في محاولة لتقييم حركة النهضة في الحكم بعين مزدوجة للمشارك في مرحلة ما في صنع القرار الداخلي للحركة وللمنتفض المعارض إن صح التعبير لبعض التوجهات ما دفعه للانسحاب، كان لـ"الصباح" حوار مطول مع القيادي السابق المستقيل من الحركة عبد الحميد الجلاصي الذي قدم فيه قراءته لفعل السلطة في الحركة وفعلها في السلطة وفي ما يلي نص الحوار:
* هل حكمت النهضة طيلة العشر سنوات بعد الثورة أم لم تحكم، في ظل الجدل الحاصل والمتكرر الذي يحملها مسؤولية الأوضاع في البلاد في حين تصر قياداتها أنها منعت من الحكم على غرار التصريح الأخير لرئيس مجلس الشورى؟
-تحتفل حركة النهضة هذه الأيام بالذكرى الأربعين للإعلان عنها حزبا سياسيا وهي في الحقيقة تحتفل بذكرى أكثر من خمسين سنة بالتأثير في مجريات الأمور في البلاد مرت فيها بتجارب متعددة وكان مجرد المحافظة على الوجود يعتبر في بعض المحطات انجازا.
في بلادنا اليوم النهضة هي اعرق تنظيم سياسي فاعل كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو اعرق منظمة وطنية، ولذلك فكلاهما ملك للبلاد ويطلب منه أكثر مما يطلب من غيره.
بهذه المناسبة أهنئ كل الإخوة المناضلين في حركة النهضة وآمل أن تكون مناسبة لتذكر الشهداء والضحايا ولاستخلاص الدروس.
لقد كانت النهضة في صدارة المشهد منذ الثورة وهي التي ساهمت في تزكية كل الحكومات بدون استثناء منذ انتخابات أكتوبر 2011، وكانت هي الطرف الأول أو الثاني في البرلمان وهي الطرف الأبرز في الحكم المحلي وحتى بعد انتخابات 2014كانت هي الحزب الأكثر انضباطا وتنظما. الحكم هو علاقة تعاقد بين الأحزاب والناخبين وبين الأحزاب والحكومات التي تصادق عليها في البرلمان وبهذا المعنى، وبالاعتبارات القانونية والسياسية والأخلاقية فقد كان للنهضة نصيبها من الحكم حسب حجم التزكية التي أعطتها في البرلمان لا حسب ثقل التمثيل في الحكومات.
*هل كانت النهضة تحكم واقعيا وهل كانت تملك أدوات الحكم وهل تفاعلت معها أدوات الحكم؟
-هنا تكون المسالة نسبية، ومعلومة هي صعوبات المراحل الانتقالية وأهمها العلاقة بين القوى السياسية الجديدة والقوى الصلبة في الدولة التي تحتفظ بثقافتها وعلاقاتها القديمة، وهي صعوبات لا مخرج منها الا بمنهج الغربلة وبالتعاون مع الدوائر التي تحررها الثورات في أوساط الإدارة والمال والإعلام وغيرها .
هل بذلت النهضة وبقية القوى الجديدة ما يكفي من الجهد في هذا الاتجاه أم أن سياساتها كانت متذبذبة ومرتبكة.
الحديث هنا يطول، ولكني أميل للاحتمال الثاني.
* وهل تريح هذه الوضعية الحركة بمعنى الحكم من وراء الستار وعدم التواجد في الواجهة وهذا جزء من الانتقادات التي توجه للحركة ويتهمها خصومها بأنها تكتيكات لضمان البقاء في دائرة السلطة مقابل التملص من المسؤولية السياسية للحكم؟
-أحد أهم أسباب أزمتنا السياسية هي أزمة الثقة بين الناخبين والساسة وهي في العمق أزمة أخلاقية.
وأسوأ البدع هي حكومات التكنوقراط التي تتصرف في أرصدة لم تبذل من اجلها حبة عرق.الحكم مسؤولية وواجب والمعارضة مسؤولية أيضا، أما الجلوس في نفس الوقت على كرسي الحكم وعلى كرسي المعارضة فلا يفيد الممارسة السياسية في شيء ولا يحقق لا نجاعة الحكم ولا نجاعة المعارضة.
الأمر واضح في حكومة مشيشي ولكن الأمر لم يكن اقل وضوحا في حكومة الفخفاخ حيث كانت بعض مكوناتها تتآمر على شريكها الأكبر.
إن المسالة متعلقة بالثقافة السياسية ثقافة التكتيكات وحرب التموقعات والتلاعب بالعهود.
- صرحت سابقا أن "الدولة أو السيستام نجح في ترويض النهضة وهي بذلك يمكن أن تستمر ولكن لا يمكن أن تتقدم من حيث الوفاء لجمهور الناخبين".. ماذا كان القصد من ترويض "السيستام" للنهضة وكيف أو أين يعتبر الجلاصي أن النهضة خذلت ناخبيها والبلاد من وراء ذلك؟
-لقد حرصت في كتابي:"من الجماعة إلى الحزب السياسي"، الصادر أخيرا على تحليل المشهد الحزبي الوطني واختبار مدى استجابته لمتطلبات الأوضاع ما بعد الثورة.
إن أوضاع "نصف الثورات "مثل التي حصلت في بلادنا هي أوضاع إبرام توافقات بين القوى الجديدة التي لا تملك خبرة الحكم و معرفة دواليبه والقوى المتفتحة من الوضع السابق. أثناء ذلك يتخلى الجديد عن بعض مثاليته ويتأقلم القديم مع أوضاع الديمقراطية والتداول. للأسف ذابت مكونات أساسية لكسلها ومحافظتها واقصد خاصة قوى اليسار.
لقد قاومت النهضة، وحاولت إبرام موازنة بين التطبيع مع السيستام والتغيير وهو المطلب الأساسي للثورة، وفِي الأخير لقد تغلب التطبيع على التغيير. ولا أتصور أحدا يسعده قدرة "السيستام" على إزاحة وترويض ما يفترض أن تكون قوى تغيير واحدا اثر آخر.
* قلت سابقا أنك تتحمل مسؤولية أخطائك إبان تواجدك في موقع القيادة وبعد الثورة كنت في المواقع الأمامية (نائب رئيس الحركة)، في لحظات المصارحة مع الذات ماهي الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحركة وتعتبر أن المشهد السياسي في البلاد يحصد نتائجها؟
-اعتبر أن النهضة وشركائها وعموم النخبة التونسية قد أوفت بالأساسي المطلوب من عهدة 2011-2014، رغم كل الهزات والصعوبات والخسائر.
وبالمقابل اعتبر أن عهدة 2014-2019 كانت عهدة مهدورة. لقد حمت الدولة وحافظت على الاستقرار ولكنه استقرار عقيم لم يقدر التحالف الحاكم على تحويله رافعة من اجل دفع الاقتصاد وفتح الآفاق وإعطاء الأمل، في حين كان ذلك هو عنوان الانتخابات اي استثمار الانتقال في فلسفة الحكم الذي تحقق في العهدة السابقة إلى ثروة مادية.
لقد كان الالتقاء بين النهضة والنداء قرار الجسم الناخب، فلا النداء كان بإمكانه إبرام تحالفات مستقرة وناجعة في غياب النهضة ولا النهضة كان بإمكانها اختيار معارضة حكومة ستكون هشة بدونها.
هذا الالتقاء توفر على أغلبية مريحة ولكنه لم يركز على البرامج بل تحول الأمر إلى لعبة على الحكم. لقد كانت إزاحة السيد الحبيب الصيد هي الخطيئة الأصلية.
الباجي قائد السبسي يتقن لعبة التكتيكات ودمر حزبه وساهم في تغذية الصراع حول المواقع في الدولة والخط السائد في النهضة جاراه في ذلك بل وانخرط في مثل هذه اللعبة وخاصة في مرحلة الشاهد الثانية.
انتخابات 2019 كانت نتيجة هذه الانحرافات التي نعاني آثارها إلى اليوم. الخسارة الانتخابية يمكن أن تعالج ولكن الخسائر الأخلاقية وفي الثقافة ليس من السهل معالجتها.
*مخرجات المؤتمر العاشر للحركة على أهميتها ظلت حبرا على ورق رغم أهمية تلك المراجعات للحركة داخليا وللبلاد بشكل عام.. لماذا ومن عرقل تنفيذ مخرجات المؤتمر العاشر؟
-جدير أن أنبه هنا أني اصدر عن حكم شخصي، وهو نسبي أيضا، واحترم وجهات النظر المتباينة جزئيا أو كليا.
ولن يستفيد النقاش السياسي في البلاد ولا البحث الأكاديمي أن نتعامل مع النهضة باعتبارها حالة معزولة أو "صبغة خاصة" كما كان يطلق على الإسلاميين في سجون بن علي.
المدخل الأنسب هو اعتبار ما حصل و يحصل في النهضة نموذجا لمخاضات التنظيمات الشمولية والأيديولوجية عند انتقالها من أوضاع السرية إلى العلنية وخاصة عند انتقالها من المقاومة الى الحكم .
في هذه التحولات يمتحن المثال على محك البشرية وتبرز المقاومات الثقافية وكذلك رهانات التموقع والتنافس حول التموقعات وهي كلها تحديات لا توجد في أوضاع المتابعة والتضييق.
وبالتالي فالأمر يتعلق بمسارات معقدة ومركبة تندرج صلبها مسؤولية الأفراد. وقد حرصت على تحليل ذلك في كتابي الأخير حيث بينت ان المشترك الثقافي في حياة مختلف التنظيمات يخترق التباين المعلن في المرجعيات.
* مواضيع خفت الحديث عنها لكنها تواجه الحركة في كل منعطف وفي كل محطة وهي مسألة تونسة الحركة والفصل بين السياسي والدعوى.. هل كان من الصعب الحسم في هذه القضايا نهائيا داخل الحركة وما هو موقفك الشخصي من هذه المسائل؟
-غالب التنظيمات المقاومة للاستبداد كانت لها "مشكلة ما" مع هذا الحيّز المسمى تونس، أو الدولة الوطنية المسماة قطرية. وهذه إحدى المحاور التي دعونا الى اجراء حوارات عميقة حولها بعيدا عن المناكفات وتسجيل النقاط. هذه المشكلة تبرز في مستويات عدة منها علاقة تونس بمشاريع، أو بأحلام إن شئنا الدقة،ما فوق قطرية،قومية كانت أو أممية أو إسلامية ومنها العلاقة بالثقافة التونسية والتاريخ التونسي والمزاج التونسي.
لقد حصلت مراجعات فكرية داخل النهضة، ولكن أهم المراجعات هي التي فرضتها تجربة الحكم.
*قلت عنه سابقا أنه يسجن الحركة ويعيق تطورها وأن خطابه حداثي لكن في عمقه يكرس الجماعة.. إلى أي مدى يتحمل راشد الغنوشي الخيارات الخاطئة صلب الحركة وعلى مستوى فشل مآلات مسار ما بعد الثورة؟
-موقع وادوار الأستاذ راشد الغنوشي تحتاج إلى نقاش عميق وهادئ بعيدا عن اندفاع المحبين وتحامل الشانئين، ولا يجب أن يتعلق بالحقوق الدستورية التي لا يجب أن يجادل فيها احد.
تقييم أدائه في النهضة اليوم هو شان مناضليها وهياكلها ومؤسساتها.
النقاش الذي أراه مهما هو النقاش السياسي.
لقد كان الاستاذ في واجهة كل المعارك السياسية والفكرية طيلة خمسين عاما، وهذا يحسب له. ولكن لهذا تبعاته وتكلفته إذ يصبح محل توقير كبير من أنصاره ومحل استهداف مشط من خصومه وأتباعه.
ماذا يترتب عن ذلك؟ أؤكد مجددا أن هذه مسالة سياسية تقديرية تعني الأستاذ وحزبه ولا يجب أن تمس من الحقوق التي يكفلها الدستور لكل المواطنين.
*هل تعتقد من موقع معرفتك الجيدة به أن للغنوشي طموح سياسي، ربما في المحطات الانتخابية القادمة ويسعى اليوم للمراكمة إليه عبر تحركاته الأخيرة من بوابة الدبلوماسية الاقتصادية؟
-الانتخابات لا تزال بعيدة، هذا على الأقل ما أتمناه.
* مازلت مصرا أن المؤتمر القادم للحركة لن يتم بالشكل المطلوب وأن الانتقال القيادي إذا ما حصل سيكون على شاكلة ميدفيديف- بوتين، وكيف تقرأ تواصل الاستقالات الوازنة صلب الحركة وآخرها استقالة العذاري؟
-لا أحبذ أن أكون في موقع الذي ينادي:ألم اقل لكم؟ ومؤتمر النهضة شانها الخاص ولكن ربما تحاسب عليه سياسيا، ولا شك أنها قرأت حسابا لذلك.
ويؤسفني حالة عدم الاستقرار في كل الكتل والأحزاب، رغم تقديري أن استقالة الوزير العذاري ليست لها الدلالات التي تروج في الإعلام.
*كيف تقييم إدارة النهضة إلى حد الآن للأزمة السياسية الخانقة التي تمر بها البلاد ولحربها الباردة مع رئيس الجمهورية.. وهل مازالت الحركة بعد 10 سنوات من التواجد في دائرة السلطة تسيرها عقلية الخوف؟
-السياسة في تونس محكومة بغياب الثقة وتوسع رقعة التنافي.
لقد أضعنا فرصة معالجة تاريخنا عبر مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية الشاملة. جسم النهضة لم يتحرر بعد من تاريخ محنه ويغذي ذلك خطاب إقصائي يتعامل مع النهضة ومع القاعدة المحافظة كما يتعامل مع مواطنين من درجة ثانية.
ولكن هذه المخاوف تغذى ايضا بخطاب نهضوي يتحدث عن الاستئصال، في حين أن زمن الاستئصال قد انتهى وليس كل إقصاء او محاولته مؤديا إلى الاستئصال.
نصيحتي مزدوجة: يجب أن تتحرر بعض النخب السياسية والإعلامية والثقافية والأكاديمية من وضع الاستعلاء والتكفير المدني والحداثي ويجب أن تتحرر النهضة كيانا وعقلا سياسيا من سجن الماضي، دون ذلك سنواصل الدوران في حلقة مفرغة.
حوار منى اليحياوي
تونس-الصباح
في محاولة لتقييم حركة النهضة في الحكم بعين مزدوجة للمشارك في مرحلة ما في صنع القرار الداخلي للحركة وللمنتفض المعارض إن صح التعبير لبعض التوجهات ما دفعه للانسحاب، كان لـ"الصباح" حوار مطول مع القيادي السابق المستقيل من الحركة عبد الحميد الجلاصي الذي قدم فيه قراءته لفعل السلطة في الحركة وفعلها في السلطة وفي ما يلي نص الحوار:
* هل حكمت النهضة طيلة العشر سنوات بعد الثورة أم لم تحكم، في ظل الجدل الحاصل والمتكرر الذي يحملها مسؤولية الأوضاع في البلاد في حين تصر قياداتها أنها منعت من الحكم على غرار التصريح الأخير لرئيس مجلس الشورى؟
-تحتفل حركة النهضة هذه الأيام بالذكرى الأربعين للإعلان عنها حزبا سياسيا وهي في الحقيقة تحتفل بذكرى أكثر من خمسين سنة بالتأثير في مجريات الأمور في البلاد مرت فيها بتجارب متعددة وكان مجرد المحافظة على الوجود يعتبر في بعض المحطات انجازا.
في بلادنا اليوم النهضة هي اعرق تنظيم سياسي فاعل كما أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو اعرق منظمة وطنية، ولذلك فكلاهما ملك للبلاد ويطلب منه أكثر مما يطلب من غيره.
بهذه المناسبة أهنئ كل الإخوة المناضلين في حركة النهضة وآمل أن تكون مناسبة لتذكر الشهداء والضحايا ولاستخلاص الدروس.
لقد كانت النهضة في صدارة المشهد منذ الثورة وهي التي ساهمت في تزكية كل الحكومات بدون استثناء منذ انتخابات أكتوبر 2011، وكانت هي الطرف الأول أو الثاني في البرلمان وهي الطرف الأبرز في الحكم المحلي وحتى بعد انتخابات 2014كانت هي الحزب الأكثر انضباطا وتنظما. الحكم هو علاقة تعاقد بين الأحزاب والناخبين وبين الأحزاب والحكومات التي تصادق عليها في البرلمان وبهذا المعنى، وبالاعتبارات القانونية والسياسية والأخلاقية فقد كان للنهضة نصيبها من الحكم حسب حجم التزكية التي أعطتها في البرلمان لا حسب ثقل التمثيل في الحكومات.
*هل كانت النهضة تحكم واقعيا وهل كانت تملك أدوات الحكم وهل تفاعلت معها أدوات الحكم؟
-هنا تكون المسالة نسبية، ومعلومة هي صعوبات المراحل الانتقالية وأهمها العلاقة بين القوى السياسية الجديدة والقوى الصلبة في الدولة التي تحتفظ بثقافتها وعلاقاتها القديمة، وهي صعوبات لا مخرج منها الا بمنهج الغربلة وبالتعاون مع الدوائر التي تحررها الثورات في أوساط الإدارة والمال والإعلام وغيرها .
هل بذلت النهضة وبقية القوى الجديدة ما يكفي من الجهد في هذا الاتجاه أم أن سياساتها كانت متذبذبة ومرتبكة.
الحديث هنا يطول، ولكني أميل للاحتمال الثاني.
* وهل تريح هذه الوضعية الحركة بمعنى الحكم من وراء الستار وعدم التواجد في الواجهة وهذا جزء من الانتقادات التي توجه للحركة ويتهمها خصومها بأنها تكتيكات لضمان البقاء في دائرة السلطة مقابل التملص من المسؤولية السياسية للحكم؟
-أحد أهم أسباب أزمتنا السياسية هي أزمة الثقة بين الناخبين والساسة وهي في العمق أزمة أخلاقية.
وأسوأ البدع هي حكومات التكنوقراط التي تتصرف في أرصدة لم تبذل من اجلها حبة عرق.الحكم مسؤولية وواجب والمعارضة مسؤولية أيضا، أما الجلوس في نفس الوقت على كرسي الحكم وعلى كرسي المعارضة فلا يفيد الممارسة السياسية في شيء ولا يحقق لا نجاعة الحكم ولا نجاعة المعارضة.
الأمر واضح في حكومة مشيشي ولكن الأمر لم يكن اقل وضوحا في حكومة الفخفاخ حيث كانت بعض مكوناتها تتآمر على شريكها الأكبر.
إن المسالة متعلقة بالثقافة السياسية ثقافة التكتيكات وحرب التموقعات والتلاعب بالعهود.
- صرحت سابقا أن "الدولة أو السيستام نجح في ترويض النهضة وهي بذلك يمكن أن تستمر ولكن لا يمكن أن تتقدم من حيث الوفاء لجمهور الناخبين".. ماذا كان القصد من ترويض "السيستام" للنهضة وكيف أو أين يعتبر الجلاصي أن النهضة خذلت ناخبيها والبلاد من وراء ذلك؟
-لقد حرصت في كتابي:"من الجماعة إلى الحزب السياسي"، الصادر أخيرا على تحليل المشهد الحزبي الوطني واختبار مدى استجابته لمتطلبات الأوضاع ما بعد الثورة.
إن أوضاع "نصف الثورات "مثل التي حصلت في بلادنا هي أوضاع إبرام توافقات بين القوى الجديدة التي لا تملك خبرة الحكم و معرفة دواليبه والقوى المتفتحة من الوضع السابق. أثناء ذلك يتخلى الجديد عن بعض مثاليته ويتأقلم القديم مع أوضاع الديمقراطية والتداول. للأسف ذابت مكونات أساسية لكسلها ومحافظتها واقصد خاصة قوى اليسار.
لقد قاومت النهضة، وحاولت إبرام موازنة بين التطبيع مع السيستام والتغيير وهو المطلب الأساسي للثورة، وفِي الأخير لقد تغلب التطبيع على التغيير. ولا أتصور أحدا يسعده قدرة "السيستام" على إزاحة وترويض ما يفترض أن تكون قوى تغيير واحدا اثر آخر.
* قلت سابقا أنك تتحمل مسؤولية أخطائك إبان تواجدك في موقع القيادة وبعد الثورة كنت في المواقع الأمامية (نائب رئيس الحركة)، في لحظات المصارحة مع الذات ماهي الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحركة وتعتبر أن المشهد السياسي في البلاد يحصد نتائجها؟
-اعتبر أن النهضة وشركائها وعموم النخبة التونسية قد أوفت بالأساسي المطلوب من عهدة 2011-2014، رغم كل الهزات والصعوبات والخسائر.
وبالمقابل اعتبر أن عهدة 2014-2019 كانت عهدة مهدورة. لقد حمت الدولة وحافظت على الاستقرار ولكنه استقرار عقيم لم يقدر التحالف الحاكم على تحويله رافعة من اجل دفع الاقتصاد وفتح الآفاق وإعطاء الأمل، في حين كان ذلك هو عنوان الانتخابات اي استثمار الانتقال في فلسفة الحكم الذي تحقق في العهدة السابقة إلى ثروة مادية.
لقد كان الالتقاء بين النهضة والنداء قرار الجسم الناخب، فلا النداء كان بإمكانه إبرام تحالفات مستقرة وناجعة في غياب النهضة ولا النهضة كان بإمكانها اختيار معارضة حكومة ستكون هشة بدونها.
هذا الالتقاء توفر على أغلبية مريحة ولكنه لم يركز على البرامج بل تحول الأمر إلى لعبة على الحكم. لقد كانت إزاحة السيد الحبيب الصيد هي الخطيئة الأصلية.
الباجي قائد السبسي يتقن لعبة التكتيكات ودمر حزبه وساهم في تغذية الصراع حول المواقع في الدولة والخط السائد في النهضة جاراه في ذلك بل وانخرط في مثل هذه اللعبة وخاصة في مرحلة الشاهد الثانية.
انتخابات 2019 كانت نتيجة هذه الانحرافات التي نعاني آثارها إلى اليوم. الخسارة الانتخابية يمكن أن تعالج ولكن الخسائر الأخلاقية وفي الثقافة ليس من السهل معالجتها.
*مخرجات المؤتمر العاشر للحركة على أهميتها ظلت حبرا على ورق رغم أهمية تلك المراجعات للحركة داخليا وللبلاد بشكل عام.. لماذا ومن عرقل تنفيذ مخرجات المؤتمر العاشر؟
-جدير أن أنبه هنا أني اصدر عن حكم شخصي، وهو نسبي أيضا، واحترم وجهات النظر المتباينة جزئيا أو كليا.
ولن يستفيد النقاش السياسي في البلاد ولا البحث الأكاديمي أن نتعامل مع النهضة باعتبارها حالة معزولة أو "صبغة خاصة" كما كان يطلق على الإسلاميين في سجون بن علي.
المدخل الأنسب هو اعتبار ما حصل و يحصل في النهضة نموذجا لمخاضات التنظيمات الشمولية والأيديولوجية عند انتقالها من أوضاع السرية إلى العلنية وخاصة عند انتقالها من المقاومة الى الحكم .
في هذه التحولات يمتحن المثال على محك البشرية وتبرز المقاومات الثقافية وكذلك رهانات التموقع والتنافس حول التموقعات وهي كلها تحديات لا توجد في أوضاع المتابعة والتضييق.
وبالتالي فالأمر يتعلق بمسارات معقدة ومركبة تندرج صلبها مسؤولية الأفراد. وقد حرصت على تحليل ذلك في كتابي الأخير حيث بينت ان المشترك الثقافي في حياة مختلف التنظيمات يخترق التباين المعلن في المرجعيات.
* مواضيع خفت الحديث عنها لكنها تواجه الحركة في كل منعطف وفي كل محطة وهي مسألة تونسة الحركة والفصل بين السياسي والدعوى.. هل كان من الصعب الحسم في هذه القضايا نهائيا داخل الحركة وما هو موقفك الشخصي من هذه المسائل؟
-غالب التنظيمات المقاومة للاستبداد كانت لها "مشكلة ما" مع هذا الحيّز المسمى تونس، أو الدولة الوطنية المسماة قطرية. وهذه إحدى المحاور التي دعونا الى اجراء حوارات عميقة حولها بعيدا عن المناكفات وتسجيل النقاط. هذه المشكلة تبرز في مستويات عدة منها علاقة تونس بمشاريع، أو بأحلام إن شئنا الدقة،ما فوق قطرية،قومية كانت أو أممية أو إسلامية ومنها العلاقة بالثقافة التونسية والتاريخ التونسي والمزاج التونسي.
لقد حصلت مراجعات فكرية داخل النهضة، ولكن أهم المراجعات هي التي فرضتها تجربة الحكم.
*قلت عنه سابقا أنه يسجن الحركة ويعيق تطورها وأن خطابه حداثي لكن في عمقه يكرس الجماعة.. إلى أي مدى يتحمل راشد الغنوشي الخيارات الخاطئة صلب الحركة وعلى مستوى فشل مآلات مسار ما بعد الثورة؟
-موقع وادوار الأستاذ راشد الغنوشي تحتاج إلى نقاش عميق وهادئ بعيدا عن اندفاع المحبين وتحامل الشانئين، ولا يجب أن يتعلق بالحقوق الدستورية التي لا يجب أن يجادل فيها احد.
تقييم أدائه في النهضة اليوم هو شان مناضليها وهياكلها ومؤسساتها.
النقاش الذي أراه مهما هو النقاش السياسي.
لقد كان الاستاذ في واجهة كل المعارك السياسية والفكرية طيلة خمسين عاما، وهذا يحسب له. ولكن لهذا تبعاته وتكلفته إذ يصبح محل توقير كبير من أنصاره ومحل استهداف مشط من خصومه وأتباعه.
ماذا يترتب عن ذلك؟ أؤكد مجددا أن هذه مسالة سياسية تقديرية تعني الأستاذ وحزبه ولا يجب أن تمس من الحقوق التي يكفلها الدستور لكل المواطنين.
*هل تعتقد من موقع معرفتك الجيدة به أن للغنوشي طموح سياسي، ربما في المحطات الانتخابية القادمة ويسعى اليوم للمراكمة إليه عبر تحركاته الأخيرة من بوابة الدبلوماسية الاقتصادية؟
-الانتخابات لا تزال بعيدة، هذا على الأقل ما أتمناه.
* مازلت مصرا أن المؤتمر القادم للحركة لن يتم بالشكل المطلوب وأن الانتقال القيادي إذا ما حصل سيكون على شاكلة ميدفيديف- بوتين، وكيف تقرأ تواصل الاستقالات الوازنة صلب الحركة وآخرها استقالة العذاري؟
-لا أحبذ أن أكون في موقع الذي ينادي:ألم اقل لكم؟ ومؤتمر النهضة شانها الخاص ولكن ربما تحاسب عليه سياسيا، ولا شك أنها قرأت حسابا لذلك.
ويؤسفني حالة عدم الاستقرار في كل الكتل والأحزاب، رغم تقديري أن استقالة الوزير العذاري ليست لها الدلالات التي تروج في الإعلام.
*كيف تقييم إدارة النهضة إلى حد الآن للأزمة السياسية الخانقة التي تمر بها البلاد ولحربها الباردة مع رئيس الجمهورية.. وهل مازالت الحركة بعد 10 سنوات من التواجد في دائرة السلطة تسيرها عقلية الخوف؟
-السياسة في تونس محكومة بغياب الثقة وتوسع رقعة التنافي.
لقد أضعنا فرصة معالجة تاريخنا عبر مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية الشاملة. جسم النهضة لم يتحرر بعد من تاريخ محنه ويغذي ذلك خطاب إقصائي يتعامل مع النهضة ومع القاعدة المحافظة كما يتعامل مع مواطنين من درجة ثانية.
ولكن هذه المخاوف تغذى ايضا بخطاب نهضوي يتحدث عن الاستئصال، في حين أن زمن الاستئصال قد انتهى وليس كل إقصاء او محاولته مؤديا إلى الاستئصال.
نصيحتي مزدوجة: يجب أن تتحرر بعض النخب السياسية والإعلامية والثقافية والأكاديمية من وضع الاستعلاء والتكفير المدني والحداثي ويجب أن تتحرر النهضة كيانا وعقلا سياسيا من سجن الماضي، دون ذلك سنواصل الدوران في حلقة مفرغة.