إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رحلة البحث عنهم تنطلق من مواقع التواصل.. اختفاء القصر..لماذا.. وإلى أين؟

 

تونس- الصباح

فتيات وفتيان قصر يغادرون منازل ذويهم بلا رجعة.. ففي لحظة غير متوقعة تستفيق عائلاتهم على نبإ اختفائهم دون تركهم أية رسالة توصلهم إليهم لتضج بعد ذلك مواقع التواصل الاجتماعي بصورهم وبنداءات استغاثة عائلاتهم بحثا عنهم.

ظاهرة هروب القصر ليست جديدة ولكنها متجددة ومتكررة ومترسخة في أذهان بعض القصر الذين يعيشون في بيئة تنخرها الهشاشة وينحدرون من أسر تعاني ظروفا اجتماعية قاهرة فيهرب القاصر بحثا عن مكان يعتقد أنه سيكون الأفضل بالنسبة إليه وأحيانا قد يكون الهروب قسريا وليس للمراهقة أو المراهق يد فيه.

مفيدة القيزاني

حوادث اختفاء القصر تكاد تكون يومية وفي الغالب تلجأ العائلات الى الجهات الرسمية للإبلاغ عن حالات الاختفاء وكذلك الى مواقع التواصل الاجتماعي حيث تستعين عائلات "المفقودين" بنشر بلاغات حول اختفاء أبنائها وآخر ضحايا الاختفاء فتاة يبدو أنها غادرت محل سكناها بجهة بنزرت ولم تعد وظلت عائلتها تنشر إعلانات متتالية عن اختفائها لعلها تصل الى حل.

هروب الفتيات من منازل عائلاتهن قد يكون له مبرر وقد يكون مجرد محاولة لتغيير واقع والدخول في تجارب مختلفة بصورة مستقلة عن الأهل وربما هروب من واقع اجتماعي لم يكن على مقاس أحلامهن.

اختفاء يخفي جريمة..

ليس كل اختفاء يكون عن طواعية أو بإرادة المختفي فقد تكون وراء الاختفاء جريمة مثلما حدث في حالة فتاة تبلغ من العمر 15 عاما تم تداول صورها في وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بالإضافة الى فيديو لوالدتها تعلم عن اختفائها ليتضح أنه غرر بها من طرف شاب يبلغ من العمر 24 عاما.

وأثارت في وقت سابق حادثة اختفاء ثلاث قاصرات الرأي العام لا سيما وأن المفقودات تتراوح أعمارهن بين 14 و17 عاما غادرن منازل ذويهن دون سابق إعلام لتدخل عائلاتهن في حالة من الصدمة والبحث المضني الذي لم ينته بنتيجة إلى أن تم العثور عليهن لاحقا من قبل قوات الأمن بجهة المهدية وهي واحدة من نقاط العبور نحو الفضاء الأوروبي حيث اتضح أن القاصرات الثلاث قدمن من إحدى ولايات الشمال الغربي بعد أن نسقت إحداهن مع شخص تعرفت عليه عن طريق صفحة بموقع التواصل الاجتماعي "فايس بوك" وتمكنت إحدى القاصرات من الحصول على مبلغ مالي قدره أربعة آلاف دينار من والدها دون علمه لتسلمها لاحقا الى منظم "الحرقة" والذي تسلم المبلغ وترك القاصرات في منزل مهجور واختفى ليتضح أنهن تعرضن الى عملية استقطاب وتحيل.. وغيرهن كثيرات ممن حلمن بالهجرة الى الفضاء الأوروبي ليصطدمن بواقع مفزع غير الذي حلمن به ألا وهو الوصول الى الضفة الأخرى من المتوسط.

اختفاء مجاني..

تداولت عديد التدوينات عبر شبكات التواصل الاجتماعي خبر اختفاء طفل يبلغ من العمر 14 عاما يقطن بالعاصمة أعلمنت عائلته عن اختفائه وعدم عودته من المدرسة ليتضح لاحقا أنه امتطى القطار وتوجه الى منزل قريبته بالساحل ولكن شحن هاتفه نفد، فلم يتمكن من الاتصال بقريبته وقضى ليلته في الشارع ووفق المحاضر الأمنية فقد مرت تلك الليلة بسلام ولم يتعرض الى أي نوع من أنواع الاعتداء الجسدي أو الجنسي.

قصر في قوارب الموت..

إنّ الفئة العمرية الأقل من 18 سنة باتت تعرف جيّدا أنّ السّلطات الأوروبية لا ترحّل القصّر لدى وصولهم إلى أراضيها وهم محميّون بالقانون الدّولي وسلطات بلد الاستقبال مطالبة بالتكفّل بهم وإعادة تكوينهم وإدماجهم في المجتمع ذلك ما يدفع بهم إلى الفرار من منازل ذويهم والمشاركة في رحلات "الحرقة" فالبعض يسرق أموال والده أو مصوغ والدته والمهم عنده تامين المبلغ الذي يطلبه "الحراق" لإيصاله الى الضفة الأخرى من المتوسط.

وقد شهدت "قوارب الموت" أطفالا من أعمار صغيرة حتى سن المراهقة يصعدون على متنها ويرتمون في أحضان المجهول ويخاطرون بحياتهم في رحلة غير مأمولة العواقب المهم عندهم "الوصول".

وتظهر بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أن ظاهرة هجرة القصر سجلت ارتفاعا متزايدا في السنوات الأخيرة إذ تم تسجيل وصول 2492 قاصرا في 2021 مقارنة بـ595 قاصرا في 2019.

وقد بلغ 6800 قاصر السواحل الايطالية خلال الخمس سنوات الأخيرة وهو رقم يعد مرتفعا جدا والصادم ان نسبة كبيرة من هؤلاء انقطعت أخبارهم عن عائلاتهم الى اليوم.

الظاهرة من منظور علم الاجتماع..

المختص في علم الاجتماع ممدوح عز الدين اعتبر في قراءته الظاهرة لـ"الصباح" أن قضية هروب القصر لم ترتق بعد الى مستوى الظاهرة الاجتماعية بمعناها السوسيولوجي بفعل عاملي الكثافة والتواتر، لكن هذه الحالات بدأت للأسف تتكرر بشكل لافت للنظر يخرجها من دائرة العزلة أيضا وإلى حد الآن لا يمكن الجزم بمعرفة الأسباب الكامنة وراء هذه الحالات نظرا لغياب المعطيات الواضحة حول سبب الهروب والاختفاء حتى بعد العثور عليهن وعودتهن الى بيوتهن ،إذ الأسر تتكتم على أسرار بناتهن الهاربات ولا تجاهر بها بسبب العادات والتقاليد ونظرة المجتمع الى الفتاة والمرأة بأنها جالبة للعار والفضيحة وهو ما يجعل الأمر يستعصى على الفهم.

ظاهرة عامة..

اعتبر عز الدين أن مشكلة هروب الأطفال والمراهقين ذكورا وإناثا تحدث في كل دول العالم وكل يوم تقريباً وهي تحدث في الأسر الفقيرة والميسورة على حد سواء وأكثر شيوعا بين الفتيات منه بين الفتيان نظرا لكون التضييقات والضغوط التي تقع عليهن في عائلاتهن تفوق بكثير ما يقع على الذكور وهو ما يدفعهن الى التمرد من خلال البحث عن أي بصيص حرية بعيدا عن البيت.

غير أن ما يشد الانتباه فيما يخص هروب القاصرات في تونس ارتباطه بتنامي ظاهرة الهجرة السرية خاصة لدى القصر وتنامي الظاهرة الإرهابية وتنامي جرائم التحيل والتغرير بالقصر والاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر.

ما هي الدوافع؟

يرى محدثنا أن هناك عدة عوامل تقف خلف اتخاذ القصر قرار الهروب أو الاختفاء وربما السبب الأبرز التسرب المدرسي والذي يعد من أكثر الأسباب الكامنة وراء هجرة القصر علاوة على عجز منظومة التكوين المهني على استيعاب كل المنقطعين عن الدراسة فتيانا وفتيات وإغراء الهجرة بالنسبة لهذه الشريحة من المهاجرين السريين الذين يحظون بحظوة في بلدان الاستقبال لكونهم أطفالا وإدراكهم لهذا المعطى يشجعهم على مغامرة الهجرة.

مضيفا أن ما يقع في تونس من تغيرات جعل الكثير من القاصرات وحتى النساء الراشدات يقتنعن بأن المخاطر التي يتعرضن لها في المجتمع أو المحيط أو البيت أكبر من خطر المجازفة بالهجرة بحرا ويتحول مشروع الهجرة الى رغبة في الهروب والبحث عن واقع أفضل ولكن هذه الرغبة سرعان ما تجعلهن فريسة سهلة لشبكات الهجرة حيث يتم التغرير بالكثيرات منهن وإيهامهن بالعمل وبظروف حياتية أفضل ويتم استغلالهن ماديا وجنسيا دون القدرة على التخلص من هيمنة هذه الشبكات الإجرامية.

الجماعات الإرهابية على الخط..

إن الفتيات القاصرات اللواتي يهربن بغرض الانضمام للجماعات التكفيرية الإرهابية تتضافر أسباب شخصية وراء هذا القرار، أهمها الرغبة في الشعور بالقوة وإمكانية التأثير وتغيير الواقع المرير الذي يعشن فيه ومن خلال هذه الأعمال يفكرن بكونهن قادرات على تغيير الواقع ،أما بالنسبة للمنظمات الإرهابية نفسها فإن استخدامها للعنصر الأنثوي يعود إلى عدة أسباب أهمها قدرتهن على التهرب بسهولة من إجراءات الكشف والأمن بالإضافة الى العامل الإعلامي الذي سيقوم بتضخيم الخبر في حال اكتشاف أن الفتاة هي المسؤولة عن العملية والمشاركة فيها ممن هربن وإنضممن لتنظيم " داعش" وغيره إذ أن العاطفة و إبتزاز المشاعر كانا حافزين رئيسيين لهن دون التركيز على التأصيل الشرعي.

وحسب الدراسات لا يمكن اعتبار الإرهابيات هن دائما من الفقيرات ماديا أو الأميات بل هن من مستويات تعليمية واقتصادية مختلفة وكانت النسبة الأكبر من العمليات الإرهابية خصوصا بالمتعلمات بل حتى المتفوقات دراسيا.

الاستقطاب..

لقد نجحت "داعش" في استقطاب الأطفال ذكورا وإناثا وكونت منهم كتائب سمتهم " أشبال الخلافة" والذين وصفتهم وسائل الإعلام الدولية بالقنابل الموقوتة مما يعني أن الحل الأمني وحده غير كاف للحل ولا بد من الاشتغال على إصلاحات تربوية دائمة ذات أبعاد نفسية واجتماعية وحضارية.

الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي..

من ناحية أخرى تقع العديد من القاصرات فريسة سهلة لذئاب بشرية عبر الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي. البداية تكون دوما بإرسال الصور ثم الابتزاز ثم التمادي فالتمادي الى أن تجد نفسها خارج البيت هربا من فضيحة قريبة وإن اختلف السيناريو قليلاً فقد تتوهم الحب وتحاول اللحاق بحبيب القلب الذي يكبرها بضعف عمرها ،هذا إن لم تقع بين مخالب مجرم يغتصبها ويرميها في إحدى الطرق أو البيوت المهجورة أو الغابات المعزولة كما أن العديد من الفتيات يتم تهريبهن الى الخارج لاستغلالهن في الدعارة ومنهن من رحن ضحية تنظيمات مشبوهة وشبكات إجرامية محترفة.

كل هذا والأهل غافلون ولا يراقبون تصرفات بناتهن ولا قائمة أصدقائهن ومعارفهن ولا يحددون وقت استعمالهن للهواتف الذكية ولا الخيارات المتاحة لهن لتكون العواقب وخيمة ولا طاقة لوالد أو والدة على احتمالها.

بيع القاصرات..

كذلك لا بد من الإشارة الى وجود أسواق لبيع الفتيات القاصرات كمعينات منزليات يتحولن لمدن بتونس الكبرى للعمل بها ،إذ يوجد سماسرة مختصون في هذه التجارة يقومون بالعمل كوسيط بين ولي الفتاة وبين صاحب المنزل الذي ستعمل به كمعينة منزلية ،ويجبر الأولياء على" بيع" بناتهم بسبب الفقر الذي يعاني منه أهالي المنطقة ،ولقد دفع احتجاز الفتيات القاصرات لدى من يعملن عندهم لمحاولات الهروب نظرا للمعاملات القاسية ،كما أن فتيات قاصرات تهربن بسبب تعرضهن للتحرش والاغتصاب من أفراد عائلاتهن أو من الخارج خوفا من الوصم الاجتماعي.

العديد من الفتيات القاصرات يهربن فجأة دون تخطيط مسبق مما يعني أنهن ربما لم يفكرن في المكان الذي سيذهبن إليه أو أين سينمن أو كيف سيتمكن من إعالة أنفسهن وهذا يعني أن العديد من القاصرات ينتهي بهن المطاف في الشوارع حيث غالباً ما تكون المشاكل التي يواجهنها أسوأ من تلك التي عانين منها في المنزل وفي كثير من الحالات ينتهي بهن الأمر في الشوارع ويتعرضن لخطر الاستغلال الجنسي والإدمان على المخدرات والكحول وسوء المعاملة والعنف.

إن من أهم الأسباب التي يمكن إدراجها لفهم هذه الممارسة المحفوفة بالمخاطر تتمثل في أن القاصرات في سن المراهقة يعشن تغيرات جسدية وذهنية حساسة ويمكن في هذا العمر أكثر طواعية وقابلية للإغراءات التي تقدم لهن بحثا من هن على التثمين وتقدير الآخرين وتقدير الذات والبحث عن الاعتراف ولو تطلب ذلك التمرد والرغبة في المغامرة حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر دون التفكير كثيراً في العواقب.

وواضح ممدوح عز الدين أنه لا يمكن اعتبار الفقر والحاجة المادية وحدهما السبب الرئيسي في هروب الفتيات من منازلهن الى وجهات مجهولة فهناك البحث عن الاستقلالية والحرية وتأكيد الذات بعيدا عن سلطة العائلة المحافظة التي تراها عائقا لتحقيق كل ما تريد تحقيقه ،هناك الرغبة في العمل والهجرة وتحدي العادات الاجتماعية القائمة والانسياق وراء العواطف بإتباع ما تعتبره الفتاة حبا قد يهوي بها في غياهب المجهول.

ولتفادي حالات هروب الفتيات القاصرات من المنزل لا بد من الانتباه لعلامات هذه الممارسة الخطيرة ومن أهمها:

_ علامات التحذير من عدم العودة الى المنزل في حالات الغضب.

_ البقاء خارجا بعد الموعد المتفق عليه.

_ عدم الرغبة في العودة الى المنزل من المدرسة أو منازل الأصدقاء.

_ البقاء في منازل الأصدقاء بشكل متكرر أو البقاء مع أفراد الأسرة الآخرين لتجنب العودة الى المنزل.

_ التغيب عن المدرسة أو يكون الأداء الدراسي في تراجع.

_ التصرف بشكل مختلف تماما ،على سبيل المثال بشكل أكثر عدوانية أو الانسحاب.

_ تطور اهتمامات جديدة خارج المدرسة مثل مجموعة أقران جدد أو بدء علاقة جديدة.

_ اكتشاف و ظهور علامات الكذب.

_ ظهور علامات على تعاطي المخدرات أو الكحول.

_ أن تكون شديدة السرية عند استخدام الانترنت.

خلص محدثنا الى أن الأمر يحتاج لتعزيز سبل التواصل السليم داخل الأسرة باعتماد الحوار والتشاور والإقناع لحل مشاكلها وتمكين الأبناء من حقوقهم وخاصة حقهم في إبداء آرائهم والمشاركة في كل ما يخصهم وتحسيسهم بالأمان والكرامة في نفس الوقت لا بد من تضافر جهود مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والفاعلين في مجال الأسرة والطفولة للحد من هذه الممارسة الخطيرة ومواجهتها.

.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رحلة البحث عنهم تنطلق من مواقع التواصل..   اختفاء القصر..لماذا.. وإلى أين؟

 

تونس- الصباح

فتيات وفتيان قصر يغادرون منازل ذويهم بلا رجعة.. ففي لحظة غير متوقعة تستفيق عائلاتهم على نبإ اختفائهم دون تركهم أية رسالة توصلهم إليهم لتضج بعد ذلك مواقع التواصل الاجتماعي بصورهم وبنداءات استغاثة عائلاتهم بحثا عنهم.

ظاهرة هروب القصر ليست جديدة ولكنها متجددة ومتكررة ومترسخة في أذهان بعض القصر الذين يعيشون في بيئة تنخرها الهشاشة وينحدرون من أسر تعاني ظروفا اجتماعية قاهرة فيهرب القاصر بحثا عن مكان يعتقد أنه سيكون الأفضل بالنسبة إليه وأحيانا قد يكون الهروب قسريا وليس للمراهقة أو المراهق يد فيه.

مفيدة القيزاني

حوادث اختفاء القصر تكاد تكون يومية وفي الغالب تلجأ العائلات الى الجهات الرسمية للإبلاغ عن حالات الاختفاء وكذلك الى مواقع التواصل الاجتماعي حيث تستعين عائلات "المفقودين" بنشر بلاغات حول اختفاء أبنائها وآخر ضحايا الاختفاء فتاة يبدو أنها غادرت محل سكناها بجهة بنزرت ولم تعد وظلت عائلتها تنشر إعلانات متتالية عن اختفائها لعلها تصل الى حل.

هروب الفتيات من منازل عائلاتهن قد يكون له مبرر وقد يكون مجرد محاولة لتغيير واقع والدخول في تجارب مختلفة بصورة مستقلة عن الأهل وربما هروب من واقع اجتماعي لم يكن على مقاس أحلامهن.

اختفاء يخفي جريمة..

ليس كل اختفاء يكون عن طواعية أو بإرادة المختفي فقد تكون وراء الاختفاء جريمة مثلما حدث في حالة فتاة تبلغ من العمر 15 عاما تم تداول صورها في وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بالإضافة الى فيديو لوالدتها تعلم عن اختفائها ليتضح أنه غرر بها من طرف شاب يبلغ من العمر 24 عاما.

وأثارت في وقت سابق حادثة اختفاء ثلاث قاصرات الرأي العام لا سيما وأن المفقودات تتراوح أعمارهن بين 14 و17 عاما غادرن منازل ذويهن دون سابق إعلام لتدخل عائلاتهن في حالة من الصدمة والبحث المضني الذي لم ينته بنتيجة إلى أن تم العثور عليهن لاحقا من قبل قوات الأمن بجهة المهدية وهي واحدة من نقاط العبور نحو الفضاء الأوروبي حيث اتضح أن القاصرات الثلاث قدمن من إحدى ولايات الشمال الغربي بعد أن نسقت إحداهن مع شخص تعرفت عليه عن طريق صفحة بموقع التواصل الاجتماعي "فايس بوك" وتمكنت إحدى القاصرات من الحصول على مبلغ مالي قدره أربعة آلاف دينار من والدها دون علمه لتسلمها لاحقا الى منظم "الحرقة" والذي تسلم المبلغ وترك القاصرات في منزل مهجور واختفى ليتضح أنهن تعرضن الى عملية استقطاب وتحيل.. وغيرهن كثيرات ممن حلمن بالهجرة الى الفضاء الأوروبي ليصطدمن بواقع مفزع غير الذي حلمن به ألا وهو الوصول الى الضفة الأخرى من المتوسط.

اختفاء مجاني..

تداولت عديد التدوينات عبر شبكات التواصل الاجتماعي خبر اختفاء طفل يبلغ من العمر 14 عاما يقطن بالعاصمة أعلمنت عائلته عن اختفائه وعدم عودته من المدرسة ليتضح لاحقا أنه امتطى القطار وتوجه الى منزل قريبته بالساحل ولكن شحن هاتفه نفد، فلم يتمكن من الاتصال بقريبته وقضى ليلته في الشارع ووفق المحاضر الأمنية فقد مرت تلك الليلة بسلام ولم يتعرض الى أي نوع من أنواع الاعتداء الجسدي أو الجنسي.

قصر في قوارب الموت..

إنّ الفئة العمرية الأقل من 18 سنة باتت تعرف جيّدا أنّ السّلطات الأوروبية لا ترحّل القصّر لدى وصولهم إلى أراضيها وهم محميّون بالقانون الدّولي وسلطات بلد الاستقبال مطالبة بالتكفّل بهم وإعادة تكوينهم وإدماجهم في المجتمع ذلك ما يدفع بهم إلى الفرار من منازل ذويهم والمشاركة في رحلات "الحرقة" فالبعض يسرق أموال والده أو مصوغ والدته والمهم عنده تامين المبلغ الذي يطلبه "الحراق" لإيصاله الى الضفة الأخرى من المتوسط.

وقد شهدت "قوارب الموت" أطفالا من أعمار صغيرة حتى سن المراهقة يصعدون على متنها ويرتمون في أحضان المجهول ويخاطرون بحياتهم في رحلة غير مأمولة العواقب المهم عندهم "الوصول".

وتظهر بيانات المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية أن ظاهرة هجرة القصر سجلت ارتفاعا متزايدا في السنوات الأخيرة إذ تم تسجيل وصول 2492 قاصرا في 2021 مقارنة بـ595 قاصرا في 2019.

وقد بلغ 6800 قاصر السواحل الايطالية خلال الخمس سنوات الأخيرة وهو رقم يعد مرتفعا جدا والصادم ان نسبة كبيرة من هؤلاء انقطعت أخبارهم عن عائلاتهم الى اليوم.

الظاهرة من منظور علم الاجتماع..

المختص في علم الاجتماع ممدوح عز الدين اعتبر في قراءته الظاهرة لـ"الصباح" أن قضية هروب القصر لم ترتق بعد الى مستوى الظاهرة الاجتماعية بمعناها السوسيولوجي بفعل عاملي الكثافة والتواتر، لكن هذه الحالات بدأت للأسف تتكرر بشكل لافت للنظر يخرجها من دائرة العزلة أيضا وإلى حد الآن لا يمكن الجزم بمعرفة الأسباب الكامنة وراء هذه الحالات نظرا لغياب المعطيات الواضحة حول سبب الهروب والاختفاء حتى بعد العثور عليهن وعودتهن الى بيوتهن ،إذ الأسر تتكتم على أسرار بناتهن الهاربات ولا تجاهر بها بسبب العادات والتقاليد ونظرة المجتمع الى الفتاة والمرأة بأنها جالبة للعار والفضيحة وهو ما يجعل الأمر يستعصى على الفهم.

ظاهرة عامة..

اعتبر عز الدين أن مشكلة هروب الأطفال والمراهقين ذكورا وإناثا تحدث في كل دول العالم وكل يوم تقريباً وهي تحدث في الأسر الفقيرة والميسورة على حد سواء وأكثر شيوعا بين الفتيات منه بين الفتيان نظرا لكون التضييقات والضغوط التي تقع عليهن في عائلاتهن تفوق بكثير ما يقع على الذكور وهو ما يدفعهن الى التمرد من خلال البحث عن أي بصيص حرية بعيدا عن البيت.

غير أن ما يشد الانتباه فيما يخص هروب القاصرات في تونس ارتباطه بتنامي ظاهرة الهجرة السرية خاصة لدى القصر وتنامي الظاهرة الإرهابية وتنامي جرائم التحيل والتغرير بالقصر والاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر.

ما هي الدوافع؟

يرى محدثنا أن هناك عدة عوامل تقف خلف اتخاذ القصر قرار الهروب أو الاختفاء وربما السبب الأبرز التسرب المدرسي والذي يعد من أكثر الأسباب الكامنة وراء هجرة القصر علاوة على عجز منظومة التكوين المهني على استيعاب كل المنقطعين عن الدراسة فتيانا وفتيات وإغراء الهجرة بالنسبة لهذه الشريحة من المهاجرين السريين الذين يحظون بحظوة في بلدان الاستقبال لكونهم أطفالا وإدراكهم لهذا المعطى يشجعهم على مغامرة الهجرة.

مضيفا أن ما يقع في تونس من تغيرات جعل الكثير من القاصرات وحتى النساء الراشدات يقتنعن بأن المخاطر التي يتعرضن لها في المجتمع أو المحيط أو البيت أكبر من خطر المجازفة بالهجرة بحرا ويتحول مشروع الهجرة الى رغبة في الهروب والبحث عن واقع أفضل ولكن هذه الرغبة سرعان ما تجعلهن فريسة سهلة لشبكات الهجرة حيث يتم التغرير بالكثيرات منهن وإيهامهن بالعمل وبظروف حياتية أفضل ويتم استغلالهن ماديا وجنسيا دون القدرة على التخلص من هيمنة هذه الشبكات الإجرامية.

الجماعات الإرهابية على الخط..

إن الفتيات القاصرات اللواتي يهربن بغرض الانضمام للجماعات التكفيرية الإرهابية تتضافر أسباب شخصية وراء هذا القرار، أهمها الرغبة في الشعور بالقوة وإمكانية التأثير وتغيير الواقع المرير الذي يعشن فيه ومن خلال هذه الأعمال يفكرن بكونهن قادرات على تغيير الواقع ،أما بالنسبة للمنظمات الإرهابية نفسها فإن استخدامها للعنصر الأنثوي يعود إلى عدة أسباب أهمها قدرتهن على التهرب بسهولة من إجراءات الكشف والأمن بالإضافة الى العامل الإعلامي الذي سيقوم بتضخيم الخبر في حال اكتشاف أن الفتاة هي المسؤولة عن العملية والمشاركة فيها ممن هربن وإنضممن لتنظيم " داعش" وغيره إذ أن العاطفة و إبتزاز المشاعر كانا حافزين رئيسيين لهن دون التركيز على التأصيل الشرعي.

وحسب الدراسات لا يمكن اعتبار الإرهابيات هن دائما من الفقيرات ماديا أو الأميات بل هن من مستويات تعليمية واقتصادية مختلفة وكانت النسبة الأكبر من العمليات الإرهابية خصوصا بالمتعلمات بل حتى المتفوقات دراسيا.

الاستقطاب..

لقد نجحت "داعش" في استقطاب الأطفال ذكورا وإناثا وكونت منهم كتائب سمتهم " أشبال الخلافة" والذين وصفتهم وسائل الإعلام الدولية بالقنابل الموقوتة مما يعني أن الحل الأمني وحده غير كاف للحل ولا بد من الاشتغال على إصلاحات تربوية دائمة ذات أبعاد نفسية واجتماعية وحضارية.

الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي..

من ناحية أخرى تقع العديد من القاصرات فريسة سهلة لذئاب بشرية عبر الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي. البداية تكون دوما بإرسال الصور ثم الابتزاز ثم التمادي فالتمادي الى أن تجد نفسها خارج البيت هربا من فضيحة قريبة وإن اختلف السيناريو قليلاً فقد تتوهم الحب وتحاول اللحاق بحبيب القلب الذي يكبرها بضعف عمرها ،هذا إن لم تقع بين مخالب مجرم يغتصبها ويرميها في إحدى الطرق أو البيوت المهجورة أو الغابات المعزولة كما أن العديد من الفتيات يتم تهريبهن الى الخارج لاستغلالهن في الدعارة ومنهن من رحن ضحية تنظيمات مشبوهة وشبكات إجرامية محترفة.

كل هذا والأهل غافلون ولا يراقبون تصرفات بناتهن ولا قائمة أصدقائهن ومعارفهن ولا يحددون وقت استعمالهن للهواتف الذكية ولا الخيارات المتاحة لهن لتكون العواقب وخيمة ولا طاقة لوالد أو والدة على احتمالها.

بيع القاصرات..

كذلك لا بد من الإشارة الى وجود أسواق لبيع الفتيات القاصرات كمعينات منزليات يتحولن لمدن بتونس الكبرى للعمل بها ،إذ يوجد سماسرة مختصون في هذه التجارة يقومون بالعمل كوسيط بين ولي الفتاة وبين صاحب المنزل الذي ستعمل به كمعينة منزلية ،ويجبر الأولياء على" بيع" بناتهم بسبب الفقر الذي يعاني منه أهالي المنطقة ،ولقد دفع احتجاز الفتيات القاصرات لدى من يعملن عندهم لمحاولات الهروب نظرا للمعاملات القاسية ،كما أن فتيات قاصرات تهربن بسبب تعرضهن للتحرش والاغتصاب من أفراد عائلاتهن أو من الخارج خوفا من الوصم الاجتماعي.

العديد من الفتيات القاصرات يهربن فجأة دون تخطيط مسبق مما يعني أنهن ربما لم يفكرن في المكان الذي سيذهبن إليه أو أين سينمن أو كيف سيتمكن من إعالة أنفسهن وهذا يعني أن العديد من القاصرات ينتهي بهن المطاف في الشوارع حيث غالباً ما تكون المشاكل التي يواجهنها أسوأ من تلك التي عانين منها في المنزل وفي كثير من الحالات ينتهي بهن الأمر في الشوارع ويتعرضن لخطر الاستغلال الجنسي والإدمان على المخدرات والكحول وسوء المعاملة والعنف.

إن من أهم الأسباب التي يمكن إدراجها لفهم هذه الممارسة المحفوفة بالمخاطر تتمثل في أن القاصرات في سن المراهقة يعشن تغيرات جسدية وذهنية حساسة ويمكن في هذا العمر أكثر طواعية وقابلية للإغراءات التي تقدم لهن بحثا من هن على التثمين وتقدير الآخرين وتقدير الذات والبحث عن الاعتراف ولو تطلب ذلك التمرد والرغبة في المغامرة حتى لو كانت محفوفة بالمخاطر دون التفكير كثيراً في العواقب.

وواضح ممدوح عز الدين أنه لا يمكن اعتبار الفقر والحاجة المادية وحدهما السبب الرئيسي في هروب الفتيات من منازلهن الى وجهات مجهولة فهناك البحث عن الاستقلالية والحرية وتأكيد الذات بعيدا عن سلطة العائلة المحافظة التي تراها عائقا لتحقيق كل ما تريد تحقيقه ،هناك الرغبة في العمل والهجرة وتحدي العادات الاجتماعية القائمة والانسياق وراء العواطف بإتباع ما تعتبره الفتاة حبا قد يهوي بها في غياهب المجهول.

ولتفادي حالات هروب الفتيات القاصرات من المنزل لا بد من الانتباه لعلامات هذه الممارسة الخطيرة ومن أهمها:

_ علامات التحذير من عدم العودة الى المنزل في حالات الغضب.

_ البقاء خارجا بعد الموعد المتفق عليه.

_ عدم الرغبة في العودة الى المنزل من المدرسة أو منازل الأصدقاء.

_ البقاء في منازل الأصدقاء بشكل متكرر أو البقاء مع أفراد الأسرة الآخرين لتجنب العودة الى المنزل.

_ التغيب عن المدرسة أو يكون الأداء الدراسي في تراجع.

_ التصرف بشكل مختلف تماما ،على سبيل المثال بشكل أكثر عدوانية أو الانسحاب.

_ تطور اهتمامات جديدة خارج المدرسة مثل مجموعة أقران جدد أو بدء علاقة جديدة.

_ اكتشاف و ظهور علامات الكذب.

_ ظهور علامات على تعاطي المخدرات أو الكحول.

_ أن تكون شديدة السرية عند استخدام الانترنت.

خلص محدثنا الى أن الأمر يحتاج لتعزيز سبل التواصل السليم داخل الأسرة باعتماد الحوار والتشاور والإقناع لحل مشاكلها وتمكين الأبناء من حقوقهم وخاصة حقهم في إبداء آرائهم والمشاركة في كل ما يخصهم وتحسيسهم بالأمان والكرامة في نفس الوقت لا بد من تضافر جهود مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والفاعلين في مجال الأسرة والطفولة للحد من هذه الممارسة الخطيرة ومواجهتها.

.