تصريح رئيس الجمهورية يوم الأحد المنقضي حول المجلس الأعلى للقضاء الذي قال فيه "إنه في عداد الماضي من هذه اللحظة..، بعد أن صار مجلسا تباع فيه المناصب والحركة القضائية..، وقلت إنه التحذير تلو التحذير"، تصريح حرك سواكن شق من الأحزاب والسياسيين المعارضين لقيس سعيد والرافضين لمسار ما بعد 25 جويلية والذي تزامن مع تأكيد سعيد على مواصلة المضي في تنفيذ مشروعه دون مبالاة بمطالب بعض مكونات المشهد السياسي لتشريكهم في المسار. ليستغل هؤلاء المعارضون "المعركة" القائمة بين سعيد بصفته ممثلا للسلطات من ناحية والمجلس الأعلى للقضاء باعتباره المؤسسة الدستورية التي توجه لها اتهامات بالتهاون في التعاطي مع عدد من الملفات بسبب عدم استقلالية بعض أعضائها والهنات التي يعاني منها قانونها الأساسي، من ناحية ثانية، وذلك في محاولة من هؤلاء "المعارضون" للاستثمار في هذه الأزمة بما يعزز تموقعهم في صفوف الرافضين للمسار الذي يصفه البعض بالإصلاحي المطلوب، ليطلق هؤلاء الرافضون عقيرتهم بالبيانات والتنديدات والتصريحات المستنكرة لما يعتبرونه "محاولة من رئيس الجمهورية للاستيلاء على السلطة القضائية وتركيعها"، فيما يعبر البعض الآخر عن تخوفهم من مساعي رئيس الجمهورية للانفراد بالسلطة والتأسيس للدكتاتورية.
يأتي ذلك في الوقت الذي يسجل فيه إجماع حول ضرورة إصلاح المرفق القضائي على اعتبار أن "العدل هو أساس العمران" وأن ذلك يعد أولوية ومن أوكد "الملفات" التي يجب فتحها في هذه المرحلة لضمان المضي العملي الناجز في مسار الإصلاح لشؤون الدولة في مستويات مختلفة، بما يعزز أسس دولة القانون والمؤسسات المستقلة الفاعلة بعيدا عن أي تبعية أو تشيّع سياسي أو حزبي أو ما يروجه البعض حول تحكم بعض بارونات الفساد في القضاء واختراقه.
وتجدر الإشارة إلى أن توتر العلاقة بين سعيد والمجلس الأعلى للقضاء ليست وليدة اللحظة وإنما طفت على سطح الأحداث والمستجدات خلال مرحلة النظام الاستثنائي. إذ شكل هذا القطاع محور حديث ولقاءات رئيس الجمهورية في عديد المناسبات. وسبق أن وجه دعوات صريحة أو ضمن رسائل مشفرة، للقائمين على هذا الهيكل الذي يمثل قطاع العدالة، بضرورة القيام بإصلاحات تشريعية وهيكلية ولكن لم تجد تلك الدعوات والرسائل التجاوب والتفاعل العملي من قبل المعنيين بالأمر. وكانت الخطوة الأولى التي قطعها رئيس الجمهورية في مسار مضيه لإصلاح القضاء بعد صدور مرسوم رئاسي في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في 19 جانفي المنقضي، يقضي بوضع حد للمنح والامتيازات الممنوحة لأعضاء المجلس الأعلى لقضاء"، في خطوة اعتبرتها المعارضة مقدمة لحل المجلس، الذي يرى مراقبون أنه يخوض معركة "كسر عظام" مع سعيد. وذلك رغم تأكيد عدد من أهل الاختصاص على أهمية هذه الخطوة التي يضعونها في مرتبة "الاستحقاق المستعجل لإصلاح القطاع وتنقيته وتحريره من مكبلات عمله"، خاصة أن الأنظار اتجهت في مرحلة ما بعد 25 جويلية إلى إصلاح "مربع القضاء" الذي لم يكن ضمن أولويات السلطة التنفيذية والتشريعية خلال السنوات العشر الماضية بسبب محاولات وضع اليد عليه وتوظيفه.
وفي تفاعل مع المستجدات في الغرض، أعلنت أحزاب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والجمهوري والتيار الديمقراطي في بيان مشترك، رفضها إعلان قيس سعيد عزمه حل المجلس الأعلى للقضاء. من جانبه عبر راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، عن تضامنه المطلق مع السلطة القضائية ودفاعه عن استقلاليتها وعبر عن استنكاره، في بيان حمل إمضاء "رئاسة البرلمان"، لأي محاولة لإصلاح القضاء بصفة أحادية الجانب وخارج السياقات الدستورية والتشريعية.
كما هبت عديد القوى والأحزاب السياسية لإصدار مواقف حيال المسألة، حيث تواترت التصريحات والقراءات السياسية الصادرة في مجملها عن جهات معارضة للمسار الذي يقوده رئيس الجمهورية، وهي مواقف وتصريحات تصب في خانة تغذية الخلاف بين الطرفين في محاولة للزج بالقضاء في معركة وصراع هذا الطيف السياسي مع سعيد بعد أن تعددت المحاولات والتحركات داخليا وخارجيا دون أن تحقق المطلوب والأهداف التي ينشدونها إما بالعودة إلى ضخ الروح من جديد لمنظومة 24 جويلية أو دفع وإرغام أو استدراج قيس سعيد للرضوخ للضغوطات وقبول مجالستهم في طاولة الحوار وتشريكهم في القرار.
وفي سياق متصل عبر غازي الشواشي، أمين عام التيار الديمقراطي عن خشيته من استيلاء سعيد على السلطة القضائية ومن ثمة الانفراد بالسلطة والتأسيس لديكتاتورية جديدة، وهي تقريبا القراءة التي تختزل أغلب مواقف السياسيين الرافضين لتدخل رئيس الجمهورية في إصلاح السلطة القضائية.
غياب المبادرات
مرة أخرى تؤكد المعارضة وجل مكونات المشهد السياسي عجزها على تقديم الحلول للقضايا والأزمات التي تمر بها بلادنا، وذلك بغياب أي مبادرة أو مشروع وبرنامج كفيل بـ "حلحلة" الأزمة والدفع للإصلاح في هذه المرحلة التي تعيش فيها البلاد على وقع أزمات خانقة بالجملة بما يجعلها "جزءا من الحل" ويضعها في مرتبة و"مظهر" القوى السياسية الحاملة لمشاريع وطنية والقادرة على الاضطلاع بدور ريادي وعملي في الدولة وترشحها كبديل مرتقب يمكن المراهنة عليه مستقبلا.
لكن حالة العجز التي بدت عليها من ناحية وانخراطها وتماديها في ما يسميه البعض بالمسار التهديمي للدولة من جهة أخرى، من العوامل التي تعزز يقين نسب كبيرة من القواعد الشعبية والنخب الفكرية والثقافية في تونس بما في ذلك الفئات الرافضة لمسار سعيد، بـ"إفلاس" هذا الطيف السياسي.
في المقابل اختار شق سياسي آخر الانتصار لتوجه سعيد في تعاطيه مع القضاء وهو ما تبلور بالأساس في الحركة الاحتجاجية التي انتظمت يوم الأحد المنقضي في الذكرى التاسعة لاغتيال الشهيد شكري بلعيد،إذ سجلت هذه الحركات مشاركة أحزاب ومنظمات مدنية ووطنية وهياكل حقوقية وغيرها إضافة إلى هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي.
وكانت مسألة "حل المجلس الأعلى للقضاء" وفتح ملف الاغتيالات السياسية والكشف عن المتورطين فيها واستنكار تعاطي القضاء معها من بين الشعارات التي تم رفعها في هذه المناسبة. يذكر أنه من بين الأحزاب المشاركة في هذه الوقفة الاحتجاجية يوم 6 من الشهر الجاري نجد "حركة الشعب" و"تونس إلى الأمام" و"الوطنيون الديمقراطيون" و"حزب البعث" و"ائتلاف صمود" و"الحزب الاشتراكي" و"العمال" وغيرها إضافة إلى عمادة المحامين والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة الوطنية لحقوق الانسان وجمعية النساء الديمقراطيات والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
كما شهدت بعض الجهات تنظيم وقفات احتجاجية للمطالبة بمحاسبة المتورطين في الاغتيالات السياسية وإنصاف شهيد الثورة شكري بلعيد وتحريك الملف القضائي الذي ظل في الرفوف لما يقارب عقد من الزمن. وهي عوامل "إلتقفها" قيس سعيد لتتمة جانب من مشروعه نظرا لتقاطعه معها في موقفه حيال القضاء ونزعته لإصلاحه تناغما مع المطالبين بحل المجلس وذلك بتأكيده في تصريح في الغرض أن "هناك قضاة تلاعبوا بملف اغتيال شكري بلعيد".
لتتواصل "سيناريوهات" الاستثمار السياسي في المستجدات والأحداث الوطنية بشكل يعمق الأزمات ويوسع دائرة الفوضى والارتباك ويكشف "حقيقة" النخب السياسية وانتهازية بعضها وذلك بعيدا عن المصلحة الوطنية ودواعيها.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
تصريح رئيس الجمهورية يوم الأحد المنقضي حول المجلس الأعلى للقضاء الذي قال فيه "إنه في عداد الماضي من هذه اللحظة..، بعد أن صار مجلسا تباع فيه المناصب والحركة القضائية..، وقلت إنه التحذير تلو التحذير"، تصريح حرك سواكن شق من الأحزاب والسياسيين المعارضين لقيس سعيد والرافضين لمسار ما بعد 25 جويلية والذي تزامن مع تأكيد سعيد على مواصلة المضي في تنفيذ مشروعه دون مبالاة بمطالب بعض مكونات المشهد السياسي لتشريكهم في المسار. ليستغل هؤلاء المعارضون "المعركة" القائمة بين سعيد بصفته ممثلا للسلطات من ناحية والمجلس الأعلى للقضاء باعتباره المؤسسة الدستورية التي توجه لها اتهامات بالتهاون في التعاطي مع عدد من الملفات بسبب عدم استقلالية بعض أعضائها والهنات التي يعاني منها قانونها الأساسي، من ناحية ثانية، وذلك في محاولة من هؤلاء "المعارضون" للاستثمار في هذه الأزمة بما يعزز تموقعهم في صفوف الرافضين للمسار الذي يصفه البعض بالإصلاحي المطلوب، ليطلق هؤلاء الرافضون عقيرتهم بالبيانات والتنديدات والتصريحات المستنكرة لما يعتبرونه "محاولة من رئيس الجمهورية للاستيلاء على السلطة القضائية وتركيعها"، فيما يعبر البعض الآخر عن تخوفهم من مساعي رئيس الجمهورية للانفراد بالسلطة والتأسيس للدكتاتورية.
يأتي ذلك في الوقت الذي يسجل فيه إجماع حول ضرورة إصلاح المرفق القضائي على اعتبار أن "العدل هو أساس العمران" وأن ذلك يعد أولوية ومن أوكد "الملفات" التي يجب فتحها في هذه المرحلة لضمان المضي العملي الناجز في مسار الإصلاح لشؤون الدولة في مستويات مختلفة، بما يعزز أسس دولة القانون والمؤسسات المستقلة الفاعلة بعيدا عن أي تبعية أو تشيّع سياسي أو حزبي أو ما يروجه البعض حول تحكم بعض بارونات الفساد في القضاء واختراقه.
وتجدر الإشارة إلى أن توتر العلاقة بين سعيد والمجلس الأعلى للقضاء ليست وليدة اللحظة وإنما طفت على سطح الأحداث والمستجدات خلال مرحلة النظام الاستثنائي. إذ شكل هذا القطاع محور حديث ولقاءات رئيس الجمهورية في عديد المناسبات. وسبق أن وجه دعوات صريحة أو ضمن رسائل مشفرة، للقائمين على هذا الهيكل الذي يمثل قطاع العدالة، بضرورة القيام بإصلاحات تشريعية وهيكلية ولكن لم تجد تلك الدعوات والرسائل التجاوب والتفاعل العملي من قبل المعنيين بالأمر. وكانت الخطوة الأولى التي قطعها رئيس الجمهورية في مسار مضيه لإصلاح القضاء بعد صدور مرسوم رئاسي في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية في 19 جانفي المنقضي، يقضي بوضع حد للمنح والامتيازات الممنوحة لأعضاء المجلس الأعلى لقضاء"، في خطوة اعتبرتها المعارضة مقدمة لحل المجلس، الذي يرى مراقبون أنه يخوض معركة "كسر عظام" مع سعيد. وذلك رغم تأكيد عدد من أهل الاختصاص على أهمية هذه الخطوة التي يضعونها في مرتبة "الاستحقاق المستعجل لإصلاح القطاع وتنقيته وتحريره من مكبلات عمله"، خاصة أن الأنظار اتجهت في مرحلة ما بعد 25 جويلية إلى إصلاح "مربع القضاء" الذي لم يكن ضمن أولويات السلطة التنفيذية والتشريعية خلال السنوات العشر الماضية بسبب محاولات وضع اليد عليه وتوظيفه.
وفي تفاعل مع المستجدات في الغرض، أعلنت أحزاب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والجمهوري والتيار الديمقراطي في بيان مشترك، رفضها إعلان قيس سعيد عزمه حل المجلس الأعلى للقضاء. من جانبه عبر راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، عن تضامنه المطلق مع السلطة القضائية ودفاعه عن استقلاليتها وعبر عن استنكاره، في بيان حمل إمضاء "رئاسة البرلمان"، لأي محاولة لإصلاح القضاء بصفة أحادية الجانب وخارج السياقات الدستورية والتشريعية.
كما هبت عديد القوى والأحزاب السياسية لإصدار مواقف حيال المسألة، حيث تواترت التصريحات والقراءات السياسية الصادرة في مجملها عن جهات معارضة للمسار الذي يقوده رئيس الجمهورية، وهي مواقف وتصريحات تصب في خانة تغذية الخلاف بين الطرفين في محاولة للزج بالقضاء في معركة وصراع هذا الطيف السياسي مع سعيد بعد أن تعددت المحاولات والتحركات داخليا وخارجيا دون أن تحقق المطلوب والأهداف التي ينشدونها إما بالعودة إلى ضخ الروح من جديد لمنظومة 24 جويلية أو دفع وإرغام أو استدراج قيس سعيد للرضوخ للضغوطات وقبول مجالستهم في طاولة الحوار وتشريكهم في القرار.
وفي سياق متصل عبر غازي الشواشي، أمين عام التيار الديمقراطي عن خشيته من استيلاء سعيد على السلطة القضائية ومن ثمة الانفراد بالسلطة والتأسيس لديكتاتورية جديدة، وهي تقريبا القراءة التي تختزل أغلب مواقف السياسيين الرافضين لتدخل رئيس الجمهورية في إصلاح السلطة القضائية.
غياب المبادرات
مرة أخرى تؤكد المعارضة وجل مكونات المشهد السياسي عجزها على تقديم الحلول للقضايا والأزمات التي تمر بها بلادنا، وذلك بغياب أي مبادرة أو مشروع وبرنامج كفيل بـ "حلحلة" الأزمة والدفع للإصلاح في هذه المرحلة التي تعيش فيها البلاد على وقع أزمات خانقة بالجملة بما يجعلها "جزءا من الحل" ويضعها في مرتبة و"مظهر" القوى السياسية الحاملة لمشاريع وطنية والقادرة على الاضطلاع بدور ريادي وعملي في الدولة وترشحها كبديل مرتقب يمكن المراهنة عليه مستقبلا.
لكن حالة العجز التي بدت عليها من ناحية وانخراطها وتماديها في ما يسميه البعض بالمسار التهديمي للدولة من جهة أخرى، من العوامل التي تعزز يقين نسب كبيرة من القواعد الشعبية والنخب الفكرية والثقافية في تونس بما في ذلك الفئات الرافضة لمسار سعيد، بـ"إفلاس" هذا الطيف السياسي.
في المقابل اختار شق سياسي آخر الانتصار لتوجه سعيد في تعاطيه مع القضاء وهو ما تبلور بالأساس في الحركة الاحتجاجية التي انتظمت يوم الأحد المنقضي في الذكرى التاسعة لاغتيال الشهيد شكري بلعيد،إذ سجلت هذه الحركات مشاركة أحزاب ومنظمات مدنية ووطنية وهياكل حقوقية وغيرها إضافة إلى هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي.
وكانت مسألة "حل المجلس الأعلى للقضاء" وفتح ملف الاغتيالات السياسية والكشف عن المتورطين فيها واستنكار تعاطي القضاء معها من بين الشعارات التي تم رفعها في هذه المناسبة. يذكر أنه من بين الأحزاب المشاركة في هذه الوقفة الاحتجاجية يوم 6 من الشهر الجاري نجد "حركة الشعب" و"تونس إلى الأمام" و"الوطنيون الديمقراطيون" و"حزب البعث" و"ائتلاف صمود" و"الحزب الاشتراكي" و"العمال" وغيرها إضافة إلى عمادة المحامين والاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة الوطنية لحقوق الانسان وجمعية النساء الديمقراطيات والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
كما شهدت بعض الجهات تنظيم وقفات احتجاجية للمطالبة بمحاسبة المتورطين في الاغتيالات السياسية وإنصاف شهيد الثورة شكري بلعيد وتحريك الملف القضائي الذي ظل في الرفوف لما يقارب عقد من الزمن. وهي عوامل "إلتقفها" قيس سعيد لتتمة جانب من مشروعه نظرا لتقاطعه معها في موقفه حيال القضاء ونزعته لإصلاحه تناغما مع المطالبين بحل المجلس وذلك بتأكيده في تصريح في الغرض أن "هناك قضاة تلاعبوا بملف اغتيال شكري بلعيد".
لتتواصل "سيناريوهات" الاستثمار السياسي في المستجدات والأحداث الوطنية بشكل يعمق الأزمات ويوسع دائرة الفوضى والارتباك ويكشف "حقيقة" النخب السياسية وانتهازية بعضها وذلك بعيدا عن المصلحة الوطنية ودواعيها.