إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

منتدى الصباح/ الغرب وكابوس الاهداف الروسية المشفرة" (الجزء الثالث)

بقلم :حامد إبراهيم

"العملية العسكرية الخاصة"، كما يسميها الكرملين، لا يمكن فهمها إلا بالتركيز على سبب تجنُّب استعمال مصطلح "حرب"؛ ويمكن ردّ ذلك لان أكرانيا، في العقيدة العسكرية والسياسية الروسية، هي امتداد تاريخي لروسيا ولا يستقيم بالمنطق شن حرب ضد جزء من شعبها، وخاصة سكان الشق الشرقي الاوكراني الذي يعده الكرملين ضمن الشعب الروسي ويسعى لتمكينه من الالتحاق بوطنه التاريخي الاصلي.

وتتجلى هذه الاعتبارات في مواقف النخبة الروسية سواء السياسية او العسكرية او الاكاديمية التي تنفي بإصرار صفة العدوان على التدخل في اكرانيا وتعتبره "ردا على ممارسات قسم خائن ومنحرف من الشعب الاوكراني". وهذا الطرح منسجم مع السردية التي رافقت "العملية العسكرية في الشيشان" والتي انتهت ،حسب الطرح الروسي، بفرز العناصر الشيشانية الخائنة التي أدارت ظهرها للوطن الجامع وانساقت وراء أجندات التطرف والتكفير التي تصب في مصالح الامبريالية الغربية وتحركها المخابرات الأمريكية بالاستعانة بأدواتها الاقليمية في الشرق الأوسط التي توفر الغطاء العقائدي مقابل الحماية العسكرية.

وأيّا كانت الدوافع المعلنة لانخراط روسيا في نهجها الهجومي في هذه المرحلة فان الهدف الأساسي، كما سبق تفصيله في الاجزاء السابقة من الدراسة، يبقى فك الارتباط مع الغرب ووضع الشعب الروسي أمام حتمية الإعتماد على الذات والاندماج بأكثر سرعة في عمقه الشرقي سواء المسيحي الاورتودكسي أو الإسلامي، خاصة لتوقع وصول الثقل الديمغرافي للمسلمين في روسيا الى ثلث السكان مع منتصف القرن؛ اي قرابة 60 مليون نسمة. وهذا أكبر تحدِّ لروسيا التي لا ترى امكانية التعايش والتواصل الثقافي مع أوروبا والغرب عموما في ضوء تمدد تيارات المثلية والجندرة والازدواجية الجنسية. وفي هذا الشأن تلقى مساندة من عديد دول الجنوب؛ وحتى من داخل الاتحاد الاوروبي يجد موقف روسيا صداه في المجر ولدى المحافظين في بولندا وبلغاريا؛ وليس اليمين الالماني والفرنسي ببعيدين عن هذا الموقف برفعهما شعار المحافظة على قداسة مؤسسة العائلة في فهمها المسيحي التقليدي.

أماَّ بالنسبة لضبابية صياغة الاهداف الروسية إلى حد اعتبار البعض العملية العسكرية الجارية باوكرانيا "قرارا متهورا غير محسوب النتائج"، فإن ما يراه البعض عواقبا سلبية، خاصة في الغرب، يشكّل في المنظور الروسي مخرجات متوقعة بل مرجوة في إطار إستراتيجية تتبعها طبقة سياسية وعسكرية روسية بقيادة بوتين تهدف الى اعادة روسيا إلى موقع يناسب حجمها دوليا مع إغراق اوروبا في الانفاق العسكري وتشتيت إمكانيات الولايات المتحدة بين اوروبا وآسيا في نطاق تكتيك "تداول الضغط على الخصم" الذي تمارسه موسكو وبكين بمراوحة بين التكتم والمجاهرة.

وكما سبق تحليله بعمق في الاجزاء السابقة فإن روسيا تسعى لتصحيح مسار نهضتها الذي انتكس بتفكك الاتحاد السوفياتي؛ ويتم ذلك من خلال مخطط انطلق تنفيذه منذ منتصف التسعينات عندما استلمت مجموعة من القيادات الامنية والعسكرية والاكاديمية السلطة من بوريس يلتسين، وتعهدت بالسعي لتنفيذ استراتيجية تمتد على ثلاثة عقود استهدفت تجميع القدرات واعادة التموقع مع مراعاة ما تمليه جدلية الامكانيات والسياق. ولعل تامين بقاء الرئيس الروسي في السلطة الى سنة 2036 مرتبط بالفترة التي ما زال يحتاجها مع جيله من القادة لانهاء المهمة التي انطلقت منذ استلامهم للسلطة في التسعينات.

" ضبابية الاهداف ومرونة قياس مستوى الانجاز"

تبقى الاهداف المعلنة "للعملية العسكرية الخاصة"، كما وردت في خطاب 24 فبراير 2022 للرئيس الروسي، صعبة القياس من حيث درجة إنجازها والجانب الروسي يحاول استثمار الضبابية ليحدد منفردا الأفق الزمني المطلوب لتوقف المواجهات ومدى التقدم في تنفيذ الهدف كما تظهره الامثلة التالية :

أولا: هدف "القضاء على النازية أو اليمين المتطرف" قد يكون مرادفا للسيطرة على المناطق ذات الاغلبية الروسية وتحريرها من العيش تحت تهديد ذوي النزعة القومية الاكرانية، كما يمكن ان يكون الهدف مرادفا لتغيير السلطة وتركيز نظام موالي لموسكو (لم ينجح في الاسبوع الاول) أو اعتبار مشهد اعتقال كتيبة آزوف بماريوبول الانجاز الكافي لاعلان انتهاء المهمة وتحقيق الهدف.

ثانيا: هدف نزع السلاح هو أيضا مطاطي وروسيا وحدها تحدد مداه؛ اذ يمكن التوصل اليه تعاقديا باتفاق مع اكرانيا او من خلال تحطيم بنيتها التحتية العسكرية والقدرات الصناعية في كافة المجالات.

ثالثا: هدف التوصل لاتفاق سلام قد يكون ليس من مصلحة موسكو التوصل كي يبقى مجال ضرب أي منشأَة عسكرية جديدة متاحا في المستقبل بما يمنع كييف من الانضمام الى حلف الناتو بسبب عدم تسوية النزاع المفتوح مع روسيا.

رابعا: هدف " وضع الحياد لاوكرانيا" يمكن ان تتجاوزه روسيا اذا ما تمادت اكرانيا في المطالبة بالضمانات او التنازلات الروسية؛ ولن تتردد موسكو في تمديد النزاع بقدر لا يستنزفها ذاتيا وفي نفس الوقت يتسبب في عدم استقرار سياسي وأمني واقتصادي للدول الاوروبية والغرب الموسع.

يتبع

منتدى الصباح/ الغرب وكابوس الاهداف الروسية المشفرة" (الجزء الثالث)

بقلم :حامد إبراهيم

"العملية العسكرية الخاصة"، كما يسميها الكرملين، لا يمكن فهمها إلا بالتركيز على سبب تجنُّب استعمال مصطلح "حرب"؛ ويمكن ردّ ذلك لان أكرانيا، في العقيدة العسكرية والسياسية الروسية، هي امتداد تاريخي لروسيا ولا يستقيم بالمنطق شن حرب ضد جزء من شعبها، وخاصة سكان الشق الشرقي الاوكراني الذي يعده الكرملين ضمن الشعب الروسي ويسعى لتمكينه من الالتحاق بوطنه التاريخي الاصلي.

وتتجلى هذه الاعتبارات في مواقف النخبة الروسية سواء السياسية او العسكرية او الاكاديمية التي تنفي بإصرار صفة العدوان على التدخل في اكرانيا وتعتبره "ردا على ممارسات قسم خائن ومنحرف من الشعب الاوكراني". وهذا الطرح منسجم مع السردية التي رافقت "العملية العسكرية في الشيشان" والتي انتهت ،حسب الطرح الروسي، بفرز العناصر الشيشانية الخائنة التي أدارت ظهرها للوطن الجامع وانساقت وراء أجندات التطرف والتكفير التي تصب في مصالح الامبريالية الغربية وتحركها المخابرات الأمريكية بالاستعانة بأدواتها الاقليمية في الشرق الأوسط التي توفر الغطاء العقائدي مقابل الحماية العسكرية.

وأيّا كانت الدوافع المعلنة لانخراط روسيا في نهجها الهجومي في هذه المرحلة فان الهدف الأساسي، كما سبق تفصيله في الاجزاء السابقة من الدراسة، يبقى فك الارتباط مع الغرب ووضع الشعب الروسي أمام حتمية الإعتماد على الذات والاندماج بأكثر سرعة في عمقه الشرقي سواء المسيحي الاورتودكسي أو الإسلامي، خاصة لتوقع وصول الثقل الديمغرافي للمسلمين في روسيا الى ثلث السكان مع منتصف القرن؛ اي قرابة 60 مليون نسمة. وهذا أكبر تحدِّ لروسيا التي لا ترى امكانية التعايش والتواصل الثقافي مع أوروبا والغرب عموما في ضوء تمدد تيارات المثلية والجندرة والازدواجية الجنسية. وفي هذا الشأن تلقى مساندة من عديد دول الجنوب؛ وحتى من داخل الاتحاد الاوروبي يجد موقف روسيا صداه في المجر ولدى المحافظين في بولندا وبلغاريا؛ وليس اليمين الالماني والفرنسي ببعيدين عن هذا الموقف برفعهما شعار المحافظة على قداسة مؤسسة العائلة في فهمها المسيحي التقليدي.

أماَّ بالنسبة لضبابية صياغة الاهداف الروسية إلى حد اعتبار البعض العملية العسكرية الجارية باوكرانيا "قرارا متهورا غير محسوب النتائج"، فإن ما يراه البعض عواقبا سلبية، خاصة في الغرب، يشكّل في المنظور الروسي مخرجات متوقعة بل مرجوة في إطار إستراتيجية تتبعها طبقة سياسية وعسكرية روسية بقيادة بوتين تهدف الى اعادة روسيا إلى موقع يناسب حجمها دوليا مع إغراق اوروبا في الانفاق العسكري وتشتيت إمكانيات الولايات المتحدة بين اوروبا وآسيا في نطاق تكتيك "تداول الضغط على الخصم" الذي تمارسه موسكو وبكين بمراوحة بين التكتم والمجاهرة.

وكما سبق تحليله بعمق في الاجزاء السابقة فإن روسيا تسعى لتصحيح مسار نهضتها الذي انتكس بتفكك الاتحاد السوفياتي؛ ويتم ذلك من خلال مخطط انطلق تنفيذه منذ منتصف التسعينات عندما استلمت مجموعة من القيادات الامنية والعسكرية والاكاديمية السلطة من بوريس يلتسين، وتعهدت بالسعي لتنفيذ استراتيجية تمتد على ثلاثة عقود استهدفت تجميع القدرات واعادة التموقع مع مراعاة ما تمليه جدلية الامكانيات والسياق. ولعل تامين بقاء الرئيس الروسي في السلطة الى سنة 2036 مرتبط بالفترة التي ما زال يحتاجها مع جيله من القادة لانهاء المهمة التي انطلقت منذ استلامهم للسلطة في التسعينات.

" ضبابية الاهداف ومرونة قياس مستوى الانجاز"

تبقى الاهداف المعلنة "للعملية العسكرية الخاصة"، كما وردت في خطاب 24 فبراير 2022 للرئيس الروسي، صعبة القياس من حيث درجة إنجازها والجانب الروسي يحاول استثمار الضبابية ليحدد منفردا الأفق الزمني المطلوب لتوقف المواجهات ومدى التقدم في تنفيذ الهدف كما تظهره الامثلة التالية :

أولا: هدف "القضاء على النازية أو اليمين المتطرف" قد يكون مرادفا للسيطرة على المناطق ذات الاغلبية الروسية وتحريرها من العيش تحت تهديد ذوي النزعة القومية الاكرانية، كما يمكن ان يكون الهدف مرادفا لتغيير السلطة وتركيز نظام موالي لموسكو (لم ينجح في الاسبوع الاول) أو اعتبار مشهد اعتقال كتيبة آزوف بماريوبول الانجاز الكافي لاعلان انتهاء المهمة وتحقيق الهدف.

ثانيا: هدف نزع السلاح هو أيضا مطاطي وروسيا وحدها تحدد مداه؛ اذ يمكن التوصل اليه تعاقديا باتفاق مع اكرانيا او من خلال تحطيم بنيتها التحتية العسكرية والقدرات الصناعية في كافة المجالات.

ثالثا: هدف التوصل لاتفاق سلام قد يكون ليس من مصلحة موسكو التوصل كي يبقى مجال ضرب أي منشأَة عسكرية جديدة متاحا في المستقبل بما يمنع كييف من الانضمام الى حلف الناتو بسبب عدم تسوية النزاع المفتوح مع روسيا.

رابعا: هدف " وضع الحياد لاوكرانيا" يمكن ان تتجاوزه روسيا اذا ما تمادت اكرانيا في المطالبة بالضمانات او التنازلات الروسية؛ ولن تتردد موسكو في تمديد النزاع بقدر لا يستنزفها ذاتيا وفي نفس الوقت يتسبب في عدم استقرار سياسي وأمني واقتصادي للدول الاوروبية والغرب الموسع.

يتبع

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews