إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مقال رأي / بؤس الثورة: من هم شباب الربيع العربي ؟

ما إن خرج الناس للتظاهر، واحتلال الساحات في المدن العربية، قبل أكثر من عقد من الزمن، حتى عمّت موجة من التهليل والتفاؤل التحليلات والكتابات الموازية للحدث. ليجري الربط سريعا، سواء في وسائل الإعلام، أو حتى في ذهنية وخطاب المعارضات وقيادات المحتجين، بين ما تشهده الساحات العربية وما بدأ من مسار التحوّل إلى الديمقراطي في دول أوروبا الجنوبية، اليونان والبرتغال وإسبانيا، خلال عقد السبعينيات، ثم تمدّد شرقا بعد انهيار جدار برلين، وتفكّك الاتحاد السوفيتي. ولم يفت كثير من هواة التاريخ تشبيه ما يحصل بربيع الشعوب الأوروبية في القرن التاسع عشر. كما حازت الفاعلية السياسية، التي أظهرتها بعض الوجوه الشابة خلال المرحلة الأولى من الاحتجاجات، على اهتمام واسع، لم يقتصر فقط على وسائل الإعلام والكتابات الصحفية والأكاديمية، بل تعداها إلى الأوساط السياسية المحلية والدولية. ضمن هذا السياق، دخلت فئات من أجيال جديدة على خط العمل السياسي، أُطلق عليها تسمية “الشباب”، وهم مجموعة غير معرّفة سياسيا، إنما بفئتها العمرية فقط. وبعدما انتهت الفترة التفاؤلية، التي كالت المديح للقادمين الجدد، تكشّفت الانتفاضات العربية، بموجاتها المتلاحقة، عن مسارات دموية لم تستثن “شبابها” من المصائر البائسة. مثل القتل والاعتقال المديد، والموت تحت التعذيب؛ أو انتحار عدد من الشخصيات التي انخرطت في حركات الاحتجاج؛ أو اضطرارهم للعيش في المنافي؛ أو عودتهم لأحضان جلاديهم بعد أزمات نفسية وصحيّة حادة. كما شهدنا التحاق بعضهم بجماعات متطرفة، وتبنّي الخطابات الطائفية والدينية المتشددة؛ أو التكيّف مع متطلبات سوق وسائل الإعلام والمنظمات الدولية، حكومية كانت أو غير حكومية؛ أو التداوي بنجاحات مهنية ودراسية فردية. تفرّقت مصائر “الشباب”، وعانوا ما عانته بلدانهم وثوراتهم، إلا أن لغزهم ما يزال دون حل. من هم هؤلاء الشباب فعلا؟ ربما لم يعد من الممكن تأجيل هذا السؤال، ليس لأنهم جميعا الآن باتوا في سن الكهولة، وبالتالي انقضى شبابهم دون أن نفهم بالضبط ما الذي يعنيه وصف “الشباب” سيسيولوجيا وسياسيا، بل أيضا لأن كثيرا منهم ما يزال “ناشطا” بشكل أو بآخر، وعلى كل المستويات، وبالتالي فهم في صدارة العمل السياسي والثقافي العربي إلى حد كبير، والتفكير بحالتهم شديد الأهمية لفهم مرحلة ما بعد الربيع العربي بأكملها. من أين أتى “الشباب” فعلا وإلى أين مضوا؟

 في مديح “الشباب”: أليس للمتطرفين شبابهم أيضا؟

إبّان انطلاق الانتفاضات العربية، أعطي لمفردة “الشباب” طابع سحري، لتضاف إلى قاموس طويل من الكلمات التي لم تُعرف لها دلالة محدّدة طوال السنوات الماضية، رغم شيوعها واستخدامها. لم يخلُ مديح الشباب، الذي قاده في الغالب مثقفون وسياسيون من جيل أكبر، من تصفية حسابات هؤلاء الشخصية مع خصومهم، أو حتى مع منجزاتهم وانتماءاتهم السياسية السابقة. وأهم ما سيُمدح في “الشباب”، إذا استثنينا نضارةَ شبابهم وحيويتهم بحدّ ذاتها، عدم انتمائهم للنخب الثقافية المكرّسة، رغم أنهم بطبيعة الحال، وبحكم العمر، لم يتوافر لهم الوقت والمنجز بعد كي ينتموا لهذه النخب، حتى ولو أظهرت الأيام أن بعضهم كان همّه التكرّس ولو دون إنجاز، وانزلق ليلتحق بأي نخبة صادفها من موقع التابع، وليس من موقع الناقد والندّ. كما كان من مواضع الترحيب بالشباب عدم انخراطهم في الأحزاب السياسية والعقائدية، وتحررهم من اللغة السائدة لدى جيل سابق، وفي هذا السياق لم يكن المقصود بالأحزاب واللغة السابقة إلا الأحزاب اليسارية والقومية، التي عاشت انكسار مشاريعها، سواء بعد هزيمة حزيران 1967، أو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، وانزياح بعض كوادرها وتنظيماتها إلى مواقع سياسية وفكرية أخرى، ليبرالية أو إسلامية. في الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية محافظة على خطابها وجمهورها، وتمارس تقدّما متواصلا، مستفيدة من أجواء التديّن والمحافظة الاجتماعية المتصاعدة في المنطقة منذ السبعينيات، والتي شهدت تحوّلا شديد التطيّيف بعد الحرب على العراق. والمتابع لبعض الحركات السياسية الشبابية الناشئة في غير دولة عربية، سواء في بدايات الربيع العربي أو قبله بقليل، سيلاحظ تأكيدها في تعريفها لنفسها أنها لا تتّبع “أيديولوجيا”، وهو ما يمكن تفسيره ضمن السياق السوري مثلا بالرغبة التجميعية والمنطق الائتلافي السائد قبل عقد في أوساط المعارضة، والتوجه إلى التخفّف من الحالة العقائدية الثقيلة، التي كان يفرضها النظام ووسائل إعلامه، رغم أن هذا الأخير لم تفته موجة التخفّف من الأيديولوجيا منذ مطلع الألفية، واستثمر لتحسين صورته وتعديلها بما يتناسب مع مزاج الفئات الاقتصادية والاجتماعية الصاعدة، والمستفيدة من توجهاته الاقتصادية الليبرالية منذ التسعينيات، والتي تسارعت بعد وصول الأسد الابن إلى السلطة. ضمن الإطار العربي، يتقاطع هذا الميل “اللا أيديولوجي” لدى الحركات السياسية الناشئة مع ما هو سائد في الحالة السورية، كما أنه لا ينفصل عن موجة من الحركات السياسية، التي بدأت تظهر على الساحة العالمية منذ أواخر التسعينيات ومطلع الألفية، وهي المرحلة التي كانت الديمقراطية الليبرالية تعيش فيها واحدة من ذرواتها التبشيرية بوصفها نموذجا سياسيا. تأثرت تلك الحركات بهذا السياق، فنادت بالمرونة التنظيمية والفردانية، وتذويب العقائدي السابق لصالح تكريس التمايزات الفردية.  يضاف إلى هذا التهليل للتقدم التقني، واستخدام وسائل الميديا الجديدة، ما كان يعني زيادة مجال الفاعلين السياسيين، وتوسيع إمكانية الحشد والتعبئة، وهذا يتصل بمديح ثورات سلمية تريد الانفتاح على استخدام التكنولوجيا، وعلى العالم من خلفها. وهو كلام سرعان ما أثبتت الأيام أنه مجرد أمنيات، إذ كشف مسار الأحداث كيف سيموت آلاف الشباب بيد آلة العنف في المعارك أو المعتقلات، أو غرقا في البحار، بينما سيلتحق آلاف منهم بالفصائل المقاتلة، وأهمها الجماعات الجهادية الأقوى والأكثر تنظيما، هؤلاء بالتحديد قلّما يجري الإضاءة عليهم  لدى الحديث عن الربيع العربي ومصائر شبابه، ربما لأنهم لا يحاكون الصورة المشتهاة أو المتخيلة عن الشباب، رغم أن كثيرين منهم كان منخرطا في حركات الاحتجاج والتظاهر السلمي قبل التحاقه بالجماعات المقاتلة. 

سوسيولوجيا “الشباب”: من هم ومن أين أتوا؟

لا يمكن أن يكون كل الكلام الوارد عن “الشباب”، ودورهم الحيوي في الانتفاضات العربية، قد أتى من الفراغ، أو لمُجرد حماس جيل سابق، يريد أن يُسلّم المسؤوليات لجيل أتى بعده، على ساحة الصراع ما بين الأنظمة العربية ومعارضاتها. لا ينفصل شباب الانتفاضات العربية عن سياقهم العالمي، المرتبط بلحظة صعود الدعاية للديمقراطية الليبرالية، والرغبة في التخلّص من الأنظمة الاستبدادية، التي تهاوت كثير من نماذجها العالمية خلال فترة ما تزال قريبة من الذاكرة. نشأ معظمهم أو تكوّن وعيه السياسي والفكري في المدن العربية، وفي إطار تحولاتها الاقتصادية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، وتنتمي غالبيتهم إلى ما يطلق عليه تسمية “الطبقة الوسطى المدينية”، وهذا المصطلح أيضا واسع وفضفاض وغير دقيق في السياق العربي، وتركيبة المجتمعات في مدنه، التي لا تشبه بالتأكيد المدينة المعيارية التي قد تخطر في الذهن.  نشط هؤلاء “الشباب” ضمن شبكات من العلاقات الواسعة، تستند إلى المعرفة الشخصية والصداقة في أغلب الأحيان، وقاموا باحتجاجات أو نشاطات اعتراضية قليلة الخطورة، تم تضخيم أهميتها ودورها في كثير من الأحيان، على اعتبار أن قدرتهم على الوصول إلى وسائل الإعلام، سواء التقليدية منها أو الجديدة، أعلى من غيرهم، كما أن قدرتهم على التواصل مع الخارج أكبر، وأحيانا امتلكوا قنوات للتواصل مع السلطة. سيكتسب هؤلاء في سياق الربيع العربي صفة ناشط/ة activist، وهي كلمة جاءت من الإنجليزية لتغزو غالبية اللغات، بلفظها الصريح أو المترجم أو المُعدّل، لتحلّ مكان كلمة “مناضل”، وهذا أمر لا يخلو من الدلالة، كما أنه لم يمر دون أن يثير نقدا وتساؤلات في عدد من  الكتابات الصحفية والأكاديمية العربية والفرنسية والإنجليزية.   هكذا يمكن القول إن فئةً من الشباب، تنتمي إلى أوساط اقتصادية اجتماعية متوسطة، وبعضها متوسطة عليا (بالمعايير العربية والعالمثالثية)، حازت على مستوى تعليمي جامعي في أغلب الحالات، ونشأت أو تكوّنت في المدن الكبرى، وأظهرت ميلا للانفتاح أكثر على الخارج، مستندة إلى رصيدها التعليمي، ومستواها الاجتماعي الاقتصادي، إضافة إلى تمكّنها من استخدام أدوات ووسائل التواصل الحديثة، كانت المقصودة أكثر من غيرها من كلمة “شباب”. وليس مثلا شباب الأرياف وعشوائيات المدن، الأقل تعليما ودخلا، أو “الأقل حظا” إذا استعملنا تعبيرا “شبابيا” ينتمي لعالم الناشطية. ربما لو أجري مسح إحصائي دقيق فسيكون عدد أولئك الشباب أقل بكثير من شبان آخرين التحقوا بجماعات مقاتلة مثلا، سواء في البلدان التي شهدت حروبا أهلية وإقليمية، مثل سوريا واليمن وليبيا؛ أو التي شهدت اضطرابات وأعمالا إرهابية، مثل مصر. دعك من “الشباب” الذين صدّرتهم تونس، ليقاتلوا في التنظيمات المتطرّفة في المشرق العربي. لعديد من الأسباب المذكورة سابقا، نالت فئة “الشباب الطاهر البريء” بالتحديد، أي الأكثر انفتاحا على “العالم”، اهتماما واسعا، وجرى التركيز على دورها ونشاطاتها، وإعطائها دورا مركزيا على وسائل الإعلام. وبالطبع لم يمرّ هذا التضخيم دون نقد وتساؤل: لماذا يحظى بعض الضحايا والمعتقلين من هذه الفئة باهتمام أكثر من غيرهم؟  لماذا تنال فعالية تشغيل أغنية ثورية في ساحة عامة مثلا تغطية إعلامية أكثر من مظاهرة، ربما سقط فيها ضحايا، في مدينة بعيدة قليلا عن المراكز الكبرى؟ قد تكون هذه الأسئلة مهمة في زمن طرحها، ولا معنى كبيرا لها اليوم، إلا من ناحية مساهمتهما في حل لغز “الشباب”. يبدو بالفعل أن هذه المفردة لا تمتلك دلالة ديمغرافية فعليا، وإنما سيسيولوجية/أيديولوجية: الشباب هم الأفراد الليبراليون من الفئات الوسطى المدينية بالمعيار العربي، كانوا جانبا من انفجار اجتماعي كبير، ولكنهم صاروا الفئة الأعلى صوتا فيه، لقدرتهم على “التواصل”، وميلهم الأيديولوجي “السليم” من منظور “العالم”. لم يشكلّوا قوة اجتماعية أو سياسية في بلدانهم، ولكنهم أسسوا لحالة ناشطية عربية فردانية، جعلت “العالم” يسعد بوجود أشخاص يشبهونه بين العرب، الذين تبيّن أنهم ليسوا جميعا إرهابيين أو ميلشياويين!

 ما بعد الربيع: من الناشط إلى “المدير التنفيذي”

 يمكن القول إن الربيع العربي واجه عقبات تتعلّق بنخبه، إذا استعملنا تعبيرا “عتيقا”، فعدا عن وحشية الأنظمة التي لا يمكن تجاهلها، وكشفها عن رغبةٍ إبادية تجاه من يعارضها، أتت الانتفاضات في زمن ساد فيه نموذج الناشطين المحترفين، الذين خلّفتهم سنوات الصعود النيوليبرالي، ونموذجها عن “منظمات المجتمع المدني” بدل الأحزاب السياسية، فلا قضية محددة توجه عمل هؤلاء، بل إن النشاط بحد ذاته هدف وغاية، والالتزام “الناشطي” يحفزهم بشكل مستدام، وهو مرتبط مع مفهوم للذات الفردية قائم على التفوّق الأخلاقي وليس التفكير السياسي، وربما هذا ما يفسر تشديدهم الدائم على أن صراعاتهم لا تمتلك أية صفة سياسية (وائل غنيم في مصر تحدّث عن أن ثورة يناير “غير سياسية”)، ومجرّدة من أبعاد الصراع الاقتصادي والاجتماعي. فما بالك بقضايا أخرى شديدة الإلحاح والحضور، لا يقبل “الشباب” مجرد تلطيخ ألسنتهم بذكرها، مثل الطائفية والعشائرية. إنهم أخلاقيون فقط.  هكذا يغدو العمل السياسي، ضمن نموذج الناشطية، شكلا من أشكال تجميع مواقف من قضايا ممتدة على كامل الكوكب، وهذا قد يؤدي إلى المبالغة بالشعبوية في بعض اللحظات. فرغم أن كثيرين من الناشطين العرب يظنون أنفسهم ليبراليين وعقلانيين وبعيدين عن الشعبوية، إلا أنهم، على ما أثبتت التجربة العملية المريرة، لا يتقنون سوى رفع شعارات لا يمكنهم الدفاع عنها أو تنفيذها، ليمهّدوا الطريق أمام من هم أقوى منهم، وأوضح هدفا وأكثر تنظيما. ولم يكن الأقوى والأكثر تنظيما في الحالة العربية سوى جماعات الإسلام السياسي أو العسكر. في الحالة السورية تواطأت الحالة الناشطية السائدة مع أشكال من الأصولية الدينية والمحافظة الاجتماعية، تحت شعار القرب من الناس، وتحقيق مطالبهم في تسريع إسقاط النظام، متجاهلة بشكل تام أن هذه المحافظة الاجتماعية والأصوليّة الدينية لن تتوقفا قبل أن تجدا معادلاتهما السياسية، التي تمكّنهما من فرض نفسيهما ونموذجيهما واقعا لا فكاك منه، وهو ما حصل في مناطق كثيرة في سياق الحرب السورية. غير أن النموذج الناشطي لا يعرف اتخاذ خطوة نقدية للوراء، من أجل تقييم العمل والنظر بالطرق المتاحة للنضال عند كل مرحلة، بل يهتم فقط بالقفز للأمام دون النظر إلى الخلف، وهذا يجعل “الثورات مستمرة”، رغم كل الفشل والانهيار الذي عرفته المنطقة. كيف ولماذا وأين الثورات مستمرة؟ ربما في الذات الأخلاقية للناشطين فقط.    في فترة ما بعد الربيع العربي، ومع استمرار شبكات الدعم والسيولة المالية، وما تخلقه من سهولة التنّقل وبناء العلاقات، والوصول إلى مراكز القرار، وسهولة الكذب عليها أو تملّقها ومحاباتها، سيجري ترفيع بعض “الناشطين الشباب” إلى رتبة مدراء تنفيذيين ومديري برامج واستشاريين. ولو أردنا رسم صورة كاريكاتورية  لقلنا إن سوريا أكثر بلد أنتج وصدّر مدراء تنفيذيين في العالم نسبة لعدد سكانه، وقد ينافسها في هذا الضفة الغربية أو لبنان فقط. ولهؤلاء المدراء الجدد قفزاتهم الميمونة، من الاجتماعات الأممية  إلى اللجان الدستورية؛ مرورا بـ”بناء الثقة” و”مد الجسور” و”العصف الذهني” و”إعادة الإعمار”؛ وصولا إلى المنح الفنية والثقافية والإعلامية. بعض هؤلاء سيستفيد من الشهرة السهلة، التي تقدمها مواقع التواصل، وسيجرّ خلفه جيشا من المتابعين، لتهزم الكثرة الشجاعة والعقل معا وبضربة واحدة؛ بينما سيدّعي بعضهم الآخر، ودون أن يرف له جفن، أنه “يعمل بصمت”، رغم أنه من غير المفهوم لماذا سيصدر صوتا. مَن يستطيع الوصول إلى وزارات دول نافذة، ومنظمات دولية وإقليمية، وأكاديميات ومنابر إعلامية، لماذا عليه أن يصدر صوتا وكل هذا متاح له؟ ضمن هذا السياق، تلقّى هؤلاء رعاية غير مشروطة ومبالغ فيها من قبل حلفاء الانتفاضات العربية، الذين  يتدرّجون ما بين دول، ومنظمات حكومية أو غير حكومية، ومؤسسات ثقافية وإعلامية وأكاديمية، وشخصيات نافذة في الأوساط المذكورة آنفا، تفرّغت وتورّطت في تكريس هذا النوع من الناشطين في صدارة المشهد. ومع تراجع مستوى الاهتمام بالمنطقة، أو ببعض الناشطين شخصيا، سيسعى هؤلاء إلى الاندماج بنقاشات التريند العالمي، ظنّا منهم أن هذه هي المعاصرة والحداثة. إذ تقادمت بالنسبة للنموذج الناشطي موضة إسقاط الأنظمة، وآن الأوان للقفز باتجاه مهام أخلاقية جديدة.  هذا هو ببساطة حال “الناشطية” التي تنتج البؤس الثوري، والتي لا تميّزُ بين محاباة الأصولية والدفاع عن الناس؛ أو بين إسقاط الأنظمة وحماية دب الباندا أو تنظيف المحيطات. أليست كلّها قضايا؟   

مصطفى مومني

 (باحث و طالب جامعي)

مقال رأي /  بؤس الثورة: من هم شباب الربيع العربي ؟

ما إن خرج الناس للتظاهر، واحتلال الساحات في المدن العربية، قبل أكثر من عقد من الزمن، حتى عمّت موجة من التهليل والتفاؤل التحليلات والكتابات الموازية للحدث. ليجري الربط سريعا، سواء في وسائل الإعلام، أو حتى في ذهنية وخطاب المعارضات وقيادات المحتجين، بين ما تشهده الساحات العربية وما بدأ من مسار التحوّل إلى الديمقراطي في دول أوروبا الجنوبية، اليونان والبرتغال وإسبانيا، خلال عقد السبعينيات، ثم تمدّد شرقا بعد انهيار جدار برلين، وتفكّك الاتحاد السوفيتي. ولم يفت كثير من هواة التاريخ تشبيه ما يحصل بربيع الشعوب الأوروبية في القرن التاسع عشر. كما حازت الفاعلية السياسية، التي أظهرتها بعض الوجوه الشابة خلال المرحلة الأولى من الاحتجاجات، على اهتمام واسع، لم يقتصر فقط على وسائل الإعلام والكتابات الصحفية والأكاديمية، بل تعداها إلى الأوساط السياسية المحلية والدولية. ضمن هذا السياق، دخلت فئات من أجيال جديدة على خط العمل السياسي، أُطلق عليها تسمية “الشباب”، وهم مجموعة غير معرّفة سياسيا، إنما بفئتها العمرية فقط. وبعدما انتهت الفترة التفاؤلية، التي كالت المديح للقادمين الجدد، تكشّفت الانتفاضات العربية، بموجاتها المتلاحقة، عن مسارات دموية لم تستثن “شبابها” من المصائر البائسة. مثل القتل والاعتقال المديد، والموت تحت التعذيب؛ أو انتحار عدد من الشخصيات التي انخرطت في حركات الاحتجاج؛ أو اضطرارهم للعيش في المنافي؛ أو عودتهم لأحضان جلاديهم بعد أزمات نفسية وصحيّة حادة. كما شهدنا التحاق بعضهم بجماعات متطرفة، وتبنّي الخطابات الطائفية والدينية المتشددة؛ أو التكيّف مع متطلبات سوق وسائل الإعلام والمنظمات الدولية، حكومية كانت أو غير حكومية؛ أو التداوي بنجاحات مهنية ودراسية فردية. تفرّقت مصائر “الشباب”، وعانوا ما عانته بلدانهم وثوراتهم، إلا أن لغزهم ما يزال دون حل. من هم هؤلاء الشباب فعلا؟ ربما لم يعد من الممكن تأجيل هذا السؤال، ليس لأنهم جميعا الآن باتوا في سن الكهولة، وبالتالي انقضى شبابهم دون أن نفهم بالضبط ما الذي يعنيه وصف “الشباب” سيسيولوجيا وسياسيا، بل أيضا لأن كثيرا منهم ما يزال “ناشطا” بشكل أو بآخر، وعلى كل المستويات، وبالتالي فهم في صدارة العمل السياسي والثقافي العربي إلى حد كبير، والتفكير بحالتهم شديد الأهمية لفهم مرحلة ما بعد الربيع العربي بأكملها. من أين أتى “الشباب” فعلا وإلى أين مضوا؟

 في مديح “الشباب”: أليس للمتطرفين شبابهم أيضا؟

إبّان انطلاق الانتفاضات العربية، أعطي لمفردة “الشباب” طابع سحري، لتضاف إلى قاموس طويل من الكلمات التي لم تُعرف لها دلالة محدّدة طوال السنوات الماضية، رغم شيوعها واستخدامها. لم يخلُ مديح الشباب، الذي قاده في الغالب مثقفون وسياسيون من جيل أكبر، من تصفية حسابات هؤلاء الشخصية مع خصومهم، أو حتى مع منجزاتهم وانتماءاتهم السياسية السابقة. وأهم ما سيُمدح في “الشباب”، إذا استثنينا نضارةَ شبابهم وحيويتهم بحدّ ذاتها، عدم انتمائهم للنخب الثقافية المكرّسة، رغم أنهم بطبيعة الحال، وبحكم العمر، لم يتوافر لهم الوقت والمنجز بعد كي ينتموا لهذه النخب، حتى ولو أظهرت الأيام أن بعضهم كان همّه التكرّس ولو دون إنجاز، وانزلق ليلتحق بأي نخبة صادفها من موقع التابع، وليس من موقع الناقد والندّ. كما كان من مواضع الترحيب بالشباب عدم انخراطهم في الأحزاب السياسية والعقائدية، وتحررهم من اللغة السائدة لدى جيل سابق، وفي هذا السياق لم يكن المقصود بالأحزاب واللغة السابقة إلا الأحزاب اليسارية والقومية، التي عاشت انكسار مشاريعها، سواء بعد هزيمة حزيران 1967، أو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، وانزياح بعض كوادرها وتنظيماتها إلى مواقع سياسية وفكرية أخرى، ليبرالية أو إسلامية. في الوقت الذي كانت فيه الجماعات الإسلامية محافظة على خطابها وجمهورها، وتمارس تقدّما متواصلا، مستفيدة من أجواء التديّن والمحافظة الاجتماعية المتصاعدة في المنطقة منذ السبعينيات، والتي شهدت تحوّلا شديد التطيّيف بعد الحرب على العراق. والمتابع لبعض الحركات السياسية الشبابية الناشئة في غير دولة عربية، سواء في بدايات الربيع العربي أو قبله بقليل، سيلاحظ تأكيدها في تعريفها لنفسها أنها لا تتّبع “أيديولوجيا”، وهو ما يمكن تفسيره ضمن السياق السوري مثلا بالرغبة التجميعية والمنطق الائتلافي السائد قبل عقد في أوساط المعارضة، والتوجه إلى التخفّف من الحالة العقائدية الثقيلة، التي كان يفرضها النظام ووسائل إعلامه، رغم أن هذا الأخير لم تفته موجة التخفّف من الأيديولوجيا منذ مطلع الألفية، واستثمر لتحسين صورته وتعديلها بما يتناسب مع مزاج الفئات الاقتصادية والاجتماعية الصاعدة، والمستفيدة من توجهاته الاقتصادية الليبرالية منذ التسعينيات، والتي تسارعت بعد وصول الأسد الابن إلى السلطة. ضمن الإطار العربي، يتقاطع هذا الميل “اللا أيديولوجي” لدى الحركات السياسية الناشئة مع ما هو سائد في الحالة السورية، كما أنه لا ينفصل عن موجة من الحركات السياسية، التي بدأت تظهر على الساحة العالمية منذ أواخر التسعينيات ومطلع الألفية، وهي المرحلة التي كانت الديمقراطية الليبرالية تعيش فيها واحدة من ذرواتها التبشيرية بوصفها نموذجا سياسيا. تأثرت تلك الحركات بهذا السياق، فنادت بالمرونة التنظيمية والفردانية، وتذويب العقائدي السابق لصالح تكريس التمايزات الفردية.  يضاف إلى هذا التهليل للتقدم التقني، واستخدام وسائل الميديا الجديدة، ما كان يعني زيادة مجال الفاعلين السياسيين، وتوسيع إمكانية الحشد والتعبئة، وهذا يتصل بمديح ثورات سلمية تريد الانفتاح على استخدام التكنولوجيا، وعلى العالم من خلفها. وهو كلام سرعان ما أثبتت الأيام أنه مجرد أمنيات، إذ كشف مسار الأحداث كيف سيموت آلاف الشباب بيد آلة العنف في المعارك أو المعتقلات، أو غرقا في البحار، بينما سيلتحق آلاف منهم بالفصائل المقاتلة، وأهمها الجماعات الجهادية الأقوى والأكثر تنظيما، هؤلاء بالتحديد قلّما يجري الإضاءة عليهم  لدى الحديث عن الربيع العربي ومصائر شبابه، ربما لأنهم لا يحاكون الصورة المشتهاة أو المتخيلة عن الشباب، رغم أن كثيرين منهم كان منخرطا في حركات الاحتجاج والتظاهر السلمي قبل التحاقه بالجماعات المقاتلة. 

سوسيولوجيا “الشباب”: من هم ومن أين أتوا؟

لا يمكن أن يكون كل الكلام الوارد عن “الشباب”، ودورهم الحيوي في الانتفاضات العربية، قد أتى من الفراغ، أو لمُجرد حماس جيل سابق، يريد أن يُسلّم المسؤوليات لجيل أتى بعده، على ساحة الصراع ما بين الأنظمة العربية ومعارضاتها. لا ينفصل شباب الانتفاضات العربية عن سياقهم العالمي، المرتبط بلحظة صعود الدعاية للديمقراطية الليبرالية، والرغبة في التخلّص من الأنظمة الاستبدادية، التي تهاوت كثير من نماذجها العالمية خلال فترة ما تزال قريبة من الذاكرة. نشأ معظمهم أو تكوّن وعيه السياسي والفكري في المدن العربية، وفي إطار تحولاتها الاقتصادية والاجتماعية في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي، وتنتمي غالبيتهم إلى ما يطلق عليه تسمية “الطبقة الوسطى المدينية”، وهذا المصطلح أيضا واسع وفضفاض وغير دقيق في السياق العربي، وتركيبة المجتمعات في مدنه، التي لا تشبه بالتأكيد المدينة المعيارية التي قد تخطر في الذهن.  نشط هؤلاء “الشباب” ضمن شبكات من العلاقات الواسعة، تستند إلى المعرفة الشخصية والصداقة في أغلب الأحيان، وقاموا باحتجاجات أو نشاطات اعتراضية قليلة الخطورة، تم تضخيم أهميتها ودورها في كثير من الأحيان، على اعتبار أن قدرتهم على الوصول إلى وسائل الإعلام، سواء التقليدية منها أو الجديدة، أعلى من غيرهم، كما أن قدرتهم على التواصل مع الخارج أكبر، وأحيانا امتلكوا قنوات للتواصل مع السلطة. سيكتسب هؤلاء في سياق الربيع العربي صفة ناشط/ة activist، وهي كلمة جاءت من الإنجليزية لتغزو غالبية اللغات، بلفظها الصريح أو المترجم أو المُعدّل، لتحلّ مكان كلمة “مناضل”، وهذا أمر لا يخلو من الدلالة، كما أنه لم يمر دون أن يثير نقدا وتساؤلات في عدد من  الكتابات الصحفية والأكاديمية العربية والفرنسية والإنجليزية.   هكذا يمكن القول إن فئةً من الشباب، تنتمي إلى أوساط اقتصادية اجتماعية متوسطة، وبعضها متوسطة عليا (بالمعايير العربية والعالمثالثية)، حازت على مستوى تعليمي جامعي في أغلب الحالات، ونشأت أو تكوّنت في المدن الكبرى، وأظهرت ميلا للانفتاح أكثر على الخارج، مستندة إلى رصيدها التعليمي، ومستواها الاجتماعي الاقتصادي، إضافة إلى تمكّنها من استخدام أدوات ووسائل التواصل الحديثة، كانت المقصودة أكثر من غيرها من كلمة “شباب”. وليس مثلا شباب الأرياف وعشوائيات المدن، الأقل تعليما ودخلا، أو “الأقل حظا” إذا استعملنا تعبيرا “شبابيا” ينتمي لعالم الناشطية. ربما لو أجري مسح إحصائي دقيق فسيكون عدد أولئك الشباب أقل بكثير من شبان آخرين التحقوا بجماعات مقاتلة مثلا، سواء في البلدان التي شهدت حروبا أهلية وإقليمية، مثل سوريا واليمن وليبيا؛ أو التي شهدت اضطرابات وأعمالا إرهابية، مثل مصر. دعك من “الشباب” الذين صدّرتهم تونس، ليقاتلوا في التنظيمات المتطرّفة في المشرق العربي. لعديد من الأسباب المذكورة سابقا، نالت فئة “الشباب الطاهر البريء” بالتحديد، أي الأكثر انفتاحا على “العالم”، اهتماما واسعا، وجرى التركيز على دورها ونشاطاتها، وإعطائها دورا مركزيا على وسائل الإعلام. وبالطبع لم يمرّ هذا التضخيم دون نقد وتساؤل: لماذا يحظى بعض الضحايا والمعتقلين من هذه الفئة باهتمام أكثر من غيرهم؟  لماذا تنال فعالية تشغيل أغنية ثورية في ساحة عامة مثلا تغطية إعلامية أكثر من مظاهرة، ربما سقط فيها ضحايا، في مدينة بعيدة قليلا عن المراكز الكبرى؟ قد تكون هذه الأسئلة مهمة في زمن طرحها، ولا معنى كبيرا لها اليوم، إلا من ناحية مساهمتهما في حل لغز “الشباب”. يبدو بالفعل أن هذه المفردة لا تمتلك دلالة ديمغرافية فعليا، وإنما سيسيولوجية/أيديولوجية: الشباب هم الأفراد الليبراليون من الفئات الوسطى المدينية بالمعيار العربي، كانوا جانبا من انفجار اجتماعي كبير، ولكنهم صاروا الفئة الأعلى صوتا فيه، لقدرتهم على “التواصل”، وميلهم الأيديولوجي “السليم” من منظور “العالم”. لم يشكلّوا قوة اجتماعية أو سياسية في بلدانهم، ولكنهم أسسوا لحالة ناشطية عربية فردانية، جعلت “العالم” يسعد بوجود أشخاص يشبهونه بين العرب، الذين تبيّن أنهم ليسوا جميعا إرهابيين أو ميلشياويين!

 ما بعد الربيع: من الناشط إلى “المدير التنفيذي”

 يمكن القول إن الربيع العربي واجه عقبات تتعلّق بنخبه، إذا استعملنا تعبيرا “عتيقا”، فعدا عن وحشية الأنظمة التي لا يمكن تجاهلها، وكشفها عن رغبةٍ إبادية تجاه من يعارضها، أتت الانتفاضات في زمن ساد فيه نموذج الناشطين المحترفين، الذين خلّفتهم سنوات الصعود النيوليبرالي، ونموذجها عن “منظمات المجتمع المدني” بدل الأحزاب السياسية، فلا قضية محددة توجه عمل هؤلاء، بل إن النشاط بحد ذاته هدف وغاية، والالتزام “الناشطي” يحفزهم بشكل مستدام، وهو مرتبط مع مفهوم للذات الفردية قائم على التفوّق الأخلاقي وليس التفكير السياسي، وربما هذا ما يفسر تشديدهم الدائم على أن صراعاتهم لا تمتلك أية صفة سياسية (وائل غنيم في مصر تحدّث عن أن ثورة يناير “غير سياسية”)، ومجرّدة من أبعاد الصراع الاقتصادي والاجتماعي. فما بالك بقضايا أخرى شديدة الإلحاح والحضور، لا يقبل “الشباب” مجرد تلطيخ ألسنتهم بذكرها، مثل الطائفية والعشائرية. إنهم أخلاقيون فقط.  هكذا يغدو العمل السياسي، ضمن نموذج الناشطية، شكلا من أشكال تجميع مواقف من قضايا ممتدة على كامل الكوكب، وهذا قد يؤدي إلى المبالغة بالشعبوية في بعض اللحظات. فرغم أن كثيرين من الناشطين العرب يظنون أنفسهم ليبراليين وعقلانيين وبعيدين عن الشعبوية، إلا أنهم، على ما أثبتت التجربة العملية المريرة، لا يتقنون سوى رفع شعارات لا يمكنهم الدفاع عنها أو تنفيذها، ليمهّدوا الطريق أمام من هم أقوى منهم، وأوضح هدفا وأكثر تنظيما. ولم يكن الأقوى والأكثر تنظيما في الحالة العربية سوى جماعات الإسلام السياسي أو العسكر. في الحالة السورية تواطأت الحالة الناشطية السائدة مع أشكال من الأصولية الدينية والمحافظة الاجتماعية، تحت شعار القرب من الناس، وتحقيق مطالبهم في تسريع إسقاط النظام، متجاهلة بشكل تام أن هذه المحافظة الاجتماعية والأصوليّة الدينية لن تتوقفا قبل أن تجدا معادلاتهما السياسية، التي تمكّنهما من فرض نفسيهما ونموذجيهما واقعا لا فكاك منه، وهو ما حصل في مناطق كثيرة في سياق الحرب السورية. غير أن النموذج الناشطي لا يعرف اتخاذ خطوة نقدية للوراء، من أجل تقييم العمل والنظر بالطرق المتاحة للنضال عند كل مرحلة، بل يهتم فقط بالقفز للأمام دون النظر إلى الخلف، وهذا يجعل “الثورات مستمرة”، رغم كل الفشل والانهيار الذي عرفته المنطقة. كيف ولماذا وأين الثورات مستمرة؟ ربما في الذات الأخلاقية للناشطين فقط.    في فترة ما بعد الربيع العربي، ومع استمرار شبكات الدعم والسيولة المالية، وما تخلقه من سهولة التنّقل وبناء العلاقات، والوصول إلى مراكز القرار، وسهولة الكذب عليها أو تملّقها ومحاباتها، سيجري ترفيع بعض “الناشطين الشباب” إلى رتبة مدراء تنفيذيين ومديري برامج واستشاريين. ولو أردنا رسم صورة كاريكاتورية  لقلنا إن سوريا أكثر بلد أنتج وصدّر مدراء تنفيذيين في العالم نسبة لعدد سكانه، وقد ينافسها في هذا الضفة الغربية أو لبنان فقط. ولهؤلاء المدراء الجدد قفزاتهم الميمونة، من الاجتماعات الأممية  إلى اللجان الدستورية؛ مرورا بـ”بناء الثقة” و”مد الجسور” و”العصف الذهني” و”إعادة الإعمار”؛ وصولا إلى المنح الفنية والثقافية والإعلامية. بعض هؤلاء سيستفيد من الشهرة السهلة، التي تقدمها مواقع التواصل، وسيجرّ خلفه جيشا من المتابعين، لتهزم الكثرة الشجاعة والعقل معا وبضربة واحدة؛ بينما سيدّعي بعضهم الآخر، ودون أن يرف له جفن، أنه “يعمل بصمت”، رغم أنه من غير المفهوم لماذا سيصدر صوتا. مَن يستطيع الوصول إلى وزارات دول نافذة، ومنظمات دولية وإقليمية، وأكاديميات ومنابر إعلامية، لماذا عليه أن يصدر صوتا وكل هذا متاح له؟ ضمن هذا السياق، تلقّى هؤلاء رعاية غير مشروطة ومبالغ فيها من قبل حلفاء الانتفاضات العربية، الذين  يتدرّجون ما بين دول، ومنظمات حكومية أو غير حكومية، ومؤسسات ثقافية وإعلامية وأكاديمية، وشخصيات نافذة في الأوساط المذكورة آنفا، تفرّغت وتورّطت في تكريس هذا النوع من الناشطين في صدارة المشهد. ومع تراجع مستوى الاهتمام بالمنطقة، أو ببعض الناشطين شخصيا، سيسعى هؤلاء إلى الاندماج بنقاشات التريند العالمي، ظنّا منهم أن هذه هي المعاصرة والحداثة. إذ تقادمت بالنسبة للنموذج الناشطي موضة إسقاط الأنظمة، وآن الأوان للقفز باتجاه مهام أخلاقية جديدة.  هذا هو ببساطة حال “الناشطية” التي تنتج البؤس الثوري، والتي لا تميّزُ بين محاباة الأصولية والدفاع عن الناس؛ أو بين إسقاط الأنظمة وحماية دب الباندا أو تنظيف المحيطات. أليست كلّها قضايا؟   

مصطفى مومني

 (باحث و طالب جامعي)

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews