هناك أسباب كثيرة، اليوم، تدعو الى الاحتجاج في الشارع والتعبير عن الغضب كما كان يحصل طوال العشر سنوات السابقة والتي شهدنا خلالها احتجاجات عارمة واستنفارا كبيرا للشارع خاصة في الأزمات السياسية الكبرى، وفي لحظات التدافع الحزبي أو الأيديولوجي.. حيث عادة ما تكون الأغلبية متأهبة للدفاع عن ألوانها السياسية أو الحزبية وعن أفكارها الأيديولوجية بكل قوة، وقد شهدت شوارع العاصمة مظاهرات حاشدة استقطبت متحمسين من ولايات داخلية، كما شهدت أغلب المدن الكبرى داخل الجمهورية مثل هذه المظاهرات ..
ولكن في ظل أزمة سياسية مطبقة اليوم ومحكومة بمنعرجات خطيرة قد تفضي بدورها الى نهايات أخطر تحاول مختلف القوى سواء تلك المعارضة لمسار 25 جويلية بكل تصنيفاتها وتموقعاتها أو تلك المؤيدة لقيس سعيد، الاحتكام الى الشارع واختبار قوتها الشعبية، بحثا عن شرعية جماهيرية ما، لكن دون جدوى ودون تأثير.. حيث فشلت هذه القوى وطوال الأشهر الماضية في تثوير الشارع لصالحها، رغم أن كلا المعسكرين -معسكر 25 جويلية ومعسكر المعارضة بكل أطيافهما- يؤكد في خطاباته السياسية انه يمثل هذا الشعب ويعبر عن تطلعاته، ولكنه في المقابل يفشل في حشد الأنصار من أجل دعم أفكاره وما يعبّر عنه من قناعات.. حيث لم يفلح أي طرف في تنظيم مظاهرة شعبية حاشدة يمكن أن تعكس قوته في الشارع .
وبالتوازي مع هذه الأزمة السياسية لا يمكن حجب حقيقة عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد والتي أثرت بشكل مباشر على حياة الناس من خلال انهيار القدرة الشرائية للمواطنين والارتفاع المشط في البطالة وتزايد أعداد العاطلين عن العمل وارتفاع مؤشرات الفقر بالإضافة الى أزمات اجتماعية أخرى تأتي على هامش الأزمة، مثل الانقطاع المتكرر للماء على أكثر من منطقة وانقطاع الكهرباء وسوء الخدمات العمومية من صحة ونقل وتعليم، لكن كل هذه الأسباب مجتمعة لم تحرّك الشارع من أجل الاحتجاج.. هذا الشارع الذي بات مستنزفا كليا ولا يمكن القدرة على الرفض والتصدي في غياب خاصة قوى تأطيرية فاعلة ومؤثرة أو أمام تخلي القوى التقليدية، مثل اتحاد الشغل، في القيام بهذه الوظيفة التأطيرية .
السياسيون وحدهم في مواجهة مصيره
منذ 25 جويلية الماضي تحاول كل القوى المعارضة لتوجهات رئيس الجمهورية قيس سعيد استنفار الشارع في مسيرات حاشدة للإطاحة به، ورغم أن تفعيل قيس سعيد للفصل 80 من الدستور، يأتي بناء على لحظة احتجاجية أتت أساسا على خلفية تعامل الحكومة والبرلمان مع جائحة كورونا، حيث تم حرق بعض مقرات حركة النهضة، الا انه ورغم خطورة تلك الاحتجاجات وخطورتها على السلم الأهلي الا انها لم تكن عارمة رغم اتساع رقعتها الجغرافية وإمكانية تحويلها الى أعمال عنف خطيرة.. غير ان الرافضين لإعلان إجراءات 25 جويلية ورغم وقع الصدمة عليهم ومنعطف التدابير الاستثنائية الذي ادخل البلاد في واقع سياسي جديد إلا أنهم فشلوا منذ اللحظات الأولى في تحشيد الشارع وتثويره رفضا لهذه الإجراءات عكس ما ذهبت إليه التوقعات الأولى حول ما يحصل.. ووجدت القوى السياسية المتضررة سياسيا من إجراءات 25 جويلية نفسها شبه معزولة، عن عمقها الشعبي المزعوم، وتواجه لوحدها مصيرها وحتى محاولات تداركها بعد ذلك من خلال سعيها كل مرة الى تثوير هذه الشارع في مظاهرات حاشدة وقوية وشعبية تلفت أنظار الرأي العام المحلي والدولي لقضيتها، فشل كل مرة في تحقيق الهدف وظلت المظاهرات ولأشهر طويلة تتناقص بشكل متواتر .
وذات الأمر، ينسحب، على مؤيدي رئيس الجمهورية قيس سعيد الذين حاولوا كل مرة تجديد شرعيتهم الشعبية التي كانت منطلقا لمسار 25 جويلية، من خلال التحشيد لمظاهرات مؤيدة في الشارع ولكن دون جدوى.. فمعدل المشاركة لم يتجاوز سقف ثلاثة آلاف مؤيد في الشارع لإجراءات 25 جويلية، ولعل هذا الإخفاق للمؤيدين يُترجم بشكل مباشر من خلال عدد المشاركين في الاستشارة الوطنية.. بما يؤكد أن الشارع بات يتجاهل بشكل كبير الرافضين والمؤيدين لمسار 25 جويلية، ويتجاهل النخب السياسية بمختلف أطيافها .
أسباب اجتماعية واحتجاج غائب
من الأسباب الموضوعية التي كانت تدعو كل مرة للاحتجاج وتعبير عن الغضب عبر تحركات اجتماعية حاشدة، نجد الأسباب الاجتماعية من غلاء معيشة وارتفاع في مؤشرات البطالة والفقر، وكان يقود هذه التحركات في العادة أو يؤطرها، النقابات العمالية وأساسا اتحاد الشغل الذي انشغل منذ أشهر بالأزمة السياسية وتناسى دوره الاجتماعي في الدفاع عن الفئات المسحوقة والمفقرة.. ولكن المثير للانتباه انه رغم التذمر اليومي للمواطنين من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار لم يعد يواجه بالاحتجاج والشارع كما هو معتاد بل بالصمت والتجاهل مع تواصل التذمر والغضب والاحتقان .
وقد يبرر ذلك بعوامل نفسية وسوسيولوجية لتفسير هذا الغضب المكتوم ومنها حالة الاستنزاف التي بلغها الشارع بعد سنوات عجاف من الاحتجاج دون جدوى ودون تغيير.. فعشر سنوات من الأزمات الخانقة تركت آثارها على التونسيين الذين يواصلون غضبهم المكتوم على كل ما يحصل دون تعبير صريح على هذا الغضب.. ولكن كتم هذا الغضب قد يكون بدوره مؤشرا خطيرا عن انفجار شعبي محتمل وغير بعيد وإذا حصل هذا الانفجار فانه سيكون مخيفا وجارفا.. ولا يجب على السلطة خاصة ان تتعامل مع هذا الصمت على انه قبول ورضا على كل ما يجري بل هو صمت من جرّب كل أشكال الاحتجاج واستنزفته دون أن تتحقق مطالبه .
منية العرفاوي
تونس – الصباح
هناك أسباب كثيرة، اليوم، تدعو الى الاحتجاج في الشارع والتعبير عن الغضب كما كان يحصل طوال العشر سنوات السابقة والتي شهدنا خلالها احتجاجات عارمة واستنفارا كبيرا للشارع خاصة في الأزمات السياسية الكبرى، وفي لحظات التدافع الحزبي أو الأيديولوجي.. حيث عادة ما تكون الأغلبية متأهبة للدفاع عن ألوانها السياسية أو الحزبية وعن أفكارها الأيديولوجية بكل قوة، وقد شهدت شوارع العاصمة مظاهرات حاشدة استقطبت متحمسين من ولايات داخلية، كما شهدت أغلب المدن الكبرى داخل الجمهورية مثل هذه المظاهرات ..
ولكن في ظل أزمة سياسية مطبقة اليوم ومحكومة بمنعرجات خطيرة قد تفضي بدورها الى نهايات أخطر تحاول مختلف القوى سواء تلك المعارضة لمسار 25 جويلية بكل تصنيفاتها وتموقعاتها أو تلك المؤيدة لقيس سعيد، الاحتكام الى الشارع واختبار قوتها الشعبية، بحثا عن شرعية جماهيرية ما، لكن دون جدوى ودون تأثير.. حيث فشلت هذه القوى وطوال الأشهر الماضية في تثوير الشارع لصالحها، رغم أن كلا المعسكرين -معسكر 25 جويلية ومعسكر المعارضة بكل أطيافهما- يؤكد في خطاباته السياسية انه يمثل هذا الشعب ويعبر عن تطلعاته، ولكنه في المقابل يفشل في حشد الأنصار من أجل دعم أفكاره وما يعبّر عنه من قناعات.. حيث لم يفلح أي طرف في تنظيم مظاهرة شعبية حاشدة يمكن أن تعكس قوته في الشارع .
وبالتوازي مع هذه الأزمة السياسية لا يمكن حجب حقيقة عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد والتي أثرت بشكل مباشر على حياة الناس من خلال انهيار القدرة الشرائية للمواطنين والارتفاع المشط في البطالة وتزايد أعداد العاطلين عن العمل وارتفاع مؤشرات الفقر بالإضافة الى أزمات اجتماعية أخرى تأتي على هامش الأزمة، مثل الانقطاع المتكرر للماء على أكثر من منطقة وانقطاع الكهرباء وسوء الخدمات العمومية من صحة ونقل وتعليم، لكن كل هذه الأسباب مجتمعة لم تحرّك الشارع من أجل الاحتجاج.. هذا الشارع الذي بات مستنزفا كليا ولا يمكن القدرة على الرفض والتصدي في غياب خاصة قوى تأطيرية فاعلة ومؤثرة أو أمام تخلي القوى التقليدية، مثل اتحاد الشغل، في القيام بهذه الوظيفة التأطيرية .
السياسيون وحدهم في مواجهة مصيره
منذ 25 جويلية الماضي تحاول كل القوى المعارضة لتوجهات رئيس الجمهورية قيس سعيد استنفار الشارع في مسيرات حاشدة للإطاحة به، ورغم أن تفعيل قيس سعيد للفصل 80 من الدستور، يأتي بناء على لحظة احتجاجية أتت أساسا على خلفية تعامل الحكومة والبرلمان مع جائحة كورونا، حيث تم حرق بعض مقرات حركة النهضة، الا انه ورغم خطورة تلك الاحتجاجات وخطورتها على السلم الأهلي الا انها لم تكن عارمة رغم اتساع رقعتها الجغرافية وإمكانية تحويلها الى أعمال عنف خطيرة.. غير ان الرافضين لإعلان إجراءات 25 جويلية ورغم وقع الصدمة عليهم ومنعطف التدابير الاستثنائية الذي ادخل البلاد في واقع سياسي جديد إلا أنهم فشلوا منذ اللحظات الأولى في تحشيد الشارع وتثويره رفضا لهذه الإجراءات عكس ما ذهبت إليه التوقعات الأولى حول ما يحصل.. ووجدت القوى السياسية المتضررة سياسيا من إجراءات 25 جويلية نفسها شبه معزولة، عن عمقها الشعبي المزعوم، وتواجه لوحدها مصيرها وحتى محاولات تداركها بعد ذلك من خلال سعيها كل مرة الى تثوير هذه الشارع في مظاهرات حاشدة وقوية وشعبية تلفت أنظار الرأي العام المحلي والدولي لقضيتها، فشل كل مرة في تحقيق الهدف وظلت المظاهرات ولأشهر طويلة تتناقص بشكل متواتر .
وذات الأمر، ينسحب، على مؤيدي رئيس الجمهورية قيس سعيد الذين حاولوا كل مرة تجديد شرعيتهم الشعبية التي كانت منطلقا لمسار 25 جويلية، من خلال التحشيد لمظاهرات مؤيدة في الشارع ولكن دون جدوى.. فمعدل المشاركة لم يتجاوز سقف ثلاثة آلاف مؤيد في الشارع لإجراءات 25 جويلية، ولعل هذا الإخفاق للمؤيدين يُترجم بشكل مباشر من خلال عدد المشاركين في الاستشارة الوطنية.. بما يؤكد أن الشارع بات يتجاهل بشكل كبير الرافضين والمؤيدين لمسار 25 جويلية، ويتجاهل النخب السياسية بمختلف أطيافها .
أسباب اجتماعية واحتجاج غائب
من الأسباب الموضوعية التي كانت تدعو كل مرة للاحتجاج وتعبير عن الغضب عبر تحركات اجتماعية حاشدة، نجد الأسباب الاجتماعية من غلاء معيشة وارتفاع في مؤشرات البطالة والفقر، وكان يقود هذه التحركات في العادة أو يؤطرها، النقابات العمالية وأساسا اتحاد الشغل الذي انشغل منذ أشهر بالأزمة السياسية وتناسى دوره الاجتماعي في الدفاع عن الفئات المسحوقة والمفقرة.. ولكن المثير للانتباه انه رغم التذمر اليومي للمواطنين من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار لم يعد يواجه بالاحتجاج والشارع كما هو معتاد بل بالصمت والتجاهل مع تواصل التذمر والغضب والاحتقان .
وقد يبرر ذلك بعوامل نفسية وسوسيولوجية لتفسير هذا الغضب المكتوم ومنها حالة الاستنزاف التي بلغها الشارع بعد سنوات عجاف من الاحتجاج دون جدوى ودون تغيير.. فعشر سنوات من الأزمات الخانقة تركت آثارها على التونسيين الذين يواصلون غضبهم المكتوم على كل ما يحصل دون تعبير صريح على هذا الغضب.. ولكن كتم هذا الغضب قد يكون بدوره مؤشرا خطيرا عن انفجار شعبي محتمل وغير بعيد وإذا حصل هذا الانفجار فانه سيكون مخيفا وجارفا.. ولا يجب على السلطة خاصة ان تتعامل مع هذا الصمت على انه قبول ورضا على كل ما يجري بل هو صمت من جرّب كل أشكال الاحتجاج واستنزفته دون أن تتحقق مطالبه .