" لأكتب... لأمدّ جسورا، أدخل قوقعتي... أبحث عن ذاتي. ضباب كثيف يحجبني عنّي... لفائف من الخوف... من الغرور... من الزيف. حجاب رقيق أنيق زئبقي كالكذب الصادق. كيف أعبره؟ من أكون؟ سؤال يرجّ كياني، أخاف هذيانه... أخاف صدقه. خوف التعري يطفأ وهج نفسي... يقتل توقها الدائم إلى التواصل إلى معانقة الآخر... إلى معانقة الحياة. كلما اتسعت الرؤى ضاقت العبارة. وكلّما تعمّق الجرح لم تجرؤ عليه الكلمات".
بهذه الرّوح تجلّت رفيقة البحوري في سيرتها، تحدّثت عن حياتها، محيطها، علاقاتها، مغامراتها، رؤاها، أحلامها، خيباتها... وهي تسبح في مياهها المالحة الشّفافة بجرأة نادرة حسب تعبيرها. في زمن ملئ بالخداع واحترف فيه الكثيرون النفاق وتفنّنوا في المراوغة حتى تبعثرت أمامنا المشاهد واختلط الحابل بالنابل، خرجت علينا الأستاذة رفيقة البحوري الجامعيّة التي درّست الأدب الحديث في الجامعات التونسية، الناقدة والشاعرة والكاتبة للأطفال والناشطة في المجال الحقوقي وفي الساحة الثقافية، لتمدنا بباكورتها الأولى في الإنتاج الروائي تحت عنوان "في المياه المالحة" بعد أن صدرت لها عدّة عناوين في مجال كتاب الطفل والدراسات النقدية والإبداعات. ورواية "في المياه المالحة" هي سيرة ذاتية صادرة عن دار محمد علي للنشر سنة 2019 وجاءت في مائتين وأربع وعشرين صفحة من الحجم المتوسّط ونالت جائزة.
وعن سؤال لماذا السيرة الذاتية؟ أجابتنا الأستاذة رفيقة البحوري مشكورة بالقول:
" سؤال طرحه عليّ بعض القراء، وطرحته على نفسي. يمكن أن أجيب: لأنني لست روائية ولا كاتبة قصص. "في المياه المالحة" ليس مشروعا أدبيا إنه مشروع حياة. لم أكتب هذا الكتاب بدافع الإبداع الأدبي بل كتبته وأنا ألاحق لحظاتي الهاربة. كتبته وأنا أقيّم تجربي في الحياة. كتبته وأنا أعدّ هزائمي وأَشْرَق بأحلامي.
كانت لحظة إحباط تلك التي أخذت فيها القلم لأخطّ أول حرف في سيرتي. لعل الكتابة في البداية كانت سبيلا إلى التخفّف من ثقل الأوجاع. لعلها نوع من الشكوى. كان تقييمي لكل ما عشته في حياتي سلبا. ورأيت أنني حصدت الكثير من الخيبات. فأردت أن أفهم أسباب الخسارة. أردت أن أعرف كيف تشكّل كياني لأكون كما أنا.
ويسألني البعض عن الصدق في سيرتي فأقول: دخلت الكتابة بحثا عن ذاتي وكنت متأكدة أنني لن أجدها إذا غَشَشْتُ في قوانين اللعبة. لا تكون الحقيقة إلا عارية. وفي الحقيقة دوائي.
طبعا تطلّب هذا أن أروي مراحل حياتي مشبعة بكل أحاسيسي وانفعالاتي: الفرح والإقبال على الحياة وكذلك الخوف والتردد والقهر... وكان أقوى شعور عشته، وأتصوّر أن له الدور الأكبر في نحت شخصيتي وتشكّل حياتي بانتصاراتها وانكساراتها، هو التمرّد.
كان طموحي إلى الحرية والقضاء على الظلم لا حدّ له. وقد عشت صراعي من أجلهما طيلة حياتي تمرّدت طفلةً على أساليب التربية التقليدية، وشابةً على التقاليد التي يكبلون بها طاقات المرأة ويحرمونها من أن تشق طريقها بالتساوي مع الرجل. ثم واصلت نضالي في المستوى الحقوقي والسياسي من أجل وطن حرّ يضمن الحرية والمساواة والكرامة لأبنائه.
بتسجيل الأحداث التي عشتها وجدت معنى لحياتي وانتبهت إلى أن مسيرتي لم تكن بالقتامة التي شعرت بها، كذلك وجدت أن ما كتبته يعكس تحولات فترة كاملة وطموح جيل وأن تجربتي ليست بالخصوصية التي ظننت. من هنا نشأت الرغبة في التواصل مع الآخرين وفي نشر سيرتي الذاتية".
وقد كان لنا حديث مع أحد قرّاء الرواية الأستاذ والمتفقّد العام في مادّة الفلسفة محمود بن جماعة الذي مدّنا مشكورا بما رآه بارزا من محطّات في رواية "المياه المالحة":
"انتهجت رفيقة البحوري في هذه الرواية أسلوب "السيرة الذاتية"، وهي جنس أدبي قلما يوجد في الأدب العربي ويفترض الجرأة في تحليل الذات والكشف عن أعماقها، عن آمالها وخيباتها دون مُوارَبة.
وتناولت الكاتبة، على نحو شيق وغير خطي، مراحل حياتها منذ الطفولة في علاقة بالتقاليد السائدة وبالأحداث التي حصلت في محيطها العائلي وفي البلاد، فانفتحت الرواية على ما جد في تونس سنة 2011 من انتفاضة شعبية بعثت الأمل في غد أفضل، لكنها انتكست، مخلفة إحساسا بالمرارة. تتخلل الكتاب حكايات شعبية ذات دلالة وأشعارٌ ذات إيقاع متميز، ومعبرة عن أحاسيس حميمية وتوق إلى الانعتاق.
وتتساءل الكاتبة منذ البداية هل اختارت في حياتها "طريق الخسارة"، فقدمت لنا الرواية قصة طفلة عاشت حالة من الانزواء والوحدة وأحست في قرارة نفسها بالتمرّد، ثم ما انفكت تسعى إلى تحقيق ذاتها، متقبلة أحيانا، متحدية أحيانا أخرى ما يعترضها من عراقيل، محبَطة تارة، منتشية تارة أخرى...
وقد استرعى انتباهي بالخصوص عشقها للبحر منذ الصغر. فأصبحت "الأمواج" عند الكاتبة مجازا للتعبير عن اضطرابات النفس وتقلب الأحداث. تقول رفيقة البحوري في أسلوب أقرب إلى الشعر:
"لا أدري كيف وجدتُ في البحر المعوِّضَ عن هذا الفقر العاطفي. مَنَحني البحر مصَبّا لعواطفي الحبيسة... مكّن مشاعري من أن تتدفق بتلقائية... عوّض انسياب الحب ولطْف الحنان، وتجاوُبَ الإحساس. حين أغوص في أعماقه أشعر أنه يطوّقني... يغمرني بالدفء والراحة والسلام".
وقد يتساءل سائل عما نجنيه من سيرة ذاتية كهذه. فأجيب بأنه إلى جانب متعة النص وما يبعثه فينا من أحاسيس، فإن قراءته تدعونا إلى التفكير في الأسرة والتربية وأثرهما البالغ في الطفولة، وفي الحب والزواج والأدوار الاجتماعية المُسْنَدة إلى كل من المرأة والرجل، وفي الثورة ومآلها وما صاحبها من تقلبات وصراعات وتحالفات ودور المرأة في خضم هذه الأحداث... وباختصار، فـ"السيرة الذاتية" التي كتبتها رفيقة البحوري مليئة بالخواطر والعِبَر."
على امتداد فصول رواية "في المياه المالحة" كانت هناك لحظات غير مألوفة أظهرت فيها الكاتبة صراحة مفرطة وصدقا بالغا. لم يكن ذلك من فراغ، بل إن حميّة عجيبة وحماسة شديدة قد دفعتاها إلى أن تبوح بما كان يعتمل في فكرها وتتخبط فيه نفسها. ولعلّها بذلك قد أزاحت ما كان يجثو على صدرها من ضيق بلغت آلامه وأوجاعه ذروتهما. ضيق تسبّب فيه السّلوك المجتمعي المعوجّ وعمّقته رواسب الفكر الذكوري حتى بقيت المرأة المتعلّمة وغير المتعلّمة والمثقّفة وغير المثقّفة ترزح تحت سياطهما.
مصدّق الشّريف