قال القيادي بحركة الشعب والنائب عن الكتلة الديمقراطية سالم لبيض أن مصادقة البرلمان على تعديل قانون المحكمة الدستورية هذه الموافقة على القانون ستضعنا من جديد في حيز الصراع التأويلي للدستور والقانون الذي ما انفك يستخدم في لعبة النفوذ والصلاحيات.
وفي سياق متصل اعتبر لبيض في حديث أدلى به لـ"الصباح"أن حكومة مشيشي عاجزة ولوحة انجازاتها "سوداء" في ظل الازمات التي تتخبط على وقعها البلاد، مشيرا الى ان اللعبة السياسية في هذه المرحلة تدور على عملية استنطاق قسرية للنصوص وخاصة الدستور والقوانين من اجل إضفاء الشرعية على ممارسات سياسية.
لبيض الذي يرى أن الانتخابات المبكرة لن تكون ذات جدوى وستعيد إنتاج ما هو سائد وربما بأشكال أسوأ..، وتحدث كذلك عن عديد المسائل والملفات الحارقة من خلال الحوار التالي:
بعد المصادقة على تعديل قانون المحكمة الدستورية بأغلبية معززة هل مازال لرئيس الجمهورية مخرج قانوني أو دستوري لرفضه؟
-إعادة المصادقة على القانون من جديد لا تلغي العوامل الموضوعية والسياسية التي رفض من اجلها من قبل رئيس الجمهورية والمتمثلة في استبطان استعمال المحكمة الدستورية لغايات حزبية أو في إطار المناكفات مع رئاسة الجمهورية. وأظن أن هذه الموافقة على القانون ستضعنا من جديد في حيز الصراع التأويلي للدستور والقانون الذي ما انفك يستخدم في لعبة النفوذ والصلاحيات.
في ظل هذه الصراعات والتباينات، كيف تقيم عمل حكومة مشيشي بعد مرور أكثر من 10 أشهر على تسلمها مقاليد السلطة؟
-أولا الحكومة على مدى العشرة أشهر الماضية لم تقدم لنا لا بيانات ولا إحصائيات ولا تقييمات ولا حتى جلسات حوار حسب ما ينص عليه الدستور حسب النظام الداخلي للمجلس، وبالتالي الحكومة لا تقدم لنا اي معطيات حقيقية إلا بعض الجلسات الجانبية بعضها في اللجان والبعض الآخر في شكل أسئلة نموذجية أو حوارات قطاعية لكن هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن هذه الحكومة عاجزة إلى حد ما على تأمين الشأن العام وحماية المواطن من افات كثيرة من ابرزها افة كوفيد-19 وافة الفقر وهو الحد الأدنى الممكن، لا نتحدث عن مشاريع الصلاحية ولا نتحدث عن استراتيجية ولا عن مشاريع كبرى في البنية الأساسية والقطاعات الاجتماعية ورؤية مجتمعية ولا تموقع إقليمي أو دولي أو تأثير في القضايا العامة، ونحن في واقع الأمر لسنا امام حكومة بالمعنى السياسي للحكومة ولكننا نحن امام فريق جاءت به الصدف السياسية في لغة علم الاجتماع العامل اللا الوظيفي الذي يساعد على اختراق عنصر هامش نسق سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو بنية ما ويصبح هو المؤثر فيها.
معاناة كبيرة يعانيها المواطن في مستوى قوته اليومي نتيجة المضاربات العقارية والتلاعب بالأسعار وانهيار الدينار أمام العملات الأجنبية وتهاوي منظمات التعليم والتكوين والاختراقات الأمنية والارهابيّة التي تقع من حين لآخر، وتغول الشركات الأجنبية المتحكمة في السوق عن طريق نظام العلامات وتوفير جهود كل التونسيين في الداخل والخارج من أجل احتياطي للعملة الصعبة يذهب إلى جيوب السماسرة والشركات العابرة للجنسية النافذة التي تشتغل في تونس، تقابله تغطية قروض وفوائض دين متجددة بلغت أو فاقت التساوي حسب بلاغات البنك المركزي بين المديونية والناتج الوطني الخام محدد 102 مليار دينار بينما تجاوز حجم الديون 208 مليار دينار.
اللوحة سوداء بالكامل المواطن التونسي لم يجد الخدمات الإدارية، الادارة تنهار شيئا فشيئا ولا يقع ترميمها أو صيانتها بالانتدابات أو بالأنظمة التكنولوجية الجديدة وبالتحديد العلمية على غرار ما يقع في البلدان المتقدمة، في المقابل هناك حكومة ورئيسها تشتغل بما يسمى بـ "البوز" وعاجزة على أن تتعامل وتستوعب كفاءات وإطارات البلاد في مختلف المجالات القادرة على إنقاذ البلاد. والواقع أن هذه الحكومة ورئيسها ليس لهم من شيء سيخسرونه لان الصدفة وحدها كانت وراء وجودهم في هرم الحكم.
توجه وفد حكومي تونسي إلى واشنطن لخوض جولة مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي، كيف تنظر اليه؟
للأسف إن العودة إلى صندوق النقد الدولي والاقتراض منه قد عادت بعد توقف دام قرابة العشرين سنة وقد اوقفت تونس التعامل مع هذه المؤسسة المالية الدولية سنة 1993 وعادت للتعامل معها سنة 2013، والتاريخ فان أول قرض تحصلت عليه تونس بعد الثورة كان زمن حكومة "الترويكا" الثانية التي يرأسها العريض وقد كنت عضوا في الحكومة آنذاك وقد نبهت الى خطورة فتح هذا الباب من جديد على تونس ونبهت إلى أن انتهاج هذا المنهج السهل والدخول في الباب المفتوح ستكون نتائجه وخيمة وله انعكاسات اجتماعية وخيمة وضريبة غالية وهذا مدون في محاضر الكتابة العامة للحكومة آنذاك، والواقع ان من فتح هذا الباب هي حركة النهضة التي تولت الحكم منذ 2011 ولا تزال، سيقول البعض انه لا بديل عن صندوق النقد الدولي نظرا لارتفاع حجم المديونية وعدم وجود مصادر أخرى لتعبئة المالية العمومية والحال ان هذه الإجابة هي إجابة متهافتة وتعكس رؤية أسيرة في تفكير اقتصادي ومالي غير محدد وغير تحديثي ومرتهن وغير قادر على التحرر من الناحية السياسية، فالتطورات الاقتصادية والتنموية الجديدة والذكية والشفافة والانفتاح على منظومات اقتصادية دولية خارج فضاء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية قادر على أن يفتح آفاقا مالية جديدة لتونس واستثمارية تعفيها من الذهاب إلى صندوق النقد الدولي وقد اقترحت الصين اكثر من مرة دخول تونس طريق الحرير والحزام الذي بموجبه يقع بعث مشاريع كبرى ومدن جديدة كافية تمويلاتها وما توفره من عملة صعبة للتخفيض من حجم الدين وتجنب الشروط المجحفة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الإفريقي للتنمية حتى إن وصلت بعض المقرحات التي قدمتها الصين أثناء احدى زيارات محافظ البنك المركزي السابق الشادلي العياري إلى بيكين وصلت هذه المقرحات إلى درجة الاستعداد لإنشاء بنك شمال أفريقي صيني يكون مقره تونس ويعمل على التنمية وتصفية ديون الدولة التونسية المتراكمة، وقد اقترحنا في أكثر من مناسبة إعادة النظر في قانون البنك المركزي الذي بموجبه تقترض الدولة من هذا البنك مباشرة بدلا من المرور عن طريق البنوك التونسية التجارية التي راكمت أرباحا خيالية كانت أولى ان تكون تلك الارباح في خزينة الدولة وليست في خزينة تلك البنوك التي تخلت عن أدوارها التنموية والاستثمارية واكتفت بالمضاربات المالية والربح السريع الذي يفقر المواطن.
وخلاصة القول أن الحكومة التي ليس لها سياسات اقتصادية داخلية وليس لها رؤى تنموية شاملة لا تستطيع أن تنتج الثروة، وبالتالي تذهب في كل مرّة إلى صندوق النقد الدولي.
وهذا كله قد يودي الي انهيار مجتمعي بعد الانهيار الذي أصاب الدولة ومؤسساتها، وبإيجاز فان حكومة مشيشي بذهابها إلى صندوق النقد الدولي وباستجابتها لشروطه المجحفة ستضع تونس في محرقة حقيقية، إذ للدولة وظائف اجتماعية كثيرة ستنهار يبدو أن السيد رئيس الحكومة غير واع بخاطرها.
في ظل هذا التعنت وتصاعد سياسة لي الذراع بين مختلف الأطراف من يتحمل من وجهة نظرك مسؤولية تعفن المناخ السياسي وتردي الأوضاع؟
-السياسة في تونس بعد 2011 كان من المفروض ان تخضع إلى نوع من الأخلقة وهذه الاخلقة تبنى على مواثيق متعارف عليها تقوم بالأساس على حماية الدولة من الانهيار كمقولة كبرى إذ لا حياة سياسية خارج الدولة وتقوم على التعامل الواضح بين القوى السياسية وفق القوانين المعتمدية وتقوم على الاعتراف بين القوى السياسية الملتزمة بدستور البلاد وبقوانينها ويقع تجريم كل أشكال الكذب وهتك الأعراض والتآمر والتخابر وإطلاق الإشاعات وغيرها من َمفسدات الحياة السياسية.
يبدو أن الطبقة السياسية التونسية بمختلف اتجاهاتها لم ترتق إلى هذا المستوى من التعامل الأخلاقي وذهبت تؤسس لأجهزة دعاية سقطت في فخ تشويه الخصوم والكذب عليهم وترذيل الحياة السياسية.
والواقع ان اول جهاز ظهر في هذا المستوى هو الجهاز الالكتروني لحركة النهضة المعروف بالذباب الازرق ثم أصبحت بعد ذلك التيارات السياسية والأحزاب تؤسس أجهزة إلكترونية شبيهة حتى بات لكل تيار أو حزب في تونس ذباب إلكتروني.
والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هو أن هذه الأجهزة الالكترونية وعلى رأسها جهاز حركة النهضة المنظم والمهيكل بطريقة محترفة وربما الممول بصفة دائمة قد حول السياسة من التباري بالوفاء للسلمية لخدمة الشأن العام إلى ظاهرة ملوثة أخلاقيا بكافة مفاسد الحياة العامة وقد تسلل إلى الحياة السياسية من هذا الباب هواة السياسة وعديمو الكفاءة وحتى من لا تاريخ لهم في قيادة الرأي العام أو التأثير فيه من أجل مصالح ضيقة حزبية أو فئوية أو قطاعية على أنقاض المصلحة الوطنية. وطالما استمرت هذه الأجهزة الالكترونية الذبابية في العمل بنفس الطريقة التي اشتغلت بها طيلة العشية السابقة فان الحياة السياسية التونسية سيذهب ريحها وقد ينتقل الاحترام الافتراضي إلى اقتتال حقيقي على أرض الواقع. واضن انه طالما لم يقع تصفية هذه الأجهزة الافتراضية المدمّرة للحياة السياسية فانه من الصعب ان تقع حوارات جدية بين القوى السياسية مما تردت فيه من أزمة هيكلية، وهذا الموضوع لا علاقة له بحرية الرأي والتدوين إذ لم يكن الراي يوما هو سب الآخرين وهتك اعراضهم والكذب عليهم وتشويههم بقطع النظر عن من هؤلاء الآخرين..
مع كل يوم جديد يشتد التطاحن، تحتد الصراعات، تتعمق الأزمة السياسية ويزداد الشرخ بين الرئاسات الثلاث دون أي بوادر انفراج، كيف تبدو لك السيناريوهات الممكنة؟
-الصراع بين الرئاسات الثلاث في تونس هو صراع قديم وغير مرتبط بتولي قيس سعيد الرئاسة أو مشيشي الحكومة وقد عشنا هذه التجربة مع المرحوم الباجي قائد السبسي حيث كان هناك صراع كسر عظم بينه وحاشية القصر من ناحية ورئيس الحكومة الحبيب الصيد ثم يوسف الشاهد الذي اتى به السبسي نفسه لتنفيذ رؤيته في الحكم وهذا الأخير تمرد على القصر، وأصبح الصراع معلنا مع رئيس الجمهورية آنذاك.
بالنسبة للعلاقة الموجودة حاليا بين الرئاسات الثلاث هي علاقة تحتوي نوعا من المفارقة باعتبار ان الرئيس يشعر ان لديه شرعية انتخابية أي شرعية شعبية ولكن اغلب السلطات ليست بيده في حين ان رئيس الحكومة الذي اتى به بعد ان فشل الحزب الأول في الانتخابات في توفير الأغلبية البرلمانية، مع حكومة الجملي، خان الأمانة من ناحية ومن ناحية أخرى اصبح يعتمد شرعية الأحزاب البرلمانية التي لم تأت به وربما كانت معترضة حتى على تسميته. ويبدو ان اللعبة السياسية كلها في تونس في هذه المرحلة تدور على عملية استنطاق قسرية للنصوص وخاصة الدستور والقوانين من اجل إضفاء الشرعية على ممارسات سياسية ربما تكون في واقع الامر في تناقض حتى مع تلك النصوص نفسها، ومن سوء الأحزاب الداعمة لحكومة مشيشي وكذلك من سوء حظ رئيس البرلمان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي اعطى درسا في التعسف على النصوص من أجل كسب الصلاحيات أو الاستيلاء عليها، يواجهون رجلا وهو رئيس الجمهورية كانوا يستعينون به ويلتجئون إليه حتى يقدم لهم الفتاوي الدستورية في كثير من الإشكالات المتعلقة بالدستور وبالقوانين، وبالتالي هم يدخلون لعبة يبدو من البداية انهم يخسرونها ولكن الخطير في ذلك هو أن لعبة التأويل تنعكس على الحياة العامة والمشهد السياسي في تمترس كل واحد في مربعه التأويلي، والواقع أن هذا التمترس هو في مربع لعبة المصالح والنفوذ، واعتقد ان الحلقة الأضعف في لعبة التأويل الدستوري والقانوني هو رئيس الحكومة الذي لا علاقة له من موقع الشرعية الانتخابية او السياسية او التاريخية بما يقوم به.
واظن ان حكة النهضة ستتخلى عنه وستتركه لحاله هي و"قلب تونس" اذا ما توفرت شروط افضل في لعبة النفوذ المرتبطة باستنطاق النصوص الدستورية وتأويلها، ولن يكون الأول ولا الأخير الذي تضحي به حركة النهضة من اجل مصالحها ومزاياها واكراميتها المالية والاقتصادية وارتباطاتها الدولية.
واذا كان هناك حوار في المستقبل من اجل انقاذ ما تردت فيه تونس من أزمة مزمنة تكاد تعصف بالدولة وبوجودها بان هذا الحوار سيكون على حساب مشيشي وحكومته وسيكون كذلك في حصر رئيس البرلمان في الحدود القانونية المسموح له بها حسب الدستور والنظام الداخلي للمجلس وربما يكون ذهابه هو أيضا عنوان مشهد سياسي جديد خال من التوترات والصراعات التي تنسج وفق رؤية تآمرية أكثر من اعتماده على رؤية إصلاحية إنقاذية.
بين الدعوات إلى حكومة إنقاذ سياسية ومطالبة البعض الآخر بتقوية الحزام البرلماني لحكومة مشيشي، ما هو الخيار الأفضل من وجهة نظرك؟
-حكومة مشيشي هي عنوان فشل في هذه المرحلة، وهذا تقييم موضوعي ولن تخسر الطبقة السياسية شيئا اذا غيرت هذا الرجل لان ليس له أي علاقة لا بالانتخابات ولا بأي شكل من اشكال العمل السياسي او النقابي او المدني او النخبوي سابقا في حين ان من يوفر له الحماية من الأحزاب والقوى السياسية سيتحمل تبعات هذه الحكومة الفاشلة، وبالتالي لا جدوى من توسيع الحزام السياسي، وكل الجدوى في البحث عن حكومة وطنية سياسية جديدة تنقذ ما يمكن إنقاذه وحتى يجد الناخب التونسي سنة 2024 من يحاسب او يقيم فشلا او نجاحا أو انتخابات سابقة لأوانها لان مشيشي وحكومته لن يقدما نفسيهما للراي العام مرة أخرى باعتبار أن الصدفة لا تأتي مرتين.
ما هو تعليقك على التسريبات والمشاحنات التي بلغت حد اتهام رئيس الجمهورية بالعمالة والخيانة؟
-للأسف الشديد هذه التسريبات جعلت من أشخاص غير مصنفين ضمن مركز اهتمام الرأي العام وربما ابطال لدى البعض فعندما تفتش في سجلات السياسيين او النقابيين او المدنيين او في سجلات الادباء والمفكرين والفنانين او في سجلات النخب والاكاديميين والجامعيين فانك لا تعثر على أسماء هؤلاء المسربين، وانه من سخرية الأقدار أن مثل هؤلاء الأشخاص يمثلون اليوم التيار الإسلامي والحركات الإسلامية ويتكلمون باسمها وهم يرمزن الى الأمية والجهل وحتى التخلف.
واعتقد أن راشد الغنوشي وحركة النهضة يتحملان المسؤولية السياسية الكاملة والأخلاقية في تلويث الحياة السياسية وترذيلها وحتى تخريبها بسبب تعاملهما أو سكوتهما أو تحالفهما مع هذا النوع الجديد من الأشخاص الذين ظهروا اكثر من مرة يتكلمون عن الإسلاميين ويدافعون عنهم وينطقون باسمهم، وراشد الغنوشي يستمتع بما يقومون به من تتفيه للسياسة وعالمها. وانه لمن المفارقات ان يوجد في تونس اشخاص مارسوا السياسة مثل عبد العزيز الثعالبي أو بورقيبة أو صالح بن يوسف او محمد مزالي ومناضلين في زمن الاستبداد كثيرين او اشخاص ناضلوا واستشهدوا في مختلف العهود أو كتاب ومفكرين من أمثال الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل وهشام جعيط والطاهر لبيب وكثيرين، ثم بعد ذلك نتداول في أسماء نكرات يستعملون وسائل خسيسة للبروز والظهور وهتك اعراض الناس وغيرها من الوسائل في تشويه مؤسسة مثل رئاسة الجمهورية او غيرها من مؤسسات الدولة التي يجب ان تكون محل تنديد من قبل نخب البلاد على اختلاف انتماءاتها وقطاعاتها ضد هذه الممارسات الطفيلية الحقيرة.
وماذا عن الخلافات و"الحروب" التي تدور رحاها داخل البرلمان، الذي تحول إلى حلبة صراع وتصفية حسابات، في مشاهد سوداء ومقززة أحيانا؟
-البرلمان للأسف منذ أن تولاه راشد الغنوشي خرج عن حياديته وأصبح الغنوشي يرى في البرلمان عبارة عن مقاطعة يتصرف فيها كما يشاء، وقد وسع من دائرة عداواته بهذا الأسلوب وكان عليه ان يقف على نفس المسافة من كافة الكتل وكافة النواب لكن الغنوشي لم يستطع ان يقوم بهذا الدور لطبعة في ذاته وخصال في أفكاره متأتية من رؤيته الأيديولوجية الإسلامية التي تربى عليها 50 سنة كاملة في حزبه حركة النهضة والان في مؤسسة الدولة التي لا تعني له سوى التمكين ومزيد من التمكين. واعتقد ان الغنوشي قد فرط في الفرصة التاريخية التي جاءته بان يظهر انه رجل دولة يتعالى على الجميع وفي الآن نفسه يخدم الجميع، وبدلا عن ذلك اختار أن يخدم نفسه وحزبه والموالون له وان يشترك مع مواليه في حبك المؤامرات داخل المجلس وخارجه مما عفن وضع المجلس وجعله غير قابل للاستمرار بهذه الطريقة، وأعطى خصومه فرصة لمواجهته بكل الأساليب الممكنة بما في ذلك أساليب غير الشرعية وغير القانونية، المبتذلة والفوضوية، وغير المتعارف عليها في الحياة البرلمانية على غرار ما تقوم به عبير موسي وحزب كتلتها.
وأظن أن المجلس قابل للتعافي والقيام بدوره كاملا اذا ما جلس راشد الغنوشي مع نفسه وصارحها بأنه هو مصدر الأزمة، وبالتالي وجب عليه التخلي او اذا تمكنت الأحزاب والكتل المعارضة له من سحب الثقة منه. وفي كل الحالات فان إحدى أهم مؤسسات الدولة وهي مجلس النواب التي ترسم جل السياسات وتعطي الثقة للحكومات يمكنها ان تستعيد دورها كاملا اذا ذهب الغنوشي عن رئاسته. فلا خيار اليوم ولا تعافي للدولة الا بسحب الثقة منه او باستقالته من هذا المنصب كما وعد هو بنفسه بعض النواب عشية محاولة سحب الثقة منه في جويلية 2020.
مع تباين المواقف هل أنت مع حل البرلمان أم أن هذه الخطوة خط أحمر؟
-أنا لدي قناعة راسخة بان تونس بحكومة متواضعة أفضل من تونس بدون حكومة، ولدي قناعة راسخة ان تونس بمؤسسة تشريعية متواضعة افضل من تونس دون مؤسسة تشريعية، وكذلك الأمر بالنسبة لرئاسة الجمهورية. وبناء على ذلك وجب ان نبحث على تجويد الحياة السياسية وبالتالي الحياة العامة لخدمة المواطن وإنقاذ البلاد من الانهيار، وهذا في رأيي لا يمكن أن يكون في هذه المرحلة وفي ظل تضارب الشرعيات الا عن طريق حوار وطني مسؤول وشفاف ومحدد المحتوى، ربما تكون من نقاطه مسالة رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب والمحكمة الدستورية وقانون الأحزاب وتمويلها وتنظيم قطاع سبر الآراء ودور الهيئة المستقلة للانتخابات وإبعادها عن الأدلجة والتحزيب والمنوال الاقتصادي وعلاقات تونس الدولية والموقف من سياسة المحاور وغيرها من النقاط التي سيقع الاتفاق عليها كمضمون لهذا الحوار. ولا يوجد بديل للحوار إلا الصراع والأفضل لأطراف الطبقة السياسية التنازل لمصلحة تونس عن طريق الحوار بدلا من التنازل عن طريق الصراعات المدمرة كما عاشتها شعوب كثيرة احتربت في ما بينها ثم اضطرت إلى الرجوع إلى طاولة المفاوضات.
إلى أي مدى ترى أن الذهاب إلى انتخابات مبكرة، من السيناريوهات غير المستبعدة في ظل انسداد الأفق السياسي؟
-الانتخابات المبكرة لن تكون ذات جدوى وستعيد إنتاج ما هو سائد وربما بأشكال اسوأ الا في حال الاتفاق على النقاط المذكورة أعلاه وخاصة القانون الانتخابي وقانون تمويل الأحزاب والموقف من المال الأجنبي والفاسد ودو الاعلام في الحياة السياسية وتنظيم قطاع سبر الآراء ومختلف القضايا ذات الصلة وبالتالي لا يمكن الذهاب إلى انتخابات مبكرة الا بحسم هذه المسائل وتحديد الرؤية فيها مع التوجه نحَو تنفيذ القانون.
هل لديك تحفظات بشأن عتبة 5 بالمائة التي عبرت عديد الأحزاب عن رفضها؟
-ليس لدي أي تحفظات على أي نوع من انواع العتبة بشرط ان لا يكون هناك مال فاسد يستخدم في الانتخابات كما أقر ذلك في محكمة المحاسبات حسب الانتخابات الأخيرة وان لا تكون هناك قنوات أيديولوجية وحزبية على غرار حنبعل والزيتونة والإنسان ونسمة، وأن لا يكون هناك نفوذ لقوى سياسية على قنوات أخرى غير ظاهرة، وأن تكون الإدارة محايدة ولا توظف إمكانياتها اللوجستية والاتصالية في خدمة هذا الحزب أو ذاك كما حدث في انتخابات 2014 و2019، وأن يحدث قانون ينظم قطاع سبر الآراء مؤسسة تشرف عليه، وبتوفر هذه الشروط لا مانع لدى من وجود عتبة يقع الاتفاق عليها بين فرقاء السياسة وتأخذ بعين الاعتبار كذلك من ناضلوا تاريخيا من شخصيات ورموز وربما حتى تنظيمات من أجل أن تكون تونس دولة ديمقراطية، القانون لا يجب أن يكون اقصائيا بأي شكل من الأشكال.
حوار: محمد صالح الربعاوي
قال القيادي بحركة الشعب والنائب عن الكتلة الديمقراطية سالم لبيض أن مصادقة البرلمان على تعديل قانون المحكمة الدستورية هذه الموافقة على القانون ستضعنا من جديد في حيز الصراع التأويلي للدستور والقانون الذي ما انفك يستخدم في لعبة النفوذ والصلاحيات.
وفي سياق متصل اعتبر لبيض في حديث أدلى به لـ"الصباح"أن حكومة مشيشي عاجزة ولوحة انجازاتها "سوداء" في ظل الازمات التي تتخبط على وقعها البلاد، مشيرا الى ان اللعبة السياسية في هذه المرحلة تدور على عملية استنطاق قسرية للنصوص وخاصة الدستور والقوانين من اجل إضفاء الشرعية على ممارسات سياسية.
لبيض الذي يرى أن الانتخابات المبكرة لن تكون ذات جدوى وستعيد إنتاج ما هو سائد وربما بأشكال أسوأ..، وتحدث كذلك عن عديد المسائل والملفات الحارقة من خلال الحوار التالي:
بعد المصادقة على تعديل قانون المحكمة الدستورية بأغلبية معززة هل مازال لرئيس الجمهورية مخرج قانوني أو دستوري لرفضه؟
-إعادة المصادقة على القانون من جديد لا تلغي العوامل الموضوعية والسياسية التي رفض من اجلها من قبل رئيس الجمهورية والمتمثلة في استبطان استعمال المحكمة الدستورية لغايات حزبية أو في إطار المناكفات مع رئاسة الجمهورية. وأظن أن هذه الموافقة على القانون ستضعنا من جديد في حيز الصراع التأويلي للدستور والقانون الذي ما انفك يستخدم في لعبة النفوذ والصلاحيات.
في ظل هذه الصراعات والتباينات، كيف تقيم عمل حكومة مشيشي بعد مرور أكثر من 10 أشهر على تسلمها مقاليد السلطة؟
-أولا الحكومة على مدى العشرة أشهر الماضية لم تقدم لنا لا بيانات ولا إحصائيات ولا تقييمات ولا حتى جلسات حوار حسب ما ينص عليه الدستور حسب النظام الداخلي للمجلس، وبالتالي الحكومة لا تقدم لنا اي معطيات حقيقية إلا بعض الجلسات الجانبية بعضها في اللجان والبعض الآخر في شكل أسئلة نموذجية أو حوارات قطاعية لكن هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن هذه الحكومة عاجزة إلى حد ما على تأمين الشأن العام وحماية المواطن من افات كثيرة من ابرزها افة كوفيد-19 وافة الفقر وهو الحد الأدنى الممكن، لا نتحدث عن مشاريع الصلاحية ولا نتحدث عن استراتيجية ولا عن مشاريع كبرى في البنية الأساسية والقطاعات الاجتماعية ورؤية مجتمعية ولا تموقع إقليمي أو دولي أو تأثير في القضايا العامة، ونحن في واقع الأمر لسنا امام حكومة بالمعنى السياسي للحكومة ولكننا نحن امام فريق جاءت به الصدف السياسية في لغة علم الاجتماع العامل اللا الوظيفي الذي يساعد على اختراق عنصر هامش نسق سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو بنية ما ويصبح هو المؤثر فيها.
معاناة كبيرة يعانيها المواطن في مستوى قوته اليومي نتيجة المضاربات العقارية والتلاعب بالأسعار وانهيار الدينار أمام العملات الأجنبية وتهاوي منظمات التعليم والتكوين والاختراقات الأمنية والارهابيّة التي تقع من حين لآخر، وتغول الشركات الأجنبية المتحكمة في السوق عن طريق نظام العلامات وتوفير جهود كل التونسيين في الداخل والخارج من أجل احتياطي للعملة الصعبة يذهب إلى جيوب السماسرة والشركات العابرة للجنسية النافذة التي تشتغل في تونس، تقابله تغطية قروض وفوائض دين متجددة بلغت أو فاقت التساوي حسب بلاغات البنك المركزي بين المديونية والناتج الوطني الخام محدد 102 مليار دينار بينما تجاوز حجم الديون 208 مليار دينار.
اللوحة سوداء بالكامل المواطن التونسي لم يجد الخدمات الإدارية، الادارة تنهار شيئا فشيئا ولا يقع ترميمها أو صيانتها بالانتدابات أو بالأنظمة التكنولوجية الجديدة وبالتحديد العلمية على غرار ما يقع في البلدان المتقدمة، في المقابل هناك حكومة ورئيسها تشتغل بما يسمى بـ "البوز" وعاجزة على أن تتعامل وتستوعب كفاءات وإطارات البلاد في مختلف المجالات القادرة على إنقاذ البلاد. والواقع أن هذه الحكومة ورئيسها ليس لهم من شيء سيخسرونه لان الصدفة وحدها كانت وراء وجودهم في هرم الحكم.
توجه وفد حكومي تونسي إلى واشنطن لخوض جولة مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي، كيف تنظر اليه؟
للأسف إن العودة إلى صندوق النقد الدولي والاقتراض منه قد عادت بعد توقف دام قرابة العشرين سنة وقد اوقفت تونس التعامل مع هذه المؤسسة المالية الدولية سنة 1993 وعادت للتعامل معها سنة 2013، والتاريخ فان أول قرض تحصلت عليه تونس بعد الثورة كان زمن حكومة "الترويكا" الثانية التي يرأسها العريض وقد كنت عضوا في الحكومة آنذاك وقد نبهت الى خطورة فتح هذا الباب من جديد على تونس ونبهت إلى أن انتهاج هذا المنهج السهل والدخول في الباب المفتوح ستكون نتائجه وخيمة وله انعكاسات اجتماعية وخيمة وضريبة غالية وهذا مدون في محاضر الكتابة العامة للحكومة آنذاك، والواقع ان من فتح هذا الباب هي حركة النهضة التي تولت الحكم منذ 2011 ولا تزال، سيقول البعض انه لا بديل عن صندوق النقد الدولي نظرا لارتفاع حجم المديونية وعدم وجود مصادر أخرى لتعبئة المالية العمومية والحال ان هذه الإجابة هي إجابة متهافتة وتعكس رؤية أسيرة في تفكير اقتصادي ومالي غير محدد وغير تحديثي ومرتهن وغير قادر على التحرر من الناحية السياسية، فالتطورات الاقتصادية والتنموية الجديدة والذكية والشفافة والانفتاح على منظومات اقتصادية دولية خارج فضاء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية قادر على أن يفتح آفاقا مالية جديدة لتونس واستثمارية تعفيها من الذهاب إلى صندوق النقد الدولي وقد اقترحت الصين اكثر من مرة دخول تونس طريق الحرير والحزام الذي بموجبه يقع بعث مشاريع كبرى ومدن جديدة كافية تمويلاتها وما توفره من عملة صعبة للتخفيض من حجم الدين وتجنب الشروط المجحفة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي للاستثمار والبنك الإفريقي للتنمية حتى إن وصلت بعض المقرحات التي قدمتها الصين أثناء احدى زيارات محافظ البنك المركزي السابق الشادلي العياري إلى بيكين وصلت هذه المقرحات إلى درجة الاستعداد لإنشاء بنك شمال أفريقي صيني يكون مقره تونس ويعمل على التنمية وتصفية ديون الدولة التونسية المتراكمة، وقد اقترحنا في أكثر من مناسبة إعادة النظر في قانون البنك المركزي الذي بموجبه تقترض الدولة من هذا البنك مباشرة بدلا من المرور عن طريق البنوك التونسية التجارية التي راكمت أرباحا خيالية كانت أولى ان تكون تلك الارباح في خزينة الدولة وليست في خزينة تلك البنوك التي تخلت عن أدوارها التنموية والاستثمارية واكتفت بالمضاربات المالية والربح السريع الذي يفقر المواطن.
وخلاصة القول أن الحكومة التي ليس لها سياسات اقتصادية داخلية وليس لها رؤى تنموية شاملة لا تستطيع أن تنتج الثروة، وبالتالي تذهب في كل مرّة إلى صندوق النقد الدولي.
وهذا كله قد يودي الي انهيار مجتمعي بعد الانهيار الذي أصاب الدولة ومؤسساتها، وبإيجاز فان حكومة مشيشي بذهابها إلى صندوق النقد الدولي وباستجابتها لشروطه المجحفة ستضع تونس في محرقة حقيقية، إذ للدولة وظائف اجتماعية كثيرة ستنهار يبدو أن السيد رئيس الحكومة غير واع بخاطرها.
في ظل هذا التعنت وتصاعد سياسة لي الذراع بين مختلف الأطراف من يتحمل من وجهة نظرك مسؤولية تعفن المناخ السياسي وتردي الأوضاع؟
-السياسة في تونس بعد 2011 كان من المفروض ان تخضع إلى نوع من الأخلقة وهذه الاخلقة تبنى على مواثيق متعارف عليها تقوم بالأساس على حماية الدولة من الانهيار كمقولة كبرى إذ لا حياة سياسية خارج الدولة وتقوم على التعامل الواضح بين القوى السياسية وفق القوانين المعتمدية وتقوم على الاعتراف بين القوى السياسية الملتزمة بدستور البلاد وبقوانينها ويقع تجريم كل أشكال الكذب وهتك الأعراض والتآمر والتخابر وإطلاق الإشاعات وغيرها من َمفسدات الحياة السياسية.
يبدو أن الطبقة السياسية التونسية بمختلف اتجاهاتها لم ترتق إلى هذا المستوى من التعامل الأخلاقي وذهبت تؤسس لأجهزة دعاية سقطت في فخ تشويه الخصوم والكذب عليهم وترذيل الحياة السياسية.
والواقع ان اول جهاز ظهر في هذا المستوى هو الجهاز الالكتروني لحركة النهضة المعروف بالذباب الازرق ثم أصبحت بعد ذلك التيارات السياسية والأحزاب تؤسس أجهزة إلكترونية شبيهة حتى بات لكل تيار أو حزب في تونس ذباب إلكتروني.
والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها هو أن هذه الأجهزة الالكترونية وعلى رأسها جهاز حركة النهضة المنظم والمهيكل بطريقة محترفة وربما الممول بصفة دائمة قد حول السياسة من التباري بالوفاء للسلمية لخدمة الشأن العام إلى ظاهرة ملوثة أخلاقيا بكافة مفاسد الحياة العامة وقد تسلل إلى الحياة السياسية من هذا الباب هواة السياسة وعديمو الكفاءة وحتى من لا تاريخ لهم في قيادة الرأي العام أو التأثير فيه من أجل مصالح ضيقة حزبية أو فئوية أو قطاعية على أنقاض المصلحة الوطنية. وطالما استمرت هذه الأجهزة الالكترونية الذبابية في العمل بنفس الطريقة التي اشتغلت بها طيلة العشية السابقة فان الحياة السياسية التونسية سيذهب ريحها وقد ينتقل الاحترام الافتراضي إلى اقتتال حقيقي على أرض الواقع. واضن انه طالما لم يقع تصفية هذه الأجهزة الافتراضية المدمّرة للحياة السياسية فانه من الصعب ان تقع حوارات جدية بين القوى السياسية مما تردت فيه من أزمة هيكلية، وهذا الموضوع لا علاقة له بحرية الرأي والتدوين إذ لم يكن الراي يوما هو سب الآخرين وهتك اعراضهم والكذب عليهم وتشويههم بقطع النظر عن من هؤلاء الآخرين..
مع كل يوم جديد يشتد التطاحن، تحتد الصراعات، تتعمق الأزمة السياسية ويزداد الشرخ بين الرئاسات الثلاث دون أي بوادر انفراج، كيف تبدو لك السيناريوهات الممكنة؟
-الصراع بين الرئاسات الثلاث في تونس هو صراع قديم وغير مرتبط بتولي قيس سعيد الرئاسة أو مشيشي الحكومة وقد عشنا هذه التجربة مع المرحوم الباجي قائد السبسي حيث كان هناك صراع كسر عظم بينه وحاشية القصر من ناحية ورئيس الحكومة الحبيب الصيد ثم يوسف الشاهد الذي اتى به السبسي نفسه لتنفيذ رؤيته في الحكم وهذا الأخير تمرد على القصر، وأصبح الصراع معلنا مع رئيس الجمهورية آنذاك.
بالنسبة للعلاقة الموجودة حاليا بين الرئاسات الثلاث هي علاقة تحتوي نوعا من المفارقة باعتبار ان الرئيس يشعر ان لديه شرعية انتخابية أي شرعية شعبية ولكن اغلب السلطات ليست بيده في حين ان رئيس الحكومة الذي اتى به بعد ان فشل الحزب الأول في الانتخابات في توفير الأغلبية البرلمانية، مع حكومة الجملي، خان الأمانة من ناحية ومن ناحية أخرى اصبح يعتمد شرعية الأحزاب البرلمانية التي لم تأت به وربما كانت معترضة حتى على تسميته. ويبدو ان اللعبة السياسية كلها في تونس في هذه المرحلة تدور على عملية استنطاق قسرية للنصوص وخاصة الدستور والقوانين من اجل إضفاء الشرعية على ممارسات سياسية ربما تكون في واقع الامر في تناقض حتى مع تلك النصوص نفسها، ومن سوء الأحزاب الداعمة لحكومة مشيشي وكذلك من سوء حظ رئيس البرلمان رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي اعطى درسا في التعسف على النصوص من أجل كسب الصلاحيات أو الاستيلاء عليها، يواجهون رجلا وهو رئيس الجمهورية كانوا يستعينون به ويلتجئون إليه حتى يقدم لهم الفتاوي الدستورية في كثير من الإشكالات المتعلقة بالدستور وبالقوانين، وبالتالي هم يدخلون لعبة يبدو من البداية انهم يخسرونها ولكن الخطير في ذلك هو أن لعبة التأويل تنعكس على الحياة العامة والمشهد السياسي في تمترس كل واحد في مربعه التأويلي، والواقع أن هذا التمترس هو في مربع لعبة المصالح والنفوذ، واعتقد ان الحلقة الأضعف في لعبة التأويل الدستوري والقانوني هو رئيس الحكومة الذي لا علاقة له من موقع الشرعية الانتخابية او السياسية او التاريخية بما يقوم به.
واظن ان حكة النهضة ستتخلى عنه وستتركه لحاله هي و"قلب تونس" اذا ما توفرت شروط افضل في لعبة النفوذ المرتبطة باستنطاق النصوص الدستورية وتأويلها، ولن يكون الأول ولا الأخير الذي تضحي به حركة النهضة من اجل مصالحها ومزاياها واكراميتها المالية والاقتصادية وارتباطاتها الدولية.
واذا كان هناك حوار في المستقبل من اجل انقاذ ما تردت فيه تونس من أزمة مزمنة تكاد تعصف بالدولة وبوجودها بان هذا الحوار سيكون على حساب مشيشي وحكومته وسيكون كذلك في حصر رئيس البرلمان في الحدود القانونية المسموح له بها حسب الدستور والنظام الداخلي للمجلس وربما يكون ذهابه هو أيضا عنوان مشهد سياسي جديد خال من التوترات والصراعات التي تنسج وفق رؤية تآمرية أكثر من اعتماده على رؤية إصلاحية إنقاذية.
بين الدعوات إلى حكومة إنقاذ سياسية ومطالبة البعض الآخر بتقوية الحزام البرلماني لحكومة مشيشي، ما هو الخيار الأفضل من وجهة نظرك؟
-حكومة مشيشي هي عنوان فشل في هذه المرحلة، وهذا تقييم موضوعي ولن تخسر الطبقة السياسية شيئا اذا غيرت هذا الرجل لان ليس له أي علاقة لا بالانتخابات ولا بأي شكل من اشكال العمل السياسي او النقابي او المدني او النخبوي سابقا في حين ان من يوفر له الحماية من الأحزاب والقوى السياسية سيتحمل تبعات هذه الحكومة الفاشلة، وبالتالي لا جدوى من توسيع الحزام السياسي، وكل الجدوى في البحث عن حكومة وطنية سياسية جديدة تنقذ ما يمكن إنقاذه وحتى يجد الناخب التونسي سنة 2024 من يحاسب او يقيم فشلا او نجاحا أو انتخابات سابقة لأوانها لان مشيشي وحكومته لن يقدما نفسيهما للراي العام مرة أخرى باعتبار أن الصدفة لا تأتي مرتين.
ما هو تعليقك على التسريبات والمشاحنات التي بلغت حد اتهام رئيس الجمهورية بالعمالة والخيانة؟
-للأسف الشديد هذه التسريبات جعلت من أشخاص غير مصنفين ضمن مركز اهتمام الرأي العام وربما ابطال لدى البعض فعندما تفتش في سجلات السياسيين او النقابيين او المدنيين او في سجلات الادباء والمفكرين والفنانين او في سجلات النخب والاكاديميين والجامعيين فانك لا تعثر على أسماء هؤلاء المسربين، وانه من سخرية الأقدار أن مثل هؤلاء الأشخاص يمثلون اليوم التيار الإسلامي والحركات الإسلامية ويتكلمون باسمها وهم يرمزن الى الأمية والجهل وحتى التخلف.
واعتقد أن راشد الغنوشي وحركة النهضة يتحملان المسؤولية السياسية الكاملة والأخلاقية في تلويث الحياة السياسية وترذيلها وحتى تخريبها بسبب تعاملهما أو سكوتهما أو تحالفهما مع هذا النوع الجديد من الأشخاص الذين ظهروا اكثر من مرة يتكلمون عن الإسلاميين ويدافعون عنهم وينطقون باسمهم، وراشد الغنوشي يستمتع بما يقومون به من تتفيه للسياسة وعالمها. وانه لمن المفارقات ان يوجد في تونس اشخاص مارسوا السياسة مثل عبد العزيز الثعالبي أو بورقيبة أو صالح بن يوسف او محمد مزالي ومناضلين في زمن الاستبداد كثيرين او اشخاص ناضلوا واستشهدوا في مختلف العهود أو كتاب ومفكرين من أمثال الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل وهشام جعيط والطاهر لبيب وكثيرين، ثم بعد ذلك نتداول في أسماء نكرات يستعملون وسائل خسيسة للبروز والظهور وهتك اعراض الناس وغيرها من الوسائل في تشويه مؤسسة مثل رئاسة الجمهورية او غيرها من مؤسسات الدولة التي يجب ان تكون محل تنديد من قبل نخب البلاد على اختلاف انتماءاتها وقطاعاتها ضد هذه الممارسات الطفيلية الحقيرة.
وماذا عن الخلافات و"الحروب" التي تدور رحاها داخل البرلمان، الذي تحول إلى حلبة صراع وتصفية حسابات، في مشاهد سوداء ومقززة أحيانا؟
-البرلمان للأسف منذ أن تولاه راشد الغنوشي خرج عن حياديته وأصبح الغنوشي يرى في البرلمان عبارة عن مقاطعة يتصرف فيها كما يشاء، وقد وسع من دائرة عداواته بهذا الأسلوب وكان عليه ان يقف على نفس المسافة من كافة الكتل وكافة النواب لكن الغنوشي لم يستطع ان يقوم بهذا الدور لطبعة في ذاته وخصال في أفكاره متأتية من رؤيته الأيديولوجية الإسلامية التي تربى عليها 50 سنة كاملة في حزبه حركة النهضة والان في مؤسسة الدولة التي لا تعني له سوى التمكين ومزيد من التمكين. واعتقد ان الغنوشي قد فرط في الفرصة التاريخية التي جاءته بان يظهر انه رجل دولة يتعالى على الجميع وفي الآن نفسه يخدم الجميع، وبدلا عن ذلك اختار أن يخدم نفسه وحزبه والموالون له وان يشترك مع مواليه في حبك المؤامرات داخل المجلس وخارجه مما عفن وضع المجلس وجعله غير قابل للاستمرار بهذه الطريقة، وأعطى خصومه فرصة لمواجهته بكل الأساليب الممكنة بما في ذلك أساليب غير الشرعية وغير القانونية، المبتذلة والفوضوية، وغير المتعارف عليها في الحياة البرلمانية على غرار ما تقوم به عبير موسي وحزب كتلتها.
وأظن أن المجلس قابل للتعافي والقيام بدوره كاملا اذا ما جلس راشد الغنوشي مع نفسه وصارحها بأنه هو مصدر الأزمة، وبالتالي وجب عليه التخلي او اذا تمكنت الأحزاب والكتل المعارضة له من سحب الثقة منه. وفي كل الحالات فان إحدى أهم مؤسسات الدولة وهي مجلس النواب التي ترسم جل السياسات وتعطي الثقة للحكومات يمكنها ان تستعيد دورها كاملا اذا ذهب الغنوشي عن رئاسته. فلا خيار اليوم ولا تعافي للدولة الا بسحب الثقة منه او باستقالته من هذا المنصب كما وعد هو بنفسه بعض النواب عشية محاولة سحب الثقة منه في جويلية 2020.
مع تباين المواقف هل أنت مع حل البرلمان أم أن هذه الخطوة خط أحمر؟
-أنا لدي قناعة راسخة بان تونس بحكومة متواضعة أفضل من تونس بدون حكومة، ولدي قناعة راسخة ان تونس بمؤسسة تشريعية متواضعة افضل من تونس دون مؤسسة تشريعية، وكذلك الأمر بالنسبة لرئاسة الجمهورية. وبناء على ذلك وجب ان نبحث على تجويد الحياة السياسية وبالتالي الحياة العامة لخدمة المواطن وإنقاذ البلاد من الانهيار، وهذا في رأيي لا يمكن أن يكون في هذه المرحلة وفي ظل تضارب الشرعيات الا عن طريق حوار وطني مسؤول وشفاف ومحدد المحتوى، ربما تكون من نقاطه مسالة رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب والمحكمة الدستورية وقانون الأحزاب وتمويلها وتنظيم قطاع سبر الآراء ودور الهيئة المستقلة للانتخابات وإبعادها عن الأدلجة والتحزيب والمنوال الاقتصادي وعلاقات تونس الدولية والموقف من سياسة المحاور وغيرها من النقاط التي سيقع الاتفاق عليها كمضمون لهذا الحوار. ولا يوجد بديل للحوار إلا الصراع والأفضل لأطراف الطبقة السياسية التنازل لمصلحة تونس عن طريق الحوار بدلا من التنازل عن طريق الصراعات المدمرة كما عاشتها شعوب كثيرة احتربت في ما بينها ثم اضطرت إلى الرجوع إلى طاولة المفاوضات.
إلى أي مدى ترى أن الذهاب إلى انتخابات مبكرة، من السيناريوهات غير المستبعدة في ظل انسداد الأفق السياسي؟
-الانتخابات المبكرة لن تكون ذات جدوى وستعيد إنتاج ما هو سائد وربما بأشكال اسوأ الا في حال الاتفاق على النقاط المذكورة أعلاه وخاصة القانون الانتخابي وقانون تمويل الأحزاب والموقف من المال الأجنبي والفاسد ودو الاعلام في الحياة السياسية وتنظيم قطاع سبر الآراء ومختلف القضايا ذات الصلة وبالتالي لا يمكن الذهاب إلى انتخابات مبكرة الا بحسم هذه المسائل وتحديد الرؤية فيها مع التوجه نحَو تنفيذ القانون.
هل لديك تحفظات بشأن عتبة 5 بالمائة التي عبرت عديد الأحزاب عن رفضها؟
-ليس لدي أي تحفظات على أي نوع من انواع العتبة بشرط ان لا يكون هناك مال فاسد يستخدم في الانتخابات كما أقر ذلك في محكمة المحاسبات حسب الانتخابات الأخيرة وان لا تكون هناك قنوات أيديولوجية وحزبية على غرار حنبعل والزيتونة والإنسان ونسمة، وأن لا يكون هناك نفوذ لقوى سياسية على قنوات أخرى غير ظاهرة، وأن تكون الإدارة محايدة ولا توظف إمكانياتها اللوجستية والاتصالية في خدمة هذا الحزب أو ذاك كما حدث في انتخابات 2014 و2019، وأن يحدث قانون ينظم قطاع سبر الآراء مؤسسة تشرف عليه، وبتوفر هذه الشروط لا مانع لدى من وجود عتبة يقع الاتفاق عليها بين فرقاء السياسة وتأخذ بعين الاعتبار كذلك من ناضلوا تاريخيا من شخصيات ورموز وربما حتى تنظيمات من أجل أن تكون تونس دولة ديمقراطية، القانون لا يجب أن يكون اقصائيا بأي شكل من الأشكال.