معادلة صحية واجتماعية صعبة تلك التي تحكم واقع نسبة كبيرة من المجتمع التونسي اليوم، تأتي بعد أن عرفت بلادنا تحولات سياسية واجتماعية بالجملة وفي ظل وضع استثنائي ينازع البقاء من أجل الدخول والتمهيد لمسار إصلاحي جديد. وهي معادلة فرضها الواقع المرير بعد تفاقم الوضع المعيشي بسبب توفر جملة من العوامل التي ساهمت في تغذيته من ناحية وارتفاع درجة خطورة الوضع الصحي في هذه المرحلة في علاقة بالجائحة الوبائية من ناحية أخرى.
وتخلص هذه المعادلة مشاهد الازدحام والطوابير المتراصة أمام المخابز والمحلات والفضاءات التجارية والأسواق إضافة إلى الشح الكبير في المواد الغذائية الأساسية واختفائها من الأسواق على نحو بعث بلبلة في الأوساط الاجتماعية، فضلا عن تواتر الأخبار حول تمكن مصالح الحرس الديواني من إحباط عمليات تهريب أطنان من المواد الغذائية أساسا منها المدعمة. في المقابل تتواصل صيحات فزع الإطار الطبي والمشرفين على متابعة الوضع الوبائي وفي مقدمتها اللجنة العلمية لمجابهة كورونا في وزارة الصحة، بالتأكيد على خطورة الوضع الصحي في هذه الفترة تحديدا وإعلان دخول بلادنا في ذروة الموجة الخامسة أو السادسة بعد تواصل ظهور متحورات وسلالات جديدة للفيروس في العالم وبلادنا ليست بمنأى عن إمكانية انتقال عدواها.
ولكن بدا واضحا أن تفاقم الإشكاليات المتعلقة بالمعيشة خاصة ما تعلق بالمواد الغذائية الأساسية والقوت اليومي من قبيل "الخبز" والسميد وغيرها من المواد الغذائية من معجنات وسكر وخضر، من العوامل التي دفعت المواطنين لعدم الالتزام بشروط البروتوكول الصحي والتمرد على توصيات اللجنة العلمية ودعوات الأطباء المختصين وعدم امتثال البعض الآخر لتطبيق منع الجولان الذي يتواصل منذ أسابيع بداية من العاشرة ليلا إلى غاية الخامسة صباح. وهو ما تفسره الأرقام المرتفعة لعدد المقيمين في المستشفيات وعدد الإصابات بالفيروس المسجلة في هذه الفترة فضلا عن التزايد المسجل في عدد الوفيات "بكوفيد 9" الذي وصل إلى 26 ألفا و548 وفاة منذ بداية ظهور الفيروس إلى الآن فيما لم يتجاوز عدد الذين استكملوا التلقيح ضد كورونا 6 ملايين و268 ألفا و617 حسب آخر إحصائيات في الغرض لوزارة الصحة.
إذ من شأن تواصل هذه الظواهر، بما في ذلك عدم ارتداء "الكمامة" والتعقيم ورفض البعض الآخر للتلقيح، أن يساهم في تأزيم الوضع خاصة أمام تواصل توسع خارطة الفقر في تونس ليصبح في حدود 24.4 % بعد تحديث للأرقام للمعهد الوطني للإحصاء في العام الماضي، إضافة إلى العجز المسجل في الميزان التجاري وتراجع نسب النمو وانخفاض الاستثمار والتباين الكبير المسجل في مستوى التفاوت الجهوي. ثم أن عددا كبيرا من التونسيين هم اليوم غير قادرين على توفير مستلزمات ذلك بسبب تفشي البطالة وغلاء المعيشة وتراكم الصعوبات الحياتية في ظل تطورات الأوضاع على مستويات مختلفة.
تضارب
رغم تأكيد عديد الجهات على خطورة الوضع الاجتماعي والصحي في بلادنا في هذه الفترة بسبب تفاقم عديد الظواهر والإشكاليات التي ساهمت في تغذية هذه الظروف الصعبة، إلا أن الإجماع على التضارب المسجل في التعاطي مع الوضع العام من قبل الجهات الرسمية من جهة والمجتمع المدني والمنظمات والأحزاب السياسية من جهة أخرى يؤكد تخبط بلادنا في دائرة ضيقة في ظل غياب الرؤى والبرامج الكفيلة بضمان مسارات جدية وعملية وناجعة في التعاطي مع الوضع في هذه المرحلة. لعل أبرزها تنظيم التخفيض الشتوي أو "الصولد" في نفس الفترة التي تدعو اللجنة العلمية إلى اتباع الحذر وتفادي مثل هذه المناسبات، رغم يقين الجميع بخطورة الازدحام في المحلات والفضاءات التجارية المنخرطة في ذلك خاصة أن التجار بدورهم في حاجة إلى مثل هذه المناسبات بحثا عن تدارك الخسارة المسجلة بسبب تداعيات الجائحة الوبائية وإجراءات الحجر الصحي الشامل والغلق إضافة إلى تفشي التجارة الموازية وإغراق الأسواق التونسية بالسلع الأجنبية وما خلفته من أزمات اقتصادية واسعة. فلم تكلف سلطة الإشراف نفسها بالبحث عن معادلة تراعي الوضع الصحي بتأجيل موعد الصولد إلى وقت لاحق استئناسا برأي اللجنة المعنية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تسجل هذه الفترة دعوات بالجملة لتنظيم وقفات وحركات احتجاجية للأحزاب سياسية ومنظمات مدنية ووطنية على غرار ما يتزامن مع ذكرى اغتيال الشهيد شكري بلعيد اليوم أو غيرها من الحركات المشابهة في نفس الفترة وذلك دون مبالاة بالتداعيات الخطيرة لمثل هذه التجمعات لاسيما في ظل ذروة تفشي الفيروس في بلادنا في هذه الفترة، وفق تأكيدات الجهات الرسمية.
وتسجل نفس الفترة وقفات وتحركات احتجاجية قطاعية واجتماعية بشكل متواتر وفي مناطق وجهات مختلفة ليس في مستوى العاصمة أو تونس الكبرى فحسب بل تشمل أغلب جهات الجمهورية. فيما تكتفي سلطة الإشراف بقرار عدم تنظيم التظاهرات الثقافية ومنع صلاة الجمعة في المساجد كإجراء اتخذته في علاقة بالتوقي من خطر انتشار "كوفيد 19".
فيما يتعلق بأزمة "المواد الغذائية والمعيشية"، لم يخف حسام التويتي، مدير المنافسة والأبحاث الاقتصادية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات، أثناء حضوره في أحد البرامج الحوارية بالتلفزة التونسية حقيقة أن الدولة أصبحت عاجزة أمام "قوة ماكينة الاحتكار والتهريب المتفشية والممتدة". الأمر الذي عمق الأزمة في هذه الفترة تحديدا لاسيما ما تعلق بعدم توفر المواد الغذائية الأساسية المدعمة في الأسواق بالشكل المطلوب. وهو ما خلق أزمة وحالة من الفزع استغلها بعض التجار للتلاعب بالأسعار. ويذكر أن الديوانة التونسية أعلنت مؤخرا عن تمكنها من حجز ما قيمته 278 مليون دينار كقيمة للبضائع المهربة خلال الأشهر 11 الأخيرة من العام المنقضي وأغلبها مواد غذائية وأدوية.
فيما نزّل بعض المتابعين للشأن العام استفحال الظاهرة في هذه المرحلة تحديدا، بتوظيف "قوت المواطن" في المعركة السياسية القائمة اليوم بين رئيس الجمهورية وفريقه الحكومي من ناحية وهم الرافعين لشعار "الإصلاح ومقاومة الفساد وقطع دابر الدولة العميقة ومكونات وجذور المنظومة التي حكمت البلاد في السنوات العشر الماضية من جهة أخرى والتي تحاول إعادة التمركز مهما كان الثمن. ليتم الزج بالمواطن في صلب هذه المعركة ووضعه بين فكي الرحى.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
معادلة صحية واجتماعية صعبة تلك التي تحكم واقع نسبة كبيرة من المجتمع التونسي اليوم، تأتي بعد أن عرفت بلادنا تحولات سياسية واجتماعية بالجملة وفي ظل وضع استثنائي ينازع البقاء من أجل الدخول والتمهيد لمسار إصلاحي جديد. وهي معادلة فرضها الواقع المرير بعد تفاقم الوضع المعيشي بسبب توفر جملة من العوامل التي ساهمت في تغذيته من ناحية وارتفاع درجة خطورة الوضع الصحي في هذه المرحلة في علاقة بالجائحة الوبائية من ناحية أخرى.
وتخلص هذه المعادلة مشاهد الازدحام والطوابير المتراصة أمام المخابز والمحلات والفضاءات التجارية والأسواق إضافة إلى الشح الكبير في المواد الغذائية الأساسية واختفائها من الأسواق على نحو بعث بلبلة في الأوساط الاجتماعية، فضلا عن تواتر الأخبار حول تمكن مصالح الحرس الديواني من إحباط عمليات تهريب أطنان من المواد الغذائية أساسا منها المدعمة. في المقابل تتواصل صيحات فزع الإطار الطبي والمشرفين على متابعة الوضع الوبائي وفي مقدمتها اللجنة العلمية لمجابهة كورونا في وزارة الصحة، بالتأكيد على خطورة الوضع الصحي في هذه الفترة تحديدا وإعلان دخول بلادنا في ذروة الموجة الخامسة أو السادسة بعد تواصل ظهور متحورات وسلالات جديدة للفيروس في العالم وبلادنا ليست بمنأى عن إمكانية انتقال عدواها.
ولكن بدا واضحا أن تفاقم الإشكاليات المتعلقة بالمعيشة خاصة ما تعلق بالمواد الغذائية الأساسية والقوت اليومي من قبيل "الخبز" والسميد وغيرها من المواد الغذائية من معجنات وسكر وخضر، من العوامل التي دفعت المواطنين لعدم الالتزام بشروط البروتوكول الصحي والتمرد على توصيات اللجنة العلمية ودعوات الأطباء المختصين وعدم امتثال البعض الآخر لتطبيق منع الجولان الذي يتواصل منذ أسابيع بداية من العاشرة ليلا إلى غاية الخامسة صباح. وهو ما تفسره الأرقام المرتفعة لعدد المقيمين في المستشفيات وعدد الإصابات بالفيروس المسجلة في هذه الفترة فضلا عن التزايد المسجل في عدد الوفيات "بكوفيد 9" الذي وصل إلى 26 ألفا و548 وفاة منذ بداية ظهور الفيروس إلى الآن فيما لم يتجاوز عدد الذين استكملوا التلقيح ضد كورونا 6 ملايين و268 ألفا و617 حسب آخر إحصائيات في الغرض لوزارة الصحة.
إذ من شأن تواصل هذه الظواهر، بما في ذلك عدم ارتداء "الكمامة" والتعقيم ورفض البعض الآخر للتلقيح، أن يساهم في تأزيم الوضع خاصة أمام تواصل توسع خارطة الفقر في تونس ليصبح في حدود 24.4 % بعد تحديث للأرقام للمعهد الوطني للإحصاء في العام الماضي، إضافة إلى العجز المسجل في الميزان التجاري وتراجع نسب النمو وانخفاض الاستثمار والتباين الكبير المسجل في مستوى التفاوت الجهوي. ثم أن عددا كبيرا من التونسيين هم اليوم غير قادرين على توفير مستلزمات ذلك بسبب تفشي البطالة وغلاء المعيشة وتراكم الصعوبات الحياتية في ظل تطورات الأوضاع على مستويات مختلفة.
تضارب
رغم تأكيد عديد الجهات على خطورة الوضع الاجتماعي والصحي في بلادنا في هذه الفترة بسبب تفاقم عديد الظواهر والإشكاليات التي ساهمت في تغذية هذه الظروف الصعبة، إلا أن الإجماع على التضارب المسجل في التعاطي مع الوضع العام من قبل الجهات الرسمية من جهة والمجتمع المدني والمنظمات والأحزاب السياسية من جهة أخرى يؤكد تخبط بلادنا في دائرة ضيقة في ظل غياب الرؤى والبرامج الكفيلة بضمان مسارات جدية وعملية وناجعة في التعاطي مع الوضع في هذه المرحلة. لعل أبرزها تنظيم التخفيض الشتوي أو "الصولد" في نفس الفترة التي تدعو اللجنة العلمية إلى اتباع الحذر وتفادي مثل هذه المناسبات، رغم يقين الجميع بخطورة الازدحام في المحلات والفضاءات التجارية المنخرطة في ذلك خاصة أن التجار بدورهم في حاجة إلى مثل هذه المناسبات بحثا عن تدارك الخسارة المسجلة بسبب تداعيات الجائحة الوبائية وإجراءات الحجر الصحي الشامل والغلق إضافة إلى تفشي التجارة الموازية وإغراق الأسواق التونسية بالسلع الأجنبية وما خلفته من أزمات اقتصادية واسعة. فلم تكلف سلطة الإشراف نفسها بالبحث عن معادلة تراعي الوضع الصحي بتأجيل موعد الصولد إلى وقت لاحق استئناسا برأي اللجنة المعنية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تسجل هذه الفترة دعوات بالجملة لتنظيم وقفات وحركات احتجاجية للأحزاب سياسية ومنظمات مدنية ووطنية على غرار ما يتزامن مع ذكرى اغتيال الشهيد شكري بلعيد اليوم أو غيرها من الحركات المشابهة في نفس الفترة وذلك دون مبالاة بالتداعيات الخطيرة لمثل هذه التجمعات لاسيما في ظل ذروة تفشي الفيروس في بلادنا في هذه الفترة، وفق تأكيدات الجهات الرسمية.
وتسجل نفس الفترة وقفات وتحركات احتجاجية قطاعية واجتماعية بشكل متواتر وفي مناطق وجهات مختلفة ليس في مستوى العاصمة أو تونس الكبرى فحسب بل تشمل أغلب جهات الجمهورية. فيما تكتفي سلطة الإشراف بقرار عدم تنظيم التظاهرات الثقافية ومنع صلاة الجمعة في المساجد كإجراء اتخذته في علاقة بالتوقي من خطر انتشار "كوفيد 19".
فيما يتعلق بأزمة "المواد الغذائية والمعيشية"، لم يخف حسام التويتي، مدير المنافسة والأبحاث الاقتصادية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات، أثناء حضوره في أحد البرامج الحوارية بالتلفزة التونسية حقيقة أن الدولة أصبحت عاجزة أمام "قوة ماكينة الاحتكار والتهريب المتفشية والممتدة". الأمر الذي عمق الأزمة في هذه الفترة تحديدا لاسيما ما تعلق بعدم توفر المواد الغذائية الأساسية المدعمة في الأسواق بالشكل المطلوب. وهو ما خلق أزمة وحالة من الفزع استغلها بعض التجار للتلاعب بالأسعار. ويذكر أن الديوانة التونسية أعلنت مؤخرا عن تمكنها من حجز ما قيمته 278 مليون دينار كقيمة للبضائع المهربة خلال الأشهر 11 الأخيرة من العام المنقضي وأغلبها مواد غذائية وأدوية.
فيما نزّل بعض المتابعين للشأن العام استفحال الظاهرة في هذه المرحلة تحديدا، بتوظيف "قوت المواطن" في المعركة السياسية القائمة اليوم بين رئيس الجمهورية وفريقه الحكومي من ناحية وهم الرافعين لشعار "الإصلاح ومقاومة الفساد وقطع دابر الدولة العميقة ومكونات وجذور المنظومة التي حكمت البلاد في السنوات العشر الماضية من جهة أخرى والتي تحاول إعادة التمركز مهما كان الثمن. ليتم الزج بالمواطن في صلب هذه المعركة ووضعه بين فكي الرحى.