إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

"النعرة ".."الفزعة" والعروشية سلوكيات كارثية

تونس- الصباح

أحداث العنف التي جدت مؤخرا في معتمدية جلمة بين عرشين وتم خلالها استعمال البنادق وانتهت بسقوط جرحى. تتنزل في الأصل ضمن سلسلة من الأحداث المشابهة، عاشت على وقعها مناطق مختلفة من البلاد التونسية. وبالعودة الى الوراء وفي عرض كرونولوجي لهذه الظاهرة تكتشف أنها أحداث أثثت تقريبا العشر سنوات الماضية ظهرت بصفة دورية شبه سنوية وكانت لها درجات عنف متفاوتة.

وعلى حجم الاحداث المسجلة والتي تخلف في أحيان كثيرة ضحايا، يكون القادح واسبابها العميقة مجرد خلاف بين فردين داخل مقهى او تلميذين امام أحد المعاهد.. وان تطور الامر واستعصى يأتي التوتر والمعاداة على خلفية مراكمات وتناحر حول قطعة ارض اشتراكية او مسار طريق مرقم او حصة من العلف المدعم.

وللإشارة تشهد معتمدية جلمة من ولاية سيدي بوزيد للمرة الرابعة على التوالي خلال العشر سنوات الماضية مواجهات وصراع بين عرشين اختلفت أسبابها ودوافعها، وكانت البداية مع احداث أكتوبر 2012 وتم خلالها استعمال العصي وبنادق الصيد لتأتي المواجهة الثانية في فيفري 2014 ثم في جانفي 2018 وصولا إلى آخر الأحداث التي عاشتها بداية الشهر الجاري ماي 2022.

وتواترت أحداث العنف وهذا الصراع الأهلي المبني على الانتماء للعرش والقبيلة ما بعد 2011، وكان أبرزها ما عاشته مدينة المتلوي من ولاية قفصة سنة 2012 وتواصلت احداث المواجهة فيه بين عرشين لأكثر من 72 ساعة وخلفت عددا هاما من الضحايا، وسرعان ما تلتها أحداث الصراع بين عرشين في معتمدية السند من نفس الولاية وجاءت على أنقاض خلاف بين تلاميذ أحد المعاهد بالمنطقة.

بدورها عرفت منطقة دار شعبان الفهري من ولاية نابل ومنطقة سبيبة من ولاية القصرين احداث عنف ومواجهات بين عرشين سنة 2017، وسجلت معتمدية حفوز في القيروان في جانفي 2019 أحداث عنف، ونفس المشكل جد في بني خداش في ديسمبر 2020 وأدى إلى وفاة شخص.  ونصيب معتمدية الروحية من ولاية سليانة من ظاهرة العروشية كان في ماي 2021 وانتقل الامر الى جهة العين السخونة من ولاية قبلي في ديسمبر من نفس السنة..، كما شهدت ولاية بن عروس احدث عنف ومواجهات بين حيين خلال نفس السنة الماضية وانتهت بوفاة طفلة في سن الثماني سنوات..، وهو مشكل ما انفكت تعيش على وقعه الاحياء المتاخمة للعاصمة والتي تعرف كثافة سكانية عالية وتواجدا ضعيفا لمؤسسات الدولة.

وفي قراءتها للظاهرة تقول فاتن مبارك الباحثة الجامعية والمختصة في علم الاجتماع، إن "العروشية" أو "النعرة" أو "الفزعة" ليست بالظاهرة الجديدة على المجتمع التونسي..، بل موزعة على أساس المعتمديات والولايات والجهات وتظهر في علاقات الزواج والتصاهر وفي توزيع الأراضي وحتى في فرص العمل وأوليات التشغيل.

وأشارت إلى أنه إذا اعتبارنا أننا مجتمع متناسق، وهو وهم وكذبة حكمتنا منذ الدولة الوطنية مع الحبيب بورقيبة وصولا الى دكتاتورية دولة زين العابدين بن علي..، فسياسيا تم إيهام الناس أن مؤسسات الدولة قامت بمقاومة هذه الظاهرة وتم التخلص منها. غير أن الامر لم يكن كذلك بل ان السلط والمشرفين على الدولة خلال بناء الدولة الوطنية، ساهموا بشكل كبير في تغذية هذه الظاهرة ومزيد تقسيم التونسيين فرسخوا مظاهر التفرقة والتمييز بين الجهات، ولعل حادثة جامعة الصيدلة وطب الاسنان في المنستير خير دليل على ذلك، حين فرضها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة رغم تواجد جامعة للطب في ولاية سوسة وكان ذلك على حساب الجهات الداخلية في ولايات الوسط والجنوب وهي حادثة معروفة تاريخيا. كما تم مع الرئيسين بورقيبة وبن علي "سوحلة" الاقتصاد التونسي والاعتناء أساسا بالمدن الساحلية..

وتفسر فاتن مبارك ذلك بقولها، فيما مضى كانت المؤسسة الأمنية تتدخل بالسرعة المطلوبة عند تسجيل مثل هذه الاحداث ليقع تحويطها وايقافها، لكن اليوم وبعد تراجع قيمة الدولة الرمزية في اذهان الناس، لم يعد هناك خوف من الدولة وهو ما كان احد العناصر المحفزة لهذه السلوكيات المرضية، والتي منها العروشية، لتأخذ بعدا عنيفا.

وظاهرة العروشية أو التفرقة بين العائلات والقبائل امر لا يجب انكاره حسب الباحثة في علم الاجتماع، فهي تركيبة يقوم على أساسها المجتمع التونسي، وهو في الأصل مجموعة من القبائل التي تتفق اما بعصبية الدم او المصلحة. وهي ظاهرة لم تغب عن التونسيين وتظهر بوضوح كلما ضعفت الدولة او تلاشت مؤسساتها.. والى غاية اليوم ماتزال مناطق محكومة بالعرف ونظام القبيلة.

وتعبر فاتن مبارك أن تجاوز العروشية لا يمكن أن يكون الا عبر مشروع مؤسساتي قائم على اللامركزية، يؤسس لمنوال تنموي اقتصادي واجتماعي عادل قادر على الغاء تلك التفرقة الموجودة بين الجهات وإلغاء شعور "الحقرة" والتمييز ويعطي للشعوب والمواطنين قيمة في وجودهم وفي انتمائهم لمنطقتهم.

ويشير أستاذ علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب في دراسة له بعنوان "الابعاد السياسية للظاهرة القبلية في المجتمعات العربية" الى ان "استمرار ظاهرة أراضي العروش لا تزال تشكل مرتكزا أساسيا لإعادة إنتاج أشكال الوعي والمشاعر المشتركة للمجموعة القبلية". وترتبط العودة الإحيائية للحمية القبلية (الفزعة) باستمرارية المؤسسات القائمة على التمثيلية العروشية، وهي أساسا مجالس التصرف في الأراضي الاشتراكية. وهو ما يفسر في جزء كبير المواجهات والخلافات القائمة على خلاف مرتبط بالأرض او مجرى الماء أو مجال النفوذ العائلي..، وتتفجر بؤر الصراع العروشي أساسا في تلك المناطق التي لم يتعمّق فيها الاندماج الحقيقي.

ريم سوودي

"النعرة ".."الفزعة" والعروشية سلوكيات كارثية

تونس- الصباح

أحداث العنف التي جدت مؤخرا في معتمدية جلمة بين عرشين وتم خلالها استعمال البنادق وانتهت بسقوط جرحى. تتنزل في الأصل ضمن سلسلة من الأحداث المشابهة، عاشت على وقعها مناطق مختلفة من البلاد التونسية. وبالعودة الى الوراء وفي عرض كرونولوجي لهذه الظاهرة تكتشف أنها أحداث أثثت تقريبا العشر سنوات الماضية ظهرت بصفة دورية شبه سنوية وكانت لها درجات عنف متفاوتة.

وعلى حجم الاحداث المسجلة والتي تخلف في أحيان كثيرة ضحايا، يكون القادح واسبابها العميقة مجرد خلاف بين فردين داخل مقهى او تلميذين امام أحد المعاهد.. وان تطور الامر واستعصى يأتي التوتر والمعاداة على خلفية مراكمات وتناحر حول قطعة ارض اشتراكية او مسار طريق مرقم او حصة من العلف المدعم.

وللإشارة تشهد معتمدية جلمة من ولاية سيدي بوزيد للمرة الرابعة على التوالي خلال العشر سنوات الماضية مواجهات وصراع بين عرشين اختلفت أسبابها ودوافعها، وكانت البداية مع احداث أكتوبر 2012 وتم خلالها استعمال العصي وبنادق الصيد لتأتي المواجهة الثانية في فيفري 2014 ثم في جانفي 2018 وصولا إلى آخر الأحداث التي عاشتها بداية الشهر الجاري ماي 2022.

وتواترت أحداث العنف وهذا الصراع الأهلي المبني على الانتماء للعرش والقبيلة ما بعد 2011، وكان أبرزها ما عاشته مدينة المتلوي من ولاية قفصة سنة 2012 وتواصلت احداث المواجهة فيه بين عرشين لأكثر من 72 ساعة وخلفت عددا هاما من الضحايا، وسرعان ما تلتها أحداث الصراع بين عرشين في معتمدية السند من نفس الولاية وجاءت على أنقاض خلاف بين تلاميذ أحد المعاهد بالمنطقة.

بدورها عرفت منطقة دار شعبان الفهري من ولاية نابل ومنطقة سبيبة من ولاية القصرين احداث عنف ومواجهات بين عرشين سنة 2017، وسجلت معتمدية حفوز في القيروان في جانفي 2019 أحداث عنف، ونفس المشكل جد في بني خداش في ديسمبر 2020 وأدى إلى وفاة شخص.  ونصيب معتمدية الروحية من ولاية سليانة من ظاهرة العروشية كان في ماي 2021 وانتقل الامر الى جهة العين السخونة من ولاية قبلي في ديسمبر من نفس السنة..، كما شهدت ولاية بن عروس احدث عنف ومواجهات بين حيين خلال نفس السنة الماضية وانتهت بوفاة طفلة في سن الثماني سنوات..، وهو مشكل ما انفكت تعيش على وقعه الاحياء المتاخمة للعاصمة والتي تعرف كثافة سكانية عالية وتواجدا ضعيفا لمؤسسات الدولة.

وفي قراءتها للظاهرة تقول فاتن مبارك الباحثة الجامعية والمختصة في علم الاجتماع، إن "العروشية" أو "النعرة" أو "الفزعة" ليست بالظاهرة الجديدة على المجتمع التونسي..، بل موزعة على أساس المعتمديات والولايات والجهات وتظهر في علاقات الزواج والتصاهر وفي توزيع الأراضي وحتى في فرص العمل وأوليات التشغيل.

وأشارت إلى أنه إذا اعتبارنا أننا مجتمع متناسق، وهو وهم وكذبة حكمتنا منذ الدولة الوطنية مع الحبيب بورقيبة وصولا الى دكتاتورية دولة زين العابدين بن علي..، فسياسيا تم إيهام الناس أن مؤسسات الدولة قامت بمقاومة هذه الظاهرة وتم التخلص منها. غير أن الامر لم يكن كذلك بل ان السلط والمشرفين على الدولة خلال بناء الدولة الوطنية، ساهموا بشكل كبير في تغذية هذه الظاهرة ومزيد تقسيم التونسيين فرسخوا مظاهر التفرقة والتمييز بين الجهات، ولعل حادثة جامعة الصيدلة وطب الاسنان في المنستير خير دليل على ذلك، حين فرضها الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة رغم تواجد جامعة للطب في ولاية سوسة وكان ذلك على حساب الجهات الداخلية في ولايات الوسط والجنوب وهي حادثة معروفة تاريخيا. كما تم مع الرئيسين بورقيبة وبن علي "سوحلة" الاقتصاد التونسي والاعتناء أساسا بالمدن الساحلية..

وتفسر فاتن مبارك ذلك بقولها، فيما مضى كانت المؤسسة الأمنية تتدخل بالسرعة المطلوبة عند تسجيل مثل هذه الاحداث ليقع تحويطها وايقافها، لكن اليوم وبعد تراجع قيمة الدولة الرمزية في اذهان الناس، لم يعد هناك خوف من الدولة وهو ما كان احد العناصر المحفزة لهذه السلوكيات المرضية، والتي منها العروشية، لتأخذ بعدا عنيفا.

وظاهرة العروشية أو التفرقة بين العائلات والقبائل امر لا يجب انكاره حسب الباحثة في علم الاجتماع، فهي تركيبة يقوم على أساسها المجتمع التونسي، وهو في الأصل مجموعة من القبائل التي تتفق اما بعصبية الدم او المصلحة. وهي ظاهرة لم تغب عن التونسيين وتظهر بوضوح كلما ضعفت الدولة او تلاشت مؤسساتها.. والى غاية اليوم ماتزال مناطق محكومة بالعرف ونظام القبيلة.

وتعبر فاتن مبارك أن تجاوز العروشية لا يمكن أن يكون الا عبر مشروع مؤسساتي قائم على اللامركزية، يؤسس لمنوال تنموي اقتصادي واجتماعي عادل قادر على الغاء تلك التفرقة الموجودة بين الجهات وإلغاء شعور "الحقرة" والتمييز ويعطي للشعوب والمواطنين قيمة في وجودهم وفي انتمائهم لمنطقتهم.

ويشير أستاذ علم الاجتماع محمد نجيب بوطالب في دراسة له بعنوان "الابعاد السياسية للظاهرة القبلية في المجتمعات العربية" الى ان "استمرار ظاهرة أراضي العروش لا تزال تشكل مرتكزا أساسيا لإعادة إنتاج أشكال الوعي والمشاعر المشتركة للمجموعة القبلية". وترتبط العودة الإحيائية للحمية القبلية (الفزعة) باستمرارية المؤسسات القائمة على التمثيلية العروشية، وهي أساسا مجالس التصرف في الأراضي الاشتراكية. وهو ما يفسر في جزء كبير المواجهات والخلافات القائمة على خلاف مرتبط بالأرض او مجرى الماء أو مجال النفوذ العائلي..، وتتفجر بؤر الصراع العروشي أساسا في تلك المناطق التي لم يتعمّق فيها الاندماج الحقيقي.

ريم سوودي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews