إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مهدي مبروك لـ "الصباح": المجتمع التونسي يمرّ بشرخ مجتمعي خطير..ووصف المعارضين بالخونة شعبوية

 

تونس – الصباح

هناك فاسدون في جميع تجارب الانتقال الديمقراطي لكن هذا لا يبرر نسف كل التجربة التونسية، اليوم يجب ان نتوقف عند الشرخ المجتمعي وحالة الاستقطاب بين مخيمين او كتلتين داخل المجتمع التونسي وهو ما يمثل حالة فريدة وغريبة لم نشهدها حتى زمن كاريزما بورقيبة، جاء هذا في حوار مطول  للباحث والجامعي ووزير الثقافة الاسبق مهدي مبروك لـ "الصباح" والذي كشف فيه عن موقفه من الاحداث التي تعيشها تونس منذ 25 جويليةالمنقضي.

مبروك اعتبر ان ما حصل منذ ذلك التاريخ انقلاب مغطى بالدستور، محذرا من الاستثمار في مقولة الشعب التي اصبحت عبارة عن اصل تجاري لدى رئاسة الجمهورية.

كما تحدث الوزير الأسبق والباحث المختص في علم الاجتماع عن وجود مخاوف حقيقية اليوم من الانحراف بالتجربة التونسية لفائدة تدخلات وأجنداتأجنبية، كما انتقد خيار رئيس حركة النهضة ترؤس البرلمان التونسي معتبرا ذلك خطأ جسيما.

* في البداية، دكتور مهدي مبروك، كيف تقرأ ما حصل يوم 25 جويلية 2021؟

-بقطع النظر عن التفاصيل السياسية والقانونية التي استجدت بعد 25 جويلية، هناك ثلاثة مظاهر لا يمكن للباحث ان يغفل عنها وهي، أولا هذا النقاش الحاد بين النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول شرعية ومشروعية ما حدث، لأّول مرة يبدو ان المجتمع التونسي يمرّ عموديا بهذا الشرخ المجتمعي الحاد الذي يطرح شرعية ومشروعية ما حدث، وهذا ملفت للانتباه مقارنة بحدث 17 ديسمبر-  14 جانفي 2011  حيث لم يكن هناك نقاش حاد بل كان هناك ارتياح كبير للإجراءات رغم صعوبتها باستثناء الاختلاف حول ما نذهب إليه آنذاك، وهو هل نذهب إلى المجلس الأعلى لحماية الثورة او نذهب إلى المجلس التأسيسي يعني الخلاف كان حول المسارات التي سنمضي فيها.

* يرى العديد ان ما قام به رئيس الجمهورية منطلقهكان الإرادة الشعبية في تغيير الوضع الصعب الذي تعيشه البلاد على مستويات عدة، ما هو تعليقك؟

-كلمة شعب أصبحت كلمة مفخخة وفيها كثير من الهيمنة، هذا الجدل رغم أهميته الا انه يهدد  باستمرار حالة الشرخ المجتمعي بين مخيمين وبين كتلتين نخشى ان تتطور الامور الى ما لا يحمد عقباه في ظل غياب الوساطات الاجتماعية والهيئات التي تخلقها الديمقراطيات والسياسات الحديثة من اجل احتواء الحوار.

لا يوجد "اغورا" بهذا المعنى الشاسع والهلامي للكلمة لان الديمقراطيات الحديثة نظمت "الاغورا" التقليدية في الساحات العامة وجعلتها في مؤسسات تمثيلية وفي منظمات وطنية قد يلعب هذا الدور الاتحاد العام التونسي للشغل او الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، كل هذه الأجسام تنطق باسم منظويها وتنطق باسم النخب الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والسياسية لذلك هذه الاصوات من المفترض ان تحتوي هذا الحوار المجتمعي والبرلمانات ومجلس المستشارين.

* خيار الاستثمار في الشارع او الدعم الشعبي، الى أي مدى يمكن ان يكون منطلقا لبناء سياسي جديد بعيدا عن الاحزاب؟

-مقولة الشعب أصبحت أصلا تجاريا تستعمله رئاسة الجمهورية، لكن الاصل فيه انه في الديمقراطيات هناك برلمانات وهيئات تنظم الحياة السياسية وتعبر عن الاصوات المختلفة.

* هل شهدت تونس حالة شبيهة بالتي يعيشها الشارع اليوم من انقسام خاصة في العشر سنوات الفارطة؟

-هذه حالة فريدة وغريبة لم تشهدها بلادنا منذ دولة الاستقلال على عظمة زعامات ورجالاتها حتى زمن زعامة وكاريزما بورقيبة لم نجده احتكر كافة الصلاحيات وسلطة القانون.

لاحظنا كذلك سلسلة من تماهي الرئاسة مع الشعب وحالات الاستثناء المتكررة والاستفراد بتأويل الدستور وكأننا نمر بلحظة شعارها "انا الشعب انا الدولة انا السلطة أنا الحقيقة أنا الخير"، وهذا فيه تقسيم المجتمع بين نحن وهم وملائكة وشياطين وفاسدين واطهار .

في العشر سنوات الفارطة كانت هناك محاولات لتقسيم المجتمع بين لونين لكن كانت هناك الوان اخرى على عكس حالة الاستقطاب الحاد اليوم التي لم تترك امام التونسيين الا خيارين اثنين.

*بعد 25 جويليةتوافدت عديد الوفود الرسمية من دول مختلفة على تونس، هل نعيش حالة استقطاب اقليمي؟

-نعم نعيش حالة الاستقطاب الاقليمي رغم المخاوف السابقة من سياسة المحاور لكن لم نشهد منذ عشر سنوات هذا التدخل المكشوف للأجنبي وتحولت النازلة التونسية والرجل المريض في المتوسط وهي تونس الى موضوع بيانات وزيارات وفود وحتى اجتماع قادة احزاب دول جنوب المتوسط كان لهم راي واضح ومزعج ولا يليق ببلادنا.

كذلك لاحظنا جميعا الزيارات المبكرة الاولى لوزراء الخارجية السعودي والمصري والاماراتي والبحريني تؤكد وجود اجندة لم تكن تستلطف تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس رغم عثراتها وأخشى ان يتم الانحراف بالتجربة لفائدة تدخلات واجندات اجنبية.

* هل يوجد حل مشترك للخروج بالبلاد من حالة الاستثناء؟

-نأملإذا ما أردناأن ندفع بالقرار الوطني المستقل في قضايا داخلية تونسية ليس لنا حل سحري سوى تنشيط قنوات الحوار ولنا تجربة سابقة مع الرباعي الراعي للحوار الوطني.

* لكن رئيس الدولة رفض مبادرة الحوار الوطني التي كان دعا اليها سابقا الاتحاد العام التونسي للشغل؟

-للأسف هو من يقفل باب الحوار واتمنى ان لا يذهب اليه مكرها تحت ضغط قوى اجنبية وابتزاز تونس خاصة من قبل الجهات المانحة على غرار صندوق النقذ الدولي والبنك الدولي.

ليتنا نذهب بكل ايمان حقيقي لحوار وطني لأنه لا مخرج لنا غير ذلك والا كيف يمكن ان تعزز مكامن الاقتدار والمواجهة والممانعة في مقاومة كافة أشكال التدخل الأجنبي، يجب أن يكون الحل تونسيا، بفتح قنوات الحوار واستماع السيد الرئيس الى ما لا يعجبه.

* حسب رايك إن ذهب رئيس الدولة في حوار وطني، سيستدعي كل القوى السياسية في البلاد؟

-قبل كل شيء أخشىأن نذهب إلى حوار لا يريد الرئيس فيه ان يستمع الا الى صدى صوته وهذا يصبح "مونولوج" لان حوار الشجعان يقتضي ان تستمع الى ما يختلف معك جذريا، ولا أرى حوارا وطنيا دون حزب العمال أو النهضة أو غيرهمالأنهم شركاء في الوطن بقطع النظر عن مواقفهم او اطروحاتهم.

لكن من المرجح أن يذهب الرئيس الى حوار على المقاس.

* لماذا أشار بيان الاليزيه الأخيرإلى كلمة حوار وطني في علاقة بالمكالمة بين الرئيسين التونسي والفرنسي، في حين بيان الرئاسة لم يتطرق الى ذلك؟

-لم يتم الإعلان رسميا عن مبادرة للحوار الوطني لكن بيان الاليزيه واعرف تماما خلفياته التي تتمثل في العديد من المؤاخذات على اساس ان الصوت الفرنسي ظل خافتا في مواجهة ما حدث بقطع النظر ان كان انقلاباأو خرقا جسيما للدستور.

* إجراءات 25 جويلية كيف تصنفها انقلاب ام تأويل للفصل 80 من الدستور؟

-أنا أول من استعمل مفرد الانقلاب بعد لحظات من إعلانإجراءات 25 جويليةاتصلت بي وسائل إعلام أجنبية واعتبرته انقلابا يتغطى بالدستور، طبعا انا لا اريد ان يقع اختزال ما حدث في توصيف قانوني ولكن عمليا هو انقلاب على سردية الثورة وفي المعجم السياسي والثقافة السياسية التي بدانا نتدرب عليها.

* يرى البعض ان ما يحصل في تونس يندرج ضمن "الشعبوية"، ما رأيك؟

-في اعتقادي انه لم يقع في السابق استعمال معجم العمالة والخيانة لكن ما يحدث الآن خطير لأننا دخلنا في استعمال معجم تستعمله الانظمة الشمولية حتى بن علي لم يصف خصومه علنا بالخونة.

هذه الشعبوية السافرة التي لا تؤمن بالأحزاب والديمقراطية التمثيلية التي تؤله الشعب وتستعمله كجزء من هذه الثقافة الشمولية لنسف الديمقراطية التمثيلية.

هناك كتب ودراسات اثبتت ان الديمقراطية البرلمانية مرت في السنوات الاخيرة بعدة اختبارات ومحن قاسية ولكن واهم من يعتقد ان معالجة علل وداء الديمقراطية المريضة يتم من خلال الشعبويةلأنها تدمرها وتعود بنا الى انظمة شمولية.

* هل توجد مخاطر حقيقية اليوم عن حرية التعبير وحقوق الانسان؟

هذا التماهي مع الشعب يمنح لأي رئيس شعبوي تحت ذريعة انه ينفذ ارادة الشعب تمنحه سلطات وقدرات واسعة قد تنسف حقوق الانسان ويتم التضيق على الحريات تدريجيا، كما تختلف الممارسة الشعبوية.

تتحول الشعبويةإلىأنظمة شمولية حينما تنسف ثلاث اركان وهي الأحزاب واعتقد أن السيد الرئيس إلى حد الآن لم يستعمل مفهوم الأحزاب بالمعنى الايجابي للكلمة.

كذلك ترذيل البرلمان والتعفينالسياسي  كان جزءا من الإستراتيجية التي اعدت مسبقا للانقلاب على الديمقراطية والذهاب بنا الى سردية اخرى من خارج سردية تجربة الانتقال الديمقراطي.

* لماذا يعتبر رئيس الدولة أن تونس انتقلت في العشر سنوات الفارطة من فساد الى فساد؟

هناك فاسدون في جميع تجارب الانتقال الديمقراطي ولا يمكن اعتبارها انتقال من فساد الى فساد وربما نحن ذاهبون الى مرحلة من مراحل النكوس الديمقراطي لكن هذا لا يبرر نسف كل التجربة.

* كيف تعلق على ما يحدث من الاستعراض السياسي من خلال المسيرات المساندة والمناهضة؟

آلمني استعمال السيد رئيس الجمهورية إحصائيات مسيرة 3 أكتوبر، هذه التقديرات فيها الكثير من المغالطات ما يجعلني اخشى على بلادي وعلى رئاسة الجمهورية وعلى مالات الامور اذا ما تم مغالطة السيد الرئيس.

هذه الثقافة التي تفتخر بالمظاهرات المليونية هي ثقافة شعبوية سواء صدرت عن مؤسسة الرئاسة أو عن خصومه ومعارضيه لذلك علينا تجنب اعتبار الشارع كتلة منسجمة وواحدة، أنا في اعتقادي فان اخطر مصطلح تم استعماله في ما بعد 25 جويلية هو هذا المصطلح والغامض والمخيف مصطلح الشعب أصبح ينتمي إلى ما نسميه "أكل البشر السياسيle cannibalisme politique "" فهو يأكلالأحزاب والمعارضة وأصوات الشعب المختلفة والأجسام البسيطة والديمقراطية التمثيلية.

إرادة الشعب أو الإرادة العامة لا يمكن ان نقيسها إلا عبر الاقتراع وللأسفأصبح الشارع هو أداة قيس ارادة الشعب ولذلك تتم المغالطة وتقديس هذه الحشود المتخيلة التي بلغت حسب الرئاسة مليون و800 الف والحال ان العديد من وسائل الاعلام الاجنبية الرصينة قدرتها بعشرات الالاف في اقصى حالاتها.

* رئيس الدولة أصبح يستمعكثيرا لفقهاء القانون الدستوري، هل يعني انه يبحث عن الشرعية لما يتخذه من قرارات؟

كأنناأصبحنا تحت ديكتاتورية فقهاء القانون الدستوري والحال ان ما نختلف عليه وما نتجادل حوله اعمق بكثير من اختزاله في الفصل 80.

كما ان السردية المضللة التي تعتقد أن من هم مناهضون لـ 25 جويلية هم أنصار النهضة والحال ان عدة احزاب تقف على نفس ارضية المناهضة ولكن استنادا الى قراءات مختلفة وحجج وبراهين.

فحشر مناهضي 25 جويلية تحت لافتة واضحة خاضع لما نسميه آليات الوصم وهذا الطيف سينتعش من حالة الاخفاق الاقتصادي والاجتماعي الذي قد تذهب إليهالشعبوية والحكومة القادمة.

* حسب رايك لماذا تراجع بعض مساندي الرئيس وعدلوا من مواقفهم؟

-صحيح، هناك مخيم ثان يحاول ان يقف في طريق ثالث فبعد ان ساند عدد منهم إجراءات الرئيس في 25 جويلية اصطدموا بعد ذلك بالمنجز الهزيل اقتصاديا واجتماعيا مع توسع دائرة التباين بين الفئات وارتفاع مشط في الاسعار.

كما أن هناك موقف تصطف وراء رئاسة الجمهورية دون اي تحفظ وهي احزاب تعد على اصابع اليد.

* هل بإمكان السيدة نجلاء بودن القادمة من خارج عالم السياسية  النجاح في ترؤس الحكومة القادمة؟

-سأعودإلى تجربة "ميركل" فهي ليست بعيدة عنها في التخصص العلمي فهي استاذة فيزياء والسيدة بودن متخصصة فيعلم الجيولوجيا لكن الأولىنشأت في أحضانأحزاب سياسية ومرت بما نسميه المسار التقليدي وهو مصانع النخب والقيادات.

انا دائما انطلق من حسن الظن بها واتمنى ان توفق لكن أناسأعتبر الحكومة غير شرعية ومطعون فيها فهي حكومة الامر الواقع وستظل ينظر اليها على انها فاقدة للشرعية والمشروعية لذلك قد تتحول الى حكومة تصريف اعمال لاستئناف التفاوض مع الجهات المانحة واعداد الميزانية للسنة المقبلة ووضع حد للوزارات الشاغرة وهي تعد بالعشرات.

في الديمقراطيات الحكومات تشكل استنادا الى نتائج انتخابية الان في غياب انتخابات تشريعية مسبقة وبرلمان معلقة اعماله ما السند الذي يمكن أن نحتكم إليه؟

* كيف تعلق على رمزية اختيار رئيس الدولة لامرأة تونسية لترؤس الحكومة القادمة؟

كتب المفكر والباحث الفرنسي  فانسونجيسار معلقا على هذا الخيار انه هيمنة ذكورية شعبوية تتلحف بالجندرة.

* هل انت كنت مع أو ضد ترؤس رئيس حركة النهضة برلمان الشعب؟

-رئاسة الأستاذ راشد الغنوشي للبرلمان كانت خطأ جسيما ويبدو انه لم يستمع الى الكثير من النصائح من داخل النهضة وخارجها لأنه في الكثير من الاحيان السياسية لا تدار بالحق القانوني وهو ناجم عن تقدير سيء سواء كان صادرا عن مؤسسات مجلس الشورى او هو سعى واقنع فان القرار او التقدير خاطئ وجزء من تبعات هذا القرار ما شهده البرلمان من عنف وترذيل خصوصا وان خصم الغنوشي شخصيا كان حاضرا في البرلمان وإحدى استراتيجياته كانت ترذيل مجلس النواب والغنوشي شخصيا، واهانته رمزيا وحدث لها ما خططت بسوء تقدير النهضة.

* ما هو تعليقك على بعض الدعوات لحل حزب النهضة وتحميله مسؤولية منظومة الحكم طيلة عشر سنوات؟

-من يعتقد أنبإمكانه القضاء على ظاهرة النهضة فهو لا يحسن قراءة تركيبة الاحزاب الاسلامية التي لها امتدادات في العديد من الاوساط الاجتماعية، لان الدراسات تؤكد الحضور القوي للإخوان المسلمين في مصر بعد كل ما وقع لهم حتى وان تم حل الحزب والجمعيات التابعة لهم ستظل هناك حساسية وانجذاب الى اطروحات النهضة علما وانها اخفقت اخفاقا ذريعا في تشكيل اطروحاتها السياسية التي ظلت هلامية ويبدو أن انشغال القيادات بالشأن السياسي وحروب التموقع والصراعات مع الخصوم حالت دون بلورة مقترحات وبدائل سياسية واقتصادية واجتماعية.

يمكن ان تتراجع حركة النهضة في الانتخابات القادمة ان وقعت الى ما دون المراتب الثلاثة الاولى ولكن لا يمكن ان تزول من الخارطة السياسية بل ان الحرص على اعادتها الى وضع لا قانوني فيه مخاطر كبيرة الى انتهاج اشكال من العمل السري خلنا ان ديمقراطيتنا قد قطعت معها فضلا عن دفع البعض منهم الى التشدد الفكري والسياسي.

من يدفع نحو اقصاء النهضة وعزلها يخطئ التقدير ويدفع نحو اطروحات عبثية وفوضوية، كيف يمكن للنهضة ان تعود وتحاول وعلى اي قاعدة ومن يسوغ كراس الشروط هي جزء من حوار وطني وليس جزءا من ارادة فوقية تحتكر القرار.

 

حوار جهاد الكلبوسي

مهدي مبروك لـ "الصباح": المجتمع التونسي يمرّ بشرخ مجتمعي خطير..ووصف المعارضين بالخونة شعبوية

 

تونس – الصباح

هناك فاسدون في جميع تجارب الانتقال الديمقراطي لكن هذا لا يبرر نسف كل التجربة التونسية، اليوم يجب ان نتوقف عند الشرخ المجتمعي وحالة الاستقطاب بين مخيمين او كتلتين داخل المجتمع التونسي وهو ما يمثل حالة فريدة وغريبة لم نشهدها حتى زمن كاريزما بورقيبة، جاء هذا في حوار مطول  للباحث والجامعي ووزير الثقافة الاسبق مهدي مبروك لـ "الصباح" والذي كشف فيه عن موقفه من الاحداث التي تعيشها تونس منذ 25 جويليةالمنقضي.

مبروك اعتبر ان ما حصل منذ ذلك التاريخ انقلاب مغطى بالدستور، محذرا من الاستثمار في مقولة الشعب التي اصبحت عبارة عن اصل تجاري لدى رئاسة الجمهورية.

كما تحدث الوزير الأسبق والباحث المختص في علم الاجتماع عن وجود مخاوف حقيقية اليوم من الانحراف بالتجربة التونسية لفائدة تدخلات وأجنداتأجنبية، كما انتقد خيار رئيس حركة النهضة ترؤس البرلمان التونسي معتبرا ذلك خطأ جسيما.

* في البداية، دكتور مهدي مبروك، كيف تقرأ ما حصل يوم 25 جويلية 2021؟

-بقطع النظر عن التفاصيل السياسية والقانونية التي استجدت بعد 25 جويلية، هناك ثلاثة مظاهر لا يمكن للباحث ان يغفل عنها وهي، أولا هذا النقاش الحاد بين النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول شرعية ومشروعية ما حدث، لأّول مرة يبدو ان المجتمع التونسي يمرّ عموديا بهذا الشرخ المجتمعي الحاد الذي يطرح شرعية ومشروعية ما حدث، وهذا ملفت للانتباه مقارنة بحدث 17 ديسمبر-  14 جانفي 2011  حيث لم يكن هناك نقاش حاد بل كان هناك ارتياح كبير للإجراءات رغم صعوبتها باستثناء الاختلاف حول ما نذهب إليه آنذاك، وهو هل نذهب إلى المجلس الأعلى لحماية الثورة او نذهب إلى المجلس التأسيسي يعني الخلاف كان حول المسارات التي سنمضي فيها.

* يرى العديد ان ما قام به رئيس الجمهورية منطلقهكان الإرادة الشعبية في تغيير الوضع الصعب الذي تعيشه البلاد على مستويات عدة، ما هو تعليقك؟

-كلمة شعب أصبحت كلمة مفخخة وفيها كثير من الهيمنة، هذا الجدل رغم أهميته الا انه يهدد  باستمرار حالة الشرخ المجتمعي بين مخيمين وبين كتلتين نخشى ان تتطور الامور الى ما لا يحمد عقباه في ظل غياب الوساطات الاجتماعية والهيئات التي تخلقها الديمقراطيات والسياسات الحديثة من اجل احتواء الحوار.

لا يوجد "اغورا" بهذا المعنى الشاسع والهلامي للكلمة لان الديمقراطيات الحديثة نظمت "الاغورا" التقليدية في الساحات العامة وجعلتها في مؤسسات تمثيلية وفي منظمات وطنية قد يلعب هذا الدور الاتحاد العام التونسي للشغل او الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، كل هذه الأجسام تنطق باسم منظويها وتنطق باسم النخب الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والسياسية لذلك هذه الاصوات من المفترض ان تحتوي هذا الحوار المجتمعي والبرلمانات ومجلس المستشارين.

* خيار الاستثمار في الشارع او الدعم الشعبي، الى أي مدى يمكن ان يكون منطلقا لبناء سياسي جديد بعيدا عن الاحزاب؟

-مقولة الشعب أصبحت أصلا تجاريا تستعمله رئاسة الجمهورية، لكن الاصل فيه انه في الديمقراطيات هناك برلمانات وهيئات تنظم الحياة السياسية وتعبر عن الاصوات المختلفة.

* هل شهدت تونس حالة شبيهة بالتي يعيشها الشارع اليوم من انقسام خاصة في العشر سنوات الفارطة؟

-هذه حالة فريدة وغريبة لم تشهدها بلادنا منذ دولة الاستقلال على عظمة زعامات ورجالاتها حتى زمن زعامة وكاريزما بورقيبة لم نجده احتكر كافة الصلاحيات وسلطة القانون.

لاحظنا كذلك سلسلة من تماهي الرئاسة مع الشعب وحالات الاستثناء المتكررة والاستفراد بتأويل الدستور وكأننا نمر بلحظة شعارها "انا الشعب انا الدولة انا السلطة أنا الحقيقة أنا الخير"، وهذا فيه تقسيم المجتمع بين نحن وهم وملائكة وشياطين وفاسدين واطهار .

في العشر سنوات الفارطة كانت هناك محاولات لتقسيم المجتمع بين لونين لكن كانت هناك الوان اخرى على عكس حالة الاستقطاب الحاد اليوم التي لم تترك امام التونسيين الا خيارين اثنين.

*بعد 25 جويليةتوافدت عديد الوفود الرسمية من دول مختلفة على تونس، هل نعيش حالة استقطاب اقليمي؟

-نعم نعيش حالة الاستقطاب الاقليمي رغم المخاوف السابقة من سياسة المحاور لكن لم نشهد منذ عشر سنوات هذا التدخل المكشوف للأجنبي وتحولت النازلة التونسية والرجل المريض في المتوسط وهي تونس الى موضوع بيانات وزيارات وفود وحتى اجتماع قادة احزاب دول جنوب المتوسط كان لهم راي واضح ومزعج ولا يليق ببلادنا.

كذلك لاحظنا جميعا الزيارات المبكرة الاولى لوزراء الخارجية السعودي والمصري والاماراتي والبحريني تؤكد وجود اجندة لم تكن تستلطف تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس رغم عثراتها وأخشى ان يتم الانحراف بالتجربة لفائدة تدخلات واجندات اجنبية.

* هل يوجد حل مشترك للخروج بالبلاد من حالة الاستثناء؟

-نأملإذا ما أردناأن ندفع بالقرار الوطني المستقل في قضايا داخلية تونسية ليس لنا حل سحري سوى تنشيط قنوات الحوار ولنا تجربة سابقة مع الرباعي الراعي للحوار الوطني.

* لكن رئيس الدولة رفض مبادرة الحوار الوطني التي كان دعا اليها سابقا الاتحاد العام التونسي للشغل؟

-للأسف هو من يقفل باب الحوار واتمنى ان لا يذهب اليه مكرها تحت ضغط قوى اجنبية وابتزاز تونس خاصة من قبل الجهات المانحة على غرار صندوق النقذ الدولي والبنك الدولي.

ليتنا نذهب بكل ايمان حقيقي لحوار وطني لأنه لا مخرج لنا غير ذلك والا كيف يمكن ان تعزز مكامن الاقتدار والمواجهة والممانعة في مقاومة كافة أشكال التدخل الأجنبي، يجب أن يكون الحل تونسيا، بفتح قنوات الحوار واستماع السيد الرئيس الى ما لا يعجبه.

* حسب رايك إن ذهب رئيس الدولة في حوار وطني، سيستدعي كل القوى السياسية في البلاد؟

-قبل كل شيء أخشىأن نذهب إلى حوار لا يريد الرئيس فيه ان يستمع الا الى صدى صوته وهذا يصبح "مونولوج" لان حوار الشجعان يقتضي ان تستمع الى ما يختلف معك جذريا، ولا أرى حوارا وطنيا دون حزب العمال أو النهضة أو غيرهمالأنهم شركاء في الوطن بقطع النظر عن مواقفهم او اطروحاتهم.

لكن من المرجح أن يذهب الرئيس الى حوار على المقاس.

* لماذا أشار بيان الاليزيه الأخيرإلى كلمة حوار وطني في علاقة بالمكالمة بين الرئيسين التونسي والفرنسي، في حين بيان الرئاسة لم يتطرق الى ذلك؟

-لم يتم الإعلان رسميا عن مبادرة للحوار الوطني لكن بيان الاليزيه واعرف تماما خلفياته التي تتمثل في العديد من المؤاخذات على اساس ان الصوت الفرنسي ظل خافتا في مواجهة ما حدث بقطع النظر ان كان انقلاباأو خرقا جسيما للدستور.

* إجراءات 25 جويلية كيف تصنفها انقلاب ام تأويل للفصل 80 من الدستور؟

-أنا أول من استعمل مفرد الانقلاب بعد لحظات من إعلانإجراءات 25 جويليةاتصلت بي وسائل إعلام أجنبية واعتبرته انقلابا يتغطى بالدستور، طبعا انا لا اريد ان يقع اختزال ما حدث في توصيف قانوني ولكن عمليا هو انقلاب على سردية الثورة وفي المعجم السياسي والثقافة السياسية التي بدانا نتدرب عليها.

* يرى البعض ان ما يحصل في تونس يندرج ضمن "الشعبوية"، ما رأيك؟

-في اعتقادي انه لم يقع في السابق استعمال معجم العمالة والخيانة لكن ما يحدث الآن خطير لأننا دخلنا في استعمال معجم تستعمله الانظمة الشمولية حتى بن علي لم يصف خصومه علنا بالخونة.

هذه الشعبوية السافرة التي لا تؤمن بالأحزاب والديمقراطية التمثيلية التي تؤله الشعب وتستعمله كجزء من هذه الثقافة الشمولية لنسف الديمقراطية التمثيلية.

هناك كتب ودراسات اثبتت ان الديمقراطية البرلمانية مرت في السنوات الاخيرة بعدة اختبارات ومحن قاسية ولكن واهم من يعتقد ان معالجة علل وداء الديمقراطية المريضة يتم من خلال الشعبويةلأنها تدمرها وتعود بنا الى انظمة شمولية.

* هل توجد مخاطر حقيقية اليوم عن حرية التعبير وحقوق الانسان؟

هذا التماهي مع الشعب يمنح لأي رئيس شعبوي تحت ذريعة انه ينفذ ارادة الشعب تمنحه سلطات وقدرات واسعة قد تنسف حقوق الانسان ويتم التضيق على الحريات تدريجيا، كما تختلف الممارسة الشعبوية.

تتحول الشعبويةإلىأنظمة شمولية حينما تنسف ثلاث اركان وهي الأحزاب واعتقد أن السيد الرئيس إلى حد الآن لم يستعمل مفهوم الأحزاب بالمعنى الايجابي للكلمة.

كذلك ترذيل البرلمان والتعفينالسياسي  كان جزءا من الإستراتيجية التي اعدت مسبقا للانقلاب على الديمقراطية والذهاب بنا الى سردية اخرى من خارج سردية تجربة الانتقال الديمقراطي.

* لماذا يعتبر رئيس الدولة أن تونس انتقلت في العشر سنوات الفارطة من فساد الى فساد؟

هناك فاسدون في جميع تجارب الانتقال الديمقراطي ولا يمكن اعتبارها انتقال من فساد الى فساد وربما نحن ذاهبون الى مرحلة من مراحل النكوس الديمقراطي لكن هذا لا يبرر نسف كل التجربة.

* كيف تعلق على ما يحدث من الاستعراض السياسي من خلال المسيرات المساندة والمناهضة؟

آلمني استعمال السيد رئيس الجمهورية إحصائيات مسيرة 3 أكتوبر، هذه التقديرات فيها الكثير من المغالطات ما يجعلني اخشى على بلادي وعلى رئاسة الجمهورية وعلى مالات الامور اذا ما تم مغالطة السيد الرئيس.

هذه الثقافة التي تفتخر بالمظاهرات المليونية هي ثقافة شعبوية سواء صدرت عن مؤسسة الرئاسة أو عن خصومه ومعارضيه لذلك علينا تجنب اعتبار الشارع كتلة منسجمة وواحدة، أنا في اعتقادي فان اخطر مصطلح تم استعماله في ما بعد 25 جويلية هو هذا المصطلح والغامض والمخيف مصطلح الشعب أصبح ينتمي إلى ما نسميه "أكل البشر السياسيle cannibalisme politique "" فهو يأكلالأحزاب والمعارضة وأصوات الشعب المختلفة والأجسام البسيطة والديمقراطية التمثيلية.

إرادة الشعب أو الإرادة العامة لا يمكن ان نقيسها إلا عبر الاقتراع وللأسفأصبح الشارع هو أداة قيس ارادة الشعب ولذلك تتم المغالطة وتقديس هذه الحشود المتخيلة التي بلغت حسب الرئاسة مليون و800 الف والحال ان العديد من وسائل الاعلام الاجنبية الرصينة قدرتها بعشرات الالاف في اقصى حالاتها.

* رئيس الدولة أصبح يستمعكثيرا لفقهاء القانون الدستوري، هل يعني انه يبحث عن الشرعية لما يتخذه من قرارات؟

كأنناأصبحنا تحت ديكتاتورية فقهاء القانون الدستوري والحال ان ما نختلف عليه وما نتجادل حوله اعمق بكثير من اختزاله في الفصل 80.

كما ان السردية المضللة التي تعتقد أن من هم مناهضون لـ 25 جويلية هم أنصار النهضة والحال ان عدة احزاب تقف على نفس ارضية المناهضة ولكن استنادا الى قراءات مختلفة وحجج وبراهين.

فحشر مناهضي 25 جويلية تحت لافتة واضحة خاضع لما نسميه آليات الوصم وهذا الطيف سينتعش من حالة الاخفاق الاقتصادي والاجتماعي الذي قد تذهب إليهالشعبوية والحكومة القادمة.

* حسب رايك لماذا تراجع بعض مساندي الرئيس وعدلوا من مواقفهم؟

-صحيح، هناك مخيم ثان يحاول ان يقف في طريق ثالث فبعد ان ساند عدد منهم إجراءات الرئيس في 25 جويلية اصطدموا بعد ذلك بالمنجز الهزيل اقتصاديا واجتماعيا مع توسع دائرة التباين بين الفئات وارتفاع مشط في الاسعار.

كما أن هناك موقف تصطف وراء رئاسة الجمهورية دون اي تحفظ وهي احزاب تعد على اصابع اليد.

* هل بإمكان السيدة نجلاء بودن القادمة من خارج عالم السياسية  النجاح في ترؤس الحكومة القادمة؟

-سأعودإلى تجربة "ميركل" فهي ليست بعيدة عنها في التخصص العلمي فهي استاذة فيزياء والسيدة بودن متخصصة فيعلم الجيولوجيا لكن الأولىنشأت في أحضانأحزاب سياسية ومرت بما نسميه المسار التقليدي وهو مصانع النخب والقيادات.

انا دائما انطلق من حسن الظن بها واتمنى ان توفق لكن أناسأعتبر الحكومة غير شرعية ومطعون فيها فهي حكومة الامر الواقع وستظل ينظر اليها على انها فاقدة للشرعية والمشروعية لذلك قد تتحول الى حكومة تصريف اعمال لاستئناف التفاوض مع الجهات المانحة واعداد الميزانية للسنة المقبلة ووضع حد للوزارات الشاغرة وهي تعد بالعشرات.

في الديمقراطيات الحكومات تشكل استنادا الى نتائج انتخابية الان في غياب انتخابات تشريعية مسبقة وبرلمان معلقة اعماله ما السند الذي يمكن أن نحتكم إليه؟

* كيف تعلق على رمزية اختيار رئيس الدولة لامرأة تونسية لترؤس الحكومة القادمة؟

كتب المفكر والباحث الفرنسي  فانسونجيسار معلقا على هذا الخيار انه هيمنة ذكورية شعبوية تتلحف بالجندرة.

* هل انت كنت مع أو ضد ترؤس رئيس حركة النهضة برلمان الشعب؟

-رئاسة الأستاذ راشد الغنوشي للبرلمان كانت خطأ جسيما ويبدو انه لم يستمع الى الكثير من النصائح من داخل النهضة وخارجها لأنه في الكثير من الاحيان السياسية لا تدار بالحق القانوني وهو ناجم عن تقدير سيء سواء كان صادرا عن مؤسسات مجلس الشورى او هو سعى واقنع فان القرار او التقدير خاطئ وجزء من تبعات هذا القرار ما شهده البرلمان من عنف وترذيل خصوصا وان خصم الغنوشي شخصيا كان حاضرا في البرلمان وإحدى استراتيجياته كانت ترذيل مجلس النواب والغنوشي شخصيا، واهانته رمزيا وحدث لها ما خططت بسوء تقدير النهضة.

* ما هو تعليقك على بعض الدعوات لحل حزب النهضة وتحميله مسؤولية منظومة الحكم طيلة عشر سنوات؟

-من يعتقد أنبإمكانه القضاء على ظاهرة النهضة فهو لا يحسن قراءة تركيبة الاحزاب الاسلامية التي لها امتدادات في العديد من الاوساط الاجتماعية، لان الدراسات تؤكد الحضور القوي للإخوان المسلمين في مصر بعد كل ما وقع لهم حتى وان تم حل الحزب والجمعيات التابعة لهم ستظل هناك حساسية وانجذاب الى اطروحات النهضة علما وانها اخفقت اخفاقا ذريعا في تشكيل اطروحاتها السياسية التي ظلت هلامية ويبدو أن انشغال القيادات بالشأن السياسي وحروب التموقع والصراعات مع الخصوم حالت دون بلورة مقترحات وبدائل سياسية واقتصادية واجتماعية.

يمكن ان تتراجع حركة النهضة في الانتخابات القادمة ان وقعت الى ما دون المراتب الثلاثة الاولى ولكن لا يمكن ان تزول من الخارطة السياسية بل ان الحرص على اعادتها الى وضع لا قانوني فيه مخاطر كبيرة الى انتهاج اشكال من العمل السري خلنا ان ديمقراطيتنا قد قطعت معها فضلا عن دفع البعض منهم الى التشدد الفكري والسياسي.

من يدفع نحو اقصاء النهضة وعزلها يخطئ التقدير ويدفع نحو اطروحات عبثية وفوضوية، كيف يمكن للنهضة ان تعود وتحاول وعلى اي قاعدة ومن يسوغ كراس الشروط هي جزء من حوار وطني وليس جزءا من ارادة فوقية تحتكر القرار.

 

حوار جهاد الكلبوسي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews