لا يختلف عاقلان في أن بعض الجمعيّات، وعددها حوالي 200، تقوم بأنشطة أقل ما يُقال فيها إنها مشبوهة. وأقصد تلك الجمعيّات التي تستعمل غطاءً دينيّا لإخفاء أهدافها المعادية للأمن القومي، وتتّخذ لنفسها أسماء تضليليّة على غرار "الجمعية الخيريّة"، أو "المدارس القرآنيّة"، ثمّ تنهمك في تبييض الأموال وفي تمويل بعض الأحزاب الدينية، وخاصّة في نشر الفكر الداعشي بما فيه من دعوة إلى العنف والتكفير وما إلى ذلك من الخطابات المُولّدة للإرهاب.
الرقم 200 هو الرقم الذي يُمثّل، حسب بعض المصادر، عدد الجمعيات التي تحوم حولها شبهات في ملفات البنك المركزي، والتي يبدو أنها تتضمّن معطيات دقيقة حول الأموال الطائلة التي تحصّلت عليها من مصادر خارجية لأغراض سياسويّة معادية للدولة المدنية وللجمهورية.
ولسائل أن يسأل: ما دامت مؤسسات الدولة تمتلك أدلّة ثابتة عن إدانة هذه الجمعيّات، فلماذا لم يتمّ تتبّعها قضائيّا؟ ولماذا لم يقع حلّها؟ ولماذا ما زالت الحكومة تُدافع عن بقاء بعضها كما هو الشأن بالنسبة لفرع المنظمة العالمية لعلماء المسلمين الإرهابية والمعروف باسم "وكر القرضاوي"؟
يبدو أن الحل الذي وجدته الحكومة لوضع حدّ للنشاط المشبوه لمائتي جمعية هو إدخال تنقيحات على المرسوم عدد 88 لسنة 2011 يتمّ بموجبها التحكّم في 24 ألف جمعية.
فحسب التسريبات المتطابقة، يتمّ الإعداد لنصّ مرسوم جديد يُنقّح المرسوم 88، ويتضمّن العديد من التضييقات على جمعيات وعلى منظمات المجتمع المدني بشكل غير مسبوق ويضع شروطا غريبة لممارسة النشاط فيها، نذكر منها بالخصوص:
-وجوب الحصول على ترخيص مسبق لأي تمويل أجنبي لنشاط الجمعيات. هذا الترخيص المسبق يُمكن أن يأخذ وقتا طويلا للحصول عليه، ممّا يُعطّل النشاط. والحال أن الدولة لديها كل الإمكانيات والآليات التي تسمح بالمراقبة الشديدة في طريقة صرف هذه الإعانات، علاوة عن المراقبة العادية التي تفرضها المنظمات الدولية المانحة والتي تُحاسب المنظمة المدعومة على كل مليم تمّ صرفه في نطاق المشروع المُموّل من طرفها.
-منع مسيّري الجمعيات من الترشح لرئاسة الجمهورية ولمجلس النواب وللهيئات المحليّة. وهو أمر غريب، أقلّ ما يُقال فيه إنه منافٍ للدستور نصّا وروحا. أيُعقل أن يُمنع مواطن من الترشح لأيّ منصب سياسي لمُجرّد وجوده ضمن مُسيّري جمعية؟ غرابة هذا المنع يُفسّرها بعضهم بأحد أمرين: إما أن المُرشّح المنتمي إلى جمعية يمكن أن تحوم حوله شكوك فيما يتعلّق بتمويل حملته الانتخابية من طرف الجمعية، وهو تفسير مرفوض لأن أموال الحملة الانتخابية وأموال الجمعية مُراقبتان رقابة شديدة من قبل الإدارة. وإما أن هذا المنع يُفسّر، حسب بعضهم، بعدم السماح للترشح لمن برز بنشاطه خارج الأطر السياسية، أي الأحزاب، بتعلّة أن هذا البروز يُساعده على كسب الأصوات. ولو سلّمنا بهذه الحجّة علينا أن ننتظر مرسوما يمنع الترشح على كل من برز في أي مجال آخر، كمنع الترشح للأدباء إذا فاق عدد مؤلّفاتهم الخمسة كتب، ومنع الترشح للاعبي كرة القدم لمن سجّل منهم أكثر من أربعين هدفا، الخ...
-إمكانية حل الجمعية من طرف الإدارة التي تملك، حسب النص المُقترح، السلطة التقديرية في إبقاء الجمعية أو في حلّها. ولقد أتت هذه "السلطة التقديرية" مُبهمة دون أي تفسير وبدون تحديد المعايير التي تستند إليها الإدارة في "التقدير". وهو ما يفتح الباب لكل التجاوزات السياسية. أي أن الإدارة بإمكانها حل جمعية لمجرّد أنها تُعارض في مواقفها أو في نشاطها الموقف الرسمي للسلطة التنفيذية.
الفكرة العامة التي نستخلصها من مشروع المرسوم الجديد المُعدّْل لمرسوم 88 هي أن هذا النص يمنح للسلطة التنفيذية إمكانية الهيمنة على جميع الجمعيّات وليس فقط على الجمعيّات المشبوهة في تمويلها الخارجي وفي نشاطها المنافي للأمن القومي.
يرى البعض أن هذا الإجراء إنما هو مواصلة للهيمنة على مؤسسات الدولة. لكن الأكيد هو أن تكبيل جمعيات المجتمع المدني هو تكبيل للسلطة الخامسة، إذا اعتبرنا أن الإعلام يُمثّل السلطة الرابعة. وبذلك تخسر البلاد هيكلا ضروريا ومُفيدا للدولة وللمجتمع. بل أن هذه السلطة هي من مُقوّمات الدولة الديمقراطية المدنية باعتبارها تُمثّل قوّة ضغط وقوّة اقتراح وقوّة بناء.
أليس من الأجدر، في دولة تحترم قيم الجمهورية ومبادئ حقوق الإنسان، أن ترعى الدولة جمعيات ومنظمات المجتمع المدني وأن تُسهّل لها عملها وأنشطتها، وأن تُساعدها ماليّا إن لزم الأمر، حتى لا تضطرّ إلى اللجوء إلى المؤسسات الأجنبية المانحة؟
(*) رئيس المرصد الوطني للدفاع عن الدولة المدنية
بقلم: منير الشرفي(*)
لا يختلف عاقلان في أن بعض الجمعيّات، وعددها حوالي 200، تقوم بأنشطة أقل ما يُقال فيها إنها مشبوهة. وأقصد تلك الجمعيّات التي تستعمل غطاءً دينيّا لإخفاء أهدافها المعادية للأمن القومي، وتتّخذ لنفسها أسماء تضليليّة على غرار "الجمعية الخيريّة"، أو "المدارس القرآنيّة"، ثمّ تنهمك في تبييض الأموال وفي تمويل بعض الأحزاب الدينية، وخاصّة في نشر الفكر الداعشي بما فيه من دعوة إلى العنف والتكفير وما إلى ذلك من الخطابات المُولّدة للإرهاب.
الرقم 200 هو الرقم الذي يُمثّل، حسب بعض المصادر، عدد الجمعيات التي تحوم حولها شبهات في ملفات البنك المركزي، والتي يبدو أنها تتضمّن معطيات دقيقة حول الأموال الطائلة التي تحصّلت عليها من مصادر خارجية لأغراض سياسويّة معادية للدولة المدنية وللجمهورية.
ولسائل أن يسأل: ما دامت مؤسسات الدولة تمتلك أدلّة ثابتة عن إدانة هذه الجمعيّات، فلماذا لم يتمّ تتبّعها قضائيّا؟ ولماذا لم يقع حلّها؟ ولماذا ما زالت الحكومة تُدافع عن بقاء بعضها كما هو الشأن بالنسبة لفرع المنظمة العالمية لعلماء المسلمين الإرهابية والمعروف باسم "وكر القرضاوي"؟
يبدو أن الحل الذي وجدته الحكومة لوضع حدّ للنشاط المشبوه لمائتي جمعية هو إدخال تنقيحات على المرسوم عدد 88 لسنة 2011 يتمّ بموجبها التحكّم في 24 ألف جمعية.
فحسب التسريبات المتطابقة، يتمّ الإعداد لنصّ مرسوم جديد يُنقّح المرسوم 88، ويتضمّن العديد من التضييقات على جمعيات وعلى منظمات المجتمع المدني بشكل غير مسبوق ويضع شروطا غريبة لممارسة النشاط فيها، نذكر منها بالخصوص:
-وجوب الحصول على ترخيص مسبق لأي تمويل أجنبي لنشاط الجمعيات. هذا الترخيص المسبق يُمكن أن يأخذ وقتا طويلا للحصول عليه، ممّا يُعطّل النشاط. والحال أن الدولة لديها كل الإمكانيات والآليات التي تسمح بالمراقبة الشديدة في طريقة صرف هذه الإعانات، علاوة عن المراقبة العادية التي تفرضها المنظمات الدولية المانحة والتي تُحاسب المنظمة المدعومة على كل مليم تمّ صرفه في نطاق المشروع المُموّل من طرفها.
-منع مسيّري الجمعيات من الترشح لرئاسة الجمهورية ولمجلس النواب وللهيئات المحليّة. وهو أمر غريب، أقلّ ما يُقال فيه إنه منافٍ للدستور نصّا وروحا. أيُعقل أن يُمنع مواطن من الترشح لأيّ منصب سياسي لمُجرّد وجوده ضمن مُسيّري جمعية؟ غرابة هذا المنع يُفسّرها بعضهم بأحد أمرين: إما أن المُرشّح المنتمي إلى جمعية يمكن أن تحوم حوله شكوك فيما يتعلّق بتمويل حملته الانتخابية من طرف الجمعية، وهو تفسير مرفوض لأن أموال الحملة الانتخابية وأموال الجمعية مُراقبتان رقابة شديدة من قبل الإدارة. وإما أن هذا المنع يُفسّر، حسب بعضهم، بعدم السماح للترشح لمن برز بنشاطه خارج الأطر السياسية، أي الأحزاب، بتعلّة أن هذا البروز يُساعده على كسب الأصوات. ولو سلّمنا بهذه الحجّة علينا أن ننتظر مرسوما يمنع الترشح على كل من برز في أي مجال آخر، كمنع الترشح للأدباء إذا فاق عدد مؤلّفاتهم الخمسة كتب، ومنع الترشح للاعبي كرة القدم لمن سجّل منهم أكثر من أربعين هدفا، الخ...
-إمكانية حل الجمعية من طرف الإدارة التي تملك، حسب النص المُقترح، السلطة التقديرية في إبقاء الجمعية أو في حلّها. ولقد أتت هذه "السلطة التقديرية" مُبهمة دون أي تفسير وبدون تحديد المعايير التي تستند إليها الإدارة في "التقدير". وهو ما يفتح الباب لكل التجاوزات السياسية. أي أن الإدارة بإمكانها حل جمعية لمجرّد أنها تُعارض في مواقفها أو في نشاطها الموقف الرسمي للسلطة التنفيذية.
الفكرة العامة التي نستخلصها من مشروع المرسوم الجديد المُعدّْل لمرسوم 88 هي أن هذا النص يمنح للسلطة التنفيذية إمكانية الهيمنة على جميع الجمعيّات وليس فقط على الجمعيّات المشبوهة في تمويلها الخارجي وفي نشاطها المنافي للأمن القومي.
يرى البعض أن هذا الإجراء إنما هو مواصلة للهيمنة على مؤسسات الدولة. لكن الأكيد هو أن تكبيل جمعيات المجتمع المدني هو تكبيل للسلطة الخامسة، إذا اعتبرنا أن الإعلام يُمثّل السلطة الرابعة. وبذلك تخسر البلاد هيكلا ضروريا ومُفيدا للدولة وللمجتمع. بل أن هذه السلطة هي من مُقوّمات الدولة الديمقراطية المدنية باعتبارها تُمثّل قوّة ضغط وقوّة اقتراح وقوّة بناء.
أليس من الأجدر، في دولة تحترم قيم الجمهورية ومبادئ حقوق الإنسان، أن ترعى الدولة جمعيات ومنظمات المجتمع المدني وأن تُسهّل لها عملها وأنشطتها، وأن تُساعدها ماليّا إن لزم الأمر، حتى لا تضطرّ إلى اللجوء إلى المؤسسات الأجنبية المانحة؟