إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"هبّة" إلى السفارات.. واستقواء بـ" الأجنبي" في الشأن الداخلي

تونس – الصباح

يشهد الوضع في بلادنا اليوم تحولات بالجملة انقلبت فيها المقاييس والمعادلات، تصب كلها في خانة "الصراع" على السلطة خاصة في ظل توفر عوامل ومعطيات ومؤشرات ترجح تأجيج الوضع وتدفع للقفز إلى المجهول دون مبالاة بخطورة الأمر لاسيما في هذه المرحلة الصعبة التي تعيش فيها بلادنا على وقع أزمات على مستويات عديدة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتفشي ظاهرة التضارب في المواقف والقرارات وسرعة تبدل الرأي والانقلاب إلى ضده لأغلب مكونات المشهدين السياسي والمدني بشكل تجعل من الواقع المتحول إلى أشبه بـ"السريالية".

فبعد أن شكلت مسألة اللجوء إلى "الأجنبي" في التعاطي مع القضايا والمسائل الوطنية والمحلية ومحاولات الاستقواء به في الصراع القائم في الأوساط السياسية سواء تعلق الأمر بما قبل 25 جويلية أو بعده، محل انتقاد وجدل واستهجان من قبل عديد الجهات السياسية والمدنية بالأساس، بقطع النظر عن مواقف المواطنين وردود الأفعال الرافضة لمثل تلك الممارسات، إلا أن الأمر تغير اليوم بعد الهبة الكبيرة لأطياف كثيرة من السياسيين والمنظمات والهياكل والجمعيات المدنية والقطاعية والمهنية على "الأجنبي"، واصطفافها جميعا في نفس الخط رغم اختلاف الأساليب والآليات وشكل العلاقة والتوظيف بين جهة وأخرى.

يأتي ذلك في الوقت الحاسم الذي تتجه فيه أنظار الجميع للبحث عن الحلول تونسية- تونسية وذلك عبر الدخول في مرحلة عملية ومفصلية تمهيدا للخروج من مرحلة التدابير الاستثنائية بدءا بالحوار الوطني قبل تنظيم الاستفتاء، فالانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وما يتطلبه الأمر من دستور جمهورية جديدة وتنقيح للقانون الانتخابي ومراجعة للمنظومة في سياق المسار الإصلاحي الذي التزم رئيس الجمهورية قيس سعيد به بعد 25 جويلية. فكان رفض عديد الأحزاب والسياسيين وممثلي بعض الهياكل والمنظمات المشاركة في هذا الحوار بمثابة المنعرج المسجل في الصراع القائم بين الأطراف المعارضة لمسار سعيد الإصلاحي من جهة والأطراف الأخرى الداعمة لهذا المسار على اعتبار أن المشاركة في صياغة مخرجاته واجب وطني تمليه الضرورة وتحتمه المرحلة الصعبة.

فعدد كبير من السياسيين ومكونات المشهدين السياسي والمدني كانت تنقد في السابق مشاهد استقبال رئيس البرلمان المنحل ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي للسفراء وممثلي الهياكل والمنظمات الدولية في قبة البرلمان أو بمكتبه بـ"منبليزير" في تحد واضح لمؤسسات الدولة وتجسيد للصراع على الصلاحيات واعتبار ذلك تدخلا وسطوا على الصلاحيات ومسا من هيبة الدولة، نجدها اليوم تقف في نفس المربع، لكنها تقف مزهوة متباهية بمثل هذه التصرفات والزيارات والدعوات. ويكفي العودة إلى موجة الانتقادات الواسعة التي وُجّهت إلى بعض النواب من أحزاب حركة النهضة وقلب تونس الذين اتجهوا إلى البرلمان الأوروبي أو الدولي إبان اتخاذ رئيس الجمهورية قيس سعيد خطوة تجميد البرلمان في 25 جويلية الماضي، إضافة إلى حملة التنديد الواسعة بما يعرف بقضية عقود "اللوبيينغ" لحركة النهضة التي أثارتها منظمة "أنا يقظ" في أكتوبر الماضي وغيرها من الممارسات والتنديدات المستنكرة والرافضة للتدخل الأجنبي ولتدويل القضايا الوطنية المشابهة.

وكان الاستقواء بالأجنبي عنوانا لمعركة بعض القوى السياسية ضد حركة النهضة بناء على ما قدمه خصومها من مؤيدات وأدلة تؤكد ذلك، ليصبح هذا الأمر قبلة القوى المعارضة للمسار الإصلاحي الذي يقوده سعيد ولم يعد خافيا على الجميع، على غرار "مواطنون ضد الانقلاب" ثم "جبهة الخلاص"، ليلتحق بهذا الركب الاتحاد العام التونسي للشغل، وأغلب الناشطين في الحقل  السياسي والمدني والحقوقي وغيرها. فأصبح تداول صور تجسد اللقاءات مع سفراء أجانب أو ممثلي المنظمات والهياكل الدولية مسألة للتباهي بقطع النظر عن سياقاتها. وهو ما أثار ردود أفعال مختلفة في قراءة للمسألة في هذه المرحلة تحديدا بعد أن قررت المنظمة الشغيلة رفض المشاركة في الحوار الوطني بسبب عدم توفر الشروط والدواعي المطلوبة لذلك، في حين سبق أن أعلن سامي الطاهري الأمين العام المساعد للاتحاد التونسي للشغل في سبتمبر الماضي عبر تدوينة فايسبوكية أن المنظمة الشغيلة رفضت دعوة سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس للقاء مع وفد من الكونغرس في زيارته لتونس.

بين الواجب والواقع

ليتحول هذا الاستثناء اليوم إلى قاعدة تميز المشهد العام في تونس، بعد توسع الهبّة إلى الخارج وأصبحت مصدر تفاخر وتباه في العلن وليس سرا، لتنكشف بذلك الأقنعة عن الجميع. ويتجلى "لُبّ" أدوار هذه الجهات بعد أن اختلطت عليها الأمور في ظل التأرجح بين الواجب الوطني الذي يمليه عليها الظرف من ناحية ومتطلبات الواقع الذي تحكمه مصالح الضيقة والنزعات التي يحكمها هاجس "إضعاف" الدولة والتحكم في مفاصلها من ناحية ثانية.

لذلك أصبح عدد كبير ممن ينتسبون للدفاع عن الوطن والدولة من سياسيين وغيرهم يرحبون في العلن بالبيانات والأخبار والمواقف الأجنبية التي تنتقد القرارات الرسمية وتتدخل في السيادة الوطنية وتمس منها وتحاول الطعن فيها. ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يتباهون بها ويروجون ويستندون لها ويوظفونها في صراعهم ومعارضتهم لرئيس الجمهورية. وعديدة هي الرسائل والمطالب التي رفعها بعض التونسيين إلى الجهات الأجنبية مضمونها التدخل وتسليط العقوبات على الدولة لعل أبرزها ما تعلق بطلب القيادي في حركة النهضة رضوان المصمودي من الإدارة الأمريكية إلى قطع إرسال اللقاحات ووقف الإعانات الطبية الموجهة لتونس في أوج أزمة "كوفيد 19"، لتكون وسيلة للضغط على رئيس الجمهورية قيس سعيد من أجل التراجع عن قراراته التي اتخذها يوم 25 جويلية الماضي القاضية بحل البرلمان وإقالة حكومة مشيشي.

أزمة ثقة واسعة

كل هذه العوامل تساهم في توسع أزمة الثقة بشكل غير مسبوق، لتخيم على المناخ العام في الدولة اليوم وتشمل أغلب مكونات المشهد السياسي والمدني من أحزاب ومنظمات وجمعيات وغيرها من المؤسسات والهياكل القطاعية والمدنية، بما من شانه أن يحدث شرخا كبيرا في الأوساط الاجتماعية والشعبية لاسيما أن الطبقة السياسية بالأساس لا تبالي بحجم هوة القطيعة التي أصبحت عليها في علاقة بالقواعد الشعبية، الأمر الذي قد يدفع هذه القواعد إلى المراهنة على أي خيار يقطع مع مثل تلك الممارسات والظواهر بما فيه اللجوء والاستقواء بالأجنبي والفساد والتنطع من الواقع المزري والقفز على انتظارات المواطنين لإصلاحات تحيل إلى واقع مختلف وأفضل بمنأى عن الصراعات.

نزيهة الغضباني

"هبّة" إلى السفارات.. واستقواء بـ" الأجنبي" في الشأن الداخلي

تونس – الصباح

يشهد الوضع في بلادنا اليوم تحولات بالجملة انقلبت فيها المقاييس والمعادلات، تصب كلها في خانة "الصراع" على السلطة خاصة في ظل توفر عوامل ومعطيات ومؤشرات ترجح تأجيج الوضع وتدفع للقفز إلى المجهول دون مبالاة بخطورة الأمر لاسيما في هذه المرحلة الصعبة التي تعيش فيها بلادنا على وقع أزمات على مستويات عديدة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بتفشي ظاهرة التضارب في المواقف والقرارات وسرعة تبدل الرأي والانقلاب إلى ضده لأغلب مكونات المشهدين السياسي والمدني بشكل تجعل من الواقع المتحول إلى أشبه بـ"السريالية".

فبعد أن شكلت مسألة اللجوء إلى "الأجنبي" في التعاطي مع القضايا والمسائل الوطنية والمحلية ومحاولات الاستقواء به في الصراع القائم في الأوساط السياسية سواء تعلق الأمر بما قبل 25 جويلية أو بعده، محل انتقاد وجدل واستهجان من قبل عديد الجهات السياسية والمدنية بالأساس، بقطع النظر عن مواقف المواطنين وردود الأفعال الرافضة لمثل تلك الممارسات، إلا أن الأمر تغير اليوم بعد الهبة الكبيرة لأطياف كثيرة من السياسيين والمنظمات والهياكل والجمعيات المدنية والقطاعية والمهنية على "الأجنبي"، واصطفافها جميعا في نفس الخط رغم اختلاف الأساليب والآليات وشكل العلاقة والتوظيف بين جهة وأخرى.

يأتي ذلك في الوقت الحاسم الذي تتجه فيه أنظار الجميع للبحث عن الحلول تونسية- تونسية وذلك عبر الدخول في مرحلة عملية ومفصلية تمهيدا للخروج من مرحلة التدابير الاستثنائية بدءا بالحوار الوطني قبل تنظيم الاستفتاء، فالانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وما يتطلبه الأمر من دستور جمهورية جديدة وتنقيح للقانون الانتخابي ومراجعة للمنظومة في سياق المسار الإصلاحي الذي التزم رئيس الجمهورية قيس سعيد به بعد 25 جويلية. فكان رفض عديد الأحزاب والسياسيين وممثلي بعض الهياكل والمنظمات المشاركة في هذا الحوار بمثابة المنعرج المسجل في الصراع القائم بين الأطراف المعارضة لمسار سعيد الإصلاحي من جهة والأطراف الأخرى الداعمة لهذا المسار على اعتبار أن المشاركة في صياغة مخرجاته واجب وطني تمليه الضرورة وتحتمه المرحلة الصعبة.

فعدد كبير من السياسيين ومكونات المشهدين السياسي والمدني كانت تنقد في السابق مشاهد استقبال رئيس البرلمان المنحل ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي للسفراء وممثلي الهياكل والمنظمات الدولية في قبة البرلمان أو بمكتبه بـ"منبليزير" في تحد واضح لمؤسسات الدولة وتجسيد للصراع على الصلاحيات واعتبار ذلك تدخلا وسطوا على الصلاحيات ومسا من هيبة الدولة، نجدها اليوم تقف في نفس المربع، لكنها تقف مزهوة متباهية بمثل هذه التصرفات والزيارات والدعوات. ويكفي العودة إلى موجة الانتقادات الواسعة التي وُجّهت إلى بعض النواب من أحزاب حركة النهضة وقلب تونس الذين اتجهوا إلى البرلمان الأوروبي أو الدولي إبان اتخاذ رئيس الجمهورية قيس سعيد خطوة تجميد البرلمان في 25 جويلية الماضي، إضافة إلى حملة التنديد الواسعة بما يعرف بقضية عقود "اللوبيينغ" لحركة النهضة التي أثارتها منظمة "أنا يقظ" في أكتوبر الماضي وغيرها من الممارسات والتنديدات المستنكرة والرافضة للتدخل الأجنبي ولتدويل القضايا الوطنية المشابهة.

وكان الاستقواء بالأجنبي عنوانا لمعركة بعض القوى السياسية ضد حركة النهضة بناء على ما قدمه خصومها من مؤيدات وأدلة تؤكد ذلك، ليصبح هذا الأمر قبلة القوى المعارضة للمسار الإصلاحي الذي يقوده سعيد ولم يعد خافيا على الجميع، على غرار "مواطنون ضد الانقلاب" ثم "جبهة الخلاص"، ليلتحق بهذا الركب الاتحاد العام التونسي للشغل، وأغلب الناشطين في الحقل  السياسي والمدني والحقوقي وغيرها. فأصبح تداول صور تجسد اللقاءات مع سفراء أجانب أو ممثلي المنظمات والهياكل الدولية مسألة للتباهي بقطع النظر عن سياقاتها. وهو ما أثار ردود أفعال مختلفة في قراءة للمسألة في هذه المرحلة تحديدا بعد أن قررت المنظمة الشغيلة رفض المشاركة في الحوار الوطني بسبب عدم توفر الشروط والدواعي المطلوبة لذلك، في حين سبق أن أعلن سامي الطاهري الأمين العام المساعد للاتحاد التونسي للشغل في سبتمبر الماضي عبر تدوينة فايسبوكية أن المنظمة الشغيلة رفضت دعوة سفير الولايات المتحدة الأمريكية بتونس للقاء مع وفد من الكونغرس في زيارته لتونس.

بين الواجب والواقع

ليتحول هذا الاستثناء اليوم إلى قاعدة تميز المشهد العام في تونس، بعد توسع الهبّة إلى الخارج وأصبحت مصدر تفاخر وتباه في العلن وليس سرا، لتنكشف بذلك الأقنعة عن الجميع. ويتجلى "لُبّ" أدوار هذه الجهات بعد أن اختلطت عليها الأمور في ظل التأرجح بين الواجب الوطني الذي يمليه عليها الظرف من ناحية ومتطلبات الواقع الذي تحكمه مصالح الضيقة والنزعات التي يحكمها هاجس "إضعاف" الدولة والتحكم في مفاصلها من ناحية ثانية.

لذلك أصبح عدد كبير ممن ينتسبون للدفاع عن الوطن والدولة من سياسيين وغيرهم يرحبون في العلن بالبيانات والأخبار والمواقف الأجنبية التي تنتقد القرارات الرسمية وتتدخل في السيادة الوطنية وتمس منها وتحاول الطعن فيها. ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يتباهون بها ويروجون ويستندون لها ويوظفونها في صراعهم ومعارضتهم لرئيس الجمهورية. وعديدة هي الرسائل والمطالب التي رفعها بعض التونسيين إلى الجهات الأجنبية مضمونها التدخل وتسليط العقوبات على الدولة لعل أبرزها ما تعلق بطلب القيادي في حركة النهضة رضوان المصمودي من الإدارة الأمريكية إلى قطع إرسال اللقاحات ووقف الإعانات الطبية الموجهة لتونس في أوج أزمة "كوفيد 19"، لتكون وسيلة للضغط على رئيس الجمهورية قيس سعيد من أجل التراجع عن قراراته التي اتخذها يوم 25 جويلية الماضي القاضية بحل البرلمان وإقالة حكومة مشيشي.

أزمة ثقة واسعة

كل هذه العوامل تساهم في توسع أزمة الثقة بشكل غير مسبوق، لتخيم على المناخ العام في الدولة اليوم وتشمل أغلب مكونات المشهد السياسي والمدني من أحزاب ومنظمات وجمعيات وغيرها من المؤسسات والهياكل القطاعية والمدنية، بما من شانه أن يحدث شرخا كبيرا في الأوساط الاجتماعية والشعبية لاسيما أن الطبقة السياسية بالأساس لا تبالي بحجم هوة القطيعة التي أصبحت عليها في علاقة بالقواعد الشعبية، الأمر الذي قد يدفع هذه القواعد إلى المراهنة على أي خيار يقطع مع مثل تلك الممارسات والظواهر بما فيه اللجوء والاستقواء بالأجنبي والفساد والتنطع من الواقع المزري والقفز على انتظارات المواطنين لإصلاحات تحيل إلى واقع مختلف وأفضل بمنأى عن الصراعات.

نزيهة الغضباني

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews