحذير ابن خلدون من مخاطر معرفة ثقافة الآخر وفكره قبل تحصين الذات أولا في ثقافتها وفكرها. ففي الفصل الحادي والثلاثين من الباب السادس للمقدمة يتحدث ابن خلدون عن الفلسفة اليونانية التي كانت ذات أثر كبير على فكر الكثير من فلاسفة المسلمين ومفكريهم فيقول :" فليكن الناظر فيها متحرزا جهده من معاطبها ، وليكن من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والإطلاع على التفسير والفقه ، ولا يُكِبَّنَّ أحد عليها وهو خلو من علوم الملّة فقَلَّ أن يسلم لذلك من معاطبها...".
من المتوقع أن ينزعج ابن خلدون في قبره عندما يعلم أن معظم الأساتذة العرب المدرِّسين و الطلبة خريجي الجامعات العربية في الفلسفة لا يكادون يعرفون شيئا عن علوم الملة. وسوف تزداد حسرتُه حزنا عندما نخبره أن تلاميذ شهادة الباكالوريا في موطن ميلاده (تونس) لا يكادون يتعلمون شيئا عن الفلسفة الإسلامية ناهيك عن علوم الملة. بينما هم يدرسون مادة الفلسفة الغربية ساعات عديدة في الأسبوع . فالجميع عند ابن خلدون لا يستطيعون أن يسلموا من معاطب هذا الوضع الفكري الثقافي بسبب خلوهم من تراث علوم الملة. وهكذا يُستنتج من مقولة صاحب المقدمة ان التلاقح الفكري الايجابي بين مثقفي ومتعلمي الثقافات المتنوعة لا يحصل إلا بشرط امتلاء الإنسان في المقام الأول من لغتة (عبر الحجر اللغوي) وفكر ثقافة مجتمعه وحضارته. وتلك هي أبجدية التحاور الحكيم مع الآخر التي لا يملكها حقا معظمُ المثقفين التونسيين.
عيوب وخصال الحكام والرعية في العدسة الخلدونية
كما أشرنا سابقا، فالباب الثالث من مقدمة ابن خلدون يحتضن بحرفية فكرية نظرية سياسية متكاملة الأبعاد. نقتصر هنا على ذكر تشخيص صاحب المقدمة للتفاعل بين الحكام والمحكومين في المجتمعات العربية الإسلامية وما ينجر عنه من عيوب وخصال بين الطرفين. يصلح هذا النص الخلدوني للاستعمال في تحليل الوضع السياسي التونسي قبل الاستفتاء على الدستور الجديد :
"اعلم أن مصالح الرعيّة في السلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع عمله أو جودة خطِّه أو ثقوب ذهنه، وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم. إن المُلك والسلطان من ا لأمور الإضافية وهي نسبة من منتسبين. فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم. فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان. والصفة التي له من حيث إضافته لهم هي التي تسمى المَلَكَة وهو كونه يملكهم. فإذا هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على أتم الوجوه، فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم وإن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضررا عليهم وإهلاكا لهم. ويعود حسن الملكة إلى الرفق. فإن المُلك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوفُ والذل، ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بها، وفسدت بصائرهم وأخلاقهم ، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على قتله لذلك. فتفسد الدولة ويخرُب السياجُ. وإن دام أمره عليهم وقهرُه، فسُدت العصبية لما قلناه أولا، وفسد السياج من أصله بالعجز عن الحماية. وإذا كان رقيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأُشربوا محبته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه ، فاستقام الآمرُ من كل جانب".