إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الجنرال السابق الحبيب عمار لـ"الصباح": من حق العسكريين المتقاعدين أن يعبروا عن رأيهم حول وضع البلاد

 

تونس- الصباح

للوهلة الأولى يبدو لك الجنرال السابق الحبيب عمار، كما يحب أن يلقب، وهو الذي عرف برجل المهمات الصعبة كما لو كان في أفضل أحواله، يقف منتصبا أمامك شامخا رغم تقدمه في السن واستبداله البدلة العسكرية بأخرى مدنية وابتعاده عن الاضواء واعتزاله الحياة العامة بعد تعرضه للملاحقة القضائية بعد الثورة ومواجهته اتهامات بالفساد والتعذيب قبل أن يأتيك صوته هادئا مستسمحا أن يبقي نظاراته الشمسية خلال اللقاء لأنه وبكل بساطة أصبح ضعيف البصر لتدرك أن لذلك العسكري الشديد الصلب وجه آخر ..

في بيته في احد ضواحي العاصمة يقضي الجنرال الحبيب عمار أغلب وقته وهو العسكري المتمرس الذي ارتبط اسمه بانقلاب 7 نوفمبر والذي يفاخر بأنه كان وسيظل جنديا في خدمة الوطن ضمن دفعة بورقيبة التي أسست النواة الأولى للأمن والجيش الوطني فجر الاستقلال ليتحمل مسؤوليات جسيمة تحت راية تونس من الكونغو الى انغولا والاردن والصحراء التونسية التي يعرف كل شبر فيها كما يعرف كل ركن في بيته يقضي وقته بين أحفاده وعائلته ويستقبل بين الحين والآخر زملاء وأصدقاء من جيله من السياسيين والديبلوماسيين والعسكريين يتابعون مثله ما يجري حولهم ويتساءلون عما يمكن أن تحمله الأحداث في طياتها في بلد عاش قبل عشر سنوات فرصة تاريخية لطي صفحة الظلم والفساد والاستبداد والمضي قدما في مسار الانتقال الديموقراطي والرخاء الاجتماعي والاقتصادي الذي سيصطدم على أرض الواقع بما يدعو ربما الى التساؤل جديا عن معركة العدالة الانتقالية المبتورة والمصالحة المؤجلة على وقع استمرار لعبة تصفية الحسابات البغيضة لتتحول العدالة الانتقالية إلى عدالة انتقامية..، "الصباح" التقت الجنرال السابق الحبيب عمار الذي يلتزم الصمت فكان هذا اللقاء حول مسيرة رجل غير عادي كان له دوره في تغيير مجرى الأحداث في تونس ونهاية حقبة بورقيبة ولكن أيضا في تغيير أحداث كثيرة في عمليات للجيش الوطني في إفريقيا والشرق الأوسط ..

*أولا أي الألقاب أحب الى الجنرال الحبيب عمار وكيف يمكن أن ندعوك؟

-شكرا أن طرحت هذا الأمر، كثيرون يسألونني هذا السؤال ولا أخفي أبدا إني أحبذ لقب الجنرال، صحيح إني كنت سفيرا وكنت وزيرا ولكن هذه الألقاب تزول بزوال المهمة على عكس لقب الجنرال الذي يرافق صاحبه حتى آخر نفس في الحياة بل يرافقه إلى القبر ويوضع على تابوته قبعته ونياشينه وأوسمته التي حصل عليها طوال مسيرته وهذا ما يحدث في كل العالم، ولهذا فان لقب الجنرال الأقرب إلي. ولا أبالغ إذا قلت إني عملت واجتهدت وتعبت كثيرا للحصول على هذا اللقب الذي لم يكن منة أو هدية، بل اعتراف من الدولة الوطنية بأبنائها.

 *هناك زملاء لك عسكريون متقاعدون خرجوا عن صمتهم ونشروا بيانا يستنكرون فيه حال البلاد ويدعون إلى ضرورة الوطن ما هو موقفك من ذلك؟

-صراحة هناك جنرالات قاموا بواجبهم طوال عقود وكانوا على درجة من الانضباط والمسؤولية وخدموا الوطن وخرجوا الى التقاعد وعندما يرون ما يحدث في بلد يتلاشى ويضيع فمن حقهم ان يعبروا عن رأيهم وهؤلاء متقاعدون تحركوا بالكتابة وأصدروا موقفا من المهم الاستماع له. شخصيا لا احد اتصل بي فهم يعرفون إني اخترت الانسحاب واعتزال الحياة العامة. هناك أشياء تسوؤني واعتقد انه لا يمكن لمن يتابع أحوال تونس ألا يحزن أو لا يتألم، الجنرال محمد المدب من كتب البيان ولمن لا يعرف الرجل اقول انه شخص مستقيم ومنضبط ونظيف ويزعجني صراحة أن أرى هذه الأسماء اللامعة تهان وتقزم في المنابر الإعلامية، وإذا سمحت لنفسي بالكلام سأقول لشبابنا امنحوا أنفسكم الفرصة للتعرف على رجالات تونس على الذين اسسوا هذا الوطن ويعرفون صحراءه وحدوده شبرا شبرا وان الكثير من الاسماء والقيادات العسكرية تم ابعادها واقصاؤها من الخدمة زمن الرئيس المرزوقي .

لا افهم كيف نتخلى عن الخدمة العسكرية والتي يمكن أن تمثل حلا من الحلول في كل دول العالم. الجيش يعلم الانضباط ويغرس حب الوطن والخدمة العسكرية يمكن أن تكون فرصة للتكوين في مختلف الاختصاصات ولدينا المراكز المؤهلة لذلك  التي تم التفريط فيها، ولكن للأسف شبابنا لا يعرف ذلك ولا أحد يخاطبه في هذا الاتجاه. في المهمات والمناسبات الكبرى فإن رئيس الجمهورية وهو رمز الدولة يكون مصحوبا خلفه بأكبر القيادات العسكرية .

*الحبيب عمار معروف بقلة الكلام وقلة الظهور في وسائل الإعلام ولكنه وضع كتابا بعد الثورة تحت عنوان "مسيرة جندي بين الواجب والأمل 7 نوفمبر أضواء على الأحداث"، فلماذا هذا الكتاب؟

-الكتاب يحمل شهادة موثقة على العصر ومحطات تاريخية مفصلية في مسيرتي وفي مسيرة تونس قبل وبعد الاستقلال وهو وثيقة لأحداث عشتها عن قرب وكان لي فيها دور مباشر ومسؤولية وهو ليس كتاب تاريخ وليس تصفية حسابات هو مسيرة جندي بدأت مع الطفل الحبيب عمار الذي عاش مع عائلته في سوسة أهوال الحرب العالمية الثانية ولجوئهم إلى قرية الكنايس حيث وجدوا الأمان خلال الحرب،  ثم تلميذا  في  معهد سوسة تحت الاستعمار وكنا نقتدي بالتلاميذ الكبار لنواجه على طريقتنا الاستعمار ونخوض أول تجربة في الاعتقال وما رافقها أيضا من هواجس ومن حلم وأمل لخروج الاستعمار وتحقيق الاستقلال والسيادة، وقد ضمنته تجربتي لتكون بين أيدي عائلتي وأبنائي وأحفادي وأيضا لشبابنا، أملنا الكبير وثروتنا لاستخلاص الدروس من نجاحاتنا او إخفاقاتنا ليحملوا المشعل ويواصلوا المسيرة ويتأملوا ويعرفوا حقيقة ما كان والمسيرة الطويلة على مدى ستين عاما في خدمة هذا الوطن .

اقول هذا الكلام وانا اليوم مع الأسف سجين في بلادي، ولا حق لي في السفر للعلاج أو زيارة ابنتي التي تعيش في سنغافورة. وجهت لي اتهامات بالفساد لاحقوني بحثوا عن املاك لي من سوسة الى تونس تم إيقافي عشرة أيام في المرناقية بسبب بندقية صيد ولم يحصلوا على ما يمكن أن يدينني ليس لي ما أخفيه وافخر باني خدمت الدولة ستين عاما لأعيش اليوم سجينا في بلدي. سيظل يوم 8 ماي 2018 عالقا في ذهني عندما دخلت قاعة المحكمة ورأيت المحامين الذين تطوعوا للدفاع عني ولم أكن اعرفهم تأكدت إني كنت أخدم بلدي ولا أريد اليوم إلا أن أعيش في سلام مع عائلتي بعد أن فقدت إبني دريد .

*كيف ينظر الجنرال إلى ما يحدث في تونس اليوم؟

-الحقيقة إن الأحداث أصبحت تحبطني ولم أعد أريد متابعة الأخبار اليومية المرهقة فقد قضيت ستين عاما في خدمة الوطن منذ 1952 ونحن تلاميذ نسير على خطى الكبار ونخوض إضرابا ضد الاستعمار ونواجه الجندرمة الذين يطوقوننا بكلابهم ويقودوننا إلى الثكنة العسكرية، عرفنا أهوال الاستعمار وتجرعنا المهانة وآمنا بمشروع الاستقلال وبالدولة الوطنية وذهبنا إلى سان سير بعد الاستقلال وكانت غايتنا بناء البلاد. كان البلد في حاجة لكل أبنائه وجنوده لتكوين الجيش وهذا ما عملنا على تحقيقه في مرحلة كانت الجزائر لا تزال تخوض معركتها من أجل دحر المستعمر. بدأت المغامرة بعد الاستقلال في 1956 مع التوجه نحو تكوين فريق من ضباط الصف وبعد الحصول على الباكالوريا تم دعوة 3 آلاف مترشح لخوض اختبار تم في الصادقية لاختيار مائة مترشح سيلتحقون بسان سير لتلقي التكوين المطلوب ووضع النواة الأولى للجيش إذ كان لا بد للجيش الفرنسي أن يرحل. من الخيارات التي اعتمدها بورقيبة انه حرص على الاستفادة من الضباط التونسيين الذين عملوا مع فرنسا والذين طلبوا الالتحاق بالجيش التونسي وبينهم اسماء كان لها دورها في تكوين هذا الجيش واذكر بعض هؤلاء ومن بينهم الجنرال الحبيب الطبيب وبشير بوعيش وشريف سلامة وعبد العزيز فرشيو ومحمد صالح مقدم ومنصف الصيد ومحمد الكافي الذي قدم الكثير للمقاومة التونسية ورجالها وهو ضابط في الجيش الفرنسي وكان يمكنهم من السلاح خلسة خدم الثورة من موقعه وهذا يحسب له. طبعا لم يكونوا في دور القيادة والمسؤولية ولكن كانوا في دور التكوين والتدريب على السلاح. قلة ربما يعرفون أن بورقيبة تلقى عروضا من دول عربية بينها مصر وسوريا والعراق لتدريب وتكوين الجيش لكنه رفض .

*كان بن علي معك في سان سير؟

-بل  كنا معا قبل ذلك في نفس المعهد معهد الذكور في سوسة ولم نكن في نفس القسم ثم سافرنا معا الى سان سير كنا معا في نفس الغرفة وعرفنا بعضنا أكثر، كنا نبقى معا في نهاية الأسبوع ندرس ونتعلم في الوقت الذي كان المقتدرون يخرجون للفسحة في باريس. خلال مفاوضات الاستقلال النهائي اقترحت فرنسا على بورقيبة مساعدة عسكرية كما تفعل مع الدول الافريقية ولكنه رفض ذلك لأنه يعرف أن استمرار بقاء الفرنسيين سيكون خطرا على المقاومة الجزائرية، كانت المعركة على حدودنا عام 1962، وكان المجاهدون يلوذون بتونس بعد العمليات ضد الجيش الفرنسي ولا مجال بالتالي لتعطيل الثوار أو منح الجيش الفرنسي فرصة استهدافهم على حدودنا. خضنا معا المعارك الميدانية وتعلمنا مع الثوار الجزائريين الكثير، ومات الكثير من التونسيين، الناس عموما لا يعرفون غير أحداث الساقية ولكن الحقيقة إن التونسيين خاضوا معارك داخل الجزائر وقاموا بعمليات كبيرة إلى جانب الثوار.

*الحبيب عمار كان أحد اثنين قادا الانقلاب على الرجل الذي تعتبره الزعيم مؤسس الدولة الوطنية؟

-بورقيبة زعيم البلاد وسيظل رمز الدولة الوطنية المستقلة ولا يمكن إلا لجاحد أن يقول عكس ذلك، ولكن بلغ مرحلة من الضعف وتراجعت قدرات الرئيس الذي اصبح مهددا من الطامعين في السلطة وبين مخططات انقلابية. وكان لا بد من إنقاذ تونس وإنقاذ بورقيبة من بورقيبة. تحدثت عما حدث بالتفاصيل في كتابي لا اريد العودة الى ذلك بن علي رحل عن عالمنا ظلمني وتعسف معي ولكني أريد طي هذه الصفحة.. أنا عدت إلى تونس في 10 جانفي 1984 دعاني مزالي لتولي مهامي كآمر حرس وطني باقتراح من عامر غديرة وكان مزالي رحمه الله وزير أول ووزير داخلية وبعد عشرة أيام في 20 جانفي قام مزالي بدعوة بن علي وكان سفيرا في بولونيا ليكون مديرا عاما للأمن. تواترت الأزمات على تونس وتدهورت الأوضاع ..

رحل بن علي عن عالمنا. ما يمكن أن أقوله إنه رغم كل شيء عمل الكثير لأجل تونس لولا زوجته وحاشيته الذين تجاوزوا كل الحدود وقد كنت دوما ضد كل ذلك وأجاهر به والآن لا أريد بعد وفاته الانسياق في دور الضحية ولا استعراض ما تعرضت له ولكن الحقيقة أن حلقة الفساد كانت معروفة ومحددة على عكس ما هو قائم اليوم حيث الفساد في كل مكان وكل يوم نغرق أكثر. في بداياته عمل بن علي من أجل البلاد قبل أن يحيد عن الطريق .

*ما هي أعقد المهمات التي توليت القيام بها والتي بقيت عالقة في ذهنك اليوم؟

-بل هناك ثلاث مهمات أولها مهمتي في الكونغو البلجيكية قبل أن تتحول إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية في بدايات مسيرتي العسكرية في الجيش الوطني الناشئ وقد تحولت إلى هذا البلد الإفريقي في مرحلة كان من الصعب على أي كان تحديد موقع الكونغو على الخارطة ناهيك عن بعض مقاطعاتها ومنها كاساي kassai أو كاطاتنغا. بلد بحجم تونس عشر مرات  غارق في الجهل والفقر حيث تعيش أكثر من مائة عرقية مختلفة ومتناحرة. الحكاية بدأت في 11 جويلية 1960 عندما طلب باتريس لومومبا من ممثل الأمم المتحدة داغ هامرشولد المساعدة لإعادة النظام بين القوات الكونغولية المتناحرة بعد ساعات من إعلان استقلال البلاد وهو ما قبله مجلس الأمن الذي طلب من عدد من الدول بينها تونس إرسال قوات إلى الكونغو وكان المنجي سليم ممثل تونس في الأمم المتحدة التزم بمشاركة قوات تونسية وفعلا كانت قواتنا أول القوات التي وصلت إلى هذا البلد في إطار قوات حفظ السلام. واذكر إننا كنا في سباق مع الزمن لإعداد الفيلق المتكون من 2500 جندي وإرسالهم إلى مسرح العمليات وكانوا جميعا من المتطوعين. يوم 15 جويلية 1960 كان الفوج الأول من القوات التونسية وهم الدفعة الأولى التي تكونت بعد الاستقلال بقيادة الكولونيل لسمر بوزيان تقوم بمهمتها. لم تكن مهمة سهلة وكانت المواجهات لا تتوقف بين الجماعات المسلحة التي روعت الأهالي وكانت مهمتنا في كاساي إعادة الأمن للمنطقة وحماية الأهالي والتفاوض مع القبائل وأحيانا كان يجب إظهار القوة لفرض الأمن وخلال ثلاثة أشهر استطعنا فرض الأمن وللإشارة فان العملية تزامنت مع معركة بنزرت في جويلية 1961 وطلبت الحكومة التونسية إعادة قواتنا إلى ارض الوطن. ثم كانت المهمة الثانية في جانفي 1962 لحماية مخيم اللاجئين في كاتنغا وانتهت في مارس 1963 كانت مهمة ناجحة بمشاركة قيادات منضبطة ومتمكنة وبينها بوبكر بن كريم ومصطفى حشيشة وتوفيق بودية وأحمد عباس وصالح بن سعد وغيرهم ممن يستحقون الإشادة والثناء وقد تحدثت الصحف المحلية عن مهمة القوات التونسية بمهنية عالية. عملية الكونغو كلفتنا حياة 20 من قواتنا البواسل. بعد العودة إلى تونس كنت استعد للالتحاق بكلية المدرعات FORT KNOX  بأمريكا عندما دعاني وزير الدفاع آنذاك سي الباهي لدغم رحمه الله إلى مهمة سرية وحساسة لأشرف على نقل سفينة سلاح إلى الكونغو لتعزيز المقاومة الكونغولية ضد البرتغال. في جويلية 1963 غادرت تونس إلى مدينة ليوبولد انطلاقا من ميناء صفاقس على متن سفينة يوغسلافية محملة بالذخيرة..  وبعد ثلاث سنوات ستتكرر المهمة هذه المرة مع وزير الدفاع الراحل احمد المستيري ليكلفني بمهمة شبيهة بالمهمة السابقة سفينة سلاح وذخيرة للمقاتلين في مخيم INKOIZAانتهت بسلام بعد تعقيدات ومخاطر جمة وعلمت لاحقا أن رأسي مطلوب مقابل خمسة ملايين دولار.

*وبعيدا عن إفريقيا؟

-كانت المهمة في الأردن وحتى اليوم فان مشهد الدماء والأشلاء على الطرقات تلاحقني. بعد هزيمة الـ67 لجأت فتح والحركات الفلسطينية للمقاومة إلى اقامة معسكرات تدريب لها بالأردن وكانت اقرب إلى دولة داخل الدولة. وانطلاقا من الاردن كان الفدائيون يقودون هذه العمليات ضد قوات الاحتلال. حاول الملك حسين التوصل الى اتفاق مع الفصائل ولكن لم يكن الأمر ممكنا وبعد خطة روجرز التي رفضتها فتح والجبهة الشعبية اشتعلت المعارك وبعد تفجير ثلاث طائرات فارغة تحول الامر إلى مواجهة خطيرة وعلى مدى عشرة أيام تم تطويق المخيمات الفلسطينية واستعملت كل أنواع الأسلحة بما في ذلك المدفعية. ولاحتواء أيلول الأسود كانت القمة الطارئة بطلب من عبد الناصر لإيقاف المجزرة. تم إحصاء بين 3.500 وعشرة آلاف ضحية من الجانبين ونحو مائة ألف جريح وفي اعقاب القمة الطارئة قررت الجامعة العربية ارسال لجنة ضباط من مختلف الدول العربية تحت إشراف الباهي لدغم ومرة أخرى كنت ضمن هذه المهمة ومعي قيادات من دفعتي، كانت عملية صعبة وفظيعة والمشاهد بشعة بين الفلسطينيين والأردنيين الذين يفترض أنهم يدافعون عن قضية واحدة ولهم جذور ولغة وانتماء ودين مشترك.. كان الدم الفلسطيني يسيل انهارا عشنا جحيما حقيقيا وأحيانا يبدو لي وكأنه كابوس لا يريد أن ينتهي وأذكر أننا أخطانا الطريق في احدى المرات اثناء العودة من عمان الى الزرقاء ووقعنا في يد جماعات من البدو الموالين للملك واعتبروا أننا جواسيس وفرضوا علينا أن نحفر قبورنا بأيدينا وحاولنا التحاور معهم ولكنهم بدوا وكأنهم لا يفهمون العربية وعلمنا لاحقا أنهم من الشيشان وغيرهم الذين قدموا إلى الأردن واستقروا بها.. وأمكن لنا النجاة بأعجوبة وأعلمت لاحقا الباهي لدغم وهو ديبلوماسي محنك وحكيم وعلمت أن الملك حسين اعتذر عما حصل. المهم انتهت المهمة ليس من دون صعوبات وامكن جمع سلاح المقاومة باستثناء الجبهة الشعبية اذ لم يقبل جورج حبش ذلك الا بعد عناء لتنتقل المقاومة بعد ذلك الى بيروت قبل ان تفتح لها تونس أبوابها وتمنحها معسكرا لتدريب القوات الفلسطينية.. وفي تونس كان التبجيل لرجال المقاومة الفلسطينية ولقياداتها من الجانبين الرسمي والشعبي وهو ما أظهرته عملية حمام الشط واختلاط الدم الفلسطيني والتونسي وعرفات كان ممنونا لتونس على مواقفها الثابتة.

*وماذا عن تونس؟

-طبعا ما كان يحدث في العالم لم يكن ليحول انظارنا عن تونس وعن السفينة التي بدأت تنحاز عن الطريق من احداث الخميس الاسود إلى أحداث الخبز وأحداث قفصة والاحتجاجات الساخنة..وفي اعتقادي أن إيقاف المناضل احمد المستيري كانت من اقسي المهمات التي كان يتعين علي القيام بها كآمر للحرس الوطني وكنت أتمنى ألا أتولى تلك المهمة فقد كان لي دوما علاقات احترام متبادل مع وزير الدفاع. ورغم كل الجهود للتخفيف من معاناة سي احمد المستيري كان من الصعب جدا القبول بفكرة إيقاف وزير سابق ومناضل وزعيم سياسي خدم الدولة التونسية لأنه تجرأ على مواجهة الزعيم بورقيبة بأفكاره الديموقراطية في هذا المناخ السياسي المتشنج والتناقضات الحاصلة كانت عودة بن علي ليتولى وزارة الداخلية قبل قطع الأمتار المتبقية إلى قرطاج. ما حدث موثق كما عشته في كتابي"مسيرة جندي بين الواجب والأمل 7 نوفمبر1987 أضواء على الأحداث"، يوم 8 جويلية 1986 رشيد صفر يخلف الوزير الأول محمد المزالي وكان الصراع على أشده بين الجماعة الاسلامية التي ستتحول لاحقا إلى حركة النهضة وبورقيبة الذي كان يريد رأس زعيمها بمعنى انه كان يتجه إلى اقتراف خطا آخر.. كان التناحر على الحكم على اشده بين المحيطين ببورقيبة وبين الإسلاميين وكل طرف كان يعتقد ان الساعة حانت ثم كانت الهجمات الارهابية يوم 2 اوت 1987 في خضم الموسم السياحي.. كان الخوف والتوجس من الفوضى في كل مكان وكانت هناك ملامح حرب أهلية وكانت ليلة 25 أكتوبر 1978 فاصلة حيث علمنا من سعيدة ساسي ان بورقيبة يعتزم اقالة وزير الداخلية بن علي وكان الأمر يستوجب التحرك وقد قررنا إنقاذ البلاد مهما كان الثمن وإنقاذ بورقيبة الذي كان يمكن ان يعرف نهاية تراجيدية فيما كان أعداؤه يستعدون للانقلاب والسيطرة على الحكم وقد علمنا أن الإسلاميين كانوا يخططون للأمر يوم 8 أكتوبر يوم عيد الشجرة معلومة استخباراتية وفي كل الحالات كانت تطبيق الفصل الـ57 من الدستور هو الحكم في نهاية المطاف بن علي أطلق سراح الغنوشي وأنقذه من حكم الإعدام الذي كان بورقيبة يريد تطبيقه ...

تعلمت في مسيرتي من سان سير بفرنسا SAINT CYR 1958إلى الكلية العسكرية للمدرعات FORT KNOX بكنتاكي في أمريكا في 1966وفورت ليفنوورث FORT  LEAVENWORTH  إلى  المعهد الحربي الايطالي CIVITAVECCIA معنى الانضباط والوطنية والتضحية وانه لا مجال في العمل العسكري للارتجال. مؤسستنا العسكرية الوطنية الناشة في 1956 هي واحدة من المؤسسات القليلة في العالم التي تكونت بفضل أبنائها وبمواردها الذاتية. اغلب الدول المستقلة حديثا اعتمدت على المستعمر السابق لتكوين جيشها وهذا ما لم تقبل به تونس حماية للثورة الجزائرية.

حوار: اسيا العتروس

 

 

الحبيب عمّار  من مواليد سوسة، 25 ماي 1936 وهو سياسي وعسكري ووزير تونسي سابق احد ابرز اثنين في انقلاب 7 نوفمبر 1987الى جانب زين العابدين بن علي. كان الحبيب عمّار ضمن إحدى أوائل بعثات الجيش التونسي إلى مدرسة سان سير الحربية بفرنسا، والتي ضمت أيضا زين العابدين بن علي وعبد الحميد الشيخ. سافر بين 1969 و1970 إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إلى إيطاليا (1974 – 1977) لإتمام تكوينه العسكري.

وفي عام 1983 عيّن  كملحق عسكري في السفارة التونسية بالمغرب قبل أن يصبح آمرا للحرس الوطني في 10 جانفي 1984 بعد أحداث الخبز خلفا لعامر غديرة.

عين وزيرا للداخلية في الحكومة الجديدة بعد انقلاب 1987، ثم رفع في جويلية 1988 إلى رتبة وزير دولة مكلف بالداخلية.

أعفي  الحبيب عمار من مهامه في نوفمبر 1988 وعوضه الشاذلي النفاتي ليعين سفيرا في فيينا. عاد إلى المناصب الوزارية كوزير الاتصال بين 25 جانفي 1995 و20 جانفي 1997. وفي  عام 1999  عيّن على رأس لجنة تنظيم الألعاب المتوسطية 2001 بعد وفاة رئيسها عبد الحميد الشيخ، كما كلف عام 2003 بإدارة لجنة الإعداد القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي أقيمت عام 2005 في تونس .

بعد الثورة التونسية اتهم عمّار بن علي بالانقلاب على بيان 7 نوفمبر وبمحاولة اغتياله لمّا كان سفيرا في فيينا.

الجنرال السابق الحبيب عمار لـ"الصباح":  من حق العسكريين المتقاعدين أن يعبروا عن رأيهم حول وضع البلاد

 

تونس- الصباح

للوهلة الأولى يبدو لك الجنرال السابق الحبيب عمار، كما يحب أن يلقب، وهو الذي عرف برجل المهمات الصعبة كما لو كان في أفضل أحواله، يقف منتصبا أمامك شامخا رغم تقدمه في السن واستبداله البدلة العسكرية بأخرى مدنية وابتعاده عن الاضواء واعتزاله الحياة العامة بعد تعرضه للملاحقة القضائية بعد الثورة ومواجهته اتهامات بالفساد والتعذيب قبل أن يأتيك صوته هادئا مستسمحا أن يبقي نظاراته الشمسية خلال اللقاء لأنه وبكل بساطة أصبح ضعيف البصر لتدرك أن لذلك العسكري الشديد الصلب وجه آخر ..

في بيته في احد ضواحي العاصمة يقضي الجنرال الحبيب عمار أغلب وقته وهو العسكري المتمرس الذي ارتبط اسمه بانقلاب 7 نوفمبر والذي يفاخر بأنه كان وسيظل جنديا في خدمة الوطن ضمن دفعة بورقيبة التي أسست النواة الأولى للأمن والجيش الوطني فجر الاستقلال ليتحمل مسؤوليات جسيمة تحت راية تونس من الكونغو الى انغولا والاردن والصحراء التونسية التي يعرف كل شبر فيها كما يعرف كل ركن في بيته يقضي وقته بين أحفاده وعائلته ويستقبل بين الحين والآخر زملاء وأصدقاء من جيله من السياسيين والديبلوماسيين والعسكريين يتابعون مثله ما يجري حولهم ويتساءلون عما يمكن أن تحمله الأحداث في طياتها في بلد عاش قبل عشر سنوات فرصة تاريخية لطي صفحة الظلم والفساد والاستبداد والمضي قدما في مسار الانتقال الديموقراطي والرخاء الاجتماعي والاقتصادي الذي سيصطدم على أرض الواقع بما يدعو ربما الى التساؤل جديا عن معركة العدالة الانتقالية المبتورة والمصالحة المؤجلة على وقع استمرار لعبة تصفية الحسابات البغيضة لتتحول العدالة الانتقالية إلى عدالة انتقامية..، "الصباح" التقت الجنرال السابق الحبيب عمار الذي يلتزم الصمت فكان هذا اللقاء حول مسيرة رجل غير عادي كان له دوره في تغيير مجرى الأحداث في تونس ونهاية حقبة بورقيبة ولكن أيضا في تغيير أحداث كثيرة في عمليات للجيش الوطني في إفريقيا والشرق الأوسط ..

*أولا أي الألقاب أحب الى الجنرال الحبيب عمار وكيف يمكن أن ندعوك؟

-شكرا أن طرحت هذا الأمر، كثيرون يسألونني هذا السؤال ولا أخفي أبدا إني أحبذ لقب الجنرال، صحيح إني كنت سفيرا وكنت وزيرا ولكن هذه الألقاب تزول بزوال المهمة على عكس لقب الجنرال الذي يرافق صاحبه حتى آخر نفس في الحياة بل يرافقه إلى القبر ويوضع على تابوته قبعته ونياشينه وأوسمته التي حصل عليها طوال مسيرته وهذا ما يحدث في كل العالم، ولهذا فان لقب الجنرال الأقرب إلي. ولا أبالغ إذا قلت إني عملت واجتهدت وتعبت كثيرا للحصول على هذا اللقب الذي لم يكن منة أو هدية، بل اعتراف من الدولة الوطنية بأبنائها.

 *هناك زملاء لك عسكريون متقاعدون خرجوا عن صمتهم ونشروا بيانا يستنكرون فيه حال البلاد ويدعون إلى ضرورة الوطن ما هو موقفك من ذلك؟

-صراحة هناك جنرالات قاموا بواجبهم طوال عقود وكانوا على درجة من الانضباط والمسؤولية وخدموا الوطن وخرجوا الى التقاعد وعندما يرون ما يحدث في بلد يتلاشى ويضيع فمن حقهم ان يعبروا عن رأيهم وهؤلاء متقاعدون تحركوا بالكتابة وأصدروا موقفا من المهم الاستماع له. شخصيا لا احد اتصل بي فهم يعرفون إني اخترت الانسحاب واعتزال الحياة العامة. هناك أشياء تسوؤني واعتقد انه لا يمكن لمن يتابع أحوال تونس ألا يحزن أو لا يتألم، الجنرال محمد المدب من كتب البيان ولمن لا يعرف الرجل اقول انه شخص مستقيم ومنضبط ونظيف ويزعجني صراحة أن أرى هذه الأسماء اللامعة تهان وتقزم في المنابر الإعلامية، وإذا سمحت لنفسي بالكلام سأقول لشبابنا امنحوا أنفسكم الفرصة للتعرف على رجالات تونس على الذين اسسوا هذا الوطن ويعرفون صحراءه وحدوده شبرا شبرا وان الكثير من الاسماء والقيادات العسكرية تم ابعادها واقصاؤها من الخدمة زمن الرئيس المرزوقي .

لا افهم كيف نتخلى عن الخدمة العسكرية والتي يمكن أن تمثل حلا من الحلول في كل دول العالم. الجيش يعلم الانضباط ويغرس حب الوطن والخدمة العسكرية يمكن أن تكون فرصة للتكوين في مختلف الاختصاصات ولدينا المراكز المؤهلة لذلك  التي تم التفريط فيها، ولكن للأسف شبابنا لا يعرف ذلك ولا أحد يخاطبه في هذا الاتجاه. في المهمات والمناسبات الكبرى فإن رئيس الجمهورية وهو رمز الدولة يكون مصحوبا خلفه بأكبر القيادات العسكرية .

*الحبيب عمار معروف بقلة الكلام وقلة الظهور في وسائل الإعلام ولكنه وضع كتابا بعد الثورة تحت عنوان "مسيرة جندي بين الواجب والأمل 7 نوفمبر أضواء على الأحداث"، فلماذا هذا الكتاب؟

-الكتاب يحمل شهادة موثقة على العصر ومحطات تاريخية مفصلية في مسيرتي وفي مسيرة تونس قبل وبعد الاستقلال وهو وثيقة لأحداث عشتها عن قرب وكان لي فيها دور مباشر ومسؤولية وهو ليس كتاب تاريخ وليس تصفية حسابات هو مسيرة جندي بدأت مع الطفل الحبيب عمار الذي عاش مع عائلته في سوسة أهوال الحرب العالمية الثانية ولجوئهم إلى قرية الكنايس حيث وجدوا الأمان خلال الحرب،  ثم تلميذا  في  معهد سوسة تحت الاستعمار وكنا نقتدي بالتلاميذ الكبار لنواجه على طريقتنا الاستعمار ونخوض أول تجربة في الاعتقال وما رافقها أيضا من هواجس ومن حلم وأمل لخروج الاستعمار وتحقيق الاستقلال والسيادة، وقد ضمنته تجربتي لتكون بين أيدي عائلتي وأبنائي وأحفادي وأيضا لشبابنا، أملنا الكبير وثروتنا لاستخلاص الدروس من نجاحاتنا او إخفاقاتنا ليحملوا المشعل ويواصلوا المسيرة ويتأملوا ويعرفوا حقيقة ما كان والمسيرة الطويلة على مدى ستين عاما في خدمة هذا الوطن .

اقول هذا الكلام وانا اليوم مع الأسف سجين في بلادي، ولا حق لي في السفر للعلاج أو زيارة ابنتي التي تعيش في سنغافورة. وجهت لي اتهامات بالفساد لاحقوني بحثوا عن املاك لي من سوسة الى تونس تم إيقافي عشرة أيام في المرناقية بسبب بندقية صيد ولم يحصلوا على ما يمكن أن يدينني ليس لي ما أخفيه وافخر باني خدمت الدولة ستين عاما لأعيش اليوم سجينا في بلدي. سيظل يوم 8 ماي 2018 عالقا في ذهني عندما دخلت قاعة المحكمة ورأيت المحامين الذين تطوعوا للدفاع عني ولم أكن اعرفهم تأكدت إني كنت أخدم بلدي ولا أريد اليوم إلا أن أعيش في سلام مع عائلتي بعد أن فقدت إبني دريد .

*كيف ينظر الجنرال إلى ما يحدث في تونس اليوم؟

-الحقيقة إن الأحداث أصبحت تحبطني ولم أعد أريد متابعة الأخبار اليومية المرهقة فقد قضيت ستين عاما في خدمة الوطن منذ 1952 ونحن تلاميذ نسير على خطى الكبار ونخوض إضرابا ضد الاستعمار ونواجه الجندرمة الذين يطوقوننا بكلابهم ويقودوننا إلى الثكنة العسكرية، عرفنا أهوال الاستعمار وتجرعنا المهانة وآمنا بمشروع الاستقلال وبالدولة الوطنية وذهبنا إلى سان سير بعد الاستقلال وكانت غايتنا بناء البلاد. كان البلد في حاجة لكل أبنائه وجنوده لتكوين الجيش وهذا ما عملنا على تحقيقه في مرحلة كانت الجزائر لا تزال تخوض معركتها من أجل دحر المستعمر. بدأت المغامرة بعد الاستقلال في 1956 مع التوجه نحو تكوين فريق من ضباط الصف وبعد الحصول على الباكالوريا تم دعوة 3 آلاف مترشح لخوض اختبار تم في الصادقية لاختيار مائة مترشح سيلتحقون بسان سير لتلقي التكوين المطلوب ووضع النواة الأولى للجيش إذ كان لا بد للجيش الفرنسي أن يرحل. من الخيارات التي اعتمدها بورقيبة انه حرص على الاستفادة من الضباط التونسيين الذين عملوا مع فرنسا والذين طلبوا الالتحاق بالجيش التونسي وبينهم اسماء كان لها دورها في تكوين هذا الجيش واذكر بعض هؤلاء ومن بينهم الجنرال الحبيب الطبيب وبشير بوعيش وشريف سلامة وعبد العزيز فرشيو ومحمد صالح مقدم ومنصف الصيد ومحمد الكافي الذي قدم الكثير للمقاومة التونسية ورجالها وهو ضابط في الجيش الفرنسي وكان يمكنهم من السلاح خلسة خدم الثورة من موقعه وهذا يحسب له. طبعا لم يكونوا في دور القيادة والمسؤولية ولكن كانوا في دور التكوين والتدريب على السلاح. قلة ربما يعرفون أن بورقيبة تلقى عروضا من دول عربية بينها مصر وسوريا والعراق لتدريب وتكوين الجيش لكنه رفض .

*كان بن علي معك في سان سير؟

-بل  كنا معا قبل ذلك في نفس المعهد معهد الذكور في سوسة ولم نكن في نفس القسم ثم سافرنا معا الى سان سير كنا معا في نفس الغرفة وعرفنا بعضنا أكثر، كنا نبقى معا في نهاية الأسبوع ندرس ونتعلم في الوقت الذي كان المقتدرون يخرجون للفسحة في باريس. خلال مفاوضات الاستقلال النهائي اقترحت فرنسا على بورقيبة مساعدة عسكرية كما تفعل مع الدول الافريقية ولكنه رفض ذلك لأنه يعرف أن استمرار بقاء الفرنسيين سيكون خطرا على المقاومة الجزائرية، كانت المعركة على حدودنا عام 1962، وكان المجاهدون يلوذون بتونس بعد العمليات ضد الجيش الفرنسي ولا مجال بالتالي لتعطيل الثوار أو منح الجيش الفرنسي فرصة استهدافهم على حدودنا. خضنا معا المعارك الميدانية وتعلمنا مع الثوار الجزائريين الكثير، ومات الكثير من التونسيين، الناس عموما لا يعرفون غير أحداث الساقية ولكن الحقيقة إن التونسيين خاضوا معارك داخل الجزائر وقاموا بعمليات كبيرة إلى جانب الثوار.

*الحبيب عمار كان أحد اثنين قادا الانقلاب على الرجل الذي تعتبره الزعيم مؤسس الدولة الوطنية؟

-بورقيبة زعيم البلاد وسيظل رمز الدولة الوطنية المستقلة ولا يمكن إلا لجاحد أن يقول عكس ذلك، ولكن بلغ مرحلة من الضعف وتراجعت قدرات الرئيس الذي اصبح مهددا من الطامعين في السلطة وبين مخططات انقلابية. وكان لا بد من إنقاذ تونس وإنقاذ بورقيبة من بورقيبة. تحدثت عما حدث بالتفاصيل في كتابي لا اريد العودة الى ذلك بن علي رحل عن عالمنا ظلمني وتعسف معي ولكني أريد طي هذه الصفحة.. أنا عدت إلى تونس في 10 جانفي 1984 دعاني مزالي لتولي مهامي كآمر حرس وطني باقتراح من عامر غديرة وكان مزالي رحمه الله وزير أول ووزير داخلية وبعد عشرة أيام في 20 جانفي قام مزالي بدعوة بن علي وكان سفيرا في بولونيا ليكون مديرا عاما للأمن. تواترت الأزمات على تونس وتدهورت الأوضاع ..

رحل بن علي عن عالمنا. ما يمكن أن أقوله إنه رغم كل شيء عمل الكثير لأجل تونس لولا زوجته وحاشيته الذين تجاوزوا كل الحدود وقد كنت دوما ضد كل ذلك وأجاهر به والآن لا أريد بعد وفاته الانسياق في دور الضحية ولا استعراض ما تعرضت له ولكن الحقيقة أن حلقة الفساد كانت معروفة ومحددة على عكس ما هو قائم اليوم حيث الفساد في كل مكان وكل يوم نغرق أكثر. في بداياته عمل بن علي من أجل البلاد قبل أن يحيد عن الطريق .

*ما هي أعقد المهمات التي توليت القيام بها والتي بقيت عالقة في ذهنك اليوم؟

-بل هناك ثلاث مهمات أولها مهمتي في الكونغو البلجيكية قبل أن تتحول إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية في بدايات مسيرتي العسكرية في الجيش الوطني الناشئ وقد تحولت إلى هذا البلد الإفريقي في مرحلة كان من الصعب على أي كان تحديد موقع الكونغو على الخارطة ناهيك عن بعض مقاطعاتها ومنها كاساي kassai أو كاطاتنغا. بلد بحجم تونس عشر مرات  غارق في الجهل والفقر حيث تعيش أكثر من مائة عرقية مختلفة ومتناحرة. الحكاية بدأت في 11 جويلية 1960 عندما طلب باتريس لومومبا من ممثل الأمم المتحدة داغ هامرشولد المساعدة لإعادة النظام بين القوات الكونغولية المتناحرة بعد ساعات من إعلان استقلال البلاد وهو ما قبله مجلس الأمن الذي طلب من عدد من الدول بينها تونس إرسال قوات إلى الكونغو وكان المنجي سليم ممثل تونس في الأمم المتحدة التزم بمشاركة قوات تونسية وفعلا كانت قواتنا أول القوات التي وصلت إلى هذا البلد في إطار قوات حفظ السلام. واذكر إننا كنا في سباق مع الزمن لإعداد الفيلق المتكون من 2500 جندي وإرسالهم إلى مسرح العمليات وكانوا جميعا من المتطوعين. يوم 15 جويلية 1960 كان الفوج الأول من القوات التونسية وهم الدفعة الأولى التي تكونت بعد الاستقلال بقيادة الكولونيل لسمر بوزيان تقوم بمهمتها. لم تكن مهمة سهلة وكانت المواجهات لا تتوقف بين الجماعات المسلحة التي روعت الأهالي وكانت مهمتنا في كاساي إعادة الأمن للمنطقة وحماية الأهالي والتفاوض مع القبائل وأحيانا كان يجب إظهار القوة لفرض الأمن وخلال ثلاثة أشهر استطعنا فرض الأمن وللإشارة فان العملية تزامنت مع معركة بنزرت في جويلية 1961 وطلبت الحكومة التونسية إعادة قواتنا إلى ارض الوطن. ثم كانت المهمة الثانية في جانفي 1962 لحماية مخيم اللاجئين في كاتنغا وانتهت في مارس 1963 كانت مهمة ناجحة بمشاركة قيادات منضبطة ومتمكنة وبينها بوبكر بن كريم ومصطفى حشيشة وتوفيق بودية وأحمد عباس وصالح بن سعد وغيرهم ممن يستحقون الإشادة والثناء وقد تحدثت الصحف المحلية عن مهمة القوات التونسية بمهنية عالية. عملية الكونغو كلفتنا حياة 20 من قواتنا البواسل. بعد العودة إلى تونس كنت استعد للالتحاق بكلية المدرعات FORT KNOX  بأمريكا عندما دعاني وزير الدفاع آنذاك سي الباهي لدغم رحمه الله إلى مهمة سرية وحساسة لأشرف على نقل سفينة سلاح إلى الكونغو لتعزيز المقاومة الكونغولية ضد البرتغال. في جويلية 1963 غادرت تونس إلى مدينة ليوبولد انطلاقا من ميناء صفاقس على متن سفينة يوغسلافية محملة بالذخيرة..  وبعد ثلاث سنوات ستتكرر المهمة هذه المرة مع وزير الدفاع الراحل احمد المستيري ليكلفني بمهمة شبيهة بالمهمة السابقة سفينة سلاح وذخيرة للمقاتلين في مخيم INKOIZAانتهت بسلام بعد تعقيدات ومخاطر جمة وعلمت لاحقا أن رأسي مطلوب مقابل خمسة ملايين دولار.

*وبعيدا عن إفريقيا؟

-كانت المهمة في الأردن وحتى اليوم فان مشهد الدماء والأشلاء على الطرقات تلاحقني. بعد هزيمة الـ67 لجأت فتح والحركات الفلسطينية للمقاومة إلى اقامة معسكرات تدريب لها بالأردن وكانت اقرب إلى دولة داخل الدولة. وانطلاقا من الاردن كان الفدائيون يقودون هذه العمليات ضد قوات الاحتلال. حاول الملك حسين التوصل الى اتفاق مع الفصائل ولكن لم يكن الأمر ممكنا وبعد خطة روجرز التي رفضتها فتح والجبهة الشعبية اشتعلت المعارك وبعد تفجير ثلاث طائرات فارغة تحول الامر إلى مواجهة خطيرة وعلى مدى عشرة أيام تم تطويق المخيمات الفلسطينية واستعملت كل أنواع الأسلحة بما في ذلك المدفعية. ولاحتواء أيلول الأسود كانت القمة الطارئة بطلب من عبد الناصر لإيقاف المجزرة. تم إحصاء بين 3.500 وعشرة آلاف ضحية من الجانبين ونحو مائة ألف جريح وفي اعقاب القمة الطارئة قررت الجامعة العربية ارسال لجنة ضباط من مختلف الدول العربية تحت إشراف الباهي لدغم ومرة أخرى كنت ضمن هذه المهمة ومعي قيادات من دفعتي، كانت عملية صعبة وفظيعة والمشاهد بشعة بين الفلسطينيين والأردنيين الذين يفترض أنهم يدافعون عن قضية واحدة ولهم جذور ولغة وانتماء ودين مشترك.. كان الدم الفلسطيني يسيل انهارا عشنا جحيما حقيقيا وأحيانا يبدو لي وكأنه كابوس لا يريد أن ينتهي وأذكر أننا أخطانا الطريق في احدى المرات اثناء العودة من عمان الى الزرقاء ووقعنا في يد جماعات من البدو الموالين للملك واعتبروا أننا جواسيس وفرضوا علينا أن نحفر قبورنا بأيدينا وحاولنا التحاور معهم ولكنهم بدوا وكأنهم لا يفهمون العربية وعلمنا لاحقا أنهم من الشيشان وغيرهم الذين قدموا إلى الأردن واستقروا بها.. وأمكن لنا النجاة بأعجوبة وأعلمت لاحقا الباهي لدغم وهو ديبلوماسي محنك وحكيم وعلمت أن الملك حسين اعتذر عما حصل. المهم انتهت المهمة ليس من دون صعوبات وامكن جمع سلاح المقاومة باستثناء الجبهة الشعبية اذ لم يقبل جورج حبش ذلك الا بعد عناء لتنتقل المقاومة بعد ذلك الى بيروت قبل ان تفتح لها تونس أبوابها وتمنحها معسكرا لتدريب القوات الفلسطينية.. وفي تونس كان التبجيل لرجال المقاومة الفلسطينية ولقياداتها من الجانبين الرسمي والشعبي وهو ما أظهرته عملية حمام الشط واختلاط الدم الفلسطيني والتونسي وعرفات كان ممنونا لتونس على مواقفها الثابتة.

*وماذا عن تونس؟

-طبعا ما كان يحدث في العالم لم يكن ليحول انظارنا عن تونس وعن السفينة التي بدأت تنحاز عن الطريق من احداث الخميس الاسود إلى أحداث الخبز وأحداث قفصة والاحتجاجات الساخنة..وفي اعتقادي أن إيقاف المناضل احمد المستيري كانت من اقسي المهمات التي كان يتعين علي القيام بها كآمر للحرس الوطني وكنت أتمنى ألا أتولى تلك المهمة فقد كان لي دوما علاقات احترام متبادل مع وزير الدفاع. ورغم كل الجهود للتخفيف من معاناة سي احمد المستيري كان من الصعب جدا القبول بفكرة إيقاف وزير سابق ومناضل وزعيم سياسي خدم الدولة التونسية لأنه تجرأ على مواجهة الزعيم بورقيبة بأفكاره الديموقراطية في هذا المناخ السياسي المتشنج والتناقضات الحاصلة كانت عودة بن علي ليتولى وزارة الداخلية قبل قطع الأمتار المتبقية إلى قرطاج. ما حدث موثق كما عشته في كتابي"مسيرة جندي بين الواجب والأمل 7 نوفمبر1987 أضواء على الأحداث"، يوم 8 جويلية 1986 رشيد صفر يخلف الوزير الأول محمد المزالي وكان الصراع على أشده بين الجماعة الاسلامية التي ستتحول لاحقا إلى حركة النهضة وبورقيبة الذي كان يريد رأس زعيمها بمعنى انه كان يتجه إلى اقتراف خطا آخر.. كان التناحر على الحكم على اشده بين المحيطين ببورقيبة وبين الإسلاميين وكل طرف كان يعتقد ان الساعة حانت ثم كانت الهجمات الارهابية يوم 2 اوت 1987 في خضم الموسم السياحي.. كان الخوف والتوجس من الفوضى في كل مكان وكانت هناك ملامح حرب أهلية وكانت ليلة 25 أكتوبر 1978 فاصلة حيث علمنا من سعيدة ساسي ان بورقيبة يعتزم اقالة وزير الداخلية بن علي وكان الأمر يستوجب التحرك وقد قررنا إنقاذ البلاد مهما كان الثمن وإنقاذ بورقيبة الذي كان يمكن ان يعرف نهاية تراجيدية فيما كان أعداؤه يستعدون للانقلاب والسيطرة على الحكم وقد علمنا أن الإسلاميين كانوا يخططون للأمر يوم 8 أكتوبر يوم عيد الشجرة معلومة استخباراتية وفي كل الحالات كانت تطبيق الفصل الـ57 من الدستور هو الحكم في نهاية المطاف بن علي أطلق سراح الغنوشي وأنقذه من حكم الإعدام الذي كان بورقيبة يريد تطبيقه ...

تعلمت في مسيرتي من سان سير بفرنسا SAINT CYR 1958إلى الكلية العسكرية للمدرعات FORT KNOX بكنتاكي في أمريكا في 1966وفورت ليفنوورث FORT  LEAVENWORTH  إلى  المعهد الحربي الايطالي CIVITAVECCIA معنى الانضباط والوطنية والتضحية وانه لا مجال في العمل العسكري للارتجال. مؤسستنا العسكرية الوطنية الناشة في 1956 هي واحدة من المؤسسات القليلة في العالم التي تكونت بفضل أبنائها وبمواردها الذاتية. اغلب الدول المستقلة حديثا اعتمدت على المستعمر السابق لتكوين جيشها وهذا ما لم تقبل به تونس حماية للثورة الجزائرية.

حوار: اسيا العتروس

 

 

الحبيب عمّار  من مواليد سوسة، 25 ماي 1936 وهو سياسي وعسكري ووزير تونسي سابق احد ابرز اثنين في انقلاب 7 نوفمبر 1987الى جانب زين العابدين بن علي. كان الحبيب عمّار ضمن إحدى أوائل بعثات الجيش التونسي إلى مدرسة سان سير الحربية بفرنسا، والتي ضمت أيضا زين العابدين بن علي وعبد الحميد الشيخ. سافر بين 1969 و1970 إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم إلى إيطاليا (1974 – 1977) لإتمام تكوينه العسكري.

وفي عام 1983 عيّن  كملحق عسكري في السفارة التونسية بالمغرب قبل أن يصبح آمرا للحرس الوطني في 10 جانفي 1984 بعد أحداث الخبز خلفا لعامر غديرة.

عين وزيرا للداخلية في الحكومة الجديدة بعد انقلاب 1987، ثم رفع في جويلية 1988 إلى رتبة وزير دولة مكلف بالداخلية.

أعفي  الحبيب عمار من مهامه في نوفمبر 1988 وعوضه الشاذلي النفاتي ليعين سفيرا في فيينا. عاد إلى المناصب الوزارية كوزير الاتصال بين 25 جانفي 1995 و20 جانفي 1997. وفي  عام 1999  عيّن على رأس لجنة تنظيم الألعاب المتوسطية 2001 بعد وفاة رئيسها عبد الحميد الشيخ، كما كلف عام 2003 بإدارة لجنة الإعداد القمة العالمية حول مجتمع المعلومات التي أقيمت عام 2005 في تونس .

بعد الثورة التونسية اتهم عمّار بن علي بالانقلاب على بيان 7 نوفمبر وبمحاولة اغتياله لمّا كان سفيرا في فيينا.

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews