التأمت بقاعة ابن خلدون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ندوة علمية يومي 1 و2 جويلية 2022 تحت عنوان "الرواية روايات: بين الإبداع الفني والحقول المعرفية" احتفاء بمؤلف "دوار في الدوّار" للأستاذ عبد الحميد الفهري.
والأستاذ عبد الحميد الفهري جامعي مختص في تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام المبكر. أسّس سنة 2000 متحف تراث الجزر ومركز سرسينا للبحوث في الجزر في قرقنة. وهو يشرف على سلسلة ضفاف متوسطية التي يصدرها المركز وتنشر أعمال الملتقيات والندوات المهتمة بحضارات المتوسط (16 كتابا شارك فيها 62 باحثا).
يحتوي مؤلف "دوار في الدوّار" على مائة وإحدى وتسعين صفحة وزعت على إثنين وعشرين فصلا. طبعت الرواية للمرّة الأولى سنة 2022 بدار محمد علي الحامي بالتعاون مع العربية وCCRIM. وأهدى الأستاذ عبد الحميد الفهري الرواية إلى من كرمهم أحمد فؤاد نجم بشعره وتغنى بهم الشيح إمام عيسى الثيافي المقدس للنضال من أجل تحقيق شعار أرض حرية كرامة وطنية: عمال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا....
وقد اعتبر الأستاذ عبد الحميد الفهري مؤلفه تعبيرة صارخة بفيض من الحب والأوجاع لشباب جامعي تختزل مسيرته معاناة محبطين دمرتهم آلة نظام العبث فأفنوا حياتهم يتطلعون إلى إسعاد الريف كما المدينة وإعادة الأريج للزهور. غير أن انتكاستهم كانت مدوية، فحملهم وعيهم على التمرد بكل الأشكال على مغتصبي حقوقهم بمازوشية رهيبة بلغت حد تعذيب النفس والجسد والروح.
وعبّر الأستاذ الفهري عن أن أحداث الرواية تناديك لتطل على واقع شريحة مكر بها الزمان فوجدت في أمكنة الدفء الأسري حضنا يستوعبها بعد أن لفظتتها كل الأماكن وتسلحت بالتآزر والتضامن فيما بينها لتصنع رابطة لصمود المعذبين وتتفاخر بتحدي الظلم والحرمان من أبسط حقوق البشر وما أكثر ما حرم منه المعطلون. هم ليسوا معطلين عن العمل فحسب، بل معطلون عن الحياة برمتها. دوّار vertige هو فعل دوّامة أرهقت شباب الجامعة فدمر بدمارهم الدوّار القرية والريف والحومة والأرباض في لحظة بهتة أصابت الجميع أمام زحف السواد وصعود الحلزون الورع بلعاب الرياء والمكر إلى سدة كل السلطات، باستثناء سلطة الضمير والإصرار على انتصار الصبر بأنفاس تتعب ثم تنهض بلا كلل.
ويواصل الأستاذ عبد الحميد الفهري قائلا: "جيل من ذهب دفع كل الضرائب ومازال يدفع من أجل كسب معركة الحق في الحياة تاركا بصمات محفورة في الذاكرة ومونة في التاريخ بحروف لن يصيبها الصّدأ، وكيف تصدأ وهم يعزفون بأنغام الغضب والتوتر المستدام سنفونية انتصار الإرادة مؤسسين لوعي ثابت يستند إلى ضرورة الفرز بين من كان مع رسم مسلك النجاة ومن كان ولا يزال يزرع بذور الخوف والظلام.
وتستمر الحياة..."
و اعتبر الأستاذ أحمد السماوي المختصّ في السّرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس في تقديمه الرواية أن العمل يجتمع فيه ما هو من قبيل الواقع ومن قبيل الممكن الوقوع، وما هو من قبيل الحقيقة ومن قبيل المجاز، وما هو من قبيل الموجود ومن قبيل المنشود، وما هو من قبيل الفعليّ ومن قبيل الاستيهام. كلّ ذلك يجعل من العمل لا سردًا محضًا ولا وصفًا يجري وراء التفاصيل الدقيقة بل حجاجًا أيضًا. ولعلّ الحوارات العديدة أن تكون الميدان المفضَّل لتطارح الأفكار واقتراح الحلول وتقويم المنجز منها. وقد حرص الراوي، حسب الأستاذ أحمد السماوي على توكيد قوله خشية من ألاّ يصدّقه مخاطَبُه، فيضطرّ، آنذاك، إلى تدعيم مقوله. وهو ناتج أيضًا عن حماسٍ وانفعال شديدين يأخذان بالراوي أو بالشخصيّة فلا يستطيعان له شكمًا. وهده العبارات، إذ يكثر حضورُها، تنبّه للصراع القائم لدى الكاتب، داخل النصّ، بين مباشرة يعمِد إليها في الخطاب، وإيحاءٍ يسعى إلى أن يحقّق هدفه. ولعلّ هذا السعي إلى /إرادة الفعل/ تحاشيًا للمباشرة أن تجد في /لا استطاعة الفعل/ بالخضوع لهذه المباشرة أحيانًا ما ينقضها. ولكنّ جهتيْ الإرادة والاستطاعة هما المتحكّمتان في العمل كلِّه، منذ المنطلَق، ما بين إقرارٍ بموجود وسعيٍ إلى منشود.
أما الشاعر الحبيب دربال فيقول: " تقرأ الرواية من ألفها إلى يائها فتُصابُ بدوار يقتفيك في كلّ فصل من فصولها الإثنين والعشرين...، والسؤال المطروح : أهي كوابيس تدعو ملّحة إلى الخوض في تفاصيلها بكلّ صدق وأمانة أمْ هي ضالّةُ الروائيّين لا مناص من الإبحار فيها تحليلاً وتخييلاً وانزياحا وارتدادًا وشعريّة ؟
تحاول البحث وأنت تطوي الصفحاتِ عن قبلة أو عن علاقة حبّ تثير فيك شهيّة القراءة وتُنسيك ما أنتَ فيه من ويلاتٍ متواصلاتٍ فلا تعثر البتّة إلاّ على دُوّارٍ يغطّ في دُوارٍ في بلاد يرزح شرقيّها وغربيّها، شمالها وجنوبها تحت نيران تلتهبُ عاشته الخضراء طيلة عقد عرفت فيه الخصاصةَ والبطالةَ التي طالت وتطُول أصحاب الشهائد العليا الذي كان من ضحاياهم رجب وآخرون كثرٌ فُتِك بهم داخل فناء المؤسّسات الحكوميّة وخارجها... يتواصل السرد خَطيّا ليُنْبِئَكَ أنّ المحتجّين لم يستكينُوا بل ظلّوا يطالبون بتحقيق حلمهم المتمثّل في العمل والعيش الكريم كبقيّة أفراد المجتمع لتستحيل الرواية في آخر المطاف تحدّيا صارخًا أجبر هيأة المحكمة على تبرئة المتّهمين جميعهم.
إنّ ما يُلاحظُ في هذا العمل الروائيّ للفهري هو الوصل المنظّم بين البداية والنهاية على حدّ عبارة رولان بارت : هذه سرور التي "كان صوتها يُؤذّي المسامع وترتعد منه الفرائص... صراخ رهيب بألفاظ مبهمة يصدر من فِي البنت المفتوح دون اقتدارها على غلقه..." (الفهري، الرواية، ص 05). وهي البنت نفسها التي تطمئنُ الجميع "على تقدّم المسيرة نحو الدرب المضيء والبرج الشامخ وسط الدخان ورائحة الأكريموجان... كانت تمشي وقد أتعبها هطُول أمطار رغم تأخرّها، فكانت تردّد وهي تخاطب رجب : أمطار متأخّرة أفضل من جفاف يدوم". (الفهري، الرواية، ص189).
إنّ لغة الرواية "دُوار في الدُوّار" لصاحبها عبد الحميد الفهري في متناول كلّ القرّاء مادامت تصف سنواتٍ عشرًا عرفت فيها تونس الاحتياج والضنك والمرض الذي نخر أجسادًا جمّة (سرور + رجب...). هي لغة تنقل الواقع المعيش بكلّ جزئيّاته : قهر وشدّة وذلّ وفقر لا يترك للإنسان فُرصًا للتفكير في حياة يريدها كريمة. وهي رواية التراجيديا التونسيّة بامتياز قد تحيل على السِيرَذَاتي في بعضٍ من حياة مؤلّفها الفهري.
لقد فتحت رواية "دُوار في الدُوّار" الأبواب على مصاريعها لتعالج موضوعاتٍ حارقةً تهتمّ بطبقة من المجتمع ممثّلةٍ في أصحاب الشهائد العليا الذين كرّسوا حياتهم لتحقيق حلم روادهم منذ تخرّجهم الجامعي، لكن لم يمنعهم قُبوعهم في السجون والزنزانات من المطالبة المتواصلة بحقوقهم المشروعة. وتأتي اللحظة الحاسمة ليعلن رئيس المحكمة عن تبرئة كلّ المتّهمين لعدم ثبوت التهم الموجّهة إليهم.
لعلّ مثل هذه الموضوعات وما أكثرها أن تقف سدًّا منيعا في وجه الفساد الذي طال العباد والبلاد.
وما يمكن التذكير به في الأخير هو هذا الخيط الناظم في نقل الأحداث بدءًا وختاما إذ "لا معنى لبداية إلاّ في ضوء علاقتها بالنهاية" على حدّ قولة كلود دوشيه".
وقد علّقت أستاذة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية 9 أفريل أم الزين بن شيخة عن الرواية قائلة: "دوار في الدوّار" عنوان لمأساة موجعة ولدوائر عبثية. إنه دوّار عمره عشر سنوات تحول فيه الوطن إلى دوار لتوزيع الجوع على الجياع وإدارة شؤون البؤس المعمم. فالرواية ركح لقساوة عاناها الشباب فلم يتبق منهم غير جلودهم شكلا لوجودهم. ولد السرد فيها وترعرعت القصص من عمق مستحيل تمت العناية به جيدا... فاستحالت الرواية إلى باقة للتحرر من "الدوّار" بالأمل والتمرد.
ومن ناحيتنا، نقول إنّ رواية الأستاذ عبد الحميد الفهري "دوار في الدوّار" كسابقتها "الحوماني سندور" ضاربة في تربة الواقع المعيش تعلن قيم النضال ومحبة الأوطان. ولا شك في أن في روايتي "دوار في الدوّار" و"الحوماني سندور" إضافة معتبرة إلى فن الرواية. إلاّ أن ذلك لا يمنعنا من أن نهمس في أذني الأستاذ عبد الحميد الفهري الجامعي الذي جمع بين كتابة الرواية والاختصاص في تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام المبكر أن يتخلص قدر الإمكان في كتاباته القادمة من الخطاب السياسي والنقابي والإيديولوجي الذي عاش نصف قرن في معمعته صائلا جائلا دفاعا عن القطر والوطن.
مصدّق الشّريف
التأمت بقاعة ابن خلدون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ندوة علمية يومي 1 و2 جويلية 2022 تحت عنوان "الرواية روايات: بين الإبداع الفني والحقول المعرفية" احتفاء بمؤلف "دوار في الدوّار" للأستاذ عبد الحميد الفهري.
والأستاذ عبد الحميد الفهري جامعي مختص في تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام المبكر. أسّس سنة 2000 متحف تراث الجزر ومركز سرسينا للبحوث في الجزر في قرقنة. وهو يشرف على سلسلة ضفاف متوسطية التي يصدرها المركز وتنشر أعمال الملتقيات والندوات المهتمة بحضارات المتوسط (16 كتابا شارك فيها 62 باحثا).
يحتوي مؤلف "دوار في الدوّار" على مائة وإحدى وتسعين صفحة وزعت على إثنين وعشرين فصلا. طبعت الرواية للمرّة الأولى سنة 2022 بدار محمد علي الحامي بالتعاون مع العربية وCCRIM. وأهدى الأستاذ عبد الحميد الفهري الرواية إلى من كرمهم أحمد فؤاد نجم بشعره وتغنى بهم الشيح إمام عيسى الثيافي المقدس للنضال من أجل تحقيق شعار أرض حرية كرامة وطنية: عمال وفلاحين وطلبة دقت ساعتنا وابتدينا....
وقد اعتبر الأستاذ عبد الحميد الفهري مؤلفه تعبيرة صارخة بفيض من الحب والأوجاع لشباب جامعي تختزل مسيرته معاناة محبطين دمرتهم آلة نظام العبث فأفنوا حياتهم يتطلعون إلى إسعاد الريف كما المدينة وإعادة الأريج للزهور. غير أن انتكاستهم كانت مدوية، فحملهم وعيهم على التمرد بكل الأشكال على مغتصبي حقوقهم بمازوشية رهيبة بلغت حد تعذيب النفس والجسد والروح.
وعبّر الأستاذ الفهري عن أن أحداث الرواية تناديك لتطل على واقع شريحة مكر بها الزمان فوجدت في أمكنة الدفء الأسري حضنا يستوعبها بعد أن لفظتتها كل الأماكن وتسلحت بالتآزر والتضامن فيما بينها لتصنع رابطة لصمود المعذبين وتتفاخر بتحدي الظلم والحرمان من أبسط حقوق البشر وما أكثر ما حرم منه المعطلون. هم ليسوا معطلين عن العمل فحسب، بل معطلون عن الحياة برمتها. دوّار vertige هو فعل دوّامة أرهقت شباب الجامعة فدمر بدمارهم الدوّار القرية والريف والحومة والأرباض في لحظة بهتة أصابت الجميع أمام زحف السواد وصعود الحلزون الورع بلعاب الرياء والمكر إلى سدة كل السلطات، باستثناء سلطة الضمير والإصرار على انتصار الصبر بأنفاس تتعب ثم تنهض بلا كلل.
ويواصل الأستاذ عبد الحميد الفهري قائلا: "جيل من ذهب دفع كل الضرائب ومازال يدفع من أجل كسب معركة الحق في الحياة تاركا بصمات محفورة في الذاكرة ومونة في التاريخ بحروف لن يصيبها الصّدأ، وكيف تصدأ وهم يعزفون بأنغام الغضب والتوتر المستدام سنفونية انتصار الإرادة مؤسسين لوعي ثابت يستند إلى ضرورة الفرز بين من كان مع رسم مسلك النجاة ومن كان ولا يزال يزرع بذور الخوف والظلام.
وتستمر الحياة..."
و اعتبر الأستاذ أحمد السماوي المختصّ في السّرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس في تقديمه الرواية أن العمل يجتمع فيه ما هو من قبيل الواقع ومن قبيل الممكن الوقوع، وما هو من قبيل الحقيقة ومن قبيل المجاز، وما هو من قبيل الموجود ومن قبيل المنشود، وما هو من قبيل الفعليّ ومن قبيل الاستيهام. كلّ ذلك يجعل من العمل لا سردًا محضًا ولا وصفًا يجري وراء التفاصيل الدقيقة بل حجاجًا أيضًا. ولعلّ الحوارات العديدة أن تكون الميدان المفضَّل لتطارح الأفكار واقتراح الحلول وتقويم المنجز منها. وقد حرص الراوي، حسب الأستاذ أحمد السماوي على توكيد قوله خشية من ألاّ يصدّقه مخاطَبُه، فيضطرّ، آنذاك، إلى تدعيم مقوله. وهو ناتج أيضًا عن حماسٍ وانفعال شديدين يأخذان بالراوي أو بالشخصيّة فلا يستطيعان له شكمًا. وهده العبارات، إذ يكثر حضورُها، تنبّه للصراع القائم لدى الكاتب، داخل النصّ، بين مباشرة يعمِد إليها في الخطاب، وإيحاءٍ يسعى إلى أن يحقّق هدفه. ولعلّ هذا السعي إلى /إرادة الفعل/ تحاشيًا للمباشرة أن تجد في /لا استطاعة الفعل/ بالخضوع لهذه المباشرة أحيانًا ما ينقضها. ولكنّ جهتيْ الإرادة والاستطاعة هما المتحكّمتان في العمل كلِّه، منذ المنطلَق، ما بين إقرارٍ بموجود وسعيٍ إلى منشود.
أما الشاعر الحبيب دربال فيقول: " تقرأ الرواية من ألفها إلى يائها فتُصابُ بدوار يقتفيك في كلّ فصل من فصولها الإثنين والعشرين...، والسؤال المطروح : أهي كوابيس تدعو ملّحة إلى الخوض في تفاصيلها بكلّ صدق وأمانة أمْ هي ضالّةُ الروائيّين لا مناص من الإبحار فيها تحليلاً وتخييلاً وانزياحا وارتدادًا وشعريّة ؟
تحاول البحث وأنت تطوي الصفحاتِ عن قبلة أو عن علاقة حبّ تثير فيك شهيّة القراءة وتُنسيك ما أنتَ فيه من ويلاتٍ متواصلاتٍ فلا تعثر البتّة إلاّ على دُوّارٍ يغطّ في دُوارٍ في بلاد يرزح شرقيّها وغربيّها، شمالها وجنوبها تحت نيران تلتهبُ عاشته الخضراء طيلة عقد عرفت فيه الخصاصةَ والبطالةَ التي طالت وتطُول أصحاب الشهائد العليا الذي كان من ضحاياهم رجب وآخرون كثرٌ فُتِك بهم داخل فناء المؤسّسات الحكوميّة وخارجها... يتواصل السرد خَطيّا ليُنْبِئَكَ أنّ المحتجّين لم يستكينُوا بل ظلّوا يطالبون بتحقيق حلمهم المتمثّل في العمل والعيش الكريم كبقيّة أفراد المجتمع لتستحيل الرواية في آخر المطاف تحدّيا صارخًا أجبر هيأة المحكمة على تبرئة المتّهمين جميعهم.
إنّ ما يُلاحظُ في هذا العمل الروائيّ للفهري هو الوصل المنظّم بين البداية والنهاية على حدّ عبارة رولان بارت : هذه سرور التي "كان صوتها يُؤذّي المسامع وترتعد منه الفرائص... صراخ رهيب بألفاظ مبهمة يصدر من فِي البنت المفتوح دون اقتدارها على غلقه..." (الفهري، الرواية، ص 05). وهي البنت نفسها التي تطمئنُ الجميع "على تقدّم المسيرة نحو الدرب المضيء والبرج الشامخ وسط الدخان ورائحة الأكريموجان... كانت تمشي وقد أتعبها هطُول أمطار رغم تأخرّها، فكانت تردّد وهي تخاطب رجب : أمطار متأخّرة أفضل من جفاف يدوم". (الفهري، الرواية، ص189).
إنّ لغة الرواية "دُوار في الدُوّار" لصاحبها عبد الحميد الفهري في متناول كلّ القرّاء مادامت تصف سنواتٍ عشرًا عرفت فيها تونس الاحتياج والضنك والمرض الذي نخر أجسادًا جمّة (سرور + رجب...). هي لغة تنقل الواقع المعيش بكلّ جزئيّاته : قهر وشدّة وذلّ وفقر لا يترك للإنسان فُرصًا للتفكير في حياة يريدها كريمة. وهي رواية التراجيديا التونسيّة بامتياز قد تحيل على السِيرَذَاتي في بعضٍ من حياة مؤلّفها الفهري.
لقد فتحت رواية "دُوار في الدُوّار" الأبواب على مصاريعها لتعالج موضوعاتٍ حارقةً تهتمّ بطبقة من المجتمع ممثّلةٍ في أصحاب الشهائد العليا الذين كرّسوا حياتهم لتحقيق حلم روادهم منذ تخرّجهم الجامعي، لكن لم يمنعهم قُبوعهم في السجون والزنزانات من المطالبة المتواصلة بحقوقهم المشروعة. وتأتي اللحظة الحاسمة ليعلن رئيس المحكمة عن تبرئة كلّ المتّهمين لعدم ثبوت التهم الموجّهة إليهم.
لعلّ مثل هذه الموضوعات وما أكثرها أن تقف سدًّا منيعا في وجه الفساد الذي طال العباد والبلاد.
وما يمكن التذكير به في الأخير هو هذا الخيط الناظم في نقل الأحداث بدءًا وختاما إذ "لا معنى لبداية إلاّ في ضوء علاقتها بالنهاية" على حدّ قولة كلود دوشيه".
وقد علّقت أستاذة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية 9 أفريل أم الزين بن شيخة عن الرواية قائلة: "دوار في الدوّار" عنوان لمأساة موجعة ولدوائر عبثية. إنه دوّار عمره عشر سنوات تحول فيه الوطن إلى دوار لتوزيع الجوع على الجياع وإدارة شؤون البؤس المعمم. فالرواية ركح لقساوة عاناها الشباب فلم يتبق منهم غير جلودهم شكلا لوجودهم. ولد السرد فيها وترعرعت القصص من عمق مستحيل تمت العناية به جيدا... فاستحالت الرواية إلى باقة للتحرر من "الدوّار" بالأمل والتمرد.
ومن ناحيتنا، نقول إنّ رواية الأستاذ عبد الحميد الفهري "دوار في الدوّار" كسابقتها "الحوماني سندور" ضاربة في تربة الواقع المعيش تعلن قيم النضال ومحبة الأوطان. ولا شك في أن في روايتي "دوار في الدوّار" و"الحوماني سندور" إضافة معتبرة إلى فن الرواية. إلاّ أن ذلك لا يمنعنا من أن نهمس في أذني الأستاذ عبد الحميد الفهري الجامعي الذي جمع بين كتابة الرواية والاختصاص في تاريخ المذاهب والفرق في الإسلام المبكر أن يتخلص قدر الإمكان في كتاباته القادمة من الخطاب السياسي والنقابي والإيديولوجي الذي عاش نصف قرن في معمعته صائلا جائلا دفاعا عن القطر والوطن.