تتموقع الفنّانة ذاتا وموضوعا بين ما ترسم في بهتة العالم وقد أربكتها فتنة الأسئلة وحمّى الألوان السّاخنة
الجسدَ منطلق اللّوحة تشكيليّا وهو مآلها الأوحد وتصير إليه تأويليّا.
ينتظم اليوم بدار الثقافة بقليبية معرض الرّسامة كوثر دمّق، ضمن افتتاح فعاليّات الملتقى المتوسّطي السّنوي للفنون التّشكيليّة الذي تنظّمه الجمعيّة المتوسّطية للصّورة والحركة من 24 إلى 26 ديسمبر الجاري.
تطالعنا لوحات كوثر دمّق ببنية تشكيليّة متشظّية، تتمدّد لتشمل كافّة الفضاء التّصويري. وما بين اللّمسات الحادّة والعلامات المتلاشية في شكل شظايا متناثرة، تلمع صورة الجسد الأنثويّ وهي بصدد التّكوّن. صورة تبدو متوازنة تارة، مشوّهة تارة أخرى، ولكنّها في كلتا الحالتين حبلى بشحنات تعبيريّة ملغّزة، نستدرجها، تستدرجنا شيئا فشيئا من خلال حركة التّشظّي وانفجار العلامات الخطّية بألوان صارخة وحساسيّات ضوئيّة حادّة بالأحمر والقرمزي والبرتقاليّ والبنفسجي والأصفر الفاقع... أمّا الألوان الباردة، مثل الفيروزيّ والأزرق، فهي مجرّد مؤثّرات داعمة للاحتدام اللّوني. فخلف هذه التّوتّرات اللّونيّة التي تهيكل طبقات الفضاء التّشكيلي تتراءى لنا علامات الجسد الأنثويّ وهو ينتـفض، يصرخ تشكيليّا، يستعرض فتـنته، يغتـبط، يتعرّى، يتجلّى فيثـير فضول العين ويخاطب المناطق الخفيّة داخل هوامات العين النّاظرة...
إنّ العين نزقة ولمّاحة والنّظر كشّاف ولكنّ اللّوحة اكتشاف وانكشاف من خلال تصويريّة مخاتلة وفرشاة لعوبة تستدرج أعمق الملامح سرّيةً في أعماق الذّات المنتفضة. ولعلّ من أبرز مفارقات هذه التّجربة أنّ تصريح الألوان ووهجها الحركيّ المتوتّر لا يغنينا عن تلميح الخطوط وصمتها التّراجيدي المعبّر.إذ بين هذا وذاك، ثمّة أسلوب في قول الجسد، على ضوئه تتحدّد خصوصيّة الرّؤية.
وليست الخطوط تفصيلا هندسيّا للفضاء التّشكيلي أو تفصيلا تشريحيّا للجسد المتشكّل، وليست في خدمة وضوح الشكل، فحسب. بل قد تظهر على العكس من ذلك. إنّ الخطوط تنشط في غير ما يلائم طبيعتها، حيث تحاول الفنّانة من خلالها أن تخفي الحدود الفاصلة بين الشّكل والأرضيّة، فتجعل منها مؤثّرات تستعيد في الفضاء حالة غموضه الأوّلي والأصيل... ويبدو ذلك، بصفة خاصّة، على مستوى توظيف خيوط الصّوف وهي تبعث بإيقاع حركيّ تتنفّس منه صورة الجسد، ولكنّه يزيح النّظر عمّا تحته من تفاصيل أيقونيّة مباشرة. على هذا النّحو، تُخفي الخطوط ما أجلته اللّمسات والبقع لتشكّل طبقة شفيفة ومتراكبة على المساحة، قد تغطّي ولكنّها لا تخفي. فكيف نرى ما نشعر به وكيف نستشعر مآلات ما نرى بين أرجاء لوحة مهتزّة، كلّ ما بها متحرّك، لا قرار له، كيف لنا أن نرصد خيوطا رابطة بين الشكل في اللّوحة ومشكلته داخل الذّات، بين الصّورة وتصوّراتها المحتملة، بين فكرة الخطوط وغواية الشكل، عندما يستحيل إلى جسد ينظر إلينا، يناظرنا، يواجهنا، قبل أن نناظره وننظر فيه، إليه؟
نشعر بأنّ الجسدَ قدَرُ الفنّانة، إنّه منطلق اللّوحة تشكيليّا وهو مآلها الأوحد التي تصير إليه اللّوحة تأويليّا. ونشعر بأنّ اللّوحة تعرية للكُمون السّرّي أو السّر الكامن خلف لمسات متناثرة هنا وهناك وقد أربكتها فتنة الجسد وروّعتها بَهـتَةُ العالم وأيقظها صمت القماشة. إنّها في الأصل، لن تعرض أمامنا شيئا آخر، سوى قصّة تكوّنها أمام العين... وتظلّ اللّوحة مسارا مستمرّا من تشكّلات الأنوثة التي بقدر فيضها في حلاوة الغموض، يكون نضجها، وبقدر قدرتها على الكشف، تكون خبرتها في الإخفاء. فقد تُعرّي ولكنّها تُجرّد. هكذا، يتحوّل الجسد إلى كتلة من العلامات واللّمسات والخطوط والخيوط وهي بصدد التّحلّل. وبنفس القدر، تتحوّل الصّورة إلى كيان هلاميّ وهو بصدد الحُلول، حلول الدّاخل في الخارج، الذّات النّاظرة في عالم مرئيّ متخارج وحلول الخفيّ في الظّاهر والظّاهر في الملغز والإشكاليّ. إنّه الجسد المتحوّل من طور إلى آخر ومن ولادة إلى أخرى، وهو يخترق عتبات التّأويل، فيثبت خصوبته...
نشعر بأنّ اللّوحة مسار من التّشكّلات التي لا ولن تدرك الاكتمال، إذ البنية التّشريحيّة للأجساد ما تزال رخوة، في شكل خطاطات أوّليّة لم تُضبط تناسباتها بعد، فيما البؤرة الضّوئيّة للجسد لم تنفصل عن الأرضيّة التي تستقبل ما يفيض عنه من لمسات مداعبة، هي بمثابة بذور لولادة مستمرّة في الزّمن الإنشائيّ، لا قرار لها ولا استقرار... كما تبدو لوحات كوثر دمّق بحوثا فنيّة باتّجاه رصد نبضات الجسد وهو يعتمل أمامنا لمسة، لمسةً وخطّا، خطّا، في معركته من أجل تأكيد الوجود. فليس الجسد مجرّد تعيّن في الفضاء أو شخيصة شاخصة تستعيد أمامنا ملامح منسيّة، إنّه عبور شقيّ إلى الكينونة وجسر نحو الوجود.
هكذا، يكون الفنّ تداركا لفوضى الواقع ونقصانه من أجل إضاءة مقاطع مختلفة من عناء الوجود ومكابدة الشّرط الإنساني عندما تلمع صورة الجسد فيستعرض مساره التّكويني على الأرض/ الأرضيّة ما بين الخفاء والتّجلّي، من أجل أن يكون أقصى ما نرى. وهكذا، تتموقع الفنّانة ذاتا وموضوعا بين ما ترسم في بهتة العالم وقد أربكتها فتنة الأسئلة وحمّى الألوان السّاخنة، فتشكّل صورتها الأخرى خلف ما تُخفي وما تُضمر... إنّها هُنـاك، في ركن قصيّ من عالم متحرّك ومتشظّي تزدحم فيه ذبذبات الضّوء الآسر، وهي أيضا هُــنا، داخل اللّوحة، تتنفّس من جديد على عتبات الدّهشة، عسى أن تكون ما ترى، ما بين غواية العين وحكمة النّظر العارف. إذ الفنّانة، من خلال اللّوحة، تحيل ذاتها على حُكم النّظر إلى/ في اللّوحة. قال دنيس ريهو: "على العكس من الأفكار السّائدة، لا يكفي أن نرى حتّى نكون في مستوى الحُكم على ما نرى، ذلك لأنّه حتّى نرى جيّدا، يجب أن نعرف، نعرف إلى ماذا ننظر وكيف ننظر إلى ما نرى". وقد سبق أن قالت الفنّانة، ذات مشارَكة في صالون صفاقس السنوي سنة 2017: "يتضمّن التّعبير عن مفهوم "الجسد" في ممارستي التّشكيليّة صورة متحرّرة للجسد الأنثوي وذلك بتسليط الضّوء على بعض التّفاصيل"، لتضيف في آخر شهادتها: "كأنّ الصّورة تذوب في فضاء ملمحها معلنة عن حضورها المادّي في خضمّ تراكمات المؤثّرات التّشكيليّة... لنجد أنفسنا داخل عالم مرسوم".
وقد تنفلت الذّات من عالمها ويتحرّر الجسد من خلال اللّوحة فَيَهـِيم بين العلامات والمؤثّرات التّشكيليّة المخادعة، ولكن لتجد الذّات ذاتها من جديد داخل الإطار، وقد أصبحت موضوعا لفعلٍ متجدّدٍ وحالةٍ أخرى. والنّظر مستمرّ...
بقلم : خليل قويـعة
تتموقع الفنّانة ذاتا وموضوعا بين ما ترسم في بهتة العالم وقد أربكتها فتنة الأسئلة وحمّى الألوان السّاخنة
الجسدَ منطلق اللّوحة تشكيليّا وهو مآلها الأوحد وتصير إليه تأويليّا.
ينتظم اليوم بدار الثقافة بقليبية معرض الرّسامة كوثر دمّق، ضمن افتتاح فعاليّات الملتقى المتوسّطي السّنوي للفنون التّشكيليّة الذي تنظّمه الجمعيّة المتوسّطية للصّورة والحركة من 24 إلى 26 ديسمبر الجاري.
تطالعنا لوحات كوثر دمّق ببنية تشكيليّة متشظّية، تتمدّد لتشمل كافّة الفضاء التّصويري. وما بين اللّمسات الحادّة والعلامات المتلاشية في شكل شظايا متناثرة، تلمع صورة الجسد الأنثويّ وهي بصدد التّكوّن. صورة تبدو متوازنة تارة، مشوّهة تارة أخرى، ولكنّها في كلتا الحالتين حبلى بشحنات تعبيريّة ملغّزة، نستدرجها، تستدرجنا شيئا فشيئا من خلال حركة التّشظّي وانفجار العلامات الخطّية بألوان صارخة وحساسيّات ضوئيّة حادّة بالأحمر والقرمزي والبرتقاليّ والبنفسجي والأصفر الفاقع... أمّا الألوان الباردة، مثل الفيروزيّ والأزرق، فهي مجرّد مؤثّرات داعمة للاحتدام اللّوني. فخلف هذه التّوتّرات اللّونيّة التي تهيكل طبقات الفضاء التّشكيلي تتراءى لنا علامات الجسد الأنثويّ وهو ينتـفض، يصرخ تشكيليّا، يستعرض فتـنته، يغتـبط، يتعرّى، يتجلّى فيثـير فضول العين ويخاطب المناطق الخفيّة داخل هوامات العين النّاظرة...
إنّ العين نزقة ولمّاحة والنّظر كشّاف ولكنّ اللّوحة اكتشاف وانكشاف من خلال تصويريّة مخاتلة وفرشاة لعوبة تستدرج أعمق الملامح سرّيةً في أعماق الذّات المنتفضة. ولعلّ من أبرز مفارقات هذه التّجربة أنّ تصريح الألوان ووهجها الحركيّ المتوتّر لا يغنينا عن تلميح الخطوط وصمتها التّراجيدي المعبّر.إذ بين هذا وذاك، ثمّة أسلوب في قول الجسد، على ضوئه تتحدّد خصوصيّة الرّؤية.
وليست الخطوط تفصيلا هندسيّا للفضاء التّشكيلي أو تفصيلا تشريحيّا للجسد المتشكّل، وليست في خدمة وضوح الشكل، فحسب. بل قد تظهر على العكس من ذلك. إنّ الخطوط تنشط في غير ما يلائم طبيعتها، حيث تحاول الفنّانة من خلالها أن تخفي الحدود الفاصلة بين الشّكل والأرضيّة، فتجعل منها مؤثّرات تستعيد في الفضاء حالة غموضه الأوّلي والأصيل... ويبدو ذلك، بصفة خاصّة، على مستوى توظيف خيوط الصّوف وهي تبعث بإيقاع حركيّ تتنفّس منه صورة الجسد، ولكنّه يزيح النّظر عمّا تحته من تفاصيل أيقونيّة مباشرة. على هذا النّحو، تُخفي الخطوط ما أجلته اللّمسات والبقع لتشكّل طبقة شفيفة ومتراكبة على المساحة، قد تغطّي ولكنّها لا تخفي. فكيف نرى ما نشعر به وكيف نستشعر مآلات ما نرى بين أرجاء لوحة مهتزّة، كلّ ما بها متحرّك، لا قرار له، كيف لنا أن نرصد خيوطا رابطة بين الشكل في اللّوحة ومشكلته داخل الذّات، بين الصّورة وتصوّراتها المحتملة، بين فكرة الخطوط وغواية الشكل، عندما يستحيل إلى جسد ينظر إلينا، يناظرنا، يواجهنا، قبل أن نناظره وننظر فيه، إليه؟
نشعر بأنّ الجسدَ قدَرُ الفنّانة، إنّه منطلق اللّوحة تشكيليّا وهو مآلها الأوحد التي تصير إليه اللّوحة تأويليّا. ونشعر بأنّ اللّوحة تعرية للكُمون السّرّي أو السّر الكامن خلف لمسات متناثرة هنا وهناك وقد أربكتها فتنة الجسد وروّعتها بَهـتَةُ العالم وأيقظها صمت القماشة. إنّها في الأصل، لن تعرض أمامنا شيئا آخر، سوى قصّة تكوّنها أمام العين... وتظلّ اللّوحة مسارا مستمرّا من تشكّلات الأنوثة التي بقدر فيضها في حلاوة الغموض، يكون نضجها، وبقدر قدرتها على الكشف، تكون خبرتها في الإخفاء. فقد تُعرّي ولكنّها تُجرّد. هكذا، يتحوّل الجسد إلى كتلة من العلامات واللّمسات والخطوط والخيوط وهي بصدد التّحلّل. وبنفس القدر، تتحوّل الصّورة إلى كيان هلاميّ وهو بصدد الحُلول، حلول الدّاخل في الخارج، الذّات النّاظرة في عالم مرئيّ متخارج وحلول الخفيّ في الظّاهر والظّاهر في الملغز والإشكاليّ. إنّه الجسد المتحوّل من طور إلى آخر ومن ولادة إلى أخرى، وهو يخترق عتبات التّأويل، فيثبت خصوبته...
نشعر بأنّ اللّوحة مسار من التّشكّلات التي لا ولن تدرك الاكتمال، إذ البنية التّشريحيّة للأجساد ما تزال رخوة، في شكل خطاطات أوّليّة لم تُضبط تناسباتها بعد، فيما البؤرة الضّوئيّة للجسد لم تنفصل عن الأرضيّة التي تستقبل ما يفيض عنه من لمسات مداعبة، هي بمثابة بذور لولادة مستمرّة في الزّمن الإنشائيّ، لا قرار لها ولا استقرار... كما تبدو لوحات كوثر دمّق بحوثا فنيّة باتّجاه رصد نبضات الجسد وهو يعتمل أمامنا لمسة، لمسةً وخطّا، خطّا، في معركته من أجل تأكيد الوجود. فليس الجسد مجرّد تعيّن في الفضاء أو شخيصة شاخصة تستعيد أمامنا ملامح منسيّة، إنّه عبور شقيّ إلى الكينونة وجسر نحو الوجود.
هكذا، يكون الفنّ تداركا لفوضى الواقع ونقصانه من أجل إضاءة مقاطع مختلفة من عناء الوجود ومكابدة الشّرط الإنساني عندما تلمع صورة الجسد فيستعرض مساره التّكويني على الأرض/ الأرضيّة ما بين الخفاء والتّجلّي، من أجل أن يكون أقصى ما نرى. وهكذا، تتموقع الفنّانة ذاتا وموضوعا بين ما ترسم في بهتة العالم وقد أربكتها فتنة الأسئلة وحمّى الألوان السّاخنة، فتشكّل صورتها الأخرى خلف ما تُخفي وما تُضمر... إنّها هُنـاك، في ركن قصيّ من عالم متحرّك ومتشظّي تزدحم فيه ذبذبات الضّوء الآسر، وهي أيضا هُــنا، داخل اللّوحة، تتنفّس من جديد على عتبات الدّهشة، عسى أن تكون ما ترى، ما بين غواية العين وحكمة النّظر العارف. إذ الفنّانة، من خلال اللّوحة، تحيل ذاتها على حُكم النّظر إلى/ في اللّوحة. قال دنيس ريهو: "على العكس من الأفكار السّائدة، لا يكفي أن نرى حتّى نكون في مستوى الحُكم على ما نرى، ذلك لأنّه حتّى نرى جيّدا، يجب أن نعرف، نعرف إلى ماذا ننظر وكيف ننظر إلى ما نرى". وقد سبق أن قالت الفنّانة، ذات مشارَكة في صالون صفاقس السنوي سنة 2017: "يتضمّن التّعبير عن مفهوم "الجسد" في ممارستي التّشكيليّة صورة متحرّرة للجسد الأنثوي وذلك بتسليط الضّوء على بعض التّفاصيل"، لتضيف في آخر شهادتها: "كأنّ الصّورة تذوب في فضاء ملمحها معلنة عن حضورها المادّي في خضمّ تراكمات المؤثّرات التّشكيليّة... لنجد أنفسنا داخل عالم مرسوم".
وقد تنفلت الذّات من عالمها ويتحرّر الجسد من خلال اللّوحة فَيَهـِيم بين العلامات والمؤثّرات التّشكيليّة المخادعة، ولكن لتجد الذّات ذاتها من جديد داخل الإطار، وقد أصبحت موضوعا لفعلٍ متجدّدٍ وحالةٍ أخرى. والنّظر مستمرّ...